الفصل الثامن عشر

وصلت السفينة إلى رشيد بعد ستة أيام، والتقى محمود بأمه بعد طول الغيبة، فرآها لا تزال ملازمة فراشها، ولكنها انتعشت لرؤيته ودب فيها دبيب الحياة، ثم قدم إليها لورا، فقبلت يدها في أدب وحياء، وأخذت السيدة زينب تحدّد النظر إليها وتصوبه ثم صاحت: هذه ابنتنا لورا؟ أين كنت يا بنيتي كل هذه المدة؟ أيجمل بك أن تتركي خالتك المريضة دون أن تروحي عنها بزيارة قصيرة؟ حقًّا إن البعيد عن العين بعيد عن القلب.

فقال محمود: إنها كانت في القاهرة يا أمي منذ دخول الفرنسيين مصر، وقد كانت ترعى ابنك محمودًا بعطفها، وتمرضه وهو جريح، حتى عاد إليك رجلًا قويًّا يحملك هكذا، ويقبلك هكذا، ثم حملها وأخذ يغمر وجهها ويديها بالقبل، وهي جذلَى فرحة تتصنع الصياح والعربدة، ثم قالت وقد التقطت أنفاسها: إنك لا تزال غلامًا شقيًّا كعهدي بك، وأين أبو لورا؟

– ذهب إلى منزله الذي كان يسكنه «إلياس فخر» المترجم؛ لأنه رحل مع الفرنسيين … وعادت إليه خادمته مبروكة، وخادمه عبد الدايم، فاتجهت إلى لورا وقالت: لقد كان منزلك جميلًا يا لورا، كنت كلما زرت مقام سيدي الإدفيني عرّجت عليه لأجلس بجانب إحدى نوافذه الشمالية، لأتمتع بشميم أزهار الحدائق حوله، فأسرع محمود وقال: إنه لم يعد منزل لورا يا أمي.

– ألم تقل: إن المترجم رحل عنه، وإن الخواجة نيكلسون عاد إليه! …

– نعم، ولكن لورا يحول الآن بينها وبين سكناه حائل عظيم.

– حائل عظيم!! ما هو؟

فابتسم نحو لورا وقال: الشرع الشريف والحب الشريف.

فقالت أمه: أنا لا أفهم هذه الألغاز!

– وهذا بعض ما تستحقين، فطالما ربكت عقلي بالأحاجي (الفوازير) وأنا صغير لا قبل لعقلي بها.

– دع هذا يا محمود وخبرني جلية الخبر.

– إن لورا تزوجت.

– ألف مبارك يا لورا، بمن؟

فقال محمود: بمن لا يحب في الدنيا إلا امرأتين: هي … وامرأة أخرى تجلس في سريرها.

– رجعنا إلى الألغاز … بمن بحقك؟!

– بابنك محمود.

فاتجهت زينب إلى لورا ومدت إليها ذراعيها، وأخذت تقبلها بين الضحك وانهمار الدموع، ثم قالت وهي تداعبها: عرفت سر تكرار زياراتك لخالتك المريضة حينما كنت برشيد، ثم ضحكت وقالت: هؤلاء البنات لا يغلبهن غالب حينما يردن، وقد خلقت لهن أمهن حواء تلك الشبكة المحكمة الأطراف التي تصيدت بها أباهن آدم، ألف مبارك، ألف مبارك يا لورا، من مثلي الآن في رشيد؟ لي ولد وبنت صورهما الله من جمال وحسب وخلق كريم! الآن لا أحب أن أموت

ثم أمرت الخدم أن يعدّوا لهما غرفًا خاصة بهما، وبعد قليل هجس بنفسها هاجس أليم انقبض له وجهها فقالت: لقد علمت بخاتمة نكبة بنت خالتك يا محمود، إنها لمصيبة أخف منها الموت، وكيف حال أختي نفيسة؟

– جاءت معنا من القاهرة وذهبت إلى دارها.

– مسكينة!! لن تجد بدارها أنيسًا إلا إذا ائتنس البائس بما يؤلم من الذكريات!! مسكينة!! مات زوجها الشهم الذي لم تشرق شمس رشيد على مثله، وضاعت بنتها غنيمة للفرنسيين، حتى كأنهم لم ينزلوا مصر إلا لاختطافها، وبقي لها … ماذا بقي لها؟! الثكل والجزع، وابنها علي الحمامي.

