الفصل الثامن

جلس مينو في صدر إيوان بيته في رشيد تحفه تلك العظمة الحبيبة إلى نفسه، والأبهة التي تميل إليها غرائزه، والجنود والديْدَبانات الفرنسية تحيط بأسوار الدار شاكي السلاح، في أزهى ملابسهم وأروع ما به يظهرون، والخدم والأغوات يذهبون ويجيئون في اهتمام وخشية، يدلان على جلالة شأو المخدوم وشدة صرامته، واحتفاله بصغائر الأمور، جلس مينو في صدر الإيوان جلسة الأمير المدلل، الذي يشعر أن الدنيا في يده، والخلائق طوع أمره، والقضاء والقدر من جنده، وقد قوّى عنده هذا الخيال ما كان يراه في حاشيته من رءوس خاضعة، وظهور منحنية، وتسليم وإعجاب بكل ما يقول، كأنه وحي من السماء، وكان في مجلسه ذلك اليوم الجنرال «مارمون» و«دينون» الأديب الكاتب الفرنسي، و«دولوميو» الرسام، وهما من أعضاء لجنة العلوم والفنون، والطبيب «شوفور».

بدأ مينو الحديث في شيء من التضجر والسأم عما يحيط برشيد من الثورات التي لا ينطفئ أوارها، ثم هز كتفيه وقال: عجيب أمر هذه الثورات، إنها مع حقارتها وهوان خطرها، تشغل منا وقتًا كان أولى بنا أن نصرفه في عظائم الأمور.

فهز «مارمون» رأسه وقال: إننا نكاد نكون قد أخطأنا الطريق في سياسة هؤلاء المصريين، وقد كان عدد الجنود الذين فتحنا بهم مصر يمكن أن يكفي، لو أن الطريق بيننا وبين فرنسا بقيت مفتوحة آمنة، أما الآن، فقد اضطررنا إلى تشتيت هذه القوة الصغيرة في الصعيد لمحاربة مراد بك، ثم في جميع أنحاء مصر السفلى؛ لأن الثورات لا تكاد تنقطع فيها، وبذلك تمزق الجيش وقُتل من الجنود عدد عظيم.

وهنا قال دينون: ومن العجيب أن يترك نابليون هذا الأتون الملتهب بالثورة والعصيان، ويقتطع من هذا الجيش الضئيل ثلاثة عشر ألف جندي مع كبار قوادهم، ليذهب لغزو سورية! كأن مصر قد استقر بها كل شيء، واستقام بها كل شيء، واستقام بها كل أمر.

فنظر مينو إلى دينون نظرة المغضب وقال: أنت لا تعرف نابليون: إن سر عبقريته إنما هي في تحدي الأقدار والسخرية من الكوارث، إنه ليس رجلًا مثلك أيها الفنان الأديب، إن العقول تستطيع أن تعلل الأشياء في مدى محدود، أما أعمال العباقرة ففوق منال العقول.

وهنا أطرق مارمون وقال: إن المقامر قد يلقي بما بقي له من مال ليكسب الدست، فقال مينو: لا يا مارمون، إن المقامر ليست له بصيرة نابليون التي تكشف الغيب، ثم إنكم تبالغون في شأن هذه الثورات، ولو كنت على رأس خمسمائة جندي لأطفأتها جميعًا، ولكن هذه الدنيا تعطي السيف دائمًا لصاحب المحراث! ثم زفر وقال: عجيب ألا يختارني نابليون وكيلًا له بالقاهرة بدل «دوجا» ولكن يظهر أن حماية الثغر أهم وأعظم.

فأجاب دولوميو: من غير شك.

ثم انصرف القوم عدا الطبيب شوفور، وبقي مينو مطرقًا، وطال إطراقه، فقال شوفور: إن سيدي يكثر التفكير ويبدو عليه القلق، وقد لحظت منذ أيام أن صحته ليست على ما أحب له.

فرفع مينو رأسه وقال: إنني أعيش هنا يا شوفور عيشة الأسير، وهذا الجو المحدود أضيق من أن يتسع لآمالي، وكلما أطلت التفكير في أمري برح بي الحزن واشتملني عارض يشبه الخيال، إنني خلقت للعظمة والمرح، أما العظمة: فقد لقيتها هنا في صورة ضئيلة لا تكاد تتعدى حدود رشيد، ولو أنني ملكت فرنسا كلها ما قنعت بها نفسي، وأما المرح: فقد تركت ورائي منه في باريس ما لا يمكن أن يعود.

