فكر على فكرٍ

١

لا أذكر كَمْ مرةً عرضتُها بين يدَي القارئ، كلَّا، ولا أدري كم بلغ ذلك الذي عرضتُه من مسامع القارئين، ودع عنك أن يكون قد انتقل عندهم من الآذان ليصل إلى القلوب والعقول، فيثمر ما أردنا له أن يثمره من تغيُّر، ولكنِّي على يقين من أنِّي ذكرتُها أكثر من مرةٍ واحدة. إذن فلتكن هذه هي المرة الثالثة؛ فللصورة التي عرضتُها أهمية في ذاتها، ثم هي على صلةٍ وثيقةٍ بما أعتزم عرضه في هذا الحديث، وأعني بها صورة العلاقة بين الحياة الفعلية كما يعيشها الناس في البيت والمسجد والشارع والمزرعة والمصنع والديوان، وبين ما يُبدِعه المبدعون مما نُطلِق عليه اسم «الثقافة»، يُبدِعونه أنغامًا وألوانًا وكلمات وصخورًا تُنحَت وتُقام منها العمائر. ولستُ أظن أن ثَمَّةَ ألفاظًا كثيرة مما تجري به الأقلام، تُنافِس لفظة «ثقافة» في كثرة جريانها. ومع ذلك فلست أظن أن واحدة من تلك الألفاظ المكرورة، تُصاب بغموضِ معناها بمثل ما تُصاب لفظة «ثقافة».

ومن هنا كثُر المتحدثون عنها بالشفاه أو بالأقلام، كلٌّ منهم يتحدث وكأن ما يُقدِّمه هو اليقين الذي يقطع الشكوك ويُوضِّح الغموض. إلا أنك إذا تدبَّرتَ كثيرًا مما يُقال عنها، أخذكَ العجب، بل وأعجب العجب، من ذلك أني سمعتُ أستاذًا ضخمًا بلغ من ضخامته أن أصبح ذاتَ يومٍ صاحب حلٍّ وعقد في رفعةِ منصبه، سمعتُه يُحدِّد معنى الثقافة بأنها صور الحياة كما يحياها الناس بالفعل، ماذا يأكلون وكيف يأكلون؟ ماذا يلبسون ومتى يلبسون؟ بماذا يدينون وكيف يعبدون؟ على أية صورة تُقام الأسرة كيف يزرعون وكيف يتاجرون وماذا يصنعون؟ وهكذا يتسع القول في «ثقافتهم» أو يضيق، ما ضاقت طرائق العيش فيهم أو اتسعت! ولو وقف الأستاذ الضخم صاحب المنصب الرفيع عند هذا الحد من القول، لقلنا إنه لا بد يعلم بقية الصورة، ولكنه يسكت عن ذكرها، لكنه أضاف إلى قوله المذكور سخريةً ساخرةً ممن يظنون أن اسم «الثقافة» يُسمَّى بين ما يسميه «الفن» و«الأدب» وما يجري مجراهما. وها هنا ندَّت مني شهقة، ثم أسرعتُ فكتمتُ الدهشة في صدري؛ إذ ماذا أقول وماذا أعيد؟

وكانت الصورة القلمية التي عرضتُها بين يدَي القارئ أكثر من مرة، ترسمُ على وجه الدقة والوضوح، العلاقةَ الضرورية والحتمية، التي تربط جوانب الحياة العملية كما يحياها الناس بالفعل، من جهة؛ فليس الأمر في «الثقافة» ومعناها، هو أنها إما أن تكون هي نفسها أوضاع الحياة المعاشة، وإما أن تكون ما يُقام على تلك الحياة الفعلية من مبدعات؛ فحقيقة الأمر في ذلك هي أننا أمام جسمٍ حي في ناحية، وعدة مرايا حوله تعكس صورته، كل مرآةٍ منها لها طريقتها في عرض الصورة. ومن حق أي إنسانٍ أن يحيا حياته العملية مكتفيًا بها فيقف عند حدودها، وعندئذٍ فلا «علم» لديه ولا «فكرة» ولا «فن» ولا «أدب»؛ وبالتالي فهو يحيا حياته دون أن يكون على وعيٍ بقيمتها نقصًا أو كمالًا، بل إن الكثرة الغالبة من جمهور شعبنا هي من هذا القبيل.

