جمود الفكر مَا معناه؟

وقفت طويلًا طويلًا عند قول الله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا؛ إذ قلتُ لنفسي: ما الذي تعلَّمه آدم عليه السلام حين تعلَّم الأسماء؟ إن أوَّل ما يَرِد على الخاطر جوابًا عن هذا السؤال، هو أنه لُقنَّ بالوحي بأن هذا الحيوان كبشٌ، وذلك قط، وأن هذا النبات شجرةٌ وذلك عُشب وهلُمَّ جرًّا، فمن المفروض المعلوم أن الحيوان والنبات كائناتٌ وُجدَت قبل أن ينزل آدم عليه السلام إلى الأرض لتبدأ بنزوله أُسرة البشر. لكن هذا المعنى المباشر ﻟﻠ «أسماء» التي تعلَّمها آدم عليه السلام أضيقُ جدًّا مما يمكن أن يكون قد تعلمه بالفعل؛ لأن كل اسمٍ من الأسماء في هذه الحالة لم يكن ليزيد عن كونه مشيرًا إلى فرد واحد من أفراد نوعه؛ فاسم «كبش» عند تعلمه لأول مرة، يُشير إلى «هذا» الكبش الذي أمام المتعلم، واسم «شجرة» يُشير إلى «هذه» الشجرة التي يراها بين يدَيه؟ فماذا لو تحرك الكبش وغاب عن البصر، وماذا لو تحرك المتعلم من مكانه فرأى شجرةً غير الشجرة الأولى، أو رأى كبشًا آخر غير الكبش الذي غاب؟ إذن فلا بد أن تكون النقطة الأولى التي نلحظُها هنا، هي أن «الأسماء التي تعلَّمها آدم عليه السلام هي أسماء «الأنواع» ولا يقتصر الاسم منها على فردٍ واحد من أفراد نوعه».

لكن هذه النقطة الأولى — التي قد تبدو يسيرةً هينة عند إدراكها — ستُدخلنا في عالمٍ فسيح الأرجاء من الفكر، وعن «الفكر» وطبيعته. قد يريد القارئ أن يعلم بأن شطرًا كبيرًا مما سنذكُره فيما يلي عن العالم الفكري الغني، الذي ستكون بوابة الدخول إلى رحابه، وهي تلك النقطة اليسيرة الهينة التي ذكرناها، أقول إن القارئ قد يريد أن يعلم بأن شطرًا كبيرًا من هذا العالم الفسيح الذي نحن الآن بصدد الدخول فيه، هو من نتاج هذا العصر، ولا أظن أن شيئًا منه قد عَرفَه الآباء الأولون، إلا أنه مع حداثة ظهوره يغوص بنا إلى أعماقٍ بعيدة، تترتَّب كلها على أن يكون كل اسمٍ من الأسماء التي تعلَّمها أبو البشر، دالٌّ على «نوع» بأَسْره وليس هو بالاسم الذي يُطلَق على فردٍ واحد معين، كاسم «آدم» واسم «حواء» — مثلًا — لأن الاسم في هذه الحالة الأخيرة يُسمِّي صاحبه دون غيره من أفراد نوعه.

