الفصل السابع

ذهب محمود إلى سوق المغاربة غاضبًا آسفًا، يفكر في هذا العذر الجديد الذي سدت به عليه زبيدة طريق الأمل، وسأل عن الحاج محمد السوسي فأرشد إلى دكانه، فرآه مغلقًا، ثم سأل عن داره فوصفت له، فطرق بابها ففتحت له العجوز خائفة مرتابة، فقد تكرر في هذه الأيام تطفل الجند على المنازل. ولما سمعت لورا صوته كاد يجن جنونها ويضطرب ميزانها، وشعرت بنار مشتعلة تدب في أوصالها، وودت لو أنها قطعت السلم بوثبة واحدة، لتقع بين ذراعي حبيبها، وتغمر وجهه بالقُبل، ولكنها كبحت جماحها جهد ما تستطيع، واستنجدت بالطبيعة الإنجليزية الرزينة، وقالت دون أن ينم صوتها عن شيء: أبي! إني أسمع صوت محمود العسال بالسلم. فنهض نيكلسون فرحًا وصاح: أهلًا بولدي، أيَّة ريح سعيدة طوَّحت بك إلينا؟ لن أحس بعد اليوم ألم الغربة والنفي. ثم عانقه طويلًا وشد على يديه في محبة وشوق وتقدمت إليه لورا تتكلف الابتسام وتجاهد عينيها ألا تهتكا لها سترًا، وقالت في تلعثم: مرحبًا يا محمود، إنك صورة من رشيد التي أحبها، فاليوم أراها كما هي ولا أشعر بلوعة نحو أهلها. ثم جلسوا إلى القهوة بعد أن أعدتها لورا، وبدأ نيكلسون الحديث فقال: كيف حال الفرنسيين في رشيد؟ فأجاب محمود وقد زاد سخطه عليهم وعزم على أن يبذل نفسه في مقاومتهم، بعد أن سمع من زبيدة اليوم أنهم الحائل بينه وبين التزوج بها: لقد أرسلوا إلينا بحاكم مضطرب الرأي، يلين مرة حتى تظنه ماءً زلالًا، ويقسو أخرى حتى تحسبه نار الجحيم، لم يَفِ بوعد واحد من تلك الوعود التي ملأ بها خطبه وأحاديثه، والرشيديون في جمهرتهم لا يثقون به ولا يلقون إليه بقياد، وهم كتلة مخيفة من العصيان والتمرد، فقد فرض على الأهلين — ولم يكد يستقر في كرسي الحكم — ضريبة فادحة، قوبلت بثورة صاخبة وعصيان جامح، ولولا هذه المدافع الجديدة ما استقر لهؤلاء الغزاة أمر، وفي مساء يوم رأى أحد العلماء الذين قدموا مع الحملة — ويسمونه دينون — من برج أبي منظور العمارة الإنجليزية وهي تهجم على العمارة الفرنسية بأبي قير، وتصليها نارًا حامية، وسمع أهل المدينة الضرب عنيفًا متواصلًا، وطارت إليهم الأخبار بأن الإنجليز دمروا جميع سفن الفرنسيين، فوثبوا من الفرح، وطاشت عقولهم، ومشوا في جماعات يصيحون ويهللون ويكبرون، ولم يستطع مينو أن يعمل شيئًا فأغضى إغضاء الذئب الضغن الحقود.

– حقًّا إنه كان نصرًا مبينًا يا محمود، فإن هذه الموقعة ستسد الطريق بين نابليون وبلاده، وستقضي على آماله في ضرب إنجلترا وإنشاء دولة شرقية فرنسية، وستشد من عضد المماليك الضعيفة بأوربا وتدفعها إلى محاربة فرنسا وتحديها.

– لله الحمد والشكر: ثم قام أهل رشيد بثورة عنيفة، حينما وصلت السفينة التي تحمل السيد محمد كريم مصفدًا ليشنق بالقاهرة.

