من إشعاعات التوحيد

١

أمة التوحيد لم تعرف في فتراتٍ طويلة من تاريخها كيف تُوحِّد كثرة شعوبها في هدفٍ بعيد واحد، بل إن الوطن العربي من تلك الأمة لم يعرف سبيله إلى مثل هذا الالتقاء في ظل لواءٍ واحد من هدفٍ بعيد. والعجب هنا يكون أعجب؛ لأنه وطن تُؤلِّفه لغةٌ واحدة، ومن شأن اللغة الواحدة — حين تكون هي اللغة الأم — أن يتقارب أصحابها فكرًا ووجدانًا، ثم يزداد عجبنا عجبًا، إذا علمنا أن الوطن العربي في هذه المرحلة الراهنة من تاريخه متآلفٌ فعلًا في فكره ووجدانه؛ فصاحب الفكرة منا قد ينشر في بلده المعيَّن، وإذا بمواطنيه على امتداد الوطن العربي الكبير يتجاوبون غير عابئين بما أُقيم من حواجز بين إقليم وإقليم، والشاعر منا يجيد الإبداع في مشرقٍ فتتردَّد الأصداء في مشرق ومغرب على السواء، أو هو يُجيد الإبداع في مغربٍ فتتردَّد أصداؤه في مغرب ومشرق معًا، والموسيقار يعزف، والمغنِّي يصدح بالغناء، فتصبح هذه الألحان والأنغام موضعَ الإعجاب عند العربي أينما كان موقعه. وهكذا قل في كل مُبدَعات الفكر والفن والأدب، تُنتَج هنا أو هناك من أطراف الوطن العربي الكبير فلا تلبث أن تكون ملكًا لأبناء الأمة العربية كلها. وليس لذلك من معنى إلا أن يكون معناه هو أن ثَمَّةَ وحدةً عربية وثيقة العُرى في جانبٍ واسع من الحياة الثقافية. ومع ذلك فلا يسَع الرائي من بعيدٍ أو من قريبٍ سوى أن يرى بين أجزاء الوطن العربي، بل وبين أجزاء الإقليم الواحد من أقاليمه الفرقةَ والخصومة والتنازُع مما قد يصل بالناس هنا أو هناك حد القتال الحربي في أعنفِ صُوره وأقساها، فمن أين جاء الخلاف والفكر بيننا موحد وهو في مستوياته العليا؟ من أين جاء الخلاف ووجداننا يلتقي ويتآخى في رحاب الأدب والفن؟ إنه ليسهُل هنا على مجيب أن يجيب بقوله: إنها «السياسة» وحدَها التي فرَّقَت وأشعلَت لهيب النار، لكن هذا الجواب السهل لا يُقنِعنا ولا يَصرِفنا عن معاودة السؤال عن علَّة الخلاف من أين جاءت؟ وكل ما في الأمر هو أن نُعيد سؤالنا بذاته عن تلك «السياسة» فنقول من أين جاءها الخلاف بهذه الحدة كلها، وبهذا العمق كله، حتى لقد استطاعت أن تُشعِل بين الإخوة والأشقاء نيران الحروب؟ وأيًّا ما كان الجواب فنحن على حقٍّ حين نقول إن الوطن العربي من أمة التوحيد، لم يعرف كيف يُوحِّد كثرةَ شعوبه في هدفٍ واحد قريب أو بعيد.

إننا لا نريد بهذا أن نتجاهل ما لا بد من حدوثه بحكم طبائع الأشياء ذاتها. وابحث ما شئتَ في أي موجودٍ في هذا الكون الفسيح، كَبرَ ذلك الموجود أو صغُر تَجدْه يجمع في كيانه الموحَّد أجزاءً يختلف بعضها عن بعض في طبيعتها وفي وظيفتها. وانظر إلى الذرة التي هي نهاية المطاف في تحليل العلم لمادة الكون تجدها مؤلَّفة (بمعنى التجمُّع والتآلف معًا) من جزئياتٍ متباينة فمنها كهربٌ موجب ومنها كهربٌ سالب، ومنها كهربٌ محايد، ومنها ما تبيَّنوا فعله ولم يتبيَّنوا طبيعته، لكن هذا التبايُن لا يمنع أن تكون الذرة الواحدة كائنًا موحدًا ثم انتقل من الطبيعة إلى الإنسان، لا من حيث هو جزء من الكون فيصدُق عليه، ما يصدق على سائر الكائنات، بل انظُر إليه من حيث هو مبدعٌ لفكر وأدب وفن على نحوٍ لا يُشاركه فيه كائنٌ آخر تَجدْ في كل أثرٍ من آثار إبداعه، شرطًا أساسيًّا هو أن يجيء الأثَر مؤلَّفًا من «كثرة» شريطةَ أن تنخرط تلك الكثرة في «وحدة» تُؤلِّف بينها لتجعل منها كيانًا واحدًا، فالمعادلة الرياضية تحتوي على عدة رموزٍ مختلفة، لكنها اتسقَت جميعًا في جسمٍ رياضيٍّ واحد، والنظرية أو القانون من نظريات العلوم الطبيعية وقوانينها هي كذلك محتوية على عدة مفرداتٍ مختلفة، لكنها كذلك متسقة في جسمٍ نظري واحد، ثم هي لا تكتفي بهذا الاتساق بين مفرداتها، بل تُجاوزه لتحقق اتساقًا آخر أوسع مجالًا، وهو الاتساق بين الجانب النظري من ناحية وتطبيقه على وقائع الدنيا من جانبٍ آخر، فعندئذٍ تصبح كل واقعةٍ ممثلة لحدثٍ مادي، وما قد بُثَّ فيه من قانون، فالتفاحة التي رآها نيوتن وهي تسقط من فرعها إلى الأرض هي تفاحةٌ من جهة وهي من جهةٍ أخرى مجسِّدة في سقوطها لقانونِ نظريةٍ هو قانون الجاذبية. هذا في مجال «الفكر» الإنساني، فإذا تحوَّلتَ بنظرك إلى ما يبدعه من أدب وفنٍّ رأيتَ مبدأ تآلفِ الكثرة في وحدة تضمُّها محقَّقًا على نحوٍ أروع؛ فقصيدة الشعر ليست كومةً من مفردات اللغة، بل هي نسقٌ ينسق تلك المفردات على صورةٍ فريدة، يتلقاها المتلقي كما يتلقى حقائق الحياة في شتى صورها، بمعنى أنه يرى بين يدَيه كثرةً من أجزاء قد توحَّدتْ كلها في كيانٍ موحد يستند كل جزء فيه إلى سائر الأجزاء، أو هكذا ينبغي للأمر أن يكون.

فلسنا نريد — إذن — أن نتجاهل وجوب أن تتكاثر الأجزاء في كل جانبٍ من جوانب الحياة في الوطن العربي، لكننا كنا نتوقَّع لتلك الأجزاء أن تتآلف في وحداتٍ متسقة، فالفرد الواحد إنما هو مع فرديته تلك سيرةٌ تاريخية اشتملَت على أحداثٍ تعاقبَت له في حياته في كثرةٍ لا تقع تحت حصر. والشعب العربي الواحد مؤلَّفٌ من ملايين الأفراد يتفاعلون بعضهم مع بعض في شتى صور الحياة في تبايُنٍ شديد بين مختلف المواقف. وهكذا الحال في تفاعُل الشعوب العربية بعضها مع بعض، لكن هذا الخِضَم الهائل من مفردات الأشخاص والأحداث لا يمنعها من أن تتوحد في حياةٍ عربية متصلة الأجزاء، وأن الأجزاء في هذه الحالة ليتحقَّق لها النَسق الذي يُوحِّدها لو توحَّدَت بحق الغاية التي يتغياها الأفراد كلٌّ في مجاله، فمن وحدة الغاية يتوحد المناخ الفكري العام، وعندئذٍ تختلف الاهتمامات الفردية ما أُريد لها أن تختلف وتكثر الأنماط ما شاء أصحابُها أن تكثر، لكنها جميعًا تقع من الحياة العربية الموحدة موقع الوحدات المختلفة في بناءٍ فنيٍّ واحد.

