الفصل الرابع

في يوم الثلاثاء الثالث من شهر يولية سنة ١٧٩٨م كانت رشيد كالبحر المائج المضطرب، عصفت رياحه وتواثبت أمواجه، فكنت تسمع جلبة في كل مكان، وترى أفواجًا من الأهلين تُساق بالسياط، وجنودًا من الفرسان تعدو بخيولها هنا وهناك، والبنادق في أيديهم يهددون بها كل من لاذ بداره أو حاول الفرار، فقد أصدر عثمان خجا أوامر قاسية، بأن يقوم كل رشيدي بالمعاونة في تجديد الأسوار وتقوية الأبواب والحصون، وأن يعدّ كل رشيدي سلاحًا كيفما كان نوعه لقتال الغزاة الغاصبين، ولم تستثن أوامره طفلًا ولا شيخًا همًّا ولا مريضًا زمنًا، وكان سليم بك رئيس العسكر، وعلي جاويش مساعده، يمران على الجند لحثهم على بذل أقصى الجهد في حشد الناس، واتخاذ كل وسائل الشدة والعسف في سوقهم إلى العمل، فوثبوا على المنازل واستباحوا حرمتها، وقبضوا على النساء لدفع أزواجهن أو آبائهن إلى الظهور، وقتلوا كثيرًا ونهبوا من مدّخرات البيوت كثيرًا، كانت رشيد في هذا اليوم وما تلاه من أيام جحيمًا أججها الظلم وأشعلها الغباء، فكنت لا تسمع فيها إلا رنات السياط على الظهور، وقصف المدافع والبنادق ممتزجًا بصراخ الأطفال وولولة النساء.

وفي صبيحة يوم الجمعة السادس من شهر يولية، رأى الناس من المآذن — وكانوا يصعدون إليها في كل يوم — جيشًا يبلغ عدده نحو ألفي مقاتل يزحف على رشيد بعد أن غادر أدكو، وهنا أعد عثمان خجا جنوده، وكانوا لا يزيدون على مائة من الإنكشارية وبعض الباشبوزق، وانضم إلى هؤلاء بعض الأهلين كارهين، وقد سُلحوا بالعصيّ والسكاكين، وهجم الجنرال «دوجا» بجيوشه وآلاته الحديثة على رشيد عند الظهيرة، وما كان أشد دهشته حين رأى جيش المماليك يفرُّ من غير أن يجرد سلاحًا، وحين رأى الأهلين يرحبون بقدومه ويحيُّونه تحية الفارس المنقذ الذي أرسله الله لخلاصهم من ظلم المماليك، أما عثمان خجا وسليم بك: فقد كانا في الفرار أسرع من جنودهما، فركبا النيل إلى دمياط.

دخل «دوجا» رشيد دخول الفاتحين، وبقي بها يومين أو ثلاثة حتى قدم الجنرال «جاك فرنسوا مينو» الذي عينه نابليون حاكمًا لرشيد، فهُرع الأعيان وعظماء المدينة إلى استقباله، وأظهروا البشر والسرور، وتلقَّوه بالزمر والطبول، وأطلت النساء من النوافذ ومن فوق سطوح الدور، يحيينه بالأغاريد، وسلَّم إليه علي جاويش مفاتيح المدينة في حفل حافل، وقف فيه مينو فألقى خطبة مسهبة لخصها ترجمانه «إلياس فخر» فقال: إن جناب الجنرال لن يتدخَّل في الحكم الداخلي للمدينة، ويطلب من الأعيان وكبار البلد أن يؤلفوا منهم ديوانًا للنظر في شئون الناس، ثم إنه يؤكد أن كل ما يُشترى للجيش يصرف ثمنه للتجار ذهبًا، ويعلن ميله وميل دولته الشديد للإسلام، وأنه سيكون أول من يذهب إلى المساجد للصلاة، وأن حكم الجمهورية الفرنسية مؤسس على الإخاء والمساواة، وأنه جاء لينشر العدل ويبدِّد ظلام الجهل والظلم.