– آه يا أماه!! إن رزيئتنا في زبيدة فوق الاحتمال.

فأرسلت أمه نظرة خاطفة إلى لورا وقالت: ذلك قضاء الله يا بني … من كان يظن أن الشرقي يتزوج غربية، والغربي يتزوج شرقية!! آمنت بالله، وآمنت بالقدر خيره وشره!!

وفي هذا اليوم غير نيكلسون زيه فارتدى ملابسه الإفرنجية، وطلّق اسم الحاج محمد السوسي إلى غير عودة، وقابل شريكه «أورلندو» فضبط معه حسابه مدة غيبته، وعاد إلى متجره بشارع البحر كما كان، مغتبطًا مسرورًا برحيل الفرنسيين، مزهوًّا فخورًا بأن قومه هم الذين أجلوهم عن البلاد.

واستبشر أهل رشيد بعودة محمود العسال ونيكلسون صديقهم القديم وتوافد عليهما المهنئون، وكان حديث بطولتهما ملء المسامع والأفواه، وزواج محمود بلورا موضع جدل ونقاش بين الفتيات والأمهات.

ومرت سنوات ست على محمود حتى أظلته سنة ١٨٠٧م وهو هانئ سعيد بزوجته وقد زاد بها تعلقًا وزادت به حبًّا، وفي خلال هذه السنوات اضطربت الأحوال بمصر، واشتد الصراع بين الترك والمماليك، وشايع زعماء المصريين محمد علي باشا، فاختارته الأمة واليًا على مصر، وتجرد لمحاربة المماليك واستئصال شأفتهم.

وفي ذات ليلة بينما كان محمود ولورا يزوران نيكلسون، دخل حسين العسال ابن عم محمود، وقال وهو يلهث من التعب: لقد بحثت عنك يا محمود في كل مكان، جئت اليوم من الإسكندرية وهي في أشد أحوال الكرب والاضطراب، فقد نزل بها بالأمس جيش إنجليزي واحتل المدينة، والناس في حال يرثى لها؛ لأنهم لم يكادوا يفيقون من صدمات الفرنسيين، حتى سقطوا في أيدي الإنجليز، وقد علمت من الشيخ المسيري أن قائد هذه الحملة يُدعى: فريزر، فبُهت محمود وقال في ذهول: جيش إنجليزي؟

– نعم، فإني أعرف الراية الإنجليزية، وأميِّز ملامح الإنجليز من أي جنس آخر. فقال محمود: ولماذا قدموا يا تُرى؟ فأجاب نيكلسون وقد أدرك حرج موقفه: إنهم لم يجيئوا لامتلاك البلاد، والذي أعلمه أن الدولة العثمانية حالفت نابليون، وقطعت صلاتها بإنجلترا، فخاف الإنجليز أن يستغل الفرنسيون صداقتهم الجديدة للترك فيعودوا إلى احتلال مصر، فجاءوا لدرء الخطر الفرنسي عن مصر، وربما كان مجيئهم استجابة لدعوة من المماليك. فقال محمود ساهمًا: هذا كلام حسن يا صاحبي، وأرجو أن يكون الأمر كما تقول.

فقال نيكلسون: هذا هو الذي أظن.

وبعد أيام كانت رشيد في قلق واضطراب، فقد شهد الناس من مئذنة مسجد زغلول جيشًا مقبلًا على المدينة، ولم يكن برشيد من العُدَّة وآلات القتال ما تستطيع أن تدرأ به جيشًا غازيًا، ولم يكن لها من الأسوار إلا أطلال عصفت بها الرياح والأنواء، وما كانت إلا ساعة من نهار، حتى دخل الإنجليز المدينة بغير قتال، فثار السكان وغضبوا، وقام الخطباء يستحثون العامة على الدفاع، وكان محمود العسال في حيرة بين واجبه وحبه، فما كان يصح في عقله أن يقتحم المغيرون مدينته وهو واقف مكتوف اليدين، ولكن لورا؟ أيحارب قومها؟ لقد كاد قلبه لشدة شغفه بها يتسع لحب الإنجليز جميعهم.

جلس حزينًا مفكرًا، وأصوات الناس وعجيجهم تملأ أذنيه، وهم مسرعون للقتال، فدخلت عليه لورا وقالت: في أي شيء تفكر يا محمود؟

– أنا في حيرة يا حبيبتي.