وقبل أن ننتقل إلى تفصيلاتِ ما نريد أن نعرضه في هذا الحديث، يحسُن أن نُضيف نقطتَين إلى التمهيد الذي أسلفناه؛ الأولى هي أن «الأسماء» التي علَّمها الله سبحانه وتعالى لآدم عليه السلام قد تعني (كما ذكر ابن جني في كتابه «الخصائص») أن الخالق جلَّت قدرته، قد أمدَّ آدم بجهاز اللغة، وهو جهازٌ يتميز به دون سائر الكائنات جميعًا؛ فليس المقصود — إذن — هو أن الله عز وجل قد علَّم آدم قائمةً معينة من أسماء الأشياء، بل المقصود هو أن جعل له بين قدراته أن ينطق بأصواتٍ مصوغة على نحوٍ يمكِّنها من أن تكون وسيطًا رمزيًّا يتفاهم فيه الفرد من الناس مع غيره من الأفراد، وذلك حينما تأخذ الأُسرة «البشرية» في التكاثُر، وإننا لنرى في مثل هذا الفهم للآية الكريمة وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا أي إنه وهبه القدرة على إنشاء لغة للتفاهم، فهمًا يحلُّ لنا مشكلاتٍ كثيرة نتعرض لها إذا نحن أخذنا تعلُّم «الأسماء» على أنه يعني الإيحاء إلى آدم — وبنيه من بعده — باسمٍ معين بكل شيءٍ معين من الأشياء التي يُصادفها الإنسان في حياته الدنيا؛ فأولًا: لو كانت أسماء الأشياء وحيًا من الله سبحانه وتعالى يُوجِّه به الإنسان في تسمية الأشياء بأسمائها (وهو ما عبَّر عنه القدماء بقولهم إن اللغة «توقيف») لأشكل علينا — أولًا — تعدُّد اللغات؛ فاللغات كثيرة، ولكل لغةٍ منها قاموسها الخاص فيما اختارته للأشياء من أسماء، ثم أشكل علينا — ثانيًا — ما قد يُستحدث في حياة الإنسان من أشياءَ لم تكن قد ظَهرتْ في حياته من قبلُ، وتحتاج إلى أن يُخصِّص لها الإنسان أسماءها لتجري بين الناس في لغة التفاهم، ولأشكل علينا — ثالثًا — أن «الأسماء» وحدها لا تكفي لإيجاد لغة بين الناس؛ لأن اللغة لا بد لها أن تربط الأسماء بعضها ببعض بأفعال وحروف، وإلا لما استطاع الإنسان — بالأسماء وحدها — أن يُكوِّن «فكرة» واحدة عن أي شيء، ينقلها إلى من يَحيَون معه من بني الإنسان؛ إذ الحد الأدنى لإقامة «فكرة» هو طرفان موصولان أحدهما بالآخر وصلًا يجعل منهما مركبًا ذهنيًّا، كأن تقول «الشمس مشرقة» أو «الشجرة بلا ثمر» أو أي جملةٍ شئتَ تركيبها لتنقل بها «فكرة» إلى من تُحادثه.

تلك — إذن — إحدى النقطتَين اللتَين أردنا إضافتهما إلى التمهيد، قبل البدء في تفصيلِ ما أردنا عرضه. وأما النقطة الثانية فهي أن تَعلُّم آدم عليه السلام للأسماء كلها وحيًا من الخالق عز وجل، فضلًا عن أنه قد يُشير إلى استعداده الفطري لتعلُّم «اللغة»، وهو استعداد ينفرد به دون سائر الخلق أجمعين، فهو كذلك قد يُشير على ما هو أوسعُ نطاقًا من اللغة، وأعني استعداد الإنسان الفطري لاستخدام «الرمز» — لغةً وغير لغةٍ بمعنى أن تصطلح مجموعةٌ من الناس على أي شيءٍ يختارونه — صوتًا كان أو شيئًا مجسَّدًا كائنًا ما كان ليرمزوا به إلى معنًى يريدونه؟ أو بعبارةٍ أخرى أن يصطلح الناس على رمزٍ معيَّن ينوب فيما بينهم عن شيءٍ غير موجود بين أيديهم وعلى موقعٍ من مواقع حواسِّهم. وما كلمات اللغة إلا مجموعة من رموز — منطوقة أو مكتوبة — تَرسمُ في ذهن المتلقي تصوُّرًا لما ليس في نطاق معرفته المباشرة بحواسِّه، فهي ترسمُ له تصوُّراتٍ عما حدَث في «الماضي» مع أن الماضي قد دثَّره الزمن، أو تصوُّرات عن المستقبل، مع أن المستقبل لم يُولَد بعدُ، أو تصوراتٍ عن البعيد الذي لا يدركه بصر ولا سمع، أو تصوراتٍ عن مواقفَ وأشياءَ مُتخيَّلة ولا وجود لها في دنيا الواقع لا ماضيًا، ولا حاضرًا، ولا مستقبلًا. ولقد جاء هذا الاستعداد الفطري عند الإنسان ابتداءً من آدم إلى البشر، مميزًا للإنسان، بل لعله أهم ما تميز به الإنسان عن سائر خلق الله على الإطلاق؛ لأننا إذا قلنا إنه يتميز ﺑ «العقل» فالعقل مظهره هو أن تجري معقولاته في عباراتٍ واستدلالات، تقوم كلها على رموز «رموزٍ لغوية ورموز رياضيةٍّ …» وإذا قلنا عن الإنسان إن أهم ما يُميِّزه قدرته على «الخيال»؛ فالتخيُّل لا يتم له وجودٌ اجتماعيٌّ إلا بأن يُرسم في كلمات، وهكذا. واختصارًا فإن قدرة الإنسان على استخدام «الرمز» الدال على غائب، قد مكَّنه من تحطيم القيود التي يفرضُها التقيد بنقطةٍ معينة من «المكان» أو بلحظةٍ معينة من «الزمان»، فإذا كان النباتُ والحيوان كله مرتبطٌ في مدركاته بمكانه المحدود وبزمانه المحدود؛ فالإنسان وحده هو الذي يطير بخياله فوق حواجز المكان والزمان، إلى ما أراد الطيرانُ إليه مما لم يقع عليه سمعٌ ولا بصر. وتلك القدرة التي أرادها الله سبحانه وتعالى بدأَت برموز «الأسماء» التي تلقَّاها آدم عليه السلام وحيًا من ربه، أيًّا كانت الطريقة التي نفهم بها معنى الآية الكريمة: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا.