كل هذا قد شهده التاريخ في حياة الأُمم في الفترات التي استُهدِفَت فيها الأمة المعيَّنة بكل أفرادها هدفًا واحدًا، فأحاط بها مناخٌ فكري واحد، سواء أكان هذا المناخ مما نتفق معه أم لم يكن؛ فالعصور الوسطى في أوروبا والقرون الثلاثة التي امتدَّت عندنا نحن بين السادس عشر والتاسع عشر استهدفَت أهدافًا نرفضها نحن اليوم. وأما أوروبا إبَّان عصر العقل في القرن السابع عشر، وفي عصر التنوير في القرن الثامن عشر، وكذلك أهداف الفكر العربي في القرن العاشر الميلادي بصفةٍ خاصة، فقد وحَّدَتها كلها أهدافٌ نرضاها ونتمناها. على أن الذي يشغلنا في هذا السياق من الحديث هو أن نبيِّن في وضوح متى وكيف يتوحد الاتجاه الثقافي لجماعة من الناس في مرحلةٍ معينة من تاريخها، وإذا كان مثل هذا التوحُّد ممكنًا بالنسبة إلى أي شعبٍ من الشعوب بل هو أمرٌ قد وقع بالفعل كما أشرنا، فأجدرُ به أن يتحقق لأمةٍ ركن الأساس في دينها هو «التوحيد» فالله عز وجل هو في عقيدتها واحدٌ لا شريك له، وهو أحدٌ صمد، وذلك واضحٌ في أول ركنٍ من أركان الإسلام الذي هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا نبيه ورسوله. ولا يُعقَل أن يكون المقصود بشهادة المسلم على وحدانية الله هو أن تقتصر على شفاهٍ تنطق بأحرفٍ وكلمات، بل لا بد للمعنى الذي تحمله الألفاظ أن يُفهَم ويُهضَم حتى يتمكَّن منه العقل ويرسخَ في القلب كأنه يساير نبضاته. ولسنا هنا نكتب ما لا نعنيه كما يكتب تلاميذنا «الإنشاء»؛ إذ يرصُّونها كلماتٍ موجهة إلى أذن القارئ، وليس على هذا القارئ بعد سمعه أن يبحث عن معنًى لما يقرؤه، كلَّا بل إننا نقول ما نقوله لنعنيه. وانظر في حياتك أنت أيها القارئ لترى الفرق واضحًا بين حالتَين؛ حالة أولى تجدُ فيها نفسك وقد آمنتَ بفكرة، فلم يعُد في وسعك إلا أن تسلُك على مقتضاها، كأن تكون والدًا يؤمن بأن واجب الوالد نحو ولده هو أن يرعاه ما وسِعَته الرعاية، فيرى نفسه مدفوعًا بدفعةٍ تلقائية نحو أن يسلك بما تقتضيه فكرته التي آمن بها. وأما الحالة الثانية فهي تلك التي نراها اليوم واسعة الانتشار في حياتنا، وأعني أن يتظاهر الإنسان أمام الناس لفكرةٍ هو لا يؤمن بها حقًّا، ولكنه يعلم أنها تُعجِب الناس، فإذا ما خلا لنفسه في حياته العملية، نهَج في سلوكه نهجًا آخر، كأن يرفع أمام الناس لواء «الاشتراكية» في وقتٍ يعلم أن ذلك ما يُرضي جمهور الناس، حتى إذا ما انفَضَّ السامر، يبحث لنفسه عن كل السبل التي يُكدِّس بها المال والعقار والذهب وكل ذي قيمةٍ يرفع بها رأسه، وأقصد رأسه هو ورأسماله معًا، لماذا؟ لأنه لم يكن يؤمن حقًّا بما ادَّعاه.

ولا شك في أن إيمان المؤمن بوحدانية الله سبحانه وتعالى هو من أنماط الحالة الأولى؛ فالمؤمن ينطق بالشهادة ويعنيها، ولكنه كثيرًا ما يقف — برغم إيمانه — عند حدود النطق باللفظ دون أن يُعنى العنايةَ الكافية بتدبُّر مضمونه، ولو تدبره مليًّا لسرى في كيانه سَرَيان شعور الوالد بوجوب رعايته لولده، فعمل على أن يتوحد هو بدوره ما مكَّنَته طبيعة البشر أن يتوحد، وذلك لأن في طبيعة البشر مُكوِّناتٍ كثيرة متعارضة، وهكذا أراد له خالقه أن يكون؛ لأن في ذلك ما يختبر إرادتَه ومدى تطلُّعه إلى التسامي بنفسه نحو ما يُرضي الله جل وعلا؛ فقد أُلهِمَت النفس البشرية أسبابَ فجورها كما أُلهِمَت في الوقت نفسه أسبابَ تقواها، وقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، ولكنه كذلك وضَع فيه ما يمكن أن يرتد به أسفَل سافلين. ولو سار الإنسان بنفسه في طريق التهذيب الصحيح لعرف كيف يُنسِّق كل مُكوِّناته تلك تنسيقًا يُوحِّدها تحت هدفٍ واحد، فتصبح له مصدر قوة ورفعة شأن؛ فليس بين مُكوِّنات الإنسان جانب خُلق عبثًا، ويمكن تلخيص تلك المُكوِّنات تحت ثلاثة رءوس؛ فهنالك الجوانب التي أُريد بها أن تصون الحياة ذاتها وأن تبقي عليها كدوافع الغذاء ودوافع النسل، ومنها مجموعةٌ ثانية هي في وظيفتها أشبه بقوة الكهرباء في إدارة العجلات، وأعني بها مجموعة الانفعالات وما يُبنى عليها من عواطف، فالانفعالات كالخوف والغضب والعواطف كالحب والكراهية، ثم هنالك مجموعةٌ ثالثة هي وسائل الإدراك التي زُوِّد بها الإنسان ليعلم بها ما يحيط به من موجوداتٍ ليتصرف فيها على نحوٍ ينفعه ويضمن له حسن البقاء. تلك في اختصار هي مُكوِّنات الإنسان ومُقوِّماته، وهي بطبيعتها متنافرة إلا إذا دُرِّبتْ على تناسُقٍ فيما بينها، فدوافع الطعام والجنس قد تذهب بصاحبها إلى حدودٍ يعرف عنها العقل أنها حدود الهلاك، وانفعال الخوف أو الغضب وعاطفة الحب أو الكراهية قد تطغى إلى حدٍّ يشلُّ قدرات الإنسان، لكنها جميعًا مُكوِّناتٌ مطلوبة. وقد أخطأ كثيرون في عهود من التاريخ فظنوا أن هناك من تلك العناصر ما يجب على الإنسان أن يقتلعه من كيانه اقتلاعًا، فيزهَد في هذا ويترفَّع عن ذاك، لكن الوقفة الإنسانية الأصح هي أن تُستغَل فطرة الإنسان بكل عناصرها، بحيث نبحثُ لها عن النقطة التي يبلغ التناسُق عندها حده الأعلى وتلك هي النقطة التي «يتوحد» عندها الإنسان كيانًا كلُّ ما فيه يعمل على قوة البناء، فلا تُترك العناصر المختلفة ليفتك بعضها ببعض. وكلنا يعلم كيف يمكن للحياة الإنسانية أن يتشقَّق بنيانها لما يدبُّ بين جدرانها من صراع.

