الفصل الخامس عشر

في اليوم الثاني والعشرين من إبريل سنة ١٨٠٠م استيقظت القاهرة على موكب حافل؛ أراد به كليبر أن يظهر عظمة ملكه وقوة بطشه، وأن يحتفل بالنصر المؤزر الحاسم.

فخرج من داره بالأزبكية في جمع خضم من مشاته وفرسانه، وقد انتضوا سيوفهم فكان لها بريق يكاد يذهب بالأبصار، وخفقت فوقهم رايات الجمهورية يداعبها نسيم الربيع، وجرت أمامهم المدافع الثقيلة التي تركت القاهرة ركامًا، وخلّفت قصورها أطلالًا، وقد سار في طليعة الموكب نحو خمسمائة قوّاس في أيديهم العصي الغليظة ينادون بأصوات تكاد تثقب آذان السماء، كلها حمد وتمجيد للقائد العظيم، ويأمرون الناس بالقيام وحني الرءوس، وموسيقى الجيش تصدح بالأناشيد الفرنسية، وكان الجنرال يمتطي جوادًا أشهب عربي السلالة، وقد بدا في وجهه العبوس والأنفة، وامتلأت خياشيمه عظمةً واعتدادًا.

سار الموكب يشق أحياء المدينة وأسواقها، فاختفى الناس — وقد أكمدهم الحزن — في بيوتهم، وسدّوا أبوابهم دون هذا المشهد الذي عدّوه احتفاء بموتهم، والمصريون بغريزتهم وفي كل أطوار تاريخهم يحبون الطبل والزمر، ويتزاحمون على المواكب كيفما كانت، ولكنهم في هذه المرة عزفوا في إباء عن أن ينقلوا في هذا الموكب قدمًا، أو يمدّوا إليه عينًا.

في هذا اليوم نفسه — والجنرال في قمة مجده — كان يجلس بفناء المسجد الأقصى بمدينة القدس، شاب في الرابعة والعشرين، نحيل الجسم شاحب اللون، حائر العينين مستطيل الوجه، أنافيٌّ، رث الثياب، يكثر من هز رأسه في حزن واضطراب، كان طالب علم، وكان فقير الحال، وكان عصبي المزاج كثير التأمل والتفكير، وكان موغلًا في دينه، حريصًا على إحياء السنن وإماتة البدع ومحاربة المنكر وإن لاقى في سبيل ذلك أشد الجنف، وكثيرًا ما كان يدخل الحانات فيحطم زجاجها ويريق خمورها، غير مبال بما يصيبه من أذى، أو يناله من مكروه.

جلس هذا الطالب مفكرًا حزينًا، فمرّ بخياله صلاح الدين بن أيوب وجهاده وبلاؤه في محاربة الصليبيين، وخطر له أنه لولا هذا الكردي، ولولا عزائمه التي كانت أقوى من جيوشه، ما سُمع للأذان صوت في هذه النواحي، وما استطاع هو أن يجلس كما يجلس الآن في فناء المسجد الذي بارك الله حوله، فكان مثابة الرسل ومهبط الرحمات، وبينما كانت هذه الخواطر تتواثب إلى نفسه، رمى ببصره فرأى طائفة من الجنود العثمانيين تتجه إلى مسجد الصخرة، وقد نهكهم التعب، وأكلهم السغب، وتمزقت ثيابهم وجللها الغبار، فهاله أن يرى جنود الإسلام على تلك الحال من المسغبة والمهانة، وحزّ في قلبه أن يئول أمر حماة الدين الذي يقول قرآنه: وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ، إلى ذلك الخور والصغار، رأى تلك الطائفة من الجنود فقام يسعى إليهم، وما كاد يقترب منهم قليلًا حتى رأى بينهم ضابط كان يعرفه بحلب، هو أحمد أغا، فحيّاه في شوق وحفاوة، ثم قال: يبدو عليك وعلى أصحابك يا سيدي أنكم قدمتم من سفر طويل.

– لم يكن السفر طويلًا يا سليمان، ولكن … ثم لوى وجهه في ألم واستخذاء كأنه يريد أن يحجب ما قد يبدو عليه من دلائل الضعف النفسي.

– وماذا وراء (لكن) هذه؟

– وراءها الخزي والهزيمة.

فبادره سليمان سائلًا: كيف؟!