لكنَّ هنالك أفرادًا من الشعب، قد أتاحت لهم ظروفهم الدراسية أن يقرءوا عن تلك الحياة العملية كما يَحيَونها، دراساتٍ «علمية» (تنَبه — أرجوك — إلى كلمة «علمية») تُحلِّل تلك الحياة، وتُصِنفها، لتصف أُسسها، ونُظمها، وصفًا «علميًّا» إحصائيًّا دقيقًا، وعندئذٍ تندرج أمثال هذه الدراسة تحت ما يسمُّونه أنثروبولوجيا إذا كانت الدراسة قد انصبَّت — بصفةٍ خاصة — على الحياة البدائية في الجماعات المتخلفة، أو تندرج تحت علم الاجتماع إذا اتجهَت العناية نحو حياة الإنسان في جماعة، أيًّا كان مكانها وزمانها. ويبدو أن الأستاذ الضخم الذي أشرنا إليه، كان قد ظَفِر بشيءٍ من دراسة الحياة الاجتماعية في إحدى صورتَيها، فظن أن ما ظفِر به هو نهاية الطريق في تصوير الحياة كما هي جارية، أو كما جرت في جماعةٍ معينة ذات يوم.

غير أن الطريق في وصف الحياة الإنسانية لا ينتهي عند محطة الوصول الذي نزل عندها صاحبنا من القطار؛ إذ تبقى بقيةٌ ذات وزن وقيمة، حُرم منها صاحبنا فظنها معدومة. ولو أن حظه قد أتاح له البقاء في القطار مدةً أطول، لشهد آفاقًا تتسع أمام عينَيه وعلى مسمعٍ من أذنَيه، وهي آفاق المبدعات الثقافية، التي تقف من الحياة الفعلية موقف المرايا، فإذا كان صاحبنا لم ينعم إلا بمرآة البحث العلمي، في علم الأنثروبولوجيا، أو في علم الاجتماع بصفةٍ عامة، فليعلم أن هنالك ضروبًا عديدة أخرى من تصوير تلك الحياة الاجتماعية نفسها، ولكن بوسائلَ مختلفة، تُصوِّرها الموسيقى بلغة الألحان، ويُصوِّرها فن التصوير بلغة الخطوط والألوان، ويُصوِّرها الشعر بلغة الكلمات، وتُصوِّرها المسرحية والرواية بلغة الحكاية التي تعرض أفرادًا يتفاعلون في مواقفَ معينة تفاعلًا يُبرز الحقائق الخافية من طبيعة الإنسان، وهكذا، فإذا سئلنا بعد هذا الشرح: ماذا تعني «الثقافة»؟ كان جوابنا هو أنها وهي مجسَّدة تأتي في صورة ما يحياه الناس بالفعل من نُظم وعقائد وطرائق عيش، أما وهي في تصويرٍ يعكسها، لا كما تبدو للأعين فعلًا بفعل وحرفًا بحرف، بل يعكسها في صورٍ يبدعها الخيال إبداعًا، لكنه إبداعٌ يجلو حقيقة لبِّها وجوهرها، مما يخفي على العين المجردة عند من يَحيونها. وإن المتلقِّي لتلك المبدَعات ليبلُغ منها مداها، إذا هو غاص في أعماقها ليُخرج الدرة الخبيئة في تلك الأعماق، والأغلب ألا يستطيع ذلك إلا مُتلقٍّ قادرٌ على حسن الفهم لما تلقَّاه. ومثل هذا المتلقي القادر، إذا عَرضَ على بقية الناس تعليقاته المضيئة الشارحة، كان هو «الناقد».

وليس «الفكر» في متفاوت درجاته، إلا مرآة من تلك المرايا العاكسة للحياة الجارية، لا بمجرد وصفها وصفًا دقيقًا محسوبًا مصنفًا؛ فذلك هو مهمة «العلم» الذي هو ضربٌ واحد من ضروب «الفكر» ولكنه يعكس الحياة ﺑ «نقدها». ولقد كان «هيجل» على حقٍّ، عندما قال عن «الفلسفة» إنها هي صورة الحياة بلغة «الأفكار المجردة» التي لا تشع ضوءًا على وقائع الحياة كما تُعاش، إنما هي لغوٌ لا نفع فيه.