– إن هذا السيد بطل من أبطال التاريخ يا محمود، وكل جريمته عند الفرنسيين أنه جاهد في سبيل وطنه، وكتب سرًّا إلى مراد بك يدعوه إلى صدهم ومحاربتهم، ولقد علمت أنه لقي الموت شهمًا كريمًا، وأن الفرنسيين راودوه على أن يفتدي نفسه بثلاثين ألف ريال، فأبى في ازدراء وشمم، وأجاب فانتور كبير تراجمة الحملة وهو يلح عليه في قبول الفدية، ويلحف: «إذا كان مقدرًا عليَّ أن أموت فلن يعصمنى من الموت المال، وإذا كان في الكتاب أن أعيش كان بذل المال عبثًا»، ثم ضُرب بالرصاص في ميدان الرميلة فلقي ربه شهيدًا، فلمعت عينا محمود وقال: إن البطولة لن تموت، وهذا معني قوله تعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ.

– هذا صحيح يا محمود، أعندكم هذا في كتابكم؟

– نعم، وكم في القرآن من أدب وتشريع وحكمة وهداية، ثم إن الذي يزيد في سروري ويبعث في نفسي نشوة الأمل، أن مينو قلق به مكانه في رشيد وأحس بالحرج، فقد قبض أحد العربان على رسول له إلى كليبر حاكم الإسكندرية، فرأى معه رسالة ترجمها لنا أورلندو، يلح فيها على كليبر في إمداده بالرجال؛ لأن حاميته لا تزيد على أربعمائة رجل، ويخبره فيها أن العرب يزعجونه ليلًا ونهارًا، وأن الأهلين يثورون عليه لأقل سبب، وأنهم استخفوا بسلطة الفرنسيين بعد نكبة أسطولهم، ثم يقول: لقد تحرَّج مقامي هنا، فإنني ما جئت من فرنسا لأدفن في هذه المدينة، أو لأقوم فيها بجمع الضرائب.

– سمعنا أنه أحرق قرية السالمية.

– نعم، فقد قتل بعضُ رجالها ثمانية من جنده، فأمر بقتل كل من يحمل السلاح فيها، وصادر جميع ما بها من الماشية، ثم أضرم النيران في القرية.

– هذا أمر له ما بعده يا بني، وسيف الظلم مفلول دائمًا، هلم لنشهد اليوم اجتماع الناس بالأزهر، فقد أخبرني الشيخ إسماعيل البراوي أن مرجل الثورة يغلي بالقاهرة، من أجل هذه الضريبة الجديدة الفادحة، التي ستأتي على كل ما بقي عند الناس من صامت وناطق.

ثم سارا صوب الجامع الأزهر فسمعا المؤذنين وهم يؤذنون لصلاة الظهر، ويتبعون أذانهم بدعوة ملتهبة إلى الثورة والجهاد، فدخلا المسجد فإذا هو يدوِّي بمن فيه من الحشد العظيم، وقد ارتفعت أصوات الغضب، وبسرت الوجوه، وأخذ كل شخص يتكلم ويسمع في آنٍ، وجلس إلى جانب القِبلة الشيخ السادات، والمشايخ: يوسف المصيلحي، وإسماعيل البراوي، وعبد الوهاب الشبراوي، وسليمان الجوسقي، وأحمد الشرقاوي، وهم مساعير الثورة ومؤجِّجوها، ثم وقف الشيخ يوسف المصيلحي، وكان ذرب اللسان ملتهب الوطنية قوي التأثير وقال: «يظن الفرنسيون أن مصر أقفرت من الرجال، وانحلَّت فيها العزائم وكلَّت الهمم، وأنها شعب من نساء لا يميز فيه الرجل من المرأة إلا عمامة ولحية، وأن أهلها قطيع من الغنم نام عنه رعاته وتركوه نهبًا للذئاب، وهم يتندرون في مجالس مجونهم وعلى كئوس شرابهم، بجبن المصري وهلعه من السيف والمدفع، وأنه إذا رأى جنديًّا فرنسيًّا في الطريق أقعى له في ذلة وخنوع كما يقعي الكلب، فهل هذا صحيح؟».

فهزت أصوات جوانب المسجد صائحة في غيظ وغضب!