والآن فلننتقل بعد هذا التمهيد إلى ما نُريد عرضه على القارئ. تحليلًا لما نعنيه ﺑ «جمود الفكر»، وما يؤدي إلى حدوثه، فلقَد أسلفنا لكَ فيما ذكرناه، أننا لو استبعَدنا مؤقتًا تلك الأسماء التي يُسمِّي كلُّ واحدٍ منها كائنًا واحدًا محددًا، من أفراد الناس أو من مفردات الأشياء، كأن نقول «حافظ إبراهيم» أو «نهر النيل»؛ فبالاسم الأول نشير إلى إنسانٍ بعينه، وبالاسم الثاني نُشير إلى نهرٍ بعينه، فكل مفرداتِ اللغة بعد ذلك «التجرُّد» مِن انحباسها في فردٍ معيَّن محددٍ معلوم المكان والزمان، لتُصبح دالةً على «تصوُّر ذهني» نُطلِقه أينما وجدنا الكائن الذي تنطبق عليه تلك الصورة الذهنية، وفي أي وقتٍ وجدناه، فإذا كان الاسم الذي بين أيدينا هو «خشب» لم يكن هذا الاسم في حقيقة أمره مشيرًا إلى شيءٍ مفرد موجود هنا أو هناك، بل كان في حقيقته تكثيفًا لجملةٍ كاملة مضمونها مجموعة الصفات والخصائص، التي إذا وجدناها متمثلةً في كائنٍ بعينه مما نُصادفه في حياتنا العملية، قلنا عن ذلك الكائن إنه «خشب». وقد لا يصادف أحدنا قط في حياته شيئًا يتجمَّع فيه تلك الصفات والخصائص، فعندئذٍ يظل التصوُّر الذهني في هذه الحالة معلقًا لم يجد له في دنيا الأشياء ما يُجسِّد معناه. ورجائي من القارئ ألا يتعجل القراءة عند هذه الفقرة التي أسلفناها؛ لأن مضمون معناها ركيزةٌ بالغة الأهمية في إمساكنا بمحورٍ خطيرٍ من المحاور التي تدلُّنا على طبيعة الإنسان المتميزة؛ ولهذا أُكرِّر القول بأن مفردات اللغة التي نظُن أنها «أسماء» لأشياء، هي في الحقيقة صورٌ مكثفة ﻟ «جُمل» كل جملةٍ منها مركَّبة من عدة أطراف، أو قل هي تصوراتٌ ترتسم في الأذهان، كل تصوُّرٍ منها فيه صورةٌ مركبة من عناصرَ عدة يجتمع بعضها إلى بعض ليدُل على ما عسانا واجدوه في شيءٍ معين، فنعلم أن هذا الشيء تنطبق عليه تلك الصورة الذهنية، وقد نجد أو لا نجد ذلك الشيء في مجرى حياتنا العملية، لكن ذلك لا ينقُص شيئًا من قيام الصورة المتخيَّلة المعلَّقة في أذهاننا.