ونظرةٌ متمهلةٌ فاحصة للحياة الثقافية التي نتنفس أجواءها في الوطن العربي طولًا وعرضًا، قمينةٌ أن تنتهي بنا إلى نتيجةٍ مرجحة الصواب، وهي أن مرآة «الفكر» هي أضعف المرايا الثقافية تجليةً لحياتنا العملية، مع أننا لو كنا بحاجة إلى مرآةٍ واحدة قبل سواها، لتهدينا إلى صورة من الحياة أقوى وأضوأ وأشد جذبًا لنا من التخلف الحضاري الذي أصابنا في هذا العصر، بعد أن كنا بناة الحضارة ورُوَّادها في العصور السابقة، لكانت تلك المرآة الواحدة التي تسبق سواها هي مرآة «الفكر»، لماذا؟ لأن سائر المرايا الثقافية من فن وأدب مدارها آخر الأمر هو الجانب الوجداني من الإنسان، فإذا كان الإنسان مرتكزًا على دعامتَين، هما «العقل» و«الوجدان» فإن الجانب الوجداني في حياتنا قد أغناه الدين بما يكفيه ليكون قوةً دافعة. وأما ركيزة «العقل» التي تتجلى أساسًا في «العلم» وفي «الفكر» فهو الذي نفتقر إليه افتقارًا وصل بنا إلى حد الخطورة. ولا نقول شيئًا هنا عن «العلم» في حياتنا الحاضرة؛ لأن ما بين أيدينا منه بضاعةٌ مستعارة ممن أبدعوها في الغرب. وكل فضلنا في مجاله — وهو فضل ليس بالقليل — هو أننا قد عرفنا كيف ننقل عن سوانا، وما الذي ننقله، وبأي الوسائل ننشره في معاهد التعليم. وما دام لا اختلاف عليه سواء أكان الدارس عربيًّا أو غير عربيٍّ، فالذي فاتنا منه هو المشاركة في ابتكاره. وأما الوجه الثاني من «العقل»، المتمثل فيما نُسمِّيه «فكرًا» فهو متصلٌ إلى حدٍّ ما بصورة الحياة الإقليمية، بحيث يجوز لنا أن نُفرِّق بين الفكر الأمريكي — مثلًا — عن الفكر الروسي، وذلك لأن العملية الفكرية كثيرًا ما تنحصر في تجريد المبدأ العام من المفردات الجزئية التي تجري بها الحياة في تيارها اليومي، خذ فكرة «الجمال» مثلًا.

قد يستخلص العربي فكرة عن الجمال تختلف عما يستخلصه الفرنسي أو الهندي؛ لأن المفردات التي تُوصف بالجمال عند كلٍّ منهما ليست متطابقة. ومثل هذا الاختلاف الإقليمي نراه في ميادين الحياة الإنسانية بصفةٍ عامة، بينما الحقائق «العلمية» مأخوذةٌ من ظواهر الطبيعة، وحتى لو استخرجنا حقائق «علمية» عن الإنسان؛ فإن ذلك يقتضي أن ننظر إلى الإنسان من حيث هو «ظاهرة» كسائر ظواهر الطبيعة، ولا كذلك ما قد أسميناه «فكرًا»؛ فهو وإن يكن مستندًا إلى منطق العقل، شأنه في ذلك شأن «العلم»، إلا أن مفرداته الجزئية التي تنصَبُّ عليها العملية العقلية تختلف من إقليم إلى إقليم إذا اختلفَت بينهما الحياة الثقافية. خذ مجال «السياسة» — مثلًا — وانظر إلى ما ينشأ عنه من «فكر» سياسي تجد ذلك الفكر قد اختلف في بلد عنه في بلدٍ آخر، وإلا فلماذا حدث ذلك الاختلاف الحاد في مجال الفكر السياسي، بين شرق أوروبا وغربها؟ أو بين ما يُسمَّى بالعالم الثالث مأخوذًا في جملته وبين الغرب مأخوذًا كذلك في جملته؟ إن الجذور الثقافية العميقة في حياة البلد المعين، لا يسهُل اقتلاعها من صدور الناس، مهما أشعَّت فيهم من أسماء المذاهب السياسية؛ ولهذا فمُحالٌ أن يكون معنى «الحرية» أو «الديمقراطية» أو «الحياة النيابية» أو غيرها من «الأفكار» السياسية، متطابقًا في فهمه وفي تطبيقه في البلاد ذات الثقافات المختلفة، برغم استخدامها للمصطلح السياسي نفسه؛ ففي بلد «حرٍّ» ديمقراطي «نيابي» في أفريقيا أو أمريكا اللاتينية، قد تجد ضروبًا من الاعتقال والحبس والتعذيب والحرمان لأفرادٍ اختلفوا مع اتجاه الحاكم، في حين أن شيئًا من هذا كله لا يُسمع عنه في فرنسا أو في إنجلترا أو غيرهما من بلاد الغرب التي تُوصف أيضًا بالحرية والديمقراطية والحياة النيابية، فالمصطلح السياسي واحد في الحالتَين، ولكن شتان بين معنًى ومعنًى، وبين تطبيق وتطبيق.