ولعل القارئ قد عرف كثيرًا عن طائفةٍ من أوجه القصور في عصرنا هذا، مما أحدَث في النفس عند الفرد العادي تمزقًا ويأسًا وحقدًا وتمردًا وعنفًا وفسادَ طويةٍ وضمير، وكلها عِللٌ نتجَت عن عدم التوازن بين مُكوِّنات الإنسان حتى طغى بعضها على بعض ففسد الجميع؛ فهنالك حياةٌ صناعية ازدَحمَت فيها الآلات، وما تقتضيه من المشتغل بها من دقةٍ شديدة ويقظة لا تسهو، دون أن يُدبَّر لذلك العاملِ الساهر عليها ما يُشبع جوانبه الأخرى بنسبة يتعادل بها الميزان. وهنالك الرغبة في القوة والثروة والتملُّك إلى حدِّ الجشع مما قد يتيح النجاح لواحد والفشل لكثيرين، يُصبح واجبهم هو خدمة ذلك الواحد الناجح ليزداد نجاحًا، فتتراكم الملايين في جيب وتخلو من الملاليم ألوف الجيوب. وهكذا وهكذا مما يعرف كلٌّ منا شيئًا منه فنتَج التمزُّق وخيبة الرجاء. ولو عُنيَت التربية بأن ينشأ الفرد — كل فرد — على «وحدة» تتناغم فيها عناصرُ فطرته لبرِئ عصرنا مما يشُوبه لينعم الناس جميعًا بحسناتِ عصرهم.

والمؤمن بعقيدة التوحيد هو أقرب الناس إلى أن يتوحد شخصه ليتسق فعله مع عقيدته. وما أكثرَ ما أشارت آياتُ الكتاب الكريم إلى وجوب الصلة بين إيمان المؤمن وعمله الصالح ليتوافق فيه باطنُ الإيمان مع ظاهر العمل! فإذا كان محور ذلك الإيمان هو التوحيد، وجب أن يظهر انعكاسُ ذلك المحور التوحيدي في شخص المؤمن وهو يعمل، وبهذا يجيء كل فعلٍ وكأنه تعبيرٌ عن المصالحة بين عناصر الفطرة البشرية التي كان يمكن لها أن تتنافر وتتصارع، لو أنها تُركَت مطلقة لا يضبطها قيدٌ ولا يُنظِّمها مبدأ وقانون. وانظر مليًّا فيما تتضمنه «الشهادة» التي هي أول أركان الإسلام؛ فهي تتضمن أربع زوايا؛ فهنالك شاهدٌ يشهد، وهنالك مشهودٌ أمامه بتلك الشهادة، وهنالك مشهودٌ له، ثم هناك الصفة التي يشهد على وجودها. وتأمل هذه الجوانب الأربعة جانبًا بعد جانبٍ تَجدْها جميعًا مؤدِّية بقائلها ومعلنها إلى نتيجةٍ محتومةٍ، شريطة أن يكون قد نطق بالشهادة عن وعيٍ كامل بما قد انطوت عليه؛ فهو — أولًا — يستخدم في كلمة «أشهد» ضمير المتكلم المفرد؛ أي إنه يلتزم ما يشهد به التزامًا هو مسئولٌ عنه، من حيث هو فردٌ قائم بذاته حتى لو أنكره سائر أفراد البشر جميعًا؛ فركن الأساس في بنية المسلم أن يكون على وعيٍ بفرديته الفريدة المسئولة أمام خالقه عز وجل، ومثل هذه الوقفة لا تكتمل لها مقوماتها إلا إذا كان ذلك الفرد الفريد غير منقسمٍ على نفسه. على أن معنى الشهادة يتضمَّن فيما يتضمَّنه أن هنالك مَن أراد الشاهد أن يُعلِن شهادته أمامه، وفي ذلك إشارةٌ ضمنية إلى أحد الطرفَين أو إليهما معًا؛ أولهما اعتراف بوجود أفراد المجتمع الآخرين وهو المجتمع الذي ينتمي إليه الشاهد، وثانيهما وجود «ضمير» كامن في فطرته، والشاهد يتعهد أمام ضميره بألا يتمرَّد على أوامره ونواهيه، وأمام ذلك الضمير قد التزم الشاهد بما التزم، ولماذا التزم؟ إنه التزم الإيمان بوحدانية الله سبحانه وتعالى، فهل أراد بذلك الإيمان ألا يُجاوِز اللفظ تنطق به شفتاه؟ لو كان ذلك كذلك لتساوى مع البَبغاء الذي يسمعه فيحاكي لفظه المنطوق، كلا، بل لا بد لجوهر المعنى أن يسري في كيانه فيتشكَّل ذلك الكيان — فيما يشعُر وفيما يسلُك — بحالة التوحُّد التي شهد بها لله تعالى، لكنه بشر إذا هو أراد لنفسه اقترابًا من الكمال المنشود، ففيه من جوانب النقص ما يُوقِفه عما قد أراد عند حدٍّ محدود. وهكذا ترى أن من آمن بالتوحيد فإنما آمن بعقيدة تميل به نحو أن تتوحَّد ذاته بقَدْر ما يستطيعه بشرٌ لنفسه، برغم ما قد أُقيمَت عليه فطرة البشر من عناصرَ قابلةٍ بطبعها لأن ينازع بعضها بعضًا.

وما يصدُق في هذا الصدد على الفرد الواحد وهو في فردانيته يمتدُّ مداه ليصدُق على المجتمع الذي يكون ذلك الفرد عضوًا فيه، وذلك إذا جاء جميع الأفراد على الصورة التربوية نفسها. وعندئذٍ تنضمُّ شخصياتٌ مُوحَّدة متكاملةٌ بعضها إلى بعض، فينتُج عن اجتماعها أمةٌ موزونة النغم، مُبَرأةٌ من النشاز. وأقوى ما يساعد الأمة الواحدة على إيجاد هذه الوحدة المتسِّقة المتناغِمة بين أبنائها على اختلاف أعمالهم واهتماماتهم ومعارفهم، هو أن يكون لها هدفٌ بعيد واحد تتجه نحوه. ولقد أوضح هذا الكاتب لقارئه في مناسبةٍ أخرى كيف يمكن لميادين العلم المختلفة أن تتشابه في هدفها برغم اختلافها فيما تؤدِّيه؛ فميادين الحياة الثقافية عند أمةٍ معينة، وفي فترةٍ معينة من تاريخها قد تنحو كلها نحو محورٍ واحد تدور كلها حوله. وهنالك في تاريخ الناس عصورٌ توحَّدَت فيها ثقافتها بحيث رأيت الموسيقى والشعر وسائر ألوان الأدب والفن التشكيلي كالتصوير والنحت والفن التعبيري في المسرح وما يشبهه من سينما وغيرها والعمارة والنشاط العلمي وغيرها وغيرها من نُظم التعليم والسياسة ونُظم الحكم، كل هذه الفروع يُحلِّلها المحللون فيجدونها جميعًا تنطوي على فكرةٍ أساسيةٍ واحدة كالحرية أو التعقُّل أو العاطفة الوطنية وغير ذلك. وها هنا ُيبِّين النقاد القادرون على دقة التحليل، كيف تقول الموسيقى ما تقوله العمارة أو التصوير أو الشعر، فلو أن أمة التوحيد قد رسخَت فيها هذه العقيدة حتى بلغَت منها سُويداء القلب ونُخاع العظام لرأيتَ كل أوجه نشاطه دون أن تدري قد نطقَت بلغةٍ واحدة واستهدفَت هدفًا واحدًا فتوحَّدَت على النحو الذي أسلفناه وشرحناه.