كلا. كلا.

– «نعم، كلا، وكذب ما يظنون، فإنني أرى في هذه الوجوه غضبة الأسود لعرينها، وحمية الشجاع الباسل لعرضه ودينه، أنتم أبناء الفاتحين، ولأجدادكم سجل من المجد والجهاد لا ينقصه إلا أن تنقشوا تحته أسماءكم بسلاحكم، فهلموا إلى المجد والشرف هلموا، هلموا إلى الجنة والشهادة هلموا، فلا نامت أعين الجبناء، ولا هدأت قلوب المعوقين والمنافقين! لقد طال بكم أمد الصبر فماذا بقي لكم أن تصبروا عليه؟ لقد ألزموكم حمل شارة الفرنسيين، وافتنوا في فرض الضرائب، وهدموا أبواب الحارات حتى لا يعوقهم عن الهجوم عليكم في ظلمة الليل عائق، هل نحن أمة محمدية؟ هل نحن أمة جعل الله الجهاد في مقدمة فروضها؟ أيها الشجعان البسلاء: ثوروا لكرامتكم ثوروا لوطنكم، ثم ثوروا لتاريخكم»! وهنا انفجرت حماسة محمود العسال ونفدت طاقته العصبية فصاح: كفى كفى بالله عليك يا مولانا، فلن ترى منا مصر بعد اليوم إلا رجالًا أرواحهم في أسنة رماحهم، ثم اتجه إلى الناس ونادى: هلموا معي إلى الجهاد، فرددت الجموع الزاخرة صوته: إلى الجهاد! إلى الجهاد! وتزاحموا إلى أبواب الجامع يتقدمهم محمود ووراءه نيكلسون، وما كان يشك من رأى هذه الأمواج المتدفقة من الناس في أن أيام الفرنسيين بمصر أصبحت تعدّ على أصابع اليدين.

اشتعلت الثورة بالقاهرة وتقدم محمود الثوار، فأخذوا سمتهم إلى مخافر الجنود الفرنسية فقبضوا عليهم، وازدحمت بالناس شوارع الموسكي والغورية والنحاسين وغيرها، وجاء الجنرال «ديبوي» حاكم القاهرة ليصد الثوار مع طائفة من فرسانه، فأطبقوا عليه، وأصابه أحدهم بطعنة من رمحه فخر صريعًا مجدّلًا، فزادت بذلك حميتهم، وتكاثر عددهم بمن انضم إليهم من أرباض القاهرة، واستولوا على المواقع الحصينة: كباب الفتوح، وباب النصر، والبرقية، وباب زويلة، وباب الشعرية وأخذوا يحفرون الخنادق وينشئون الحصون، ويطلقون منها النار على الفرنسيين.

وأدرك الفرنسيون الخطر المحدق بهم، فجمعوا جموعهم وعزموا على استئصال الثورة بالحديد والنار، وقضى أهل القاهرة الليل في تأهب وإصرار، وكان محمود يمر على مَن بالخنادق والمتارس حافزًا للعزائم، مثيرًا للهمم، حتى إذا بزغت شمس اليوم الثاني كان الفرنسيون قد احتلوا جميع المرتفعات خارج المدينة، ونقلوا إليها مدافعهم وذخيرتهم، فأرسلوا منها القذائف متتالية مرهبة على نواحي الأزهر والصنادقية، والغورية والفحامين، حتى أوشك الأزهر أن يتداعى من شدة الضرب وأن يسقط على الجماهير الحاشدة به، وصارت الأحياء المجاورة صورة من الخراب والدمار، فتهدمت البيوت، ومات تحت أنقاضها آلاف من السكان البائسين، وطال الهول واشتد، وبددت قذائف المدافع قوة العزائم، ويئست الحماسة الوطنية من أن تقاوم جهنميات العلم الحديث، وعجز الإيمان الأعزل أن يقف أمام الطغيان المسلح، فسقط في أيدي المصريين ودارت عليهم الدائرة، واستشفعوا بالمشايخ عند نابليون أن يرفع عنهم سخطه وغضبه، ولكنه بعد أن أسكت عنهم أصوات المدافع أطلق جنوده تعيث في القاهرة كما تشاء، وتتحكم في الناس كما تشاء، فدخلوا الأزهر بخيولهم وعبثوا بما فيه من كتب وخزائن.