وما معنى ذلك، وما الذي يهمُّنا منه؟ معناه أن الله سبحانه وتعالى، حين وهب آدم عليه السلام — ووهب بنيه من بعده — القدرةَ على استخدام «الأسماء» (أي اللغة) في تمييزه للأشياء بعضها من بعض، كان بذلك قد وهبَه قدرةً عظيمة متضمَّنة في عملية التسمية هذه، وهي القدرة على «التجريد»؛ أي القدرة على مجاوزة الفرد الواحد المتعيَّن، بأن يستخلص من ذلك الفرد صفاته وخصائصه الأساسية؛ ليُركِّبها معًا في صورةٍ ذهنيةٍ متخيَّلة، هي التي يحتفظ بها لتكون أداتَه في تمييز الأشياء التي قد يستخدمها بعد ذلك في حياته العملية؛ فالانتقال من الموقف الفرد المتعين، إلى صورةٍ ذهنية عن مميِّزاته من الخصائص والصفات، هو انتقال من المحدود إلى اللامحدود؛ لأن الأول مقيدٌ بزمانه ومكانه، وأما الثاني فيُجاوِز حدود المكان والزمان، فماذا لو أصرَّ إنسان على أن يُقيِّد اسمًا بمُسمَّاه الفرد الذي رآه أول مرة، كأن أُعلِّم طفلًا بأن كلمة «قلم» تُطلَق على هذا الشيء الذي تراه في يدي، فعاش الطفل حياته والكلمة لا تعني إلا ذلك القلم الذي كان رآه في يد معلمه؟ بعبارةٍ أخرى: ماذا لو عجز ذلك الطفل عن عملية «التجريد» التي تنقلُ اسم «قلم» — من قلمٍ واحد مفرد معين — إلى أي قلم يُصادفه بعد ذلك مجسِّدًا للصورة الذهنية التي يحملُها في رأسه؟ ألا تراه بهذا العجز يخرجُ من نوع الإنسان ليندرج مع الحيوان الأعجم في طريقة إدراكه التي يظل بها حبيس لحظته من الزمان وموضعه من المكان؟ إن الله سبحانه قد علَّم آدم الأسماء كلها، فعلَّمه — بذلك نفسِه — كيف يتجرَّد من قيود مكانه وزمانه؛ لأنه لولا «الأسماء» لظل الكبش هو فقط الكبش الأول الذي رآه، ولكانت الشجرة هي فقط الشجرة الأولى التي كانت في موقع بصره عندما سمع اسم «شجرة» لأول مرة.

نقلة الإدراك من انحصار «الاسم» في جزئيةٍ واحدة، إلى امتداده عبر حواجز المكان والزمان ليُسمِّي مسماه أينما كان وحيثما كان، هي نقلة الإنسان من المحدود إلى اللامحدود، من التقيد إلى التحرر، من انكباب الحواس على الواقع الأرضي إلى ارتفاع العقل والخيال معًا إلى آفاقٍ بعد آفاق، من الزوال والفناء إلى البقاء والخلود، لماذا؟ لأن الجزئي الواحد الذي يقع عليه البصر، أو يتلقَّاه السمع، لا يلبث أن يزول مع زوال لحظته، أما الفكرة المجرَّدة التي نستخلصها منه، فهي كائنٌ عقليٌّ لا مكان له ولا زمان. إنها تشبه القانون العلمي — كقانون الجاذبية مثلًا — في قابلية العمل كلما وردَت ظروف انطباقها واستخدامها. وهذا الفرق ذاته الذي نراه بين تقيُّد الإنسان بالجزئي العابر، وبين إنسانٍ يستخلص من الجزئي «فكرته» النظرية لتبقى للإنسانية كلها ذخرًا ما بقي على الأرض إنسان، هو كذلك فرقٌ نراه بين رجلَين؛ أحدُهما تلقى ما خلَّفه لنا آباؤنا من كتب، فحفِظ مكنونَها، ووقَف عند كلماتها وحروفها، لا يريد — بل ربما لا يستطيع — أن يتزحزح عنها قَدْر أنملَة؛ فذلك هو علمه ومداه، كلما أُثيرت أمامه مشكلة أفرزتها الحياة للناس، تتحدَّاهم لاجتيازها، بحث صاحبنا في محفوظه عن جملة أو فقرة تتلاءم مع طبيعة المشكلة الناشئة وراح يُعيد على أسماع الناس محفوظه، وانصرف إلى داره مستريح البال مطمئن الضمير، مع