– لا بد للنفس الكبيرة والعقل الدائب المفكر من المرح واللهو، ولو لم يغسل عبث الليل ولهوه آلام كدح النهار وكدّه، لتبلد العقل وقتله الإعياء.

– وأين منا السبيل إلى اللهو في مدينة نصفها مساجد، ولأهلها عيشة الرهبان والراهبات في الصوامع؟

– السبيل الزواج يا مولاي.

– الزواج؟ وهل لرجل مثلي من أعرق الأسر الشريفة بفرنسا، أن يتزوج بفتاة إفريقية شوهاء، ليس لها قدم في المجد، ولا لآبائها ذكر في التاريخ؟!

– أما الفتاة الإفريقية الشوهاء فلا وجود لها في رشيد، إن بهذه الدور التي يمرُّ بها مولاي فوق جواده لآلئ بشرية لم تقذف بمثلها كنوز البحار، وإن فيها من الجمال النادر ما يعجز عن تحدِّيه أفخم القصور بباريس وفلورنسا وروما، إن الحسن الرشيدي يا مولاي صورة في هذه الأرض لجمال الجنة وما فيها من نعيم، ورُبَّ فتاة ملفَّفة مختبلة في ملاءتها، لو أسفرت لفضحت جميع ما تخيله روفائيل من فنون الجمال، أنا طبيب يا سيدي وتقتضيني صناعتي أن أرى الوجوه، وقد رأيت من حسنها هنا ما زهَّدني فيما بالغ فيه الشعراء وأبدع فيه المثَّالون، وأما الشرف: فإن في رشيد منه ما في فرنسا، إن الشرف هنا لا يكون بالانتماء إلى بطل، وإنما يكون باتصال النسب بالنبي الكريم، وهذا خير ضروب الشرف والنبل.

– في رشيد من الأسر من ينتمي إلى النبي محمد؟

– كثيرًا جدًّا؛ لأن أهلها من قريش نزحوا إلى رشيد بعد فتح العرب بقليل، ولكننا نريد شيئين: الشرف والجمال، وهذان لا يجتمعان في رأيي إلا في أسرتين: أسرة الشيخ الجارم، وأسرة السيد محمد البواب فاتجه إليه مينو في شغف وقد أعجبه الحديث وقال: حدثني عنهما يا شوفور حدثني …

– أما رقية وآمنة بنتا الشيخ إبراهيم الجارم: فجمالهما فوق وصف الواصف، وأما زبيدة بنت السيد محمد البواب فإنها في الحق ساحرة فاتنة.

فجحظت عينا مينو وقال: هذا بديع جدًّا، ولكن ماذا أفعل بخليلاتي اللاتي يخطئهن العد بفرنسا وإيطاليا، إن أظافرهن لن تقنع بتمزيق جلدي!

– وأين هن منك اليوم وبينك وبينهن المهامه الفيح والبحار الخضر؟ إن الفرنسيين سيؤسسون بمصر مملكة شرقية واسعة الأطراف، وسيكون لك فيها الشأن الأول والملك العظيم.

– هذا ما تحدثني به نفسي، وإذًا لا بد من الزواج، وبمن أتزوج؟ سأختار بنت الشيخ الجارم؛ لأنه فوق شرفه النبوي من أكبر علماء المدينة.

– غير أن في الأمر عقبة يجب أن تذلل، تلك أن الإسلام يحظر تزوج المسيحي بمسلمة.

– ألست مسلمًا؟ ألم يشهدني أهل رشيد في مسجد المحلي وأنا أقوم وأقعد حتى كدت ألهث من التعب في صلاة التراويح؟

– أظن أن هذا لا يكفي، فإن عقد الزواج في مثل هذه الحال يجب أن تسبقه وثيقة مسجلة بالإسلام، على أننا نستطيع أن نسأل مفتي المدينة في هذا الأمر.

فوثب مينو يصفق بيديه يدعو مملوكه الخاص «إينال» فلما مثل بين يديه، أمره أن يدعو إليه الشيخ أحمد الخضري.