– هلم يا صاحبي نجلس إلى جانب هذا الجدار، فقد يطول بنا الحديث، وكان النهار شديد القيظ مختنق أنفاس النسيم، استظلت فيه بومة بشجرة زيتون، وأخذت تنعب وتولول، كأنما كانت تبكي ملك سليمان، وبعد أن جلسا قال أحمد أغا: خبِّرني أولًا عن شأنك أنت، فإن آخر عهدي بك كان بمدينة حلب منذ أربع سنين.

– نعم كان ذلك منذ أربع سنين، ولن أنسى كريم عنايتك بأبي وحدبك عليه، ومنذ ذلك الحين نزعت نفسي إلى أن أكون جنديًّا، وكان الجهاد في سبيل الله أقصى ما تهفو إليه آمالي، وزادتني قراءة سير أبطال الإسلام شغفًا بلقاء الموت، وكانت تتناوب خيالي صور رائعة للمجد الذي ينتظرني، حتى كدت أجن جنونًا، فطالما أيقظتني من غفوتي أصوات الجماهير، وهي تصيح: الله أكبر! الله أكبر! لقد أنقذ سليمان الحلبي الإسلام من أعدائه، وروى سيفه من دمائهم! فكنت إذا دهمتني هذه النوبة، أجلس في ظلام الليل الدامس حزينًا باكيًا، أتلّفت فلا أجد سيفًا ولا رمحًا، وأتسمّع فلا أسمع إلا سكون الليل وهدوءه، والسكون صوت موحش، هو صوت الموت والفناء، ثم أحاول أن أهزّ ذراعي لأستأنس بما قد يكون بهما من قوة على الجهاد، فلا أهز إلا ذراعين ناحلتين، لا تقويان على قتل ذبابة، فيزيد بكائي ويطول أنيني، وكثيرًا ما كان يستيقظ أبي، وتستيقظ أمي، فيسرعان نحوي مذعورين واجفين، وما كان أشد حنان كفّ أمي، وهي تمسح على رأسي وجبهتي، وتتمتم بآيات من القرآن مبدّلة ملحونة، لتطرد عني الجن والشياطين، حتى إذا زاد ما بي، وطال الأمر عليَّ، وخفت أن أوصم بالجنون، ذهبت إلى إبراهيم باشا والي حلب.

– ويل له من ظالم غاشم!!

– دعك من هذا فلسنا الآن بصدد الحديث عن الناس، فإن الناس أضغاث بجانب إنهاض الدين وإعادة الإسلام إلى سابق مجده، ذهبت إليه في قصره، فسخرت في نفسي مما رأيت من جنود وأعوان، وخدم وخصيان، وأبهة كاذبة وعظمة جوفاء، يعرف هؤلاء الأتراك كيف يصطنعونها بإطالة الشوارب وكثرة ما ينتطقون به من خناجر، ويتنكبونه من بنادق، وبذلك الصوت الخشن المفزع، الذي يظنون أنه يغني عن جرأة القلوب وصدق العزائم، فلما حاولت أن أجاوز الباب تواثب عليَّ الحراس والأجناد من كل مكان في عجب ودهشة، وانطلقت السيوف من أغمادها، وركض الفرسان من مواقفهم، وأقسم لو أنهم دعوا ليوم كريهة، ما كانت لهم هذه الوثبات ولا تلك الحماسة المتأججة، نظروا إليَّ مشدوهين، كيف جرؤت؟ وكيف جال بنفس بعوضة مثلي أن تخترق هذا الحصن المنيع والحرم الحرام؟! وكيف يصح لفتى فقير ممزق الثياب من أبناء العرب، أن يتحدَّى ذلك الملك الذي لا ينال، ويطأ بقدميه فناء تلك العظمة الشماء؟! وقفت أنظر في وجوههم، وفي لمحات وجهي شيء غير قليل من السخرية، فصاح بي كبيرهم قائلًا في اشمئزاز: ماذا تبغي يا عربي؟! قلت: أريد أن أقابل الوالي، فابتسم في صلف وقال: أنت تقابل الوالي؟! قلت: نعم، قال: ألا تدري أن ذلك ممنوع؟ قلت: الذي أعرفه أنه الوالي، وأنه يجب عليه أن يقابل من هم في ولايته، قال: وماذا تريد منه؟ قلت: ذلك ما أوثر أن أحدِّثه به بنفسي.