ولا يقفُ أمر التوحُّد في حياة الناس عند حد الأفراد تتوحَّد شخصياتهم، وعند الحد الأوسع منه، الذي هو أن تتوحَّد الأمة التي تضم هؤلاء الأفراد، بل إن ذلك الميل نفسه لينعكس كذلك في ضروب النشاط التي ينشط بها الناس في مختلف ميادينهم، ويهمنا منها هنا مجال البحث العلمي؛ فنحن نعيش اليوم في عصرٍ بلغ فيه التخصُّص العلمي حدًّا بعيدًا، حتى لقد اضطُر العلماء المتخصصون أن يُقسِّموا العلم الواحد إلى عدة فروع، وأن يُفتِّتوا كل فرع منها إلى فروعٍ ثانوية؛ ومن هنا أصبح العالم المُتخصِّص الواحد إذ هو يعمل في مجاله الخاص يكاد لا يدري شيئًا مما شطَّ به زملاؤه في سائر فروع علمه، وفي هذه الدقة ضمانٌ لدقة النتائج العلمية، لكن فيها كذلك تمزيقًا للعلم الواحد حتى يَفقِد هُويته أو يكاد. ولم يكن علماء الماضي يتعرَّضون لهذا التمزق؛ لأن كل عالمٍ منهم يتناول موضوع علمه من الألف إلى الياء، فيكون باحثًا في «الكيمياء» وفي «النبات» وهكذا، فيلزم عن ذلك بقاء الموضوع الواحد مُوحَّدًا، إلا أن هذا نفسه يقتضي أن يقف العلم عند أعماقٍ قريبة الغور من حقيقة موضوعهم.

والعلم لا يقتصر على موضوعٍ واحد، بل يقسم نفسه موضوعاتٍ موضوعات، بحسب ما يتصوره رجال العلم عن ميادين البحث الممكنة. إن حولهم كونًا متنوع الظواهر فسيح الأبعاد، وهم يريدون البحث عن القوانين التي تنتظم بها كل ظاهرة على حِدَة، فيقسمون تلك الظواهر فيما بينهم أقسامًا كبرى، ثم يتناول العلماء داخل كل قسمٍ كبير موضوعَهم بالتقسيم فيما بينهم وهكذا. ولكي أضع بين يدَي القارئ صورةً تقريبية لعملية التقسيم هذه كيف انتهى بها الطريق إلى مجموعةٍ محددة المعالم من علومٍ مختلفة، أقول إنهم بادئ ذي بدء قد فرَّقوا بين علوم «صورية» وعلومٍ أخرى مادية الموضوعات، فأما العلوم الصورية فهي مجالان يتصلان يصعُب إيجاد الفاصل الحاسم بينهما، وهما «علم المنطق» و«علوم الرياضة»، وهما قسمان «صوريان» بمعنى أنهما يبحثان في «علاقات» دون أن يعلما شيئًا عن «الأشياء» التي ترتبط بتلك العلاقات في دنيا الواقع الفعلي؛ ففي علم المنطق تقول — مثلًا — إنه إذا كانت (أ) هي (ب) هي (ﺟ)؛ إذن تكون (أ) هي (ﺟ) دون أن يسأل عالم المنطق نفسه ما هي الأشياء المعنية التي ترمز إليها بهذه الرموز، وذلك لأن «الصورة» المذكورة تصدُق على جميع الحالات بغير استثناء. وفي الرياضة نقول: إنه إذا كانت ٢ + ٣ = ٥ وكانت ١ + ٤ = ٥؛ إذن ٢ + ٣ = ١ + ٤، فهذان علمان صوريان يُكوِّنان أُسرةً من العلوم متميزةً مما عداها. تأتي بعدها أُسرةٌ أخرى من نوعٍ آخر، هي أُسرة العلوم التي يختص كلٌّ منها بظاهرةٍ معينة من ظواهر الطبيعة لاستخراج قوانينها؛ فعدة فروع منها تُكوِّن علم الطبيعة، وعدة فروعٍ أخرى تُكوِّن علم الكيمياء، وعدة فروعٍ ثالثة تُكوِّن علوم الحياة من نبات وحيوان، وعدة فروعٍ رابعة تُكوِّن العلوم الإنسانية.

إذن فنحن إذ ننظر إلى دنيا العلم، فإنما نواجه كثرةً كثيرة من أقسامٍ متباينة؛ فمن جهة نجد كل علمٍ واحد على حدة ينقسم فروعًا وفروعًا للفروع، ومن جهةٍ ثانية نجد ميادين العلوم الكبرى متعدِّدة ومختلفة. وها هنا قد ترى من رجال العلم أنفسهم من لا يُقلِقه هذا «التعدُّد»، ويأخذه على أنه لازمةٌ ضرورية من لوازم العلم. لكنك قد تجد كذلك من رجال العلم من لا تطمئن نفسه لهذا التجزُّؤ الذي إن صلح للفكر العلمي فهو لا يصلح للوحدة العقلية عند الإنسان؛ ومن ثَمَّ ينهض نفرٌ من هؤلاء ليجعلوا همَّهم البحث في تلك الأقسام الكثيرة وفروعها الأكثر عمَّا يُوحِّدها، ولا تطمئن لهم نفسٌ إلا إذا وقعوا على المبدأ الواحد الذي عنده تلتقي جميع تلك الأقسام والفروع. وهؤلاء العلماء الباحثون عن موضع التوحُّد بين ميادين البحث العلمي، هم الذين يُطلَق عليهم اسم «فلاسفة العلم». مع ملاحظة أن فيلسوف العلم في معظم الحالات هو نفسه الذي كان عالمًا متخصصًا في أحد الأقسام أو في فرعٍ واحد من فروع أحد الأقسام، وكل ما تميَّز به هو أنه قد أقلقَتْه الكثرة فيما يعتقد أنه كونٌ واحد موحَّد.

ومرةً أخرى نقول إن من كانت عقيدته الدينية هي «التوحيد» وجد في نفسه دافعًا أقوى مما يجد سواه من زملائه العلماء، نحو أن يبحث دائمًا عن الوحدة التي تُؤلِّف بين الكثرة أيًّا كان الموضوع، فيبحث عن محور الوحدانية في الشخصية الإنسانية برغم اختلاف الجوانب الكثيرة في حياة الفرد الواحد، واختلاف العلوم الباحثة في تلك الجوانب، وكذلك يبحث عن محور الوحدانية في الكون مجتمعًا كله في وجودٍ واحد.

وفي مثل هذا النظَر تتحقَّق «أسلمة» العلوم بمعناها الصحيح كما نراه؛ فليست «إسلامية» العلم المعيَّن أو العلوم مجتمعةً أن نبحث لكل علمٍ معيَّن كالطب أو غيره عن مصادر في القرآن الكريم، أو في الأحاديث النبوية الشريفة، بل إن إسلامية العلم هي في البحث عما يُوحِّد قوانينه ومبادئه في أصلٍ واحد، ثم أن نبحث في مختلف العلوم عن مبدأ واحدٍ يُوحِّدها، فإذا كشفنا عنه ولن يكشف عنه إلا رجال العلم الذي ألمُّوا بقوانين العلم الواحد أو مجموعة العلوم إلمامًا يبين لهم موضع التجمُّع في أصلٍ واحد. أقول إننا إذا انكشف لنا موضع التوحُّد أو قل مواضع التوحُّد التي نتدرَّج بها من الفرد الواحد أولًا ثم العلم الواحد إلى أن تنتهي إلى توحُّد مجموعات العلوم في أساسٍ واحد، جاءت عقيدتنا في التوحيد عميقةً وقوية وناصعة.