كان مينو في نحو الثامنة والأربعين من عمره، ربعة في الرجال غليظ الوجه ثقيل الملامح، أشقر الشعر دبَّ الشيب إلى فوديه قليلًا، وكان سريع التأثر، يفعل ما لا يقول، ويقول ما لا يفعل، سريع الغضب والرضا ومعتدًّا بنفسه كثير الزهو بذكائه، يعتقد أن حكمة الدنيا وفلسفتها أنزلت عليه وحيًا، وأن محجَّبات الغيب دانت لعبقريته طوعًا، وقد أدَّى به ذلك الاعتقاد إلى الصلف واحتقار آراء غيره، ودعاه إلى العجلة وسرعة البت في الأمور الخطيرة بلا أناة أو تفكير أو مشاورة، فجرَّ عليه ذلك بغض زملائه ومرءوسيه، وسخطهم عليه والسخرية منه، وكان من أسرة نبيلة بفرنسا، وربما زاد هذا النسب في كبريائه على أنداده من رجال الحملة، وربما أبطره عطف نابليون عليه عطفًا حار في تعليله المؤرخون.

اجتمع العلماء والتجار وأعيان المدينة بمنزل السيد محمد البواب، لينظروا في هذا الحادث الجلل، بعد أن صرح مينو بسياسته، فقال الحاج أحمد شهاب: يظهر أن الله أراد الخير لهذا البلد المسكين، فأرسل هؤلاء الفرنسيين لإنقاذه،

فقال الشيخ الخضري: أفتى بعض العلماء تيمور لنك بأن الحاكم الكافر إذا كان عادلًا، خير من الحاكم المسلم إذا كان ظالمًا، وهنا زفر الشيخ صديق: صدق الله العظيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ.

فاتجه إليه الشيخ الخضري وقال: يا مولانا لقد سمعناه اليوم يقول: إنه سيترك الحكم لأهل البلد، وإنه يحب الإسلام، وإنه سيؤدي الصلوات، فتنحنح الحاج عبد الله البربير وقال:

قد بُلينا بأمير
ظلم الناس وسبّح
فهو كالجزار فينا
يذكر الله ويذبح

وهل يصلي بهذا السروال المقمَّط، وهذه القبعة التي تشبه زنبيل الأرز!!

فوقف محمود العسال وقال: إني لشديد العجب من أن أرى قومًا يرحبون بغاز لبلادهم، مغير على وطنهم كيفما كان جنسه أو دينه أو خلقه، إن الرجل منكم إذا غالطه جاره في حدّ من حدود أرضه، أو فتح نافذة على أرض خربة يملكها، أقام الدنيا وأقعدها، وراح يثير عليه الحكام ويصب عليه صنوف الانتقام، ولكني أراكم وقد ضاع الوطن العزيز واستبيح حماه، وديس عرينه وتمكن من رقبته عدو جبار، تسرون وتفرحون ويهنئ بعضكم بعضًا بهذا الفتح المبين والنصر المؤزر، إننا نبغض المماليك ونضج من ظلمهم وطغيانهم، فهل معنى هذا أن نترك الدفاع عن البلد لنستريح منهم بدخول عدو جديد؟ عارٌ أيها الناس وأي عار أن يقال: إن رشيد لم تدفع عن حوزتها دفاع الأسود، وإنها قابلت فاتحيها بالطبل والزمور! عارٌ وأي عار أن يقال: إن شرذمة قليلة من الفرنسيين لا تزيد على الألفين، فتحت مدينة حصينة آهلة بسكانها، وإن هذه المدينة التي سيسخر منها التاريخ قابلت أعداءها بنثر الأزهار والرياحين، كما يقابل الغزاة الفاتحون، نحن نبغض المماليك حقًّا، فهل كانت تقصر همتنا — ونحن نستطيع أن نجمع عشرين ألفًا من أشداء الرجال — عن القضاء على المماليك والفرنسيين معًا، وأن نقتنص هذه الفرصة الطائرة لنغسل عار رشيد بدمائهم جميعًا؟ كان علينا ألا نقبع في دورنا حتى يصلوا إلينا، فقد قال ابن أبي طالب: ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا، بل كان يجب أن نقابلهم في الرمال المحرقة فنبيد جموعهم في الصحراء بين رشيد والإسكندرية، ولكن لن يصلح قوم لا قائد لهم! والأمم إباء وكبرياء، فإذا مات الإباء وذلت الكبرياء بادت الأمم، قال هذا وخرج مسرعًا وقد عصف به الحزن والغضب، وترك القوم واجمين ذاهلين، وإذا صوت الشيخ علي سريط يملأ جوانب الفضاء وهو يصيح: إذا ذهب الذئب وجاء الأسد، فيا ضيعة المال والولد!!

