الفصل الثاني عشر

كان يوم الجمعة السادس عشر من أغسطس سنة ١٧٩٩م يومًا مشهودًا في رشيد، فقد اجتمع له الناس في الصباح أسرابًا، وحُشروا أرسالًا، وانطلقوا إلى ظاهر المدينة ينتظرون قدوم عثمان خجا من أبي قير، فازدحم الرجال والنساء والأطفال ازدحامًا لم يترك مجالًا لقدم، ولا حركة لذراع، فكانوا كتلة من البشر تلاصقت أجزاؤها، وارتفع ضجيجها، وعلا صياحها، وغصت سطوح الدور بمن فوقها حتى كادت تنقض، وامتلأت النوافذ بمن فيها، وكلما تقدم الناس خطوات رأيت بحرًا عبّ عبابه، واضطربت أمواجه، وتذكرت يوم النشور، يوم ينفخ في صور، ويبعث من في القبور.

تقدم هذا الخضم المائج حتى إذا وصل إلى الكثبان الرملية بالجانب الغربي من المدينة فاض فوقها، وسال بين شعابها، فخف التزاحم قليلًا، ووجد الناس متنفسًا، فجلسوا ينتظرون الضيف الكريم الذي قضوا ليلتهم يفكرون في خير الوسائل لاستقباله، فمنهم من أعد نعلًا بالية، ومنهم من تسلح بمكنسة من عراجين النخل، ومنهم من أخذ يتمرن على ملء فمه بُصاقًا لينضح به وجهه الوسيم، والتنافس في الشر غريزة في الناس، وللشعب إذا اجتمع نفسية خاصة لا تجدها في الفرد، فهو إذا صال جريء مخاطر حقود بطاش، في حين أن كل فرد من أفراده فسل جبان منخوب الفؤاد، وإذا غضب الشعب المجتمع فليس يعلم إلا الله ما ينتهي إليه غضبه من وحشية وجنون، والشعب الثائر طفل كبير، له عقل الطفل وتدلله وعبثه وتدميره، والشعوب تخضع للقوة الغاشمة وتخشاها، ثم تعتادها، وقد تتملقها أحيانًا، وقد تستعذب عذابها أحيانًا، ولكنها لا تنسى ظلمًا، ولا تفرُّ منها إساءة، وكأن للشعب المقهور نفسين: نفسًا تجامل وتصانع، ونفسًا تدوِّن وتسجل، حتى إذا ضعفت القوة التي تكبته قامت النفس المدونة المسجلة تعد سيئات الماضي وتشهِّر بمظالمه، ووثبت وثبة الذئاب الضارية تنهش القوة نهشًا، وتضرسها تضريسًا، والجماهير مخادعة ختالة، تحمل اليوم على الأعناق من ستضرب به الأرض غدًا.

بقي الناس ينتظرون قدوم عثمان خجا، ووقف الجند يستعدون للموكب الحافل، وجلس العلماء والأعيان بعيدًا على رصيف مسجد العرابي، حتى إذا مر نحو ساعتين ظهرت طلائع القادمين، وذاعت البشرى بين الجمع الحاشد، فترددت صيحات المتجمهرين تهز الأفق، وغلت دماؤهم بالغيظ وتواثبت قلوبهم للتشفي والانتقام.

وكان عثمان خجا في حلقة من الفرسان الفرنسيين والمماليك، وقد شهروا السيوف، وتنكبوا البنادق، وهو بينهم قميء القامة، طويل الوجه، أشقر اللون، صغير العينين، قليل شعر العارضين، مطرق الرأس، تذهب حدقتاه يمنة ويسرة في حيرة وذهول، كأنه الهر المطارد سُدَّت دون فراره السبل، وكان يلبس عمامة طويلة عليها شاشة حمراء، وحلة من الحرير الأخضر واسعة الكمين، وسروالًا أزرق زينت ساقاه بشريط مطرز بالذهب.

وقف الفرسان ونزلوا عن خيولهم، وأقبل رئيسهم فكبل يدي خجا، وهنا سمعت ضجة من بعيد فتصايح الناس: أقبل مينو، أقبل مينو، فانفرجت الصفوف، ومشى الجنرال وخلفه العلماء والأعيان، فلما وصلوا إلى عثمان خجا وقف الشيخ أحمد الخضري وأخذ يتلو حكم المجلس عليه بالقتل، وفي أثناء القراءة طفرت من شفتي عثمان خجا ابتسامة خفيفة مبهمة تصعب ترجمتها، فيها سخرية، وفيها امتعاض، وفيها ذعر، وفيها استخفاف بالموت.