شيءٌ كهذا هو ما نعنيه بالحياة «الفكرية»، وهي الحياة التي نقول عنها إنها أضعف الجوانب الثقافية جميعًا في الوطن العربي؛ فقد يكون لدينا الموسيقار الكبير، أو الشاعر المرموق، أو كاتب الرواية أو المسرحية، وقد يكون لدينا الفنان التشكيلي الذي نفاخر به، أو الفنان التعبيري (في عالم التمثيل) ممن يستطيع الظهور بين أقرانه في أي بلدٍ آخر، لكننا يندُر جدًّا أن نجد رجل الفكر على درجةٍ نُباهي بها الآخرين؛ ومن ثَمَّ كان سبيلنا في هذا المجال، هو نفسه سبيلنا في مجال العلم، وهو سبيل النقل والمحاكاة لما أنتجه المبدعون من رجال الغرب، مع الفارق الهام الذي أشرنا إليه بين حالتَي النقل في مجال العلم والنقل في مجال الفكر، وهو أن «العلم» مشتركٌ بين أهل الأرض جميعًا، لا فرق بين أن يلبس ثيابًا أوروبية أو آسيوية أو أفريقية، وأما الفكر بالمعنى الذي حدَّدناه له، فقد تختلف طبيعتُه من بلد إلى بلد، لاختلاف التربة الثقافية فيهما.

وهكذا ترانا في حياتنا الفكرية كالغرباء في بلدٍ مجهول، يسيرون في طرقاته ولا يدرون من أين يسيرون ولا إلى أين، وذلك لأننا استوردنا الثياب الفكرية «الجاهزة» وأردنا أن نُقحِمها إقحامًا على أجسادنا، فقلَّما نفلح وكثُر ما نَخيب. لكن ذلك لا يعني ألا نكون على صلةٍ دائمة ومباشرة بما تستحدثه الحضارة الجديدة وثقافتها المتولِّدة عنها، من أفكارٍ جديدة، هي في حقيقة أمرها بمثابة برامجَ مكثَّفة للعمل بأسلوبٍ معين، فذلك هو المعنى الحقيقي لما نُطلق عليه اسم «الفكرة»؛ فالحرية فكرة، والعدالة فكرة، والمساواة فكرة، والتعاون فكرة، وتعليم المرأة فكرة، والنظام النيابي فكرة، وهكذا كل فكرة من هذه الأفكار، هي اسمٌ يُلخِّص مجموعةً كبيرة من تفصيل التطبيق والتنفيذ، إلا أن كل فكرةٍ منها كذلك هي من مرونة المعنى بحيث لا تزيد على كونها إطارًا يُحدِّد مجال الحديث دون أن يُحدِّد تفصيلات معناه تحديدًا يحصره في صورةٍ واحدة، كأنها قالبٌ من حديد. ولعل القارئ يذكر عندما أخذنا بالاشتراكية مبدأً لحياتنا السياسية والاقتصادية، كم تعرَّضْنا لضرورة تغيير ما يُفهَم من هذا الاسم، وأخذنا نُوسِّع من نطاق القطاع العام آنًا ونُضيِّق منه أحيانًا، ثم حين استتبع هذا المبدأ الاشتراكي وجوب مشاركة الجمهور العامل مشاركةً مباشرة في دخول المجلس النيابي، وفي المشاركة في مجالس الإدارة أينما وُجدَت، واشترطنا أن يكون للفلاحين والعمال نصفُ المقاعد على الأقل في كل هيئةٍ من تلك الهيئات النيابية والإدارية التي في أيديها صنع القرار، اضطُرِرنا إلى «تعريف» الفلاح والعامل، ثم أخذنا نُغيِّر من هذا التعريف كلَّما ألزمَتْنا الظروف بإعادة النظر فيه، فما معنى ذلك؟ معناه أن مفهوم «الاشتراكية» ومفهوم «النظام النيابي» وأمثالهما، وإن تكن كلها مبادئَ مقبولة، إلا أنها بحكم طبيعتها المنطقية مرنة الحدود، تتسع وتضيق داخل الإطار الواحد. وهكذا تكونُ الحالُ في موقفنا من الأفكار المأخوذة ممن هم بُناةُ العصر الجديد، وبهذا التكيُّف نُعاصِر زماننا ونصونُ كياننا في وقتٍ واحد.