أنه قد ترك الناس على حالهم؛ فالمشكلة هي المشكلة كما كانت، لم يُغيِّر منها شيئًا أن أسمعَهم الحافظ جملةً أو فقرةً مما كان حفظه من إرث الآباء. وأما الرجل الثاني فهو «يدرس» إرث الآباء مع ما يدرسه، لا ﻟ «يحفظ» أسطُره وكلماته وكفى، بل ليستخلص من تلك الأسطر والكلمات صُورَها «المجردة»؛ أي ليستخلص منها ما يُشبِه القوانين العلمية، التي تُصبح في أيدي الدارسين أدواتٍ فكريةً نظرية تُطبَّق حيث تنطبق، فلم يعُد المعوَّل على «مضمون» النص القديم في جزئيته، بل يُصبح المُعوَّل على الإطار النظري الذي كمُن ذلك المضمون الجزئي بين ركائزه. إن الفرق بين هذين الرجلين، هو نفسه الفرق الذي رأيناه بين من تعلَّم اسم «الكبش» أو «الشجرة»، مشيرين له إلى كبشٍ واحد معين — أو إلى شجرةٍ واحدةٍ معينة — فحبس نفسه في الجزئي الواحد الذي رآه، برغم سرعة زوال ذلك الجزئي وفنائه، بل إن من أعجب العجب في حياتنا الثقافية العربية الحاضرة، أنه بات نوعًا من العجز والقصور أن يلوذ مفكرٌ إلى الأفكار المجرَّدة، يستخلصها من الوقائع الجزئية العابرة، فترى «المثقفين» منَّا اليوم يعيبون عليه مثل هذا التجرُّد؛ لأنهم يريدونه معهم في سجن الجزئية الواحدة، ويغيظهم أن يُحطِّم جدران الواقع الجزئي ليعلو، وهو إذ يعلو، فإنما يفعل ذلك، ليضع نفسه في موقعٍ يمكنه من رؤية الواقع من خارجه، فتجيء رؤيته أدق وأوضح ممن يراه من داخله؛ ولذلك تراه أقدَر من سواه على معرفةِ مواضع الصواب من مواضع الخطأ في ذلك الواقع الجزئي المتعين المحدود.

وها هنا نضع أصابعنا على حقيقة «الجمود الفكري» ومعناه؛ فهو — أساسًا — وقوفٌ عند الواقع الجزئي، عجزًا عن استخلاص ما يمكن استخلاصُه من صُورٍ نظرية تصلُح أن تنتقل لتطبيق، على واقعٍ جزئي آخر، اختلف مادةً عن سابقة، واتفق صورة. وهذا الذي نقوله هو بعضُ ما يقصده القائلون بأن إدراكنا ﻟ «روح» النص أهم من إدراكنا ﻟ «حروفه».

وتشاء سخرية التاريخ أن نجد سجناءَ النصوص فيمن يقتفون تُراث آبائنا العرب الأولين، لقد جاءوا ليكونوا على النقيض تمامًا من هؤلاء الآباء؛ لأن الفكر العربي وهو في عزِّ مجده إبَّان القرون الأولى من تاريخه الإسلامي، إذا وُصِف على سبيل الاختصار بصفةٍ أساسية واحدة، من ناحية شكله المنطقي لا من ناحية مضمونه، لَقيل عنه (في رأي هذا الكاتب) إنه فكرٌ يرتكز على الواقع الجزئي ليقفز منه إلى ما وراءه من صورٍ مجردةٍ. ولا عجب أن برع العرب في علوم الرياضة، براعةً جعلَتْهم يبتكرون علم الجبر، ابتكارًا بعد أن لم يكن، ويبتكرون فكرة «الصفر» كذلك لأول مرة في تاريخ العلم. وأما «الصفر» فسل عنه علماء الرياضة ليبينوا لك كم كان ارتفاعُ القفزة التي قفزتها فكرة «العدد» بفضل هذا الابتكار الرياضي العجيب؛ فقد كان الناس قبله مُضطَرين أن يجعلوا لكل عددٍ في سلسلة الأعداد رسمًا خاصًّا به. وانظر كيف تتعقَّد رسوم الأرقام إذا جعلنا لكل عددٍ رسمه الخاص، فجاء العربي وطار على جناح «التجديد» الذي تميَّز به فإذا به يعود إلى الناس قائلًا إنه تكفينا الأرقام التسعة الأولى فقط، ذا نحن استخدمنا فكرة «الصفر». وأما علم الجبر — وما تزال اللغات الأوروبية تحتفظ له باسمه العربي — فهو