وكان الباشا حينما سمع ضجيج الحراس أطلّ من نافذة غرفته، وسأل عن الخبر، فلما علم بأمري دعاني إليه، وقابلني عابسًا، ثم قال بصوت يشبه الزجر: ماذا تريد يا فتى؟! قلت: أريد أن ألحق بالجندية لأجاهد في سبيل الله، فضحك حتى سقطت عمامته، وجلس بعد أن كان قائمًا، ولما التقط أنفاسه، قال في رفق يتعمده الناس عند مخاطبة المجانين: تريد أن تجاهد في سبيل الله؟! آه … آه … قلت لي … هذا شيء عظيم! وأنا يا بنيَّ أريد أن أطير الآن إلى زوجتي وأولادي بإستانبول، وأريد أن أضعك في علبة «النشوق» هذه، وأسدّ فتحتها بالرصاص والحديد، حتى لا أسمع منك هذا الهذر! أنت رجل لو نفخت فيه الآن نفخة لطار إلى الغرفة التي أمامي، من الذي وضع في رأسك فكرة الجهاد هذه؟! الجهاد يا بني منزلة لا ينال شرفها إلا الرجل القوي الضخم ذو المتن الأزل والساعد المفتول، ولو فتحنا باب الجهاد لأمثالك لأنشأنا جيشًا جرارًا للهزيمة والعار، تتزاحم فيه النساء قبل الرجال، ماذا بك بالله؟! وماذا فيك للجندية؟! ذلك الجسم النحيل الشاحب الملتوي، وهاتان العينان الزائغتان، وذلك الصدر الذي هو أصغر من أفحوص القطاة؟! لعلك تخيلت نفسك وأنت في زي الجندية رشيقًا فتانًا تتسابق إليك الفتيات وتجتذب نظراتك الغانيات! لا يا فتى!! لقد كذبتك نفسك، لن تكون في ثياب الجند إلا مثار ضحك القيان، وسخرية الصبيان.

قال كل ذلك وأنا واجم مفكر، وقد تطلّعت لأجد حولي خنجرًا أغمده في صدره لأستريح من زهوه وعتوه، فلم أجد، ثم رفعت رأسي إليه في كبر واعتداد وقلت: هوِّن عليك يا سيدي، إن ميدان الجهاد أوسع من ميدان القتال، وسأختار الميدان الأول ولله في كل ذلك شأن هو مقدِّره.

– وماذا فعلت بعد ذلك؟

– خرجت من عنده، وعزمت وأنا في الطريق على أن أتجرد لدراسة علوم التصوف والتاريخ، لأستبين منها خير سبيل للجهاد، ذهبت إلى أبي، وطلبت منه أن يعينني على الدراسة بالجامع الأزهر، فزودني بما أردت وذهبت إلى مصر، وقضيت بالأزهر ثلاث سنوات، قرأت فيها على كثير من علمائه، ولما دخل الفرنسيون مصر، ورأيتهم يصبُّون على الأزهر حاصبًا من قذائفهم، تحركت في نفسي عوامل الانتقام وعزمت على أن أقتل كبيرهم «بونابرت» ولكني جبنت، واجتذب الشيطان السكين من يميني فلم أجد لي عزمًا، وعندئذ غادرت مصر وأقمت بالقدس حيث تجدني، والآن حدِّثني عن نفسك، فقد علمت طويَّة أمري.

فزفر أحمد أغا وقال: إن حديثي لن يطول وإن كان ألمي طويلًا: قمنا من غزَّة لغزو الفرنسيين بمصر بقيادة الصدر الأعظم يوسف باشا ضياء، وحاصرنا قلعة (العريش) حتى استولينا عليها بعد جهد، وعندئذ شرع الفرنسيون يفاوضوننا في الصلح على أن ينزحوا عن البلاد، وسمعت من بعض الضباط أن المعاهدة تمت وأنها وُقع عليها منا ومنهم، ولكني علمت بعد ذلك أن الإنجليز لم يرضوا عن هذه المعاهدة، وأن ساري عسكر كليبر استأنف القتال، فالتقى بجيشنا عند عين شمس، فانهار الجيش أمامه كما ينهار الطلل البالي، وتقهقرنا إلى بلبيس، ثم إلى الصالحية، وتفرق جنودنا بددًا؛ وهاموا على وجوههم في الصحراء أذلاء مهزومين حتى وصلت اليوم مع طائفة منهم إلى القدس.