لكن أمة التوحيد لم تعرف كيف تُوحِّد نفسها؛ فلا الفرد الواحد من أفرادها مستطيعٌ أن يصل باطنه بظاهره حفاظًا على وحدة شخصيته، ولا الشعب الواحد من شعوبها قادر على أن يجمع أبناءه تحت لواءٍ واحد بالمعنى الصحيح الصادق لهذه الكلمات، ولا الأمة في مجموعها قد ضمَّت شعوبها تحت جناحَيْها كما تجمع الأم أبناءها. ولعل سرًّا من أسرار هذا التنافر المتعدد الدرجات هو أننا طالبنا أنفسنا بتحقيق المثل العليا في حياتنا العملية، واستحال علينا ذلك، ولا بد له أن يستحيل لضعفٍ فطري في قدرات الإنسان، فقسَّم كلٌّ منا نفسه قسمَين؛ يُواجه الناس بقسمٍ منهما فيُسمعهم من اللفظ الأمثل ما يشتهون، حتى إذا ما توارى وراء الجدران استجاب لجوانب ضعفه آسفًا أو غير آسف، ففقدنا بهذه الازدواجية شجاعة الصدق كما فقدنا الأمل في أن نُحقِّق للشخصية العربية وحدتها وكيانها؛ لأن أول الطريق إلى بلوغ الهدف هو إدراكُ الحق وإعلانُه فيعلم السائر في أي متَّجهٍ يسير.

٢

لا تقنط — يا ولدي — من رحمة الله، فإذا رأيتنا نتخبط بين الصواب والخطأ؛ فذلك هو الإنسان، لا يكون أبدًا على صواب كل الصواب، كلَّا، ولا يكون أبدًا على خطأ كل الخطأ. وحسبنا من نعمة الله علينا في هذا السبيل، أن من التزم منا النهج الصحيح، رجح عنده الصواب على الخطأ كلما امتدت به الأيام؛ ومن هنا جاءت حكمة الشيوخ؛ فخبرة الإنسان بحقائق العالم يُصحِّح بعضها بعضًا على مر الزمن، لكن لتلك الحكمة عند الشيخ ثمنها الباهظ؛ لأنها تجيء إليه مقرونةً بالضعف فلا يقوى على خفة الحركة، وعندئذٍ يصبح وكأنه معرفة شلَّاء. وأما الشباب فإن يكن كثير الخطأ قليل الصواب، فهو بصوابه المحدود قادر على الحركة الساعية إلى العمل والتنفيذ، يصيب مرة ويخطئ مرتَين، فيُنجز بقَدْر ما أصاب. وقديمًا قال الشاعر: «أوَّاهُ لو عرف الشباب، وآه لو قدر المشيب.» نعم، فالشباب يقدر ولكنه تنقصه المعرفة، والشيخ يعرف ولكن تنقصه المقدرة، فما حيلتنا فيما أراد لنا الله؟ إنه لا حيلة لنا في ذلك إلا أن تتعاون شيخوخةً وشبابًا، وهكذا تسير الحياة دائمًا في خطٍّ صاعد. ولعل شيئًا من هذا المعنى هو الذي يكمُن في عقائد الإنسان الأول، حين كانت عقيدته هي أن الكون نور وظلمة يتصارعان، لكن النصر آخر الأمر للنور، أو أن الكون خير وشر يتنافسان، لكن الخير هو الغالب في آخر المطاف.

لا يا ولدي، لا تقنَطْ من رحمة الله، إذا رأيتَنا نتخبَّط بين الخطأ والصواب، وسأقصُّ عليك لمحاتٍ من خبرتي في هذا الصدَد عبر السنين، مكتفيًا في ذلك بنوعٍ واحد من مزالق الإنسان نحو الخطأ، إلا إذا تولَّاه الله برحمته، وأعني ذلك النوع من الخطأ الذي يميل بالإنسان إذا ما عرف حقيقةً جزئية من حقائق الوجود، وقف عندها، محدودًا بحدودها، على ظنٍّ منه أنها هي الحق كل الحق، دون أن يُسعفه التوفيق فيمدَّ بصره ليُجاوِز حدودها، ولو فعل لرأى تلك الحقيقة الجزئية إنما هي جزء من كيانٍ أكبر منها، يشتمل عليها وعلى أخواتٍ لها كثيرات، وعندئذٍ — يا للعجب — تزداد حقيقته الجزئية الأولى سطوعًا ونصوعًا. إنها تزداد حقًّا على حق، ولا ينقُص نصيبها القديم من الحق شيئًا. وهكذا، فكلَّما اتسَع الأفقُ في معرفتنا بالكائنات، ازدادَت معرفتُنا عمقًا، ونتيجةً لرؤيتنا للجزء الواحد وهو في جسمه الكبير.

تتغير نظرة القروي إلى قريته إذا عرف أين موقعها من إقليمها، وأين موقع الإقليم من رقعة الوطن، وأين تقع رقعة الوطن من كوكب الأرض. ومع هذا التدرُّج في اتساع الأفق تزداد معرفته بقريته دقةً، وتتغير معرفة طبيب «القلب» كلما عرف الروابط التي تربط القلب بغيره من أعضاء الجسم كالرئتين والكبد وغيرهما. وانظر كم تغيَّر من علوم الإنسان، بعد أن تغيَّرتْ فكرته عن كوكب الأرض؛ فبعد أن كان على ظنٍّ بأن كوكبه الأرضي ثابتٌ في مكانه، لا يتحرك ولا يدور، وأن سائر أجرام السماء هي التي تدور حول الأرض، كأن الأرض هي المحور المركزي وبقية العالم لواحق وأتباع، عَرفَ الإنسان أن الأرض كوكبٌ كغيره من كواكب المجموعة الشمسية، يدور حول نفسه ويدور في الوقت نفسه حول الشمس، وبالدورة الأولى يحدث الليل والنهار، وبالدورة الثانية تتتابع الفصول الأربعة. وكل هذه الفروق بين النظرتَين، نتجَت من وضع الجزء في موضعه من الكل الذي يحتويه. وقارن بين مَن يتعامل مع الناس بمعرفةٍ محدودة عن «العدد»؛ إذ هو لا يعرف عنه إلا بضعة أعداد قد لا تتعدَّى المائة أو المئات، دون أن يكون له تصوُّرٌ شامل لتسلسل الأعداد كيف يبدأ من الصفر فصاعدًا إلى غير نهاية، أقول: قارن مثل هذا الرجل بمن اتسعَت معرفته الرياضية بالعدد وغيره مما ينتج عنه. ولقد سُقتُ هذا المثل إذ تذكَّرتُ قصةً وردَت عن أعرابيٍّ قديم، يُحكى عنه أنه اشترى من سوق السلع المستعملة كيسًا كبيرًا مما تُعبَّأ فيه الغلال أو ما يُشبِهها، وبعد أن مضى في سبيله، تذكَّر بائع الكيس أن به حليًّا من الذهب والأحجار الكريمة، فلحق بالأعرابي ورجاه أن يبيع له ما قد اشتَرى، وعرف الأعرابي بالكنز النفيس الذي احتواه الكيس، فقال: إني أبيعه بألف دينار. وتمَّت الصفقة، فعجب من الأعرابي رفيقٌ له كان يصاحبه على الطريق، وسأله دهشًا، كيف تطلب ألف دينار في مثل هذا الكنز النفيس؟ فأجابه الأعرابي: أهناك في العدد ما هو أكثر من ألف؟ والله لو علمتُ ذلك لطلبتُ أكثر. وهذا مثلٌ آخر لمن يتقيَّد علمه في حدودٍ ضيقة؛ لأنه لم يستطع أن يضع الجزء في سياقه الواسع الذي يحتويه، والأمثلة على ذلك لا تنتهي.