وبعد أيام أنشأ مينو ديوانًا للأحكام عين به بعض العلماء والأعيان، والفرنسيين والمترجمين، وأظهر في أول عهده العدل والتسامح، وبالغ في الاختلاط بالأهلين، فكان بيته في كل ليلة مثابة للعظماء والعلماء، وكان يتحدث في هذه السهرات في عظمة فرنسا وقوتها، وأنها اجتاحت الممالك وقهرت الأمم، وكثيرًا ما كان يمازح الشيخ البربير ويبادله النكات، وكان من بين المتزاحمين على مودته والتقرب إليه السيد علي الحمامي أخو زبيدة من أمها، فإنه بعد أن عُين عضوًا في الديوان أخذ يملأ الدنيا ثناء على الفرنسيين، ويضع «الجوكار» وهو شعار الجمهورية على صدره فخورًا تياهًا، حتى سماه بعض خبثاء المدينة «الأوفيسيال علي»، أما محمود العسال: فكان يرأس جماعة الساخطين من شبان المدينة، وكان يجهر برأيه في حكم الفرنسيين غير هياب حتى لقد شكاه الضابط «لوي أوجست» نائب الحاكم العام إلى مينو مرات، فكان يشفع له علي الحمامي، والسيد محمد البواب.

وكانت زبيدة في هذا الحين مريضة طريح فراشها، فإنها منذ رفضت مكرهة خطبة محمود ضاقت نفسها عن احتمال ما هي فيه من حب ورياء، وأمل كاذب، فتوالت عليها الأوهام وتزاحمت الآلام، ومضت الأيام والأسابيع، وهي لا تزيد إلا سقمًا، ولا تجد إلى الشفاء من سبيل، وكانت تنتعش قليلًا لزيارة محمود ويعود إلى وجهها شيء من نضارة الحياة، حتى إن أمها كانت ترجوه أن يزورها في كل يوم، وما كان في حاجة إلى رجاء، ولم تبق أمها دواءً ولا بخورًا ولا حجابًا ولا تميمةً، إلا بذلت فيه المال الكثير طامعة راضية، ولكن المرض كان يطغى بزبيدة ويعصف بشبابها، زارها يومًا محمود وقد كاد يبلغ بها الوصب غايته، فأطفأ بريق العيون ومحا نضارة الخدود، ولم يبق منها إلا هيكلًا من جمال قديم، فنظرت إليه في شغف ويأس، وقالت: مسكين يا محمود! إن الزهرة التي سقيتها بدمعك، وأدفأتها بزفراتك، وغرستها في سويداء قلبك، وكنت تغار من النسيم أن يمسها، ومن الطل أن يلثمها، ومن الشمس الضاحكة أن تداعب أوراقها، وكنتَ تباهي بها الأزهار وتتحدى البساتين قد هبت عليها عاصفة هوجاء فتركتها هشيمًا، واصطلحت عليها الأنواء فغادرتها حطامًا، انظر إليَّ يا محمود فهل تراني كما كنت أكون، أو كما كنت تحب أن أكون! الشباب والصحة جمال الجمال، والشباب والصحة جمال الروح، والشباب والصحة جمال الحياة، إني أحس وأنا راقدة في فراشي أن هذا السرير يعدو بي إلى الموت عدوًا، وأود أن أملأ عيني من كل شيء في الحياة، قبل أن أفارق الحياة!!

كان محمود حزينًا مطرقًا، يغالب دموع عينيه ويكبت زفرات صدره، فالتفت إليها وقد تكلف الابتسام قائلًا: أنت تفارقين الحياة؟ هذا مستحيل! إن الله أرحم بعباده من أن يفجعهم بهذه الفجيعة، إن روحك يا زبيدة متصل بكل روح، وقلبك يرسل الحياة والأمل إلى كل قلب، فهل تظنين أن الله سيطفئ روحًا بها حياة الأرواح وأمل القلوب؟ إن زهرتي إن ذبلت اليوم فإن في جمالها الكامن ما يتحدى العواصف والأنواء، وسنراها غدًا، وهي تتخايل فوق غصنها ناضرة فتانة، إن الشمس يا زبيدة لا تموت، ولكنها إذا جاء الأصيل درجت إلى سريرها فنامت الليل كما تنامين فوق هذا السرير، ثم بزغت في الصباح متلألئة باسمة.