– وانتصر الفرنسيون وعادوا إلى ملك مصر كما كانوا؟!

– نعم وا حسرتاه!!

– وكان إبراهيم باشا والي حلب يسخر مني ومن ضآلة جسمي؟ فماذا يقول اليوم في جنوده الأشداء؟!

– حقًّا إنه كان مخطئًا، إن النفوس هي التي تحارب لا الأجسام.

– لقد أصبحت أعتقد أن سيوف الترك أضعف من أن تنال من الفرنسيين منالًا؛ لأنني علمت أنهم يحاربون بأساليب جديدة وبآلات جديدة.

وهنا جلس أحمد أغا على ركبتيه وقال: سليمان! ألا تستطيع أن تعمل عملًا عجز عنه الجيش؟!

– هذه هي آمالي منذ سنوات، ولكن النفس الإنسانية تتبلد باليأس وتثبيط العزائم.

– إن نفسك فوق النفوس، وهي أبعد من أن تنالها يد اليأس، لقد قرأت كثيرًا في سير الأبطال، وتشوقت كثيرًا إلى كأس الشهداء وما أعد الله لهم من نعيم مقيم، ما هذا يا رجل؟! إن الإسلام يدعوك لنصرته، وإذا ضاعت مصر ضاع الحجاز وانقطع السبيل إلى بيت الله، وضريح رسول الله.

– آه يا أحمد!! إن مما يؤلم حقًّا أن تريد فلا تقدر، إن نفسي تريد، ويدي لا تقوى.

وهنا خاف أحمد أن تفلت الفريسة من يديه، فاتخذ منهجًا آخر في الإغراء وقال: ألعلك تخاف الموت؟! ما كنت أظن أن للخوف عليك سلطانًا، ولكني أرى اليوم أن الضعف الإنساني لم يجاوزك، ما هذا؟! أين تلك النفس الوثابة، وأين التهافت على الجهاد، وأين تلك النفحات الربانية؟! لقد عاد الضياء ظلامًا، والعزم أوهامًا، والسيف الصارم كهامًا!! وأصبحت مخلوقًا أرضيًّا حقيرًا، بعد أن كنت تسبح في سماء كلها إشراق ونور، وقد كنا نرفع إليك الرءوس لنراك فأصبحنا نطأطئها لنبحث عن مكانك في الحضيض.

– أنا لست في الحضيض وإن التصق به جسدي الفاني.

– جسدك الفاني فيه روحك الباقية، فإذا رفعته ارتفع، لقد كنت أفخر بمثلك، وكان الدين يستعد لشدائده بمثلك، والناس يدعون في صلواتهم أن يفيض الله لهم رجلًا مثلك لكشف الضر عنهم، وحينما قرأت في بعض الكتب أن بعض الأولياء قال للشيخ كمال الدين الدميري: إنه سمع قائلًا يقول: إن الله يبعث على رأس كل مائة لهذه الأمة من يجدد لها دينها – لم أشك في أنك بطل هذه المائة، وأنك ستعيد الإسلام إلى جِدّته ونضارته.

فتألقت عينا سليمان، وتجمعت أسارير وجهه وتقبضت شفتاه شأن العازم المصمم وقال: وماذا أعمل يا أحمد؟!

– تأخذ هذا الكيس وفيه مائة محبوب ذهبًا، وتذهب اليوم إلى ياسين أغا حاكم غزّة، ليذلل لك سبيل السفر إلى مصر.

ثم أخرج خنجره من منطقته وقال: وإذا بلغت مصر فأغمد هذا الخنجر في صدر كليبر قائد الجيش الفرنسي.

فقذف سليمان بالكيس في وجه صاحبه، وقال وهو ينتفض: إن المجاهد في سيبل الله لا يحتاج إلى مال، حسبي هذا الخنجر وسأهز به الدنيا هزًّا، وسأترك فيها دويًّا.