على أن ذلك المنزلق الفكري الذي يؤدي بالإنسان إلى خطأ، لا يقتصر على الريفي المحدود بحدود قريته، أو البدويِّ المحدود بحدود خبرته، بل قد يتعدى هؤلاء ليشمل من ظَفِروا من العلم بنصيبٍ ارتفع بهم درجات، لكن التعصُّب أو ما لستُ أدري كيف أسمِّيه، يُعمي أبصارهم، حتى ليقفوا عند «الجزء» الذي يتعصَّبون له، بحيث يَرونَ فيه الحقيقة المطلقة كلها. وما أكثر ما وقع كاتب هذه السطور في مثل هذا الخطأ الفكري العجيب! والمثل الذي أتخيَّره لأسُوقه إلى القارئ في صدَد ما نحن فيه، هو الموقف الفلسفي الذي اتخذه لنفسه «برتراند رسل» الذي هو بغير نزاعٍ في ذروة الفكر الفلسفي المعاصر، وهي ذروة لا يشاركه فيها إلا أندادٌ قلائل؛ فعصرنا عصر «علم» في المقام الأول، وبرتراند رسل في طليعة من يُفلسِفون ذلك الجانب «العلمي» من جوانب عصرنا. ولكي أشرك القارئ معي في الرؤية، لا بد لي من تمهيدٍ موجز وشارح؛ فقد عرف تاريخ الفلسفة من قبلُ ضربَين من النظر إلى الكون من حيث «وحدته» أو «تعدده»؛ فهناك من رأوَا توحُّدًا للكون برغم كثرة ظواهره، بمعنى أن جميع الظواهر يمكن ردهُّا إلى «خامة» واحدة (إذا جاز هذا التعبير) لولا أن هؤلاء ينقسمون بين أنفسهم طائفتَين؛ إحداهما تجعل «الخامة» المشتركة «روحًا» أو ما يندرج في سمائها، وأما الطائفة الأخرى فتجعلها «مادة» أو ما يندرج في طبيعتها. ويترتب على هذا الانقسام في النظر، أن نجد الطائفة الأُولى تفهم جميع ظواهر الكون فهمًا يردُّها إلى أصلٍ روحانيٍّ. كما نجد الطائفة الأخرى تردُّها إلى طبيعةٍ مادية. ولعل أهم ما يهم الكثرة الغالبة من الناس في هذا الصدد هو «الإنسان» وكيف نفهمه؟ فالطائفة الأولى تردُّ كل تصرفات الإنسان وجميع حالاته الداخلية إلى جانب «الروح» منه. وأما الطائفة الثانية فلا ترى في الإنسان إلا «ظاهرةً» طبيعيةً مادية، لا تختلف عن سائر الظواهر إلا في درجة التركيب، وهي درجةٌ انتهت به إلى ما هو فيه من «وعي» و«عقل» وما إلى ذلك. إذن فهاتان شعبتان من أصحاب النظرة الموحَّدة لظواهر الكون بردِّها إلى أصلٍ واحد. والشعبتان — كما ترى — يتفقان في وحدانية «الأصل»، لكنهما يختلفان في طبيعته. وإلى جانب هذا الرأي الموحد للكون، كان هنالك دائمًا فريق يرى أنه يتعذر عليهم تصوُّر جانبَي «الروح» من جهة و«المادة» من جهةٍ ثانية. وقد تلاقيا معًا آخر الأمر في «أصل» واحد؛ فلا الروح في رأيهم يمكن أن تكون مادة، ولا المادة يمكن أن تكون روحًا؛ ولذلك اختاروا لأنفسهم موقفًا «ثنائيًّا» يجعل كلًّا من الجانبَين أصلًا قائمًا بذاته. وتحت هذَين المذهبَين؛ مذهب التجانُس في الكون برغم كثرته البادية في اختلاف ظواهره، ومذهب عدم التجانس الذي يقسم المضمون الكوني قسمَين متضادَّين، هما الروح والمادة.

وعلى هذه الصورة جاء برتراند رسل في عصرنا هذا، وجاءت معه حركة النظر التحليلي الذي بلغ دقةً رياضية لم يعرفها الإنسان من قبلُ. وهنا وجد الرجل بين يدَيه «أصولًا» لا هي تردُّ إلى «واحد» ولا هي مما يكتفي بأصلَين اثنَين، بل هي تنوُّعٌ متعدد الأصول، وحتى عندما أخذ هذا التعدُّد يضيق معه على مر الأعوام، حتى انتهى آخر الأمر إلى رد الكون كله إلى «أحداث» تتجمَّع هنا وتتفرَّق هناك، وما يسميه هنا بالأحداث هو ما يقع على حواس الإنسان من لمعات الضوء، ونبرات الصوت، ولمسات الجلد وهكذا، وهي فكرةٌ تبلورت عنده (ومعه آخرون قليلون) انعكاسًا للطبيعة النووية في العلم المعاصر. أقول إن برتراند رسل، حتى حين انتهى آخر الأمر إلى ما يُشبه الأصل الواحد للكون، وهو «الأحداث» بالمعنى الذي يفهم به هذه الكلمة؛ فواضح أن وحدانية الأصل هنا تتجزأ في أنواعٍ مختلفة، لم يتردَّد في أن يذهب إلى «تعدُّدية» الكون، فلا هو واحدٌ في خامته الأولية، ولا هو اثنان، بل هو «كثير».

واكتفى بهذا التمهيد الشارح برغم قصوره، لأقول إن كاتب هذه السطور يذكُر جيدًا ذلك العهد من أعوام حياته، الذي أحَسَّ فيه بالحيرة الفكرية التي جاهد ما استطاع ليجد لها مخرجًا يحلُّها؛ فربما لم يجد برتراند رسل بين عقائده الأولية ما يبعث فيه القلق، وأما هذا الكاتب فعقيدته الدينية «توحيد» الخالق سبحانه وتعالى. على أنه — أعني هذا الكاتب — يتعذَّر عليه أن يتصور إيمانًا بالتوحيد الإلهي، لا ينتهي بالمؤمن إلى رؤيةٍ تُوحِّد له الكون، وتُوحِّد له كيانه البشري، وتُوحِّد له كثيرًا جدًّا مما قد تراه العين متكثرًا؛ ولهذا فهو يُحسُّ قلقًا شديدًا إذا قيل له إن الكون طبيعته الأساسية كثرة يستحيل ردُّ بعضها إلى بعض؛ ومن ثَمَّ لم يكُفَّ عن البحث، لعله يهتدي إلى تصوُّر يزيل عنه الحَيْرة.

وإذا غضضنا أبصارنا عن برتراند وفلسفته التي وصفها هو نفسه بأنها «تعددية» وقلنا لأنفسنا هذا فيلسوف إنجليزيٌّ وما يراه، فما لنا نحن به وبما يراه أو لا يراه، كان علينا أن نتذكَّر أن العلم الطبيعي في حدِّ ذاته، من حيث هو «علم» لم يفلسفه لنا أحد، وجدنا أن الموقف التعدُّدي لا يزال قائمًا أمامنا وكأنه يتحدى؛ وذلك لأن ذلك «العلم» بشتى فروعه، لا يكون شيئًا إذا لم يكن عملياتٍ تحليلية إلى آخر المدى، فما يظهر لنا أنه موحَّدٌ يجيء العلم فيُحلِّله إلى عناصره؛ فلا «الماء» يظل ماءً، ولا «الهواء» هواءً، ولا «الشجرة» شجرةً، ولا «العصفور» عصفورًا؛ لأن كل هذه الكائناتِ مركباتٌ من عناصر أولية، إذا تجمَّعَت وتفاعلَت نشأ الماء والهواء والشجرة والعصفور. وأما العناصر الأولية ذاتها فتبقى عناصر تستعصي على التحليل. إذن فهنالك عدةُ أوليَّاتٍ هي التي ينسج منها ما ينسج من أوليات، فما الذي يُوحِّد لنا تلك العناصر في جذرٍ أساسي واحد، يشبع فينا فطرة «التوحيد»؟

نعم «فطرة» التوحيد، نحن إذ نقول إن الإسلام دين «الفطرة» نعني بينَ ما نعنيه الاعتقاد بوحدانية الله عز وجل، وهو اعتقادٌ نزلت به الرسالة وحيًا، ولكنه صادف فطرةً تؤمن به فور الدعوة إليه، وهنا قد يُقال: إن «التوحيد» هنا توحيد للخالق جل وعلا. فما لك تخلط الأمور وتنقل التوحيد إلى مُقوِّمات الكون ومُكوِّناته ليصبح أمام العقل كونًا موحدًا متناغمًا متكاملًا؟ والجواب هو أن الفطرة الإنسانية التي آمنَت بإلهٍ واحد على سبيل الإيمان الديني، هي نفسُها الفطرة التي تميل نحو أن يلتئم الكون كله في وحدةٍ واحدةٍ برغم كثرة عناصره وظواهره.