وقد كان ينبغي لرجال الفكر منَّا أن يكون هذا هو أهم ما يصبون عليه قدراتهم العقلية، ولو فعَلوا لكان الطريق أمامنا أكثر وضوحًا، لكنهم لم يفعلوا منه إلا أقل من القليل، إذن فما الذي فعلوه؟ لستُ أُريد أن أُحدِّد أسماء رجالٍ بذواتهم، ولا أن أُسمِّي أعمالًا فكرية بعينها تمَّت على أيديهم، ليُراجع القارئ معي طبيعة الكثرة الغالبة مما أنتجوه، سواءٌ في ذلك أبناء الجيل الماضي أو أبناء هذا الجيل، كلا، لا أريد ذلك حتى لا تشوب حديثي ذرة من إساءة وتجريح؛ لأن الهدف الذي نعمل على تحقيقه جميعًا إنما هو إعداد الوسائل الثقافية الفعَّالة التي من شأنها أن تُحقِّق لأمتنا العربية بأَسْرها وقفةً جديدة، فيها القوة التي تصونُ كرامتَها أمام ضمائرها أولًا، وفيها الحرص على أن نكون جديرين بأسلافنا ثانيًا، ثم فيها ما يُرغِم العالم على احترامنا ثالثًا.

ومراجعةٌ نزيهة لما أنتَجَه رجال الفكر منا (ولا أُدرِج الأدب والفن في معنى كلمة «فكر» في هذا السياق)، تُبيِّن لنا حقيقةً موضوعية لا جدال فيها، وهي أن معظم جهدهم المبذول قد انصبَّ إما على عرضٍ لمختاراتٍ من تُراثنا حينًا، أو عرض مختاراتٍ من إنتاج العقل الغربي قديمه وحديثه، وقد يكون هذا العرض في كلتا الحالتين مصحوبًا بنقد وتعليق؛ فمن أعلام الجيل الماضي من كاد فكره كله ينحصر في أن يعرض على الناس كيف ينبغي للحرية السياسية أن تكون، بحيث لم يخرج في ذلك على حدودِ ما يُقال عن الحرية السياسية في بعض أقطار الغرب، دون أن يتبع ذلك تحليلاتٌ دقيقة تُوضِّح مدى صلاحية المفهوم الغربي بتفصيلاته للجسم الثقافي القائم في حياتنا. ولا يجوز لنا في هذا الصدد أن نخلط بين نقطتَين؛ الأولى هي تقدير الجهد الذي أطلعنا على فكرة الحرية السياسية عند من سبقونا إليها، والثانية هي جهدٌ آخر كان الخير في أن يُبذَل، وهو تكييف الصورة الغربية لواقعنا الثقافي من جهة، وتكييف واقعنا الثقافي لقبول فكرة الحرية السياسية من جهةٍ أخرى. وقد حقَّق مفكرونا الشطر الأول، ولم يُحقِّقوا الشطر الثاني، فنتج عن ذلك أننا نفتقرُ حتى اليوم إلى مفهومٍ للحرية السياسية، لا يحرمنا من ذلك الحق الأساسي من حقوق الإنسان، ولا يكون — في الوقت نفسه — قلقًا في مناخنا الثقافي. وإذا نحن لم نُحقِّق لأنفسنا هذا الوضع المطمئن، كان كلامنا عن الحرية السياسية في معظمه حبرًا على ورق.

ومن أعلام الفكر في الجيل الماضي من جاء إنتاجه «العظيم» — فليس فينا من ينكر عظَمتَه في ذاته — منصبًّا في شطر منه على نقدٍ أدبيٍّ لبعض شعراء العرب نقدًا «عظيمًا»، وفي شطرٍ آخر منه منصبًّا على تاريخٍ يَعرضُ طائفةً من أئمة المسلمين وأبطالهم، مما يُقدِّم للقارئ غذاءً تاريخيًّا «عظيمًا». ومن حقنا أن نسأل: أين في هذَين الشطرَين ما يُرشد المواطن المثقَّف في مشكلات حياته الفكرية بمعناها الحي الذي يسير معنا في الطرقات على قدمَين، أين في هذَين الشطرَين ما يهدي المواطن المثقَّف إلى وقفة يطمئن إليها في مشكلة العلاقة بين الوالد والولد، في عصرٍ أصبح الولد فيه أوسع علمًا من الوالد؟ أو في مشكلة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، في عصرٍ أصبح المحكوم فيه هو الذي يختار حاكمه، ومن حقه أن يعزل مَن اختاره، إذا لم يكن مُوفيًا بالغرض الذي من أجله اختير، وهي عندنا «مشكلة» نُحسُّها أكثر جدًّا مما يُحسَّها أولئك الذين عنهم أخذنا نظام الحكم الحديث؛ لأن في ثقافتنا ما يوجب على «الصغير» ضروبًا معينة من السلوك تجاه «الكبير»، وقد أدخلنا في معنى «الكبر» أن يكون حاكمًا وفي معنى «الصغر» أن يكون محكومًا، فكيف نُشكِّل وقفة الصغير من كبيرٍ اختاره ذلك الصغير ليحكم، وأصبح عليه أن يُراجعه بحكم أن ذلك حقه السياسي، ولكن عليه في الوقت نفسه ألا يراجعه بحكم أن ذلك من صلب تقاليدنا في التعامل. وعلى غرار هذَين المثلَين تستطيع أن تستطرد في الأمثلة المنزوعة من حياتنا كما هي معاشةٌ على أرض الواقع، لكنها تحتاج إلى إعادة نظر لا يستطيعها إلا رجل «الفكر» بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة.