وما كادت تنتهي القراءة حتى تواثب الناس لتمزيق الأسير المسكين، فحال الجنود بينهم وبينه، لا شفقة عليه، ولا رحمة به، ولكن ليطيلوا تعذيبه، وليشفوا النفوس من السخرية منه، فأركبوه حمارًا على وضع مقلوب، وعلقوا في عنقه أجراسًا «ويسمون ذلك التجريس» وسمحوا للناس بالبصق في وجهه وتلطيخه بالأقذار، وكان الشيخ بركات منادي المدينة يصيح بصوته الجهير: هذا جزاء الظالمين، هذا يوم الانتقام من المماليك السَّفَّاكين، أيتها القبور تحدثي عمَّن فيك، وأيتها الأعراض اشتفي اليوم ممن دنَّسك تدنيسًا، ويا أيتها الأموال المنهوبة قولي كيف وصلتِ إلى خزائن الناهبين!

ووثب «عطية البحطيطي» وهو قرَّاد المدينة ومضحكها إلى عثمان خجا فاتحًا ذراعيه وهو يقول: أين كنت يا حبيب عيني، وأنيس وحدتي، وباب رزقي؟ لقد حَزِنَّا عليك طويلًا حين غبت عنا، واستوحش إخوانك القرود لبعدك الطويل، أين كنت يا جلجل؟ أين كنت يا يدي ورجلي؟ فهمَّ الجنود بطرده، ولكنه صاح في غضب مصنوع: إنه قردي جلجل الذي فرَّ مني، فساءت حالي، وكسدت صناعتي، إنه قرد نجيب جدًّا، يكفيه الإيماء ليقوم بأحسن الألاعيب، الحمد لله على السلامة يا جلجل! ثم جذبه إليه ووضع في عنقه حبلًا وهوى فوق رأسه بالسوط، وأخذ يحمله بالضرب العنيف على القيام بألعاب القرود.

ثم سار الموكب حتى وصل إلى شارع دهليز الملك، وهناك رأى عثمان خجا أمام بيته مشنقة أُعدَّت للقائه، فجُرَّ إليها جرًّا، ووُضع الحبل في رقبته، وكانت رابحة العرَّافة قريبة منه، فلما شدَّ الجلاد الحبل صاحت: الله أكبر! لقد صدقت كهانتي، ومات اللعين بين الأرض والسماء!

وفي مساء ذلك اليوم اجتمع فريق من الأعيان والعلماء بمنزل الحاج أحمد شهاب، وتذاكروا حوادث النهار، فقال الشيخ صِدِّيق: كنت أود أن يكون القصاص من عثمان خجا مطابقًا للشرع الشريف، فقال السيد أحمد بدوي: إن المجلس يا سيدي سمع شهادة الشهود وكانوا كلهم إجماعًا على أنه كان سفاكًا غاشمًا، على أن رجال المجلس يعرفون من ظلم عثمان خجا وفتكه بالأموال أكثر مما يعرف الشهود.

– إن الشرع يشترط في مثل هذه الوقائع أن تقام الدعوى من أولياء المقتول، فهل أقيمت؟ ويشترط أن يكون المُدَّعَى عليه حاضرًا بمجلس القاضي ليردَّ الدعوى إن استطاع، فهل كان عثمان خجا حاضرًا؟ أنا لا أقول: إنه لا يستحق القتل، فقد كان شيطانًا مَرِيدًا، ولكني أرى أنه لا يصح أن يحكم القاضي على رجل بالقتل؛ لأنه يعلم أنه يستحق القتل، فإن من الأصول الثابتة أن القاضي لا يقضي بعلمه، هذه ناحية الشرع، فإذا اتجهنا إلى ناحية الأخلاق كانت الطامة أعظم، والمصيبة أفدح، أليس هذا الرجل هو عثمان خجا حاكم رشيد الذي كنا نحن العلماء وأعيان البلد نتملقه، ونزين له أعماله، ونُقبِّل يديه، والدماء تقطر منهما؟ أئِذا تنكر له الدهر فلوى عنه وجهه، اجتمعنا في مجلس الشرع الشريف ننبش قبور ماضيه، ونحاسبه على ما كان قد اقترف من سيئات؟ ولو كان اجتماعنا بوازع من أنفسنا، وغيرة صادقة على الحق والدين، لكان لنا بعض العذر، فقد يقول الناس: إنهم حينما قدروا فعلوا، ولكن المؤلم حقًّا، والمثير للشجن حقًّا، إننا لم نجتمع إلا بإيعاز من الفرنسيين، وأخشى أن أقول: إننا لم نحكم بالقتل إلا لإرضاء الفرنسيين، فقال الحاج أحمد شهاب: ليس من شك في أنه يستحق القتل يا مولانا.