– وفيم الحيرة؟

– أنا في حيرة بينك وبين وطني.

– بيني وبين وطنك؟ إن قومي بخير يا محمود، وإن قومي يمجِّدون الشهامة كيفما كانت، حتى إنهم يمجدونها في أعدائهم. وإنني لم أحبك إلا لبطولتك وإقدامك وغيرتك على بلادك، فإذا تخليت عن هذه الصفات لأجلي فقد تخليت عن حبي، إن زوجي محمودًا الذي أحببته فوق كل حب، وملأت به قلبي غرامًا، وفمي إعجابًا وفخرًا، لن يجلس في داره كما تجلس العجائز وطلقات رصاص الفاتحين تصمُّ المسامع، إنه إن رضي بهذا فإن زوجته لورا لن ترضى، وماذا يقول الناس، وبِمَ يهمسون؟ سيقولون: لقد كان محمودٌ محمودًا قبل أن يتزوج، لقد كان بطلًا يلاقي الموت جريئًا بسَّامًا، فلما فتنته الإنجليزية سلبته كل صفات الرجولة، فأصبح فسلًا رعديدًا خائر العزم قليل الغناء، أتحب أن يقول الناس هذا عني وعنك؟ ثم قهقهت وقالت: لا يا زوجي الباسل أنا أعرف أن شيئًا في الأرض أو في السماء لن يحول بينك وبين الذود عن وطنك، ولو كان ذلك الشيء حبي، ولكنك تجاملني يا محمود، تجامل زوجتك التي ليس لها سواك، والتي تحب فيك الهمة ومضاء العزيمة.

– نعم أجاملك يا لورا، ولكني لم لو أنَلْ رضاك لسرت إلى القتال مشتَّت القلب مثقلًا بالهموم.

– لا يا حبيبي على بركة الله مجمّع القلب باسم الوجه، وعد إلى زوجتك الوالهة مظفرًا منصورًا.

فوثب إليها يقبلها وتقبله في شغف وحنان، وقد امتزجت الدموع بالدموع، وتلاقت الزفرات بالزفرات، ثم اختطف بندقيته وقفز إلى باب الدار ليلحق بالجموع الزاخرة التي شمَّرت للدفاع عن المدينة.

وكان الحشد عجيبًا حقًّا: اجتمع فيه الرجال والنساء والشيوخ والأطفال، وكانت العصيُّ والحجارة أكثر ما يُزهى به هذا الجيش من عُدد القتال، فتقدم محمود الجمع، ودعا إلى الهجوم بين تهليل المهللين وتكبير المكبرين، وكان القتال في الحارات والبيوت، واستمرت المعركة ساعات سقط فيها عدد غير قليل من الجانبين، ولما احتدم القتال ولاح النصر في جانب أهل المدينة، ورأى محمود رابية لا تزال تتحصن بها ثُلة من الجنود، فدعا بعض الفتيان إلى محاصرتهم، ولكنه لم يكد يتقدم منهم قليلًا حتى رماه أحد برصاصة اخترقت صدره فسقط على الأرض صريعًا.

وهنا ثار السكان ووثبوا وثبة رجل واحد، فتراجع الغزاة وغادروا المدينة، وعاد الجموع يحملون جثة محمود بين البكاء والعويل، حتى وصلوا إلى بيته، فهرعت لورا المسكينة إلى زوجها المقتول نادبة باكية، ورمت بنفسها عليه تعانقه وتقبله، وتخاطبه كأنما هو حي مدرك، بألفاظ تقطِّع نياط القلوب، وعبارات تستنزف ماء العيون، حتى إذا حاول أبوها وحسين العسال أن يواريا عنها الجثة، صاحت بهما غاضبة صاخبة: اذهبا إلى شأنكما، ودعاني أقبله فإن الحب لا يعرفه إلا من يكابده، ودعاني أحدثه فإنه يأنس لحديثي ويطرب لنبرات صوتي، ثم انكبت عليه ثانية، وهي تقول: محمود يا حبيبي: أحقًّا عدت منصورًا وجئت إلى زوجتك الحبيبة تطلب أجر بطولتك؟ هذه قبلة، وهذه قبلة أخرى، أهذا يكفيك يا نور عيني؟ لا يكفي؟! أنت ولد طماع جشع! خبِّرني بالله ماذا فعلت؟ تقدمت الصفوف كميًا شجاعًا، وسخرت من الموت جريئًا تياهًا، وذكرت زوجتك الغالية فوثبت غير هياب لتحظى بحبها وإعجابها؟ لم يبق لي حب أدخره يا محمود، لقد أخذته كله، ولم أترك في نفسي إعجابًا إلا توّجت رأسك به، إنك لم تمت يا محمود، قل إنك لم تمت!! هؤلاء المساكين الذين حملوك إليَّ، يظنون أنك ميت لا ترجى!! كذِّبهم يا محمود، وقل لهم: إنك حيّ، وإن مثلك لن يموت.