ويبدو أن إدراك الإنسان الفطري للكائنات من حوله، بل وإدراكه لذاته حين يتأمَّلُها من باطن، يرى كل شيءٍ أوَّل ما يراه على أنه موحدٌ، حتى ليُطلِق عليه اسمًا واحدًا ليميزه، فيرى الشجرة ويقول «شجرة» على أنها كائنٌ واحد، فإذا ما نما إدراكه في مرحلةٍ أخرى من مراحل عمره، حفَزه دافعٌ آخر من دوافعه الفطرية إلى أن يتناول بالتحليل ذلك الذي كان قد اعتبره كائنًا واحدًا. وها هنا تكون مرحلة «العلم» بالأشياء وحقائقها، فيتعقَّب الشجرة التي كان قد رآها، تحليلًا لعناصرها، وطريقة نموها وإثمارها، وهكذا. وذلك هو ما يضطلعُ به علم النبات، حتى إذا ما أشبع في نفسه حاجتها إلى المعرفة، عاد سيرتَه الأُولى، وجعل الشجرة في إدراكه وفي تعامُله مع الناس، شجرةً موحدة كما كانت أول مرة. ولك بعد ذلك أن تنظُر إلى أمثلةٍ تُوضِّح لك هذه الخطوات؛ إدراك للكل في جملته أولًا، تحليله إلى مكوناته الجزئية ثانيًا، العودة إلى إدراكه موحدًا ثالثًا. لكن هذه الخطوة الثالثة، وإن تكن قد أعادتنا إلى حيث كنا في الخطوة الأولى، إلا أنها في حقيقة أمرها تختلف عنها بما قد أضافَتْه من علمٍ تفصيلي بالشيء، بعد أن كنا نُسمِّيه، ونتعامل معه وبه ونحن على جهلٍ بحقيقته.

خذ مثلًا موقف الإنسان من اللغة التي يبدأ في تعلمها منذ طفولته الباكرة، فهو يبدأ بمرحلة يتكلَّم فيها ويسمع من يُكلِّمه، فينطق بكتلٍ صوتية ينطقها، وكتلٍ صوتية يسمعها، دون أن يعلم أي شيء عن «المفردات» التي تجمَّعَت وتكتَّلَت في كيانٍ صوتي واحد، ثم تجيء مرحلة التعلُّم، وها هنا تُفكُّ له الكتلة الصوتية، فإذا هي ألفاظٌ مستقلةٌ كل لفظةٍ منها عما عداها، وإذا باللفظة الواحدة تجمُّع من حروف، وهنا نقول عنه بلغتنا الدارجة إنه «فك الخط». وواضحٌ أن معرفته بالمُكوِّنات التفصيلية في مرحلة التعلُّم والعلم، لا تمحو منه إدراكه للكل الصوتي الذي يُكوِّنه ليتكلَّم، والذي يسمعه حين يكلِّمه من يكلِّمه.

وإذا كان ذلك كذلك، إذن فقد انفتح أمامنا الباب الذي يخرجنا من الحَيْرة التي أحسستُ بها حيال الموقف الفلسفي التعدُّدي عند برتراند رسل، بل ونُحس بها جميعًا إذا ما تأمَّلنا العلم الطبيعي في تعدُّديته التي يؤدي إليها تحليل الأشياء إلى عناصرها، ما دامت للإنسان فطرتُه التي تنحو به نحو أن يجد في الكثرة رباطًا يُوحِّدها. والباب الذي انفتح فزالت الحَيْرة، هو أن العملية التحليلية للكائنات، إنما هي مرحلةٌ وسطى على الطريق؛ فأول الطريق رؤيةٌ مُوحَّدة، وآخر الطريق رؤيةٌ موحدة، وبينهما مرحلةٌ ألقت لنا الأضواء على المحتوى مفصَّلًا، وبهذه الأضواء نكون قد انتقلنا في علاقاتنا بالكائنات إلى علمٍ بها بعد جهل.

تقرأ القصيدة من الشعر، فتُحسُّ النشوة الفنية دون أن تسأل أول الأمر من أين جاءت؟ وتعود إلى القصيدة، معتمدًا على نفسك إن كنتَ قادرًا أو مستعينًا بناقدٍ قادر، فيُحلِّل لك القصيدة حتى يردَّك إلى تفصيلات مُكوِّناتها، فتعلم مصدر النشوة الفنية التي أحسستَها. وربما عُدتَ بعد هذا العلم لتقرأها في جملتها كما فعلتَ أول مرة، لكنك هذه المرة تلتقي بالكيان الموحَّد وأنت عليمٌ بسر فحواه. ويصادفك بين الناس إنسان، فتُحسُّ منذ اللقاء الأول أن المودة بينكما سوف تمتد وتقوى لما لمستَه فيه من خصالٍ تُقرِّب نفسك من نفسه، ثم تأخذ مع الأيام في معرفة شخصه مفصلًا في مواقف وحالات وردود أفعال، فتعلم عنه ما لم تكن تعلمه عند اللقاء الأول، مما أحدث بينكما ذلك الود السريع. وهكذا الأمثلة تجيئك متتالياتٍ، إذا أردتها؛ لتزداد يقينًا بأسلوب الفطرة في إيمانها الصادق البريء أولًا؛ فرغبتها — ثانيًا — في تحليلِ وتبيين سِرِّ ما انطوى، لتعود إلى موضوع إيمانها عن علمٍ يهدي ويهتدي.

كانت القرون الوسطى في أوروبا، عندما بدأَت سُحبها تنقشع شيئًا فشيئًا عن تباشير فجرٍ جديد، قد شَهِدَت بين ما شَهِدَته من تلك الطلائع، رجلًا يطلق في الناس صيحةً لم يألفوها، قائلًا: إنه لا بد من تبديل المرحلتَين اللتَين يسير عليهما المؤمنون. فبعد أن كانوا يؤمنون أولًا بما قد آمنوا به، ثم يعلمون ثانيًا حقائق ذلك الإيمان، يجب — في رأيه — أن تكون الخطوة الأولى للعلم بالحقائق، حتى إذا ما تبيَّنها الناس آمنوا بها. وفي صورة مختصرة، بدل أن يكون ترتيب الخطوتَين هو أنني أومن أولًا ثم أعلم ثانيًا، يجب أن يكون: إنني أعلم أولًا ثم أؤمن بما تعلَّمته ثانيًا. وكان صاحب هذه الصيحة هو «إبلار»، وغدَت صيحته مدعاة إلى انقلاب، هو الانقلاب الذي يُطلَق عليه اسم النهضة، أو البعث. وقرأ كاتب هذه السطور عن ذلك الموقف الثقافي قراءة دارس، ولبث دهرًا يُناصِر «إبلار» في دعوته؛ إذ كيف نترك الناس ليؤمنوا بما ليس يعلمون؟ ولكنه — أعني هذا الكاتب — تساءل في لحظةٍ متأملة: أصحيح ما دعا إليه «إبلار» وما امتلأَت به صفحاتُ التاريخ الفكري من شروحٍ تؤيده وتناصره؟ وإذا كان صحيحًا، فعلى أي وجهٍ يتحقق؟ أنقول للطفل وهو يُشير إلى شجرة باسمها، كلا يا بني، لا تقُل عنها إنها شجرة حتى تكبَر وتعلَم عن حقائقها ما عساك تعلمُه؟ أنقول لقارئ قصيدة الشعر معجبًا بما قرأ: كلا يا أخانا، أرجئ إعجابك هذا حتى تجد الناقد الذي يُبصِّرك بتفصيلاتها، فتعلَم عنها ما تعلَمه، ثم يكون لكَ بعد ذلك حقٌّ في قبولها؟ أنقول لمن يُحب: أمسك يا صاحبنا عن حبك حتى تُلِم بتفصيلات الحب ومن تُحب؟ وأخيرًا، أنقول لمن آمن بوحدانية الله فور سماعه لدعوة الوحي كلا، لا تؤمن حتى يفرغ علماء الدين من بحوثهم الفقهية في معنى التوحيد؟ الحق أن هذا الكاتب لم يعُد يرى في دعوة «إبلار» ما كان يراه؛ لأنه لم يعُد يعلم كيف يمكن — أساسًا — لمثل تلك الدعوة أن تتحقق عند التطبيق، وانتهَت به تأملاته — أعني هذا الكاتب — إلى أن موضع الخطأ عند «إيلار» ومؤيديه، هو أنه رآهما خطوتَين؛ إيمانًا وعلمًا، أو علمًا وإيمانًا. وحقيقة الأمر هي أنها ثلاث خطوات؛ إيمانٌ فعلم فإيمانٌ مستنير بما علم.