– أنا لا أجادل في هذا! ولكني أنظر إلى ناحيتين لو حافظ المسلمون عليهما لبقي الإسلام عزيزًا كما كان، هما: الدين والأخلاق، أليس كذلك يا مولانا الخضري؟

فبُهت الشيخ، واصفر وجهه؛ لأنه كان يستمع لكلام الشيخ صديق واجمًا، فقد كان شيخ المجلس الذي أصدر حكم القتل، ولكنه بعد أن تردد قال: القضاء يا سيدي الشيخ في هذه الأيام ابتلاء، وإننا نعمل في هذا العصر الأنكد بمذهب من يُجيز التقية، فنبش في وجوه قوم وقلوبنا تلعنهم.

وحينئذ رأى الشيخ البربير الشاعر بلباقته أن يوجه الحديث إلى مجرى آخر فقال: اسمعوا ما قلته اليوم فلعل فيه شيئًا من السلوى، فنشط إليه الجماعة، وكانوا ملّوا الحديث في الأخلاق والدين وقالوا: قل، فقال:

قالوا هوى رأسُ عثمان فقلت لهم
نفستم الكرب عنا بعضَ تنفيس
مضى بنو الترك فارتاحت سرائرنا
فهل رحيلٌ قريب للفرنسيس؟

فضحك القوم وتسارع بعض الشبان إلى كتابة البيتين، فأشار إليهم بيده وقال اكتبوا أيضًا:

مضى ابن عفان إلى جنة
وابن خجا عثمان للنار
هذا شهيد الدار أكرم به
وذا قتيل الخزي والعار

ثم اتجه السيد إبراهيم الجمال إلى البربير سائلًا: أرأيت عثمان خجا على الحمار؟

– رأيته فلم أدر أيهما الحمار؟

– وهل قلت في ذلك شيئًا؟

– لا يا سيدي لقد كان «الموقف» صعبًا، والمسألة لا تحتاج إلى «تعليق» فعلا الضحك من كل ناحية، فلما هدأ المجلس التفت السيد بدوي إلى الجمال وقال: أرسلت خادمي اليوم إلى ساحة القمح لشراء إردب من القمح فلم يجد بها حبة واحدة! فأسرع البربير قائلًا: إن القمح يا سيدي أندر اليوم من اللؤلؤ، وقد علمت أن النساء يتخذن منه قلائد في نحورهن، فقال الشيخ صديق: لقد أصبحت الحال لا تُطاق، ومن العجيب أن يعين الفرنسيين طائفة من أهل البلد، فصاح الشيخ البربير قائلًا: مدد يا حمامي مدد!

صاهرت مينو فلم تترك لجائعنا
بزًا نصون به نفسًا من العطب
متنا ومات بنونا بين أعيننا!
جوعًا وعُريًا فرفقًا يا أبا نسب!

فظهر الألم والحزن في وجوه القوم، وبينما هم سكوت واجمون، إذا صوت يجلجل في فناء الدار، هو صوت الشيخ علي سريط، وكان يقول: القاتل والمقتول سواء، وقد يتأخر الجزاء، طال الليل، وظهرت تباشير الصباح، ولكل غدوٍّ رواح، والرحيل الرحيل، بعد قليل قليل، فنظر بعض القوم إلى بعض، وقال الشيخ البربير: إن الشيخ عليًّا شديد التفاؤل هذه الليلة، أرجو أن يحقق الله رجاءه، ثم أخذوا في الانصراف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