إن نابليون كسب المعركة وقضى على الثورة، ولكنه قضى معها على كل أمل له في اجتذاب المصريين، وعلى كل عاطفة تنبض بها قلوبهم.

وخرج محمود من الثورة كالسيف المحطم: تحطم جسمه، وتحطمت روحه، وتحطمت آماله، فأسرع إلى بيت ابن عمه يائسًا حزينًا، وانطلقت شياطين الجواسيس من عقالها تقبض على كل من كان له ضلع في الثورة، واعتنقت آلة الإعدام كل من حامت حوله شبهة فقضت عليه، ومل الفرنسيون تكلفهم المودة للمصريين فصارحوهم العداء ومشوا لهم الضراء، وعرف المصريون بعد هذه الكارثة أن الخطب والمؤامرات شيء، والسيف والمدفع شيء آخر.

وذهب نيكلسون إلى بيته يحمل لابنته لورا حوادث الثورة، وما رآه من جرأة محمود وبطولته، وقذفه بنفسه بين براثن الموت، ثم زفر وقال: لقد كان بطلًا حقًّا، ولكن ماذا تفعل العصا أمام السيف الحسام؟

– لقد كنت أتوجس خيفة عليكما، وكلما سقطت القذائف من القلعة وقمم المقطم، كنت أدخل تحت السرير فأسجد وأصلي لكما، أهو بخير يا أبي؟

– بخير وعافية، ولكن شعوره بالهزيمة يكاد يقضي عليه.

– هذه طبيعة الشرقيين، فمتى يعرفون أن الهزيمة دائمًا أول حافز إلى الظفر؟ أتصدق يا أبي أني مسرورة بنتائج هذه الثورة، إنها لم تنجح في مرآى العين، ولكنني أعتقد أنها بلغت غاية النجاح، وأن الفرنسيين لن يتم لهم أمر بعدها في مصر؛ لأنك إذا وضعت هذه الثورة إلى جانب تحطيم نلسون لأسطولهم، رأيتهم في مصر كأنهم في بيت يحترق، وقد حرموا كل وسائل النجاة.

وتوالت الأيام، وخرج محمود من مخبئه، وأكثر من زيارة نيكلسون، ورأى من لورا عطفًا سحريًّا شفى مريض نفسه، وبعث فيها أملًا جديدًا، فحديثها حلو، وخلقها كريم، ومعدنها ذهب نضار، ثم هو إذا رفع إليها عينه رأى الجمال الهادئ المطمئن، الذي لم يحاول مرة أن يكون جميلًا فبَزَّ كل صنوف الجمال، كان يُنصت إليها فيسمع أدبًا وحكمة، ويتعلم كثيرًا عن الدنيا وأحوالها، والدول وسياساتها، وكانت تنظر إليه نظرة حنَّانة حالمة، فتلتقي بها نظرته فيحس بأريحية يكاد ينتفض لها جسمه، سَمِّه ميلًا، أو سمه حبًّا أخويًّا، أو سمه ما شئت فإنه شيء لذيذ وكفى، أكثر محمود من زيارة لورا واصطحبها لزيارة زبيدة كثيرًا، وكانت زبيدة تسر بلورا وتأنس بها، حتى لقد كانت تلزمها البقاء معها ببيت خالتها أيامًا.

وفي صبيحة يوم قدم السيد علي الحمامي من رشيد، وأخبر زبيدة بأن أمها في شوق إليها، وأنها مريضة منذ حين، وأنها ألحَّت عليه أن يسافر إلى القاهرة ليعود بها، فلم تجد زبيدة بدًّا من السفر، فنزلت في سفينة إلى رشيد، فودَّعها محمود العسال ولورا بين الزفرات والتنهدات، ومال محمود على أذنها، فأجابته في ضحكة متكلفة: لم يبقَ إلا القليل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