وأما الجيل الراهن فرجال «الفكر» فيه ذوو قاماتٍ قصيرة وقدراتٍ متواضعة، يصعُب على المتعقِّب أن يجد لمعظمهم «فكرة» واحدة يُعرف بها وتُعرف به؛ لأنهم على الأعم الأغلب عارضو ثيابٍ لا هم ناسجوها، ولا هم بائعوها، ولا هم لابسوها؛ فواضحٌ وضوحَ الشمس في السماء الصافية، أنه لا رجال الفكر في الجيل الماضي، ولا رجال الفكر في هذا الجيل، قد اضطلَعوا بالتصدِّي لمشكلات حياتنا الحقيقية على المستوى النظري (وذلك هو المستوى الذي خُصِّص له). ألم نقل فيما أسلفناه إن الإبداع الفكري هو مرآة من مرايا الإبداع الثقافي التي كان ينبغي أن نجد صورة حياتنا الفعلية منعكسة عليها، لنراها رؤية العين، لا من حيث هي التفصيلات الظاهرة التي نراها في البيت والدكان والمصنع، بل نرى التروس الخفية التي تدور في الظلام فتُحرِّك الناس ليُحرِّكوا مسالكَهم على النحو الذي نراه في البيت والدكان والمصنع. ولستُ أظن أن مثل هذه المرآة الفكرية بين سائر المرايا الثقافية قد تمثَّلَت بصورةٍ قوية في أحد من أعلام الجيلَين. وما قد تعثر عليه في هذا السبيل إما أن يكون نتفًا مجزَّأة لا تُغني ولا تُشبع، وإما أن تكون على صورة السرد الصحفي لحياة الناس، مع عجز عن الصعود من مستوى الواقع المجسَّد إلى مستوى التنظير؛ فالواقع المجسد حالاتٌ متغيرة في يومها عن أمسها، وأما التنظير إذا استطعناه، فهو يضع بين أيدينا ما هو ثابتٌ وراء ذلك المتغير. وهذه التفرقة هي نفسها ما يُبيِّن لنا أين تكون الصلة بين رجل «الفكر» من جهة، ومشكلات الحياة الواقعة من جهةٍ أخرى.