معجزةٌ أخرى من معجزات التجريد العقلي. ولكي أُوضِّح لك ذلك، أسوق لك هذا المثل البسيط: قارن بين هذه الخطوات الثلاث الآتية، في وصف حقيقةٍ واحدة، ففي الخطوة الأولى يرى الرائي رجلين وثلاثة رجال، فيقول إن مجموع القسمين هو خمسة رجال، وفي الخطوة الثانية يجيء علم الحساب فيقول ٢ + ٣ = ٥ وبقوله هذا يكون قد أزاح عن نفسه قيدًا يضطره إلى الاقتصار على «الرجال»؛ لأن الصيغة الحسابية قد مكَّنتْنا من أن يتسع مجال التطبيق ليشمل أي مجموعتَين، تكون إحداهما ثنائية الأعضاء، والأخرى ثلاثية الأعضاء؛ فأيًّا ما كانت طبائع المفردات، إذا ما ضممنا المجموعة الثنائية إلى المجموعة الثلاثية، كان حاصل الجمع مجموعةً خماسية من نوع المفردات التي تكون موضع النظر. وعند هذه الصيغة الحسابية وقف التاريخ العلمي إلى أن جاء العربي بقدرته على «التجريد» فابتكر «علم الجبر» الذي به تستطيع أن تعلو درجة في سماء التجريد على علم الحساب، بأن تُحلَّ محل الأعداد رموزًا من أحرف الألف باء، فتقول في هذه الحالة التي نحن بصددها: س + ص = م، وهنا تبلغ أقصى درجات الحرية الفكرية؛ لأنك لم تعد مقيَّدًا بصنف «الرجال» كصاحب المرحلة الأولى، ولا مقيدًا بصنف الأعداد كصاحب المرحلة الثانية، بل أصبحتَ أمام رموزٍ تتيح لك أن تملأ الخانات بحريةٍ أوسع؛ فحتى إذا فرضنا أن حاصل الجمع مطلوب له أن يكون «خمسة» لتسهل مقارنة هذه المرحلة الجديدة بالمرحلتَين السابقتَين، فنستطيع أن نتحرك في افتراضات أكثر عددًا؛ لأن «الخمسة» يمكن تحقيقها بالحالات الآتية: (صفر + ٥ = ٥) و(١ + ٤ = ٥) و(٢ + ٣ = ٥) و(٣ + ٢ = ٥) و(٤ + ١ = ٥) و(٥ + صفر = ٥).

ودَقِّق النظر في الإنتاج الفكري عند العربي الأول، تَجدِ النزعة إلى التجديد متمثلةً في كل ميادين الإبداع، حتى في الأدب والفن اللذَين يتميزان ﺑ «التفريد»؛ فالعربي في أدبه يُكثِّف خبراته تكثيفًا ليضع أغزر موقفٍ خبري في أقصر عبارةٍ ممكنة؛ ومن هنا كثُرت الأقوال الحِكمية فيما كتبوه نثرًا أو نظموه شعرًا. وأما صفة «التفرد» التي هي من أخص خصائص الأدب والفن، فتتحقَّق عنده أولًا بطبيعة الخبرة التي يعرضها؛ لأنها خبرةٌ انتزعها من تجارب حياته، وثانيًا في طريقة سبكها. ولكَ أن تقارن بين أديب اليوم الذي تأثرَّ بآداب الغرب (ولا عيب في ذلك، بل هو حسنةٌ نحسبها للأديب المعاصر) أن تُقارِنه بأديب الأمس؛ فالشاعر اليوم يضع لنا تجربته في صورةٍ تَحفظُ لها فردية صاحبها، ولا تكادُ تقع على سطرٍ واحد في القصيدة يحمل المتلقي على «حفظه» لما فيه من «حكمة» يصحُّ له أن يسترشد بها في حياته، أو أديب النثر المعاصر قد تحوَّل بقوته الإبداعية إلى «الرواية» و«القصة» و«المسرحية» وكلها قائم على «شخصيات» تُرسم في فردياتها وتمايزها. وأما أديب الأمس — شاعرًا وناثرًا — فليس موضوعه «أفرادًا» إلا في القليل النادر، بل هو يستهدف أن يصل إلى جوهر العبقرية في اللغة ذاتها، وذلك من حيث الشكل، وأما من حيث الموضوع، فهدفه حكمة الحياة وقيمها، وهو يُصوِّر هذه القيم إيجابًا بالمدح — وسلبًا بالهجاء. واختصارًا فإنه إذا كان الأديب العصري ينشُد «المثل» ليعرضه على الناس، فقد كان سلفه العربي ينشُد «المثال».