ثم حُمل البطل إلى الدار، وبقيت لورا طول الليل إلى جانبه تحادثه وتقبله، حتى خاف أبوها عليها الجنون، فأخذ يهدِّئ من نفسها، ويُذكرها بما يجب من التسليم لأحكام الله، ويدعوها إلى الجلد والصبر، فسكنت بعض السكون، واستسلمت إلى البكاء، وفي البكاء شفاء المحزونين.

وفي الصباح هرع الناس للاحتفال للجنازة، وأخذ المؤذنون فوق المآذن يُشيدون ببطولة الراحل ويمجدونه، ويستمطرون عليه الرحمات، وازدحم مسجد المحلي بالجموع التي أقبلت للصلاة عليه واجمة حزينة؛ ووقف الحاج عبد الله البربير، فأنشد قصيدة في رثائه، بكى فيها وأبكى الناس، كان من أبياتها:

محمود إن حُمِد العزاء فإنه
في يوم خطبك ليس بالمحمود
لم يبق فيَّ سوى الدموع فهاكها
دفاقة والجودُ بالموجود

ثم حمل أعيان المدينة النعش على أعناقهم إلى مدفن شهاب، وعاد المشيعون يرددون الدعوات ويرسلون الزفرات.

أما لورا: فقد أصابها طائف من الذهول، فكانت تخرج في كل صباح مع خادمتها مبروكة ذاهلة مأخوذة كأنها تمشي في حلم مزعج مخيف، فتذهب إلى الحدائق لتجمع أنضر أزهارها، ثم تتجه إلى قبر زوجها فتنثرها فوقه، وتجلس مطرقة صامتة حتى يظلها الليل، فتعود مع الخادمة، وقد اعتاد الناس هذا المنظر، فكانوا إذا مرت بهم أطرقوا في خشوع، واتجهوا إلى السماء يسألون لها الصبر، ولبطلهم الرحمة، وكان الأطفال يسمونها: بالسيدة الحزينة، ولقد طالما تسابقوا إلى جمع الأزهار لها، ليظفروا منها بتلك النظرة الباكية الحنون.

وفي إحدى الليالي الممطرة المظلمة، سمعت السيدة نفيسة طرقًا على باب دارها، فأيقظت خادمتها لفتح الباب، وما هي إلا لحظة حتى صعد سرور ومعه سيدته زبيدة، فلما رأت زبيدة أمها سقطت بين ذراعيها باكية، وطفقت تقبلها وتهتف بكلمات متقطعة، أما أمها: فقد أدهشتها المفاجأة، فأخذت تهذي وتبكي، ثم تفتح عينيها واسعتين لترى أفي يقظة هي أم في منام، فلما سُرَّى عنها قليلًا تأملت فتاتها المحبوبة، فرأت هزالًا وسقمًا، ووجهًا شاحبًا شاعت فيه الغضون، وبحثت عن جمالها الرائع فلم تجد منه إلا بقية من آثار جالدت المصائب فلم تستطع أن تعصف بها فهزت رأسها في شجن وأسى واتجهت إلى سرور فقالت: قل لي كل شيء يا سرور، فزفر سرور، زفرة طويلة ثم قال: سافرنا من رشيد إلى فرنسا ثم لحق بنا الجنرال مينو بعد شهر، وأقمنا بباريس، وفي هذه المدينة تبدّلت أخلاق الجنرال، فكان خشنًا، كثير الصخب سريع الغضب، وقد انصرف إلى سهرات الليل وغشيان الحانات، وكنت دائمًا أوصي سيدتي بالصبر، وأدعوها إلى مقابلة هذه الجفوة بالازدراء، ثم رحلنا إلى إيطاليا في مدينة يسمونها «تورينو» فزادت حدّته، وتضاعف احتقاره لسيدتي بما لا يُحتمل، ثم هجر المنزل، وترك سيدتي تقاسي غصة الفقر وألم المهانة، ولم تصبر هذه المدة الطويلة على هذا الأذى، إلا من أجل ابن سيدتي سليمان، ولكن الجنرال شمّر أخيرًا على ساعديه، وضرب الضربة القاصمة فأرسل ابنه إلى فرنسا ليضعه في إحدى الأسر الشريفة لتثقيفه وتعليمه، وعندئذ لم يبق في قوس الصبر منزع، ولم تجد سيدتي في البقاء بإيطاليا — بعد أن انتزع ابنها منها — إلا موتًا بطيئًا تحيط به الهموم والأحزان، فعزمنا على الفرار، وأخرجت كيس المال الذي أودعته عندي يوم رحيلنا، فسافرنا خفية في ظلام الليل إلى مدينة تُسمى «نابلي» ومنها ركبنا سفينة إلى الإسكندرية، فوصلنا إليها أمس، ثم اكترينا بغلين إلى رشيد، فتنهدت نفيسة وقالت: نعم ما صنعت يا زبيدة!!