فلعلَّك ترى معي، بالوضوح الذي أرى به كيف أن معظم قيادتنا الفكرية في الجيلَين، قد صبُّوا الجزء الأكبر من طاقتهم العقلية على فكر سواهم. إذن فنحن أمام «فكر على فكر» ولسنا أمام فكر على مشكلاتٍ حية (ومرةً ثانية أُكرِّر بأنني أُخرج من مجال حديثنا مبدعي الأدب الخالص، والفن الخالص). ولا فرق في هذا السياق بين أن يكون الفكر الذي يصُبُّ عليه مفكرنا طاقته، فكرًا مأخوذًا من ماضينا، أو أن يكون مأخوذًا من حاضر الغرب أو ماضيه؛ ففي كلتا الحالتَين هو «فكر على فكر». ويَعِن لي في هذه المناسبة أن أُجري مقارنةً سريعة بين ما نحن فيه، وما قد رواه التاريخ عن الفكر العربي في قرونه الأربعة الأولى بعد الإسلام؛ فهنالك نجد صنفَين من المفكِّرين؛ صنف منهما حقق النموذج الذي نتمناه، وهو أن يصبَّ الفكر على مشكلاتٍ حية لتنظيرها، والصنف الآخر كان شبيهًا بنا اليوم، في أن جاء جهدهم الفكري مصبوبًا على فكر سواهم، فمن الصنف الأول كان علماء اللغة كالخليل وسيبويه، وكان فقهاء الدين والمفسرون وعلماء الحديث، وكان علماء الكلام (بحثوا في بعض المعاني التي وردت في القرآن الكريم، بحثًا فيه طابع الفكر الفلسفي)، وكان نقاد الأدب — والشعر بصفةٍ خاصة — فهؤلاء جميعًا قد سلَّطوا قدراتهم التحليلية على موضوعاتٍ من صميم الحياة العربية الإسلامية إذ ذاك؛ لأن القرآن الكريم كان محور الانتباه، وبعد أن أخذه المؤمنون مأخذ الإيمان وحده لفترة من الزمن، أرادوا أن يتعمَّقوه فهمًا وإدراكًا لرسالته، فكان أن درسوا اللغة وأبعادها من أجل ذلك، وكان أن بذلوا الجهد في استخلاص أحكامه، وكان أن وقفوا عند معانٍ أساسية وردَت فيه ليزدادوا لها إدراكًا، وكان أن عادوا إلى الشعر الجاهلي ليأخذوا منه شواهدَ لغتهم وخصائصها، فنشأت حركةٌ قوية تتناول النقد الأدبي من مختلف أطرافه. إذن فهؤلاء جميعًا قد أسقَطوا فكرًا على حياةٍ عربية إسلامية ومقوماتها. وأما الصنف الثاني من هؤلاء السلف، فخير من يُمثِّله هم الفلاسفة؛ الكندي، والفارابي، وابن سينا في المشرق العربي، وابن رشد في المغرب العربي. وهؤلاء جميعًا قد صبُّوا «فكرًا على فكر»؛ لأن الجزء الأكبر فيما صنعوه وخلَّفوه، هو عرضُهم لفلسفةٍ نُقلَت عن اليونان، فأرادوا دراسة محتواها، وفهم ذلك المحتوى، وما يتفق منه مع عقيدة المسلم وما لا يتفق، فمهما بلغوا فيما عرضوه من قدرة، فهُم ممن سلَّطوا طاقتهم الفكرية على فكر سواهم؛ ولذلك كان توجيههم لتيار الفكر العربي الإسلامي، أقل أثرًا وأقل ظهورًا ممن صبُّوا فكرهم على مُقوِّمات حياتهم، من فقه ودراسة للغة، وتفسير وتحليل للنص القرآني الكريم.

وليس فينا اليوم من رجال الصنف الأول أكثر من أشباهٍ باهتة. وأما الكثرة الغالبة اليوم فتندرج في الصنف الثاني، فتركنا حياتنا تتعثَّر في مشكلاتها الفكرية على غير هدى، ومع ذلك فقد خَفِيَت عن أعيننا هذه الصورة على حقيقتها، في ضجة الطبول التي تصمُّ الآذان، والتي أرادت لنا أن ننظر إلى عظماء أعلامنا في عالم الفكر — وإنهم في الحق لأعلام، وإنهم لعظماء — أرادوا لنا أن ننظر إليهم بعينٍ واحدة، هي العين التي ترى الفكر مصبوبًا على فكر الآخرين، فتحسبه فكرًا قد اكتملَت قوائمه. ولو نظرنا بالعين الثانية، لانكشف لنا جانب النقص وربما أكملناه؛ فليس مما يخدم العزة الوطنية أن نخدع أنفسنا عن الحق، والحق هو أن معظم رجال الفكر في القرن العشرين، قد طاروا بنا في سماء الحياة الثقافية بجناحٍ واحد، وتركوا الجناح الآخر مهيضًا.

٢

– ما الذي ينقص الأمة العربية؟ (سألت نفسي).

– ينقصها أن تكون أمة، وأن تكون عربية (هكذا جاءني الجواب).