سافر سليمان الحلبي إلى غزة، وبقي بها أيامًا ينتظر قيام قافلة للتجارة تقصد إلى مصر، حتى إذا قامت صحبها، فبلغ القاهرة بعد ستة أيام، وكان ذلك في اليوم الرابع عشر من مايو، وكان يعرف القاهرة من قبل، ويعرف طرقها المعوجة، وحاراتها الضيقة، فحمل خُرْجه واتجه صوب الأزهر ليقيم برواق الشاميين، وقضى وقتًا وهو يحضر الدروس، ويعيش من نسخ الكتب، وكانت الفكرة تنتابه كما تنتاب الحمَّى صريعها فينتفض انتفاضًا، ويمس خنجره الذي أخفاه في طيات ثيابه، ويهم بإنفاذ خطته، ولكنه يعود فيقعده الخور، وتصدّه النفس المطبوعة على حب الحياة.

وهكذا بقي ريشة في مهب العواصف، وكرة تتقاذف بها العواطف، فكان بين إقدام وإحجام، وثورة وخمود، وشجاعة وجبن، «وبعض الحجا داع إلى البخل والجبن»، ولما ضاق بالأمر صدره أفشى بعض سرَّه إلى الطلبة من أصدقائه، وهم: محمد الغزي، وأحمد الوالي، وعبد الله الغزي، وعبد القادر الغزي – فسخروا منه، وهزءوا به، ورموه بالجنون، وقال له عبد الله الغزي: إنك يا سيدي البطل المغوار أعجز من أن تقتل ذلك الفأر الذي يزعجنا في كل ليلة بالوثوب على وجوهنا! فزاد ذلك من غيظه وحفزه على التصميم، فخرج في صباح اليوم الثالث عشر من شهر يونية إلى الجيزة، يمشي مطرق الرأس مذعورًا، كما يمشي الكلب المسعور، باحثًا عن كليبر في كل مكان كما يبحث الصائد عن طريدته، فعلم بعد طول التساءل من نواتي سفينته، أنه يتمشى في كل مساء في حديقة قصره بالأزبكية، فرجع إلى القاهرة وكان قد أظله الليل، فحاول أن يصل إلى حديقة القصر فلم يستطع، فقضى ليلته في مسجد قريب، ولما أصبح تتبع خطوات الجنرال وسار في إثره إلى «الروضة»، ثم عاد خلفه إلى القاهرة، واستطاع التسلل إلى الحديقة فكمن فيها خلف ساقية، وكم جال بخياله في هذه اللحظة من صور: جال بخياله سخرية والي حلب، وجال بخياله ما فعل الفرنسيون بيافا، وجال بخياله أن الملائكة يستعدون الليلة للقائه في جنة الخلد بين المجاهدين والشهداء، وجال بخياله أن ذلك الخنجر الذي ترتعش به يده، سينقذ أمةً كاملة من ويلات الذل والاسترقاق، ثم جال بخياله أن اسم سليمان الحلبي المغمور المجهول، سيجلجل في الآفاق ويدوِّنه التاريخ بين أسماء أبطاله الأمجاد، وهنا أغمض عينيه وتشهَّد، وأخذ يتلو آيات من القرآن في الجهاد وفي ثواب المجاهدين، وما كاد يفتح عينيه حتى دخل كليبر ومسيو «بروتان» المهندس الحديقة، فنهض سليمان واقترب من الجنرال في ذل متصنع، فظنه مستجديًا فلم يأبه له، ولكن سليمان وثب عليه كما يثب النمر الجائع، وطعنه بخنجره طعنة قاتلة فسقط مضرَّجًا بدمائه، وهمَّ مسيو بروتان أن يتعقب القاتل، فلما أمسك به طعنه سليمان ست طعنات، خرّ بعدها لليدين والفم، ثم عاد إلى كليبر فطنعه ثلاث طعنات ليقضي على آخر مُسكة من حياته، ولم تحدِّثه نفسه بالفرار، ولكن غريزة حب البقاء دفعته إلى جدار في الحديقة فاختفى عنده، وجاء الحراس فرأوا قائدهم وقد أسلم الروح، فهالهم الأمر وتملَّكهم الجزع، وأقسموا على الانتقام من مصر وأهلها، وأن يدكوا أركانها دكًّا، ونفخوا في أبواقهم ليجمعوا شتات الجنود المنتشرين بالقاهرة، واهتزَّت أرجاء المدينة وزُلزلت للحادث الجلل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