حضر الشيخ الخضري بعد قليل، وهو خائف يرتعد لهذه الدعوة التي فاجأته في جوف الليل، وأخذت شفتاه تتمتمان بالأدعية وضروب الاستغاثة بالأنبياء والصالحين، فسلّم على الجنرال، وجلس بعد أن جمع ثيابه وتكور في عباءته كأنه صوان ضخم للثياب، وبعد أن هدأت نفسه قليلًا اتجه إليه مينو سائلًا: ما قول مولانا المفتي في مسيحي أسلم، أيجوز أن يتزوج بمسلمة؟

– نعم يجوز شرعًا إذا ثبت إسلامه لدى مسجل العقود بالطرق الشرعية.

– وما الطرق الشرعية؟

الإقرار والبينة، وأقوم السبل أن يقدم هذا الرجل إلى المسجل وثيقة شرعية بإسلامه.

– إننا في فرنسا لا نتشدد هذا التشدد، فالناس أحرار في عقائدهم وتصرفاتهم.

– إن الإسلام أيها الجنرال يدعو إلى الحرية، ولكنه يحيطها بسياج حتى لا يضر بعض الناس بعضًا بتصرفاتهم، والله جل شأنه يقول في كتابه الكريم: وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ.

– هذه حكمة يجب أن تكون أساسًا لجميع القوانين، لقد أفدتنا كثيرًا يا مولانا، وقد دعوتكم لأن جدلًا قام بيني وبين شوفور فيما سألتك عنه، يا إينال مُر بعض الجند أن يكون في خدمة الشيخ حتى يصل إلى داره.

مضى بعد ذلك يومان قضاهما مينو في التفكير وتقليب وجوه الرأي، وذهب في أثنائهما الشيخ الخضري إلى الشيخ إبراهيم الجارم ليقضي السهرة بداره على عادته، وجاء ذكر الفرنسيين وأعاجيب أفعالهم، كما كان يجيء في كل ليلة، فقال الشيخ الحضري: دعاني الجنرال ليلة أمس بعد أن ذهبت إلى فراشي، فلما كنت عنده سألني سؤالًا عجيبًا، فقال الشيخ الجارم: عن أي شيء سألك؟

– سألني عن صحة زواج المسيحي الذي أعلن إسلامه بمسلمة.

– ما شأنه بهذا؟

– لا أدري يا شيخ إبراهيم.

فأحس الشيخ الجارم — وكان بعيد النظر نافذ البصيرة — أن وراء هذا السؤال داهية دهماء، توشك أن تسقط على المدينة، ودفعته غريزة الحذر أن يكتم عن الشيخ اهتمامه فقال: إن هذا الرجل أخطأته عمامة الفلاسفة، وقد خرف القدر فسماه جنرالًا، ولعل اهتمامه بسؤالك عن الزواج وغيره خطرات من وساوسة التي لا يفيق منها.

وانقضت السهرة وودع الشيخ ضيفه، وجلس واجمًا وقد حمل رأسه براحتيه، وتواردت عليه الأفكار والهواجس، وأخذ يحدث نفسه: هذا المينو يريد أن يتزوج ما في ذلك من شك، ثم هو يريد أن يتزوج بمسلمة، وهذا بديهي أيضًا، وما شأني أنا بهذا؟ فليتزوج فلن أستطيع دفعه! ولكنها مصيبة ستحل بأسرة في رشيد، وبأي الأسر تنزل؟ بأكبر الأسر وأرفعهن شأنًا، لقد قرب الخطر مني، وأخذت النار تمتد إلى ثيابي، إن لي بنتين فيا للكارثة! كيف أدفع هذا العار عني، إن كلمة «لا» أصبحت في عُرف الفرنسيين لا تفيد النفي، وإذا استطاع شجاع أن يقولها فلن تكون نهايته إلا الذل والدمار، إن هذا الجنرال سيظن أن زواجه بأكرم بنت في المدينة تنزُّل منه وتواضع، وشرف عظيم وتفضل واسع على من يصاهره، فالويل كل الويل لمن يرد هذا الشرف المزعوم في وجهه، أو تبدو منه أية رغبة عن هذا الفضل العظيم! أليس من مفر؟ أليس من حيلة؟ ليتني زوجتهما منذ حين، وليتني لم أذد عنهما الخطاب كما يذود حارس البستان الطيور عن ثمره! إنني واثق أن إسلام الجنرال رياء، ولو كان مسلمًا حقًّا، وأخلاقه أخلاقه التي أعرفها، ما رضيته زوجًا لأية فتاة تتصل بي من بعد أو من قرب، لا، لا، لا، إن هذا لن يكون، ثم رفع رأسه وبدا في عينه بريق الظفر، وهدأت نفسه هدوء من يهتدي إلى حل أمر عسير، فنادى بخادمه وقال: اذهب الآن مسرعًا وادع إليَّ الشيخ عثمان شبايك، والشيخ حسنًا أبا السعود، أتعرفهما؟ إنهما الطالبان اللذان يجيئان هنا في عصر كل يوم لتلقي الدروس، واذهب بعد أن تدعوهما إلى بيت الشيخ محمد غرا، واطلب منه أن يعجل إليَّ.

