الفصل العشرون

لم ينفك ألبير عن التردد إلى بيت مدام فارز؛ حيث كانت مرغريت موضع أحاديثه الطويلة، ومدام فارز تسمع كلامه شاعرة بأن نارًا محرقة تلتهب في أحشائها فتصعد إلى ناظريها ووجنتيها، وهي تعجب كثيرًا من حنين ألبير إلى زوجته؛ لأنها كانت تعتقد أن وداد الرجال لا يكون إلا كسحابة صيف ثم تنقشع، ومتى توارى عنهم مَن هو موضع حبهم، أو التزموا أن يبتعدوا عنه لسبب من الأسباب أو غير ذلك، خمدت تلك النار المحرقة وأصبحت آثار ذلك الحب هباءً منثورًا.

وإذا كانت تسمع حديث ألبير المملوء من آيات الحنوِّ والعواطف الغزلية الشريفة، جعلت تلوم نفسها على اعتقادها ذلك في كل الرجال دون أن تفرِّق بينهم، أو أن تعرف البعض منهم معرفة خاصة، وكانت تأسف على ماضيها لأنها لم تحب فيه؛ إذ كانت ترغب في الحب الحقيقي المخلص الدائم.

وكان ألبير لا يملُّ مِن تعداد مزايا مرغريت وسجاياها، ويثني على سلامة قلبها وأمانتها، ويسأل مدام فارز متعجِّبًا من أنها كيف أمكنها أن تبتعد عنه وترضى بالاقتران مرة ثانية. فتجيبه بأن غدر الرجل يفوق صبر المرأة واحتمالها، ويصعب على الإنسان أن يَثِقَ بثبات حب شخص يخونه، وعندما سمع هذا منها في إحدى المرات هتف قائلًا: هذا فكر نسائي، بل جنون محض.

– هل تقدر أن تحب امرأة خدعتك؟ وهل تعتقد صحة حبها لكَ؟

– يوجد فرق بين هذا وما نحن بصدده.

– فيما يتعلق بالإحساسات لا فرق بين هذه الحالة وتلك، وعليه فإني أعذر مرغريت التي لم تكن تبتغي إلا أن تدوم على عهد الأمانة، لكن دَعْكَ الآن من هذه الأفكار التي تحزنكَ وتقلق راحتكَ. أمَّا أودت فكانت تسر كثيرًا في عِشْرة ألبير وتباحثه مرارًا في شئون هذه الحياة ومشاكلها الصعبة، وهو يكلمها عن الحب مبرهنًا لها أنه موضع الحياة الدنيا، ولولا الحب لَمَا وُجِد الشعراء والمصوِّرون والموسيقيون وغيرهم من ذوي الفنون وأصحاب الشهرة، وكانت أودت تسمع هذا الكلام بغاية الانتباه والإصغاء، وتمعن التأمل فيه من غير أن تجيب بشيء، أما مدام فارز فكانت تسخر بهما قائلة لألبير إنه غير خالٍ من الجنون ولو قليلًا، وإن كيفية الحياة على غير ما يعهد، نعم إنه يتألم لأنه لا يعرف كيف يحيا. وفي ذات يوم كانت تتحدث مع ابنتها أودت في شأن ألبير هذا فقالت أودت: يجب أن يتزوج هذا الرجل يا أمي فإنه شاب.

– هو كهل، فإنه يناهز الأربعين، أَمَا هذا تقدُّم في السن؟!

– لا، أنا لا أبالي قطعيًّا بتقدم الرجل في العمر إذا كانت صفاته تعجب وترضي، فلو خُيِّرْتُ بين ليوناردي فانشي البالغ عمره ٨٠ سنة، وبين أجمل شاب من شبَّان عصرنا هذا، لاخترتُ الأول بدون تردُّد. حينئذٍ ضمت ابنتها إلى صدرها وقبَّلتها.

أما ألبير فكان يغذي صبره بالآمال، وينتظر انتظار هلال العيد انبثاق فجر الغد، علَّه يرى ذلك الشخص الذي أحرمه لذة النوم في لياليه الطويلة، ويعتاض برخيم ذلك الصوت عن كل ما يراه ويسمعه. نعم، كان يقول مرارًا: ستعود مرغريت وتدري بكل ما قاسيتُ واحتملتُ من جرَّاء بعادها، وإذ ذاك تشفق عليَّ وتعود إليَّ كالأول، فحبَّذا تلك الأيام!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