الفكرة المجرَّدة تبقى مع الزمن، وإنها مع الأيام لتنمو وتَغزر تفصيلاتها، وأما أمثلتُها الجزئية المجسَّدة في أحداث التاريخ فتزول وتختفي. خذ فكرة «الحرية» — مثلًا — فهي على أرض الواقع التاريخي مُتمثلة في أفرادٍ يَحيَونها مُجزأة في صورٍ مختلفة؛ فقد تتمثل في سياسي يسعى إلى حرية الإنسان في التعبير عمَّا يراه صوابًا، بما في ذلك حق الأغلبية في أن يكون قرارها حاسمًا، كلما كانت هناك هيئةٌ عامة تريد أن تصل إلى قرار في موضوعٍ معروض للنظر؛ فلكل عضوٍ حق التصريح برأيه، وإذا اختلفت الآراء كان رأي الأغلبية نافذًا. لكن فكرة الحرية قد تتمثل أيضًا في شاعرٍ يتمرَّد على الصور التقليدية للشعر، ويريد أنه يختط لنفسه خطًّا جديدًا، أو تتمثَّل فكرة الحرية في رجلٍ من رجال الاقتصاد يريد للتجارة أن تنساب في قنواتها تصديرًا واستيرادًا دون أن تتدخل فيها الدول بقوانينها. وهكذا تتعدد «الأمثلة» الجزئية التي تقع بالفعل في حياة الناس الجارية. لكنها إذا وقفَت عند هذا المستوى الواقعي المحدود بحدوده، لظلَّت الفكرة على مضمونٍ واحد وتعريفٍ واحد آلاف السنين، لكنها لحسن الحظ لا تقف عند هذا الحد بل يتناولها المفكرون على مستوى التجريد، فيتصورون لها آفاقًا أوسع، فأوسع، فأوسع، وبهذا تنمو على مر الزمن وتزداد عمقًا؛ فقد كان إنسان العصر الحجري «حرًّا» بمعنًى من المعاني، وجاءت مراحل الحضارة بعد ذلك حضارة بعد حضارة، ومع كل مرحلة — بوجهٍ عام — يزداد الإنسان طموحًا نحو معنًى جديد يُضاف إلى معانيها. ومع هذا التدريج الصاعد يبقى «اسم» الحرية كما هو مع تغيُّر مسماه نماءً واتساعًا، وما كان ليحدث هذا، لو حبس الإنسان نفسه منذ أول مرحلة من مراحل حياته، في مسمًّى محدد بجزئيته وزمانه ومكانه، لكنه «التجريد» بصعوده فوق الواقع العابر، يُدرِك جوهر الفكرة دون تفصيلاتها، فيزداد قدرةً على توليد المعاني من ذلك المنجم الذي لا ينفَد. وانظر على هذا الضوء، إلى من يهزُّ لك كتفَيه ساخرًا، إذا ما قلتَ له إن عصرنا قد فهم الحرية الإنسانية على صورةٍ أوسع، فيجيبك الساخر بأن سلفنا سبق عصرك هذا إلى الحرية، فأنت من معارضك عندئذٍ أمام رجلٍ جمَّد تعريف الحرية عند عصر من عصورها، مما يُوضِّح لك ما أردناه من تحديدٍ لمعنى الجمود الفكري.

وأحسب أن لو عاد آباءٌ عرب من آبائنا، ذوي العزيمة التي اخترقوا بها الآفاق، وسمعوا من أبنائهم ما يخونون به الأمانة العربية من حيث أرادوا تمجيدها لصمُّوا آذانهم في عتاب وتأديب، ليوقظوهم من غفوة توهَّموها صحوة، فأوشك أن يفلت منهم القديم والجديد معًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