وأقبل الطالبان بعد قليل فحياهما الشيخ وقال: إنما دعوتكما في هذه الساعة لأعرض عليكما زواج بنتيّ، فقد أدركني الهرم وخشيت إن أنا مت أن يزوجهما أخوهما من غير العلماء، وقد تعجبان من هذا العرض المفاجئ، ولكن لو علمتما ما أحاط بي من الوساوس والهموم لزال عجبكما، فنظر الطالبان إليه في ذهول، وقال أولهما: هذا شرف كبير يا مولانا يطير اللب ويثير العجب، وإنما نحن خادماك اللذان يتنافسان في حمل نعليك، فإذا تفضلت علينا بهذه الكرامة، فليس لنا إلا أن نشعر بأن ما أصبناه من خير إنما هو بركة من بركاتك، ونفحة من نفحاتك، ثم انقضَّا على يديه لثمًا وتقبيلًا، وهنا دخل الشيخ محمد غرا، فطلب منه الشيخ أن يدون عقدي زواج؛ لأنه زوج الشيخ شبايك برقية بنته، والشيخ أبا السعود بآمنة، فانزعج الشيخ غرا وشرع يتلعثم، ولكن الشيخ صوّب إليه عينين غاضبتين، فاستل قلمه وكتب.

وفي بكرة النهار أقبل أعوان مينو يتواثبون إلى دار الشيخ الجارم حتى ملئوا رحبتها، وهم يتعجلونه إلى مقابلة الجنرال، فخلل الشيخ لحيته بأصابعه — وقد كانت تلك عادته إذا أحس بظفر أو كتم شماتة في عدو — ثم وجد نفسه وهو ينشد:

فأصبحتُ من ليلى الغداة كقابض
على الماء خانته فروج الأصابع!

وركب الشيخ بغلته وسار معهم وهو يردد في همس خافت استغاثته التي أغرم بترديدها:

نحن بالله عزنا
والحبيب المقرب
بهما عزّ نصرنا
لا بجاه ولا منصب
والذي رام ذلنا
من قريب وأجنبي
سيفنا فيه قولنا
حسبنا الله والنبي

حتى إذا كان بحضرة مينو فجأه الجنرال بمحاضرة طويلة الذيول عدّد فيها أجداده الأبطال، وما كان لهم من أثر مجيد في تاريخ فرنسا، وأطال في إطراء شرف محتده ونبل أعراقه، والشيخ مطرق يخلل لحيته بأصابعه، ولسانه لا يفتر عن قراءة القرآن، ثم انتقل مينو إلى غايته فقال: وقد أردت ألا أضن على هذا البلد بما يصلني بأهله، فعزمت على إعلان إسلامي والإصهار من أسرة شريفة، يتصل نسبها بالسلالة النبوية، وعلمت أن لك بنتين فلم أجد عليَّ من عار إذا تزوجت بكبراهما، إن الناس سيدهشون حقًّا لهذه المصاهرة، ولكنهم لو علموا أن التواضع من أول صفات الجنرال مينو ما عجبوا، فرفع الشيخ رأسه وقال: هذا يا سيدي شرف عظيم، ولو كنت أعلم ذلك الحظ السعيد الذي ينتظرني ما زوجت ابنتيّ بالأمس.

– هذا شيء يؤسف له فقد كنت أرضى أن تكون لي صهرًا.

– ذلك تقدير العزيز العليم.

وهنا وقف مينو وفي وجهه دلائل الحقد والغضب، فوقف الشيخ وسلم وانصرف.