– إن عودتي يا أمي لن تصلح شيئًا مما تهدم من حياتي.

– ستعيشين بجانب أمك هانئة سعيدة، وستمحو الأيام تلك الذكريات القاسية، فإن كل شيء يُنسى يا بنيتي في هذه الحياة.

– إلا الشباب الضائع.

– كوني سلوى لأمك يا فتاتي، ولا تزيدي بالله في أشجانها.

– كما تشائين يا أمي، كيف حال ابن خالتي محمود؟

فوجمت نفيسة وسُقط في يدها؛ لأنها ما كادت تظفر بتهدئة بنتها حتى اصطدمت بسؤال يثير الآلام، ولكنها جمعت شجاعتها وقالت: إن هذه الدنيا لا يُركن إليها يا زبيدة.

– ما معنى هذا؟

– لقد قامت حرب بالمدينة منذ شهر، كان محمود بطلها المغوار.

– أجُرح؟

– نعم جرح جرحًا بالغًا.

– وكيف حاله الآن؟

– إنه الآن لا يتألم يا زبيدة، إنه في جنات النعيم!!

فشهقت زبيدة شهقة كادت تودي بها، ثم اشتدت بها نوبة بكاء، وأخذت تهرف وتهذي وتقول: إنه كان حياتي يا أمي، لقد وهبت له حبي وقلبي على الرغم من قسوة الأقدار، ووقوف الدهر بينه وبيني، لا أمل في الحياة بعد محمود، ولا طعم للحياة بعد محمود!!

فعادت أمها إلى تهدئتها وتسكين ثورتها، وانقضى الليل كله في بث وبكاء، ومحاولة للتصبر والعزاء.

وعندما بزغت الشمس سألت زبيدة أمها عن مكان قبر محمود، وأخذت معها سرورًا، فانطلقت إلى القبر هالعة جازعة، حتى إذا بلغته رأت امرأة جاثية عنده، مطرقة ذاهلة، فلم تتبين وجهها، فجثت قبالتها في صمت وخشوع، ثم غلبتها الزفرات فتنبهت المرأة ورفعت رأسها، وحين نظرت زبيدة إليها من خلال الدموع صاحت: لورا؟ أنت لورا؟ ونظرت إليها لورا نظرة المذهول وقالت: زبيدة؟ أحقًّا أنت زبيدة؟ ثم غلبهما البكاء فأطرقتا، وطال هذا الإطراق، حتى إذا قلق سرور لطول صمتهما قام فرأى لهوله أنهما فارقتا الحياة، فأسرع إلى سيدته فأخبرها الخبر الأليم.

وشاع الأمر في المدينة، فجاء السيد علي الحمامي وجاء نيكلسون، وتزاحم الناس فحملوا الجثتين، وبعد صلاة الظهر احتفل أهل رشيد لجنازتهما، ووضعوهما في نعش واحد، ودفنوهما في قبر واحد.

وإذا ذهبت إلى رشيد اليوم وقصدت إلى مدفن شهاب، رأيت قاعة طال القدم على جدرانها، بها قبر نُثرت عليه الأزهار، ورأيت رخامة كُتِبَ عليها بخط الثلث الجميل:
(هذا قبر الشهيدتين)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