وهنا ألقت بيدها النحيلة بين يديه، وقالت: هذا كلام لطيف يا محمود ولكني أشعر بما لا تشعر به، وكثيرًا ما سررت وأنا في غمرة أحزاني من أني لم أسرع إلى إجابة خطبتك، حتى لكأني كنت أقرأ ما دوّنه القدر، فما كان أعظم الكارثة علينا لو دهمني الموت بعد زواجنا، فشرقنا بكأس النعيم، وذهبت الحياة ونحن في أول نشوة من خمر الحياة!

وماذا يكون من أمرك حين تدفن العروس بثوب جلائها، ويسلبك القدر ريحانة لم تنعم طويلًا بشذاها؟ وحين يكاد يختلط بسمعك لقرب ما بينهما عزف الراقصات بلطم النادبات، وضحكات المغنيات بولولة الناعيات؟!

فقاطعها قائلًا: رفقًا بي يا زبيدة ولا تسترسلي في هذه الناحية المظلمة القاتمة، ارحميني يا حبيبتي، ودعي ذكر الموت والنادبات، أتذكرين حين خرجنا يوم شم النسيم الماضي وقضينا يومًا سعيدًا ضاحكًا مع أمك وأخيك علي ولورا، إني لن أنسى هذا اليوم، وأشعر واثقًا أننا سنعيد ذكراه معًا وأنت في أنضر ما تكونين صحة ومرحًا وشبابًا، فانتعشت زبيدة وقالت: ما كان أجمله يا محمود! خرجنا في ذلك اليوم في غبش الفجر، وقد كنا أعددنا كل شيء، وكان أبي نائمًا، فكانت أمي تمشي على أطراف أصابعها خشية إيقاظه كما تمشي الناقة العرجاء، ثم طافت بوجهها ابتسامة خفيفة واستمرت تقول: وقد أدرك أمي سعال فكانت تكتمه بيديها، وأخي يلطم خده ويقول: ضعنا والله، لو استيقظ ما سمح بخروج النساء.

– وقد مشينا في هذا اليوم على شاطئ النيل والنسيم يهب خفيفًا بليلًا كأنه هبات الأمل في نفوس البائسين، حتى إذا اجتزنا دوائر الأرز ذهبنا جنوبًا بين تلك الحدائق الزُّهر الباسمة، وأشجار الفاكهة التي أحست بالربيع فتفتحت أنوارها لتقبيله، وامتدت غصونها لعناقه.

– وقد نظرت حينئذ فلم أجد أحدًا، فخلعت ملاءتي أنا ولورا وذهبنا نمرح بين الأغصان كأننا طفلتان صانتهما الطفولة من خائنة الأعين وما تخفي الصدور، أتذكر حين تسلقت لورا شجرة الجميز ثم قبضت بيديها على أحد فروعها، وأخذت تتأرجح به ضاحكة لاهية، وأمي تحت الشجرة تصرخ وتستحلفها أن تكف، وتضرب بيدها على صدرها خوفًا وذعرًا؟

لقد كان ذلك منظرًا بديعًا حقًّا، حتى إذا جاوزنا الحدائق ظهر لنا (كوم الأفراح).

– ما أجمل هذا التلّ العالي يا زبيدة، وما أنقى رماله، وما أروع أن تشاهدي من فوقه النيل وهو يلتف حول الرمال كما يلتف السوار؟!

– لقد غاصت رجلي في الرمل يومئذٍ فحاولت إخراجها فتهوَّرت من أعلى التل إلى سفحه، وكنت أصرخ وأضحك في آنٍ، وأعجبت لورا هذه اللعبة فتدحرجت خلفي، ثم وصلنا إلى مسجد «أبي منظور» ونحن أشد ما نكون جوعًا فكنا نتخاطف الطعام في عبث ولهو ومجون.

– ثم صعدنا في المئذنة فرأينا مدينة رشيد تحتنا بمآذنها وقبابها ومنازلها السعيدة الهانئة، والنخيل تحيط بها كأنها حرَّاس من جنود الله، يدفعون عنها كل سوء.