ولم يستقر مينو في مجلسه حتى أرسل في طلب السيد محمد البواب، والسيد علي الحمامي، فلما دخلا عليه دهمهما بطلب الزواج بزبيدة، فكاد البواب يصعق لهول ما ألقى عليه، وراعه الموقف وأصماه سهم القضاء، وأخذ الحمامي يسهب فيما سينالهم من الشرف والجاه بهذه المصاهرة، فأفاق البواب وقد سمع نفسه وهو يقول في خوف وتلعثم: إني كنت أتمنى أن أنال هذا الشرف لولا … ولكن الحمامي أسرع فقال في صوت مرتفع حجب كل صوت: إننا يا سيدي الجنرال طوع أمرك، وإن نزولك إلى مصاهرتنا واختصاصنا بهذه الكرامة دون غيرنا، فضل دونه كل فضل، وكرامة ليس بعدها كرامة، وهنا هز مينو رأسه في كبر وأنفة وقال: سيكون الزواج بعد أسبوع، فقال الحمامي: إنها الآن بالقاهرة، وسأسرع غدًا إليها، وفي يوم حضورها يتم الزواج.

خرج الرجلان من دار مينو، فقال السيد محمد البواب للحمامي في ذهول: لقد قتلتني يا رجل وجلبت عليَّ عار الأبد.

– إن هذا الزواج سيرفع من شأنك ويجعلك سيد المدينة.

– إني لن أشتري سيادة الدنيا بهذه الوصمة.

– هوّن عليك يا عم، فلن يضيرك أن تكون صهر أكبر جنرال فرنسي، ولن تلبث حتى يتزاحم عليك وفود المهنئين من كل مكان.

– لن أبقى في المدينة حتى أرى واحدًا منهم!

– لن تبقى؟!

– نعم.

– سألتك بالله أن تتريث يا عم، فإن الوهم يلعب برأسك، ويصور لك من حادث يتمناه الناس جميعًا خطبًا فادحًا.

– لن أبقى برشيد لأرى الناس يراءونني، ولو كشف عنهم الغطاء لبدت قلوبهم وكلها زراية بي واحتقار وسخرية، ماذا تظنني يا رجل؟

إنني لن أعيش في مدينة كل ما فيها ومن فيها يذكرني بأن ابنتي في عصمة إفرنجي مغتصب.

– ولكنك ستقتل أمي.

– إن الموت قد يكون أحيانًا خيرًا من الحياة.

– يا للمصيبة وماذا نعمل الآن.

– ماطل الرجل إن استطعت ومنّه الأماني، فلعل الله يعقب بعد عسر يسرًا.

– لن أستطيع يا عمي، إنني إن فعلت فتك بنا جميعًا وصادر أموالنا، فإنه إذا تملكه الغضب انقلب أسدًا هصورًا.

– الله أقوى منه، سأرحل الآن حيث لا يعلم أحد مكاني، وقد أعددت العدّة للسفر قبل أن أذهب لمقابلة الرجل، فإني أوجست منه شرًّا، ثم انفلت هائمًا نحو غرب المدينة، فاكترى بغلًا سار به في طريق الإسكندرية، منطلقًا في عجلة كأنه الصيد المذعور.

وسار الحمامي إلى أمه حزينًا، ولكنه ما زال بنفسه في الطريق حتى مسح عنها الحزن، وصوّر لها ما يستقبله من الثروة والجاه ورفيع المنزلة فاطمأنت، ثم طغى عليه سيل من الأماني والأحلام فسخر من عمه، وهزئ من تزمته وتحرجه، واعتقد أنه رجل لا يفهم الحياة ولا يهتبل الفرص، وما دام الزواج شرعيًّا فأي شيء فيه من العار الذي يتخيله الأغبياء المتحذلقون؟!

دخل على أمه ضاحكًا مرحًا، وألقى إليها الخبر في جذل وابتهاج، وأخذ يسهب في وصف الجنرال وكرم أخلاقه وشدة تمسكه بدينه، وأن كرائم الأسر في رشيد ستحسد أخته على هذا الشرف الباذخ، الذي طالما ترامت على أعتابه فلم تظفر منه بطائل.

– وهل قبل أبوها؟

– قبل مسرورًا، وسافر ليعد لزبيدة جهازًا يليق بالجنرال.

– إنني لا أعرف ما يعرفه الرجال، ولكني غير مسرورة لهذا الزواج؛ لأنه زواج غير عادي، ولا أظن أنه ينتهي بخير.