خلاصة القول هي أننا إذا حللنا كائنًا موحَّد الكيان إلى عناصره التي توحَّدتْ فيه، نخطئ إن قلنا إن حقيقته هي تلك العناصر، وذلك فهو متعددٌ وليس موحدًا. والصواب هو أن نعود إليه بعد تحليله لنراه موحدًا كما رأيناه بادئ ذي بدء، على أن نستحضر في أذهاننا أن الرؤية الثانية قد أضافَت علمًا إلى الرؤية الأولى، وهذا هو بعينه ما يحدث لأي جزءٍ حين ننسبه إلى الكل الذي يحتويه؛ فإن هذه الإضافة تزيدنا علمًا بذلك الجزء، لكن ذلك لا ينفي أن نتعامل معه جزءًا كما كان؛ فالمواطن المفرد في أمته، جزء من أمته، ورؤيتنا له من حيث هو فرد ينتمي إلى مجموعةٍ معينة، تضيف إليه بعدًا جوهريًّا في شخصيته، ولكنها لا تُلغي فرديته التي يستقل بها كيانًا قائمًا برأسه. إننا نرى مدينة القاهرة على خريطة مصر، فنزداد علمًا بحقيقتها عمَّا لو اقتصرنا على معرفتها من داخل شوارعها وميادينها؛ لأن موقعها من الخريطة يُبيِّن لنا علاقاتها المكانية بسائر أجزاء الوطن المصري، لكن ذلك لا يفقدها شيئًا من حقيقتها مدينةً مستقلة بكيانها، كالمفرد من مفردات اللغة، له وجوده المستقل في المعاجم، لكننا نكاد لا نعرفه على حقيقته من حيث معناه، إلا إذا أجريناه في سياق جملةٍ مفيدة.

تحليل الأشياء والأفكار تحليلًا يردها إلى مكوناتها البسيطة، ثم إعادة تركيب تلك المكوِّنات في أذهاننا ليعود تصوُّرنا للشيء أو للفكرة موحَّدة كما كانت، بعد أن ازددنا علمًا بها، مسألةٌ ليس منها بد للفكر العلمي. ومع ذلك فقد كانت دائمًا موضع خلافٍ واختلاف بين فريقَين من رجال الفكر، يختلفان نمطًا ومزاجًا؛ فهناك فريق يرى أن تحليل الحقيقة الموحدة يُبطلها ويُفسدها. كما أن هنالك فريقًا آخر لا يرى شيئًا من ذلك، بل إنه ليُدرك ضرورة تحليل تلك الحقيقة الموحدة إلى أجزائها إذا أردنا معرفتها حق المعرفة، دون أن يترتَّب على ذلك إبطالٌ لها أو إفسادٌ لمعناها. من الفريق الأول المتصوفة والشعراء ومن لف لفَّهم، ومن الفريق الثاني رجال العلم. انظر إلى المتصوف وهو يجاهد في سبيل الوصول إلى الله عز وجل؛ تلمح فيه القلق لكونه جزءًا معزولًا عن الحقيقة الكبرى، وكأنه لا يجد في وجوده الفردي وجودًا كاملًا؛ إذ هو في ذلك الوجود الجزئي أشبه بورقةٍ سقطت من فرعها، فلم يعُد لها إلا أن تذبُل وتَذوي وتجفَّ لتُبددها الريح. وانظر إلى الشاعر في رؤيته لكائنات الطبيعة، يأخذه الفزعُ إذا تناول العلم كائنًا منها بمبضع التشريح، وذلك لأن المتصوف والشاعر ومن إليهما، يحملون في صدورهم فطرةً تكره التحليل، بل وتكره الحساب الذي يحرص على الدنانير والدراهم جمعًا وطرحًا وضربًا وقسمةً وكسورًا، بل ويكره «الدقة» بكل أنواعها، يضيق صدرًا إذا حسبتَ له الزمن بالدقيقة والثانية. ولستُ أملك في هذه المناسبة إلا أن أروي نادرةً وقعَت لي في خبرتي، وهي تشرحُ مثل هذا المزاج في واقعةٍ وقعَت؛ فقد دُعيتُ مع أحد الزملاء ذات يومٍ لنؤدي إذاعةً مشتركة، وكان زميلي ممن يكرهون التقيُّد بما يتقيد به الناس في حساب الوقت. ولمَّا أراد أن يستطرد في حديثه المذاع استطرادًا يتطلَّب بضع ساعات، قال له المذيع إنه مُضطَر أن ينحصر حديثنا كله في ساعةٍ واحدة طولها ستون دقيقة، فهاج الزميل وماج، مستنكرًا أن يخضع «الفكر» لقيود الزمن! إنه مزاجٌ بشريٌّ يمقُت دقة العلم.

والذي نريد لهذا الحديث أن يحمله إلى قارئه، هو أن يرى ضرورة الرؤية الموحدة لما هو واحد، جنبًا إلى جنب مع ضرورة أن نجزِّئ ذلك الموحَّد إلى عناصره لنفهمه، هما عمليتان تُكمل إحداهما الأخرى في النظرة المتكاملة. وابدأ بشخصك ثم اصعد بفكرك درجةً درجة؛ فأنت كما ترى نفسك فردٌ متفرد، لا تشك في ذلك حتى لو أنكرته عليك الدنيا بأَسْرها، لكنك في الوقت نفسه جزء من أُسرة، وأُسرتك جزء من مجموعة الناس، لا ينبغي لفرديتك أن تذوب في أيٍّ من هذه الجماعات التي أنت جزء منها؛ لأنك مسئولٌ بفردك أمام الله يوم الحساب، كلا ولا هو مستطاعٌ لك في الوقت نفسه أن تنعزل جزءًا مستقلًّا بذاته، وكأنه قلامةُ ظُفر لم تعُد تتغذَّى ولا تنمو، ثم انظر حولك، فأنَّى وجَّهتَ البصر، رأيتَ الحقيقة نفسها التي رأيتها في شخصك؛ أفرادًا في جماعات، والجماعات أجزاء من جماعات أشمل، فانفراد الفرد في عزلةٍ مطلَقة يقتله، وذوبان الفرد في غيره ذوبانًا مطلقًا يُفنيه، فلا بد له من اتصال وانفصال معًا، كالنقطة في الخط، والخلية في الجسم الحي، وكالجملة في الصفحة، والصفحة في الكتاب.

ليس فيما ذكرناه شيءٌ من فكرة «التوحيد» بمعناها الديني، لكنها إشعاعات من تلك الفكرة الجليلة رأيناها في الإنسان وحياته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