– أذكر كل هذا يا محمود كأنه مثال أمامي، ما أجمل الحياة وما أجمل أن يشعر المرء بجمالها! ثم انتقلنا إلى قارب يمخر بنا في النيل جيئة وذهابًا كأنه الحوت الضخم ضل مكان أليفته، فجال يبحث عنها هائمًا مضطربًا، وكان المراكبي شيخًا هرمًا فلم يمنعه هرمه من أن يرسل إليَّ وإلى لورا عينين جائعتين كادتا تلتهماننا التهامًا، إن شباب القلوب وضعف الأجسام كارثة الشيوخ يا محمود، وجلست لورا في القارب وأخذت تصف لنا جمال بلادها وأخلاق أهليها، واطمئنان نفوس الناس لحكَّامها، وأن النساء هناك سافرات يخالطن الرجال ويقضين شئونهن بأنفسهن، إنه كان يومًا سعيدًا يا محمود، لم نرجع منه إلا بعد أن غابت الشمس، وكان أبي حازمًا فلم يسأل سؤالًا واحدًا؛ لأنه رأى من صون كرامته أن يُغضي إغضاء المتجاهل، إن ذكرى ذلك اليوم جددت الحياة في نفسي وجعلتني أحس أن كتاب حياتي لم ينفَد بعد، وأنه لا يزال به صحف كثيرة من بيض وسود، أين لورا؟ إنها لم تَعُدْني؟

– لقد سافرت مع أبيها منذ دخول الفرنسيين، ولا أعلم أين استقرت بهما النوى.

– إنها أجمل فتاة رأيتها خَلقًا وخُلقًا، ولو أنها كانت مسلمة لكانت خير زوجة، إنها الحنان والعقل لُفَّا في أبدع صورة من صور الجمال، فهل نراها مرة أخرى؟!

– إن سفن الحياة تفترق وتلتقي في بحر العمر المائج، والحب كفيل بألا يطيل الفرقة بين الشتيتين.

وهنا دخلت أمها فرأتها باشَّة مستبشرة، فانصبت على خدِّي محمود تقبلهما كالمجنونة وهي تقول: أنت شفاء ابنتي يا محمود، وكأن فيك سحرًا يبعث في جسمها العافية.

فالتفت إليها محمود قائلًا: تعالي يا خالتي نتحدث في الأمر حديث جد وصراحة، هذه الأحجبة وهذا البخور لا تفيد شيئًا، إن زبيدة لا تشكو إلا من وعكة تزول إن شاء الله، إذا اتخذت الوسائل الصحيحة لعلاجها، أتمانعين في أن يراها الطبيب «شوفور» الفرنسي؟

– أيجوز يا بني أن يرى الطبيب الإفرنجي بنتي، وأن يكشف عن جسمها كما يفعل بالرجال؟

– كان يقول لنا شيخنا الخضري: «إن الضرورات تبيح المحظورات» وسلامة زبيدة من أشد ضرورات الدنيا، أنا ذاهب لأدعوه، ثم انطلق كما ينطلق السهم وعاد بعد ساعة ومعه الطبيب «شوفور» وهو رجل قضى برشيد أكثر من عشر سنوات، وعرف أهلها واختلط بأسرها، فلما فحص زبيدة اتجه إلى محمود وقال: إن حال زبيدة لا تقضي الانزعاج بتاتًا، إن كل أجهزتها سليمة طبيعية، ويغلب على ظني أنها مصابة بمرض الأعصاب، وهي تحتاج إلى الهدوء وإلى كل ما يبعث السرور في النفس: وسأرسل لها دواء أرجو أن يكون شافيًا، ثم ضحك وقال: لا تخافوا شيئًا إنها بخير، وبعد أن أطرق إطراق المفكر قال: أظن أن تغيير الجو الذي هي فيه، والسفر إلى مدينة أخرى سيكون لها أشفى من ألف دواء، فقالت أمها: إن خالتها زوج السيد أحمد المحروقي بالقاهرة قد أرسلت منذ يومين رسالة تتشوق فيها إليها وتلح في طلبها.

– هذا خير ما يكون، وبالقاهرة من أشهر أطباء الحملة الطبيب «ديجنت» فلو توصلتم إلى أن يراها لشفاها في أقرب وقت.

ثم انصرف الطبيب بعد أن ترك وراءه في الدار روحًا من الأمل والابتهاج، ورأت نفيسة ووافقها محمود وجوب سفر زبيدة إلى القاهرة، وأقنعت الأم السيد محمدًا البواب بذلك فاقتنع، وكانت سفينة عظيمة محملة بالأرز على وشك السفر، فأعدت بها غرفتان، وسافرت بها زبيدة وأخوها علي الحمامي، وبعد سفرها أحس محمود بالوحشة والقلق، وضايقه جواسيس الفرنسيين، فوطد العزم على الرحيل إلى القاهرة، فسافر إليها بعد عشرة أيام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