– دعي الأمر لله.

– آمنت بالله لا رب سواه.

وأسرع الحمامي إلى القاهرة في غد يومه، واحتال لأخذ زبيدة، فادّعى أن أمها مريضة، ثم مضت أيام وصلت بعدها إلى رشيد، وكانت أمها مريضة حقًّا؛ لأن غيبة زوجها أقلقت بالها وأقضت مضجعها، وجعلتها تظن الظنون، فدخلت عليها زبيدة فقبلتها باكية، وحين سألت عن أبيها أخبرتها بأنه سافر منذ حين، وسيعود قريبًا، وحينما فجأها أخوها بخبر خطبتها تلقته ذاهلة أول الأمر، وطاف بها خيال محمود وما له في سويداء قلبها من حب مكين، ثم طاف بها خيال العرافة رابحة، وتنبهت فيها غرائز الطموح، وقضت الليل كله تحمل ميزانًا من الوهم، تضع مينو في إحدى كفتيه ومحمود في الأخرى، فمرّة ترجح هذه، ومرة ترجح تلك، حتى كادت تُصاب بالجنون، وكانت تثب من سريرها وتقول: هذه هي الموقعة الفاصلة في حياتي، فأي الرجلين أختار؟ مينو ليس الآن ملك مصر ولكنه قد يكون، ومحمود أحب الناس إلى قلبي وأقربهم إلى نفسي، مينو إفرنجي يقولون: إنه أسلم، ولكني لا أعرف أخلاقه وصفاته، وهو ليس من جنسي ولا من قبيلي، ومحمود ترب صباي وشقيق روحي، وفيه صفات الأبطال وخلائق سكان السماء، ولكن ليس لديه ملك وليس لديه عرش، وليس لديه صولجان، مسكين يا محمود، لو كنت ملكًا! ولكن ما لي وللملك أسلك إليه طريقًا مظلمة موحشة مجهولة؟ أأتزوج بفرنسي لأكون ملكة؟! ومن يضمن لي هذا؟ إنه حاكم رشيد، والثورات تحيط بالفرنسيين من كل مكان، فماذا يكون الأمر إذا جاء الترك وطردوهم، وبقي هذا الفرنسي المسمى مينو معلقًا برقبتي؟ تلك هي الطامة الكبرى والكارثة العظمى، وهنا يصدق قول خالتي أمينة بأنني أزهد في الثمرة الدانية لأتعلق بالأشواك، ثم أين أبي؟ أليس في أكبر الظن أنه فرَّ من ذلك العار الذي لطخته به يد القدر العاتية؟ لا، لن أتزوج بهذا الفرنسي ولو انطبقت السماء على الأرض، ولكن من يدري فقد يكون هذا الرجل مطيتي إلى ما أريد؟ إن العرَّافة لَمْ تكذب قط، فلِمَ تكذب في أمري وحدي؟ إن الفرنسيين سيبقون بمصر، وإن مينو سيكون حاكم مصر، وهكذا ظلت زبيدة تخلط وتهذي حتى بزغ النهار، وحينما ملأت الشمس الأفق غصت دار البواب بالزوار، وكان بينهم الحاج حسين الميقاتي، والسيد علي الحمامي، والسيد أحمد النقرزان، والسيد إبراهيم النقرزان، فطلبوا من زبيدة توكيل الحاج حسين في تزويجها بمينو، فوكلته أمام الشهود في تردد ووجل، وكان مينو أشهد على إسلامه قبل ذلك أمام القاضي الشرعي، وسمَّى نفسه عبد الله جاك مينو، واختار أن يكون الحاج أحمد شهاب وكيله في الزواج، فاجتمع الوكيلان والشهود والمُفتون بالمحكمة في اليوم الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف، وعقد لعبد الله مينو على زبيدة، ولا تزال وثيقة هذا الزواج في محفوظات محكمة رشيد الشرعية إلى اليوم.

وزفت المسكينة الطموح إلى مينو بعد أسبوع، فقذفت بسفينة حياتها في خضم قاتم مضطرب الأمواج، لا يهديها فيه إلا شعاع من أمل متقطع كاذب، ولو نفذ إلى سمعها صوت من بين هذه الأمواج الصاخبة حولها، لسمعت قهقهة القدر وهي تجلجل في شماتة وسخرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