– ومتى تكون وكيف؟

– جواب ذلك طويلٌ ولكنه قريب المنال، فأما عن «الأمة» متى تكون كذلك، فلا يلزمنا للرد الواضح إلا أن نتلفَّت حولنا لنتعقَّب أممًا كثيرة حديثة النشأة، ولكنها على حداثَتها بلغَت من القوة ما بلغَت؛ فربما أعانتنا حداثةُ نشأتها على رؤية العوامل التي تُسارِع بمجموعة الأفراد إلى التماسُك في إطارٍ اجتماعيٍّ واحد، وكأن حداثة نشأتها هذه ستجعلها بمثابة مخبارٍ معملي من مخابير العلماء، يضعون فيه المادة المراد فحصها، ثم يرقبونها ليَروا كيف تتغير وتتطور وتكتسب خصائصَ جديدة بتفاعُل عناصرها، فعنصر هنا يندمج مع عنصرٍ هناك فيتحدان وكأنهما خُلقا ليكون منهما كائنٌ عضويٌّ واحد، وعنصر هناك يتعارض مع عنصرٍ هنا، فيُفتِّت أحدهما الآخر أو يُذيبه. وهكذا ننظر إلى الأمم حديثة التكوين فيسهُل علينا رؤية نمائها أو فنائها، مما قد تتعذَّر رؤيته في الأمم ذوات التاريخ الطويل، التي تعاوَرَتها فتراتٌ للصعود وفتراتٌ للهبوط على مدى آلاف السنين.

ففي القرون الثلاثة الأخيرة، نشأَت وتطوَّرَت، ونمت الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا، وأستراليا، ونيوزيلنده. وبالرغم من أن كل واحدةٍ منها قد بدأَت طريقها من الصفر، اللهم إلا ما حملَه أفرادُها في عقولهم وقلوبهم من ثقافاتِ بلادهم الأصلية التي هاجروا منها إلى وطنهم الجديد. وبالرغم كذلك من تعدُّد العناصر التي جاءت إليها من أقطارٍ مختلفة فحملَت معها — بالتالي — ثقافاتٍ مختلفة، إلا أنها قد استطاعت في هذه الفترة القصيرة أن تَصنَع من أنفسها أممًا متكاملة الكيان، فإذا سألَنا: وكيف استطاعت؟ جاءنا الجواب مسرعًا، وهو أن اتجه الجهدُ كلُّه نحو تجميعِ الأفراد في كل أمةٍ حول ثقافةٍ متجانسة، ويُضافُ إلى هذا العنصر الجوهري، عنصر لا بُدَّ من قيامه لتسهيل عملية التوحيد الثقافي، وهو أن يجد الأفراد في ظروف حياتهم ما يعمل على نمائهم وازدهارهم؛ فنماء الفرد هو أقوى حافزٍ له على الانتماء.

ولا يكفي — بالطبع — أن نشير إلى الوحدة الثقافية، من حيث هي العامل الجوهري في تماسُك الأمة على الصورة العضوية التي تجعل منها أمةً بالمعنى الصحيح، بل لا بد لنا من توضيح هذا العنصر المؤثِّر وتحليله، كما يُحلِّل الكيماوي المادة إلى عناصرها الأساسية ليقول لنا — مثلًا — إن الماء بكل ما تَراه فيه من اتصالِ قطراته بعضها مع بعضٍ وتجانُس تلك القطرات حتى لتقعُ عيناك على كتلة الماء في البحر أو في النهر أو في كوب الماء تشرب ماءه. إنك لا ترى إلا سائلًا سيَّالًا تتعذَّر التفرقة فيه بين قطرة وقطرة، ومع ذلك يقول لنا الكيماوي بل إنه مؤلفٌ من عنصرَين مختلفَين بنسبةٍ معينة بينهما، تألُّفًا دمجهما دمجًا على نحو ما ترى، وهكذا الحال بالنسبة إلى ملايين الأفراد الذين هاجروا إلى تلك الأمم حديثة التكوين؛ فقد انقدَحَت لهم في حياتهم الجديدة شرارةٌ صهرتهم في أمةٍ واحدة على نحو ما انقدحَت شرارة الكيمياوي في معمله فاندمجَت ذرتان من الهيدروجين مع ذرةٍ واحدة من الأكسجين وتكوَّنَت من انصهارهما قطرة الماء. وأما الشرارة التي أحدثَت الانصهار من مختلف الأفراد في أمةٍ من الأمم الجديدة، فقد كانت — كما أسلفنا — «الوحدة الثقافية» وما أساسها؟ إن أساسها في تلك الأمم المستحدَثة هو «القوة» يُحقِّقونها بالعلم والعمل، ليقهروا بهما الطبيعة أرضًا، وبحرًا، وهواءً في جو السماء، وما بعد الغلاف الجوي إذا استطاعوا، وواحدية الهدف تستتبع حتمًا واحدية الاتجاه الذي تتجه فيه ضروب النشاط المختلفة؛ ومن هنا تنشأ الوحدة الثقافية التي أشرنا إليها. إن «العقل» يشهد و«التاريخ» يشهد معه مدَى ما تؤثِّر به واحدية الهدف في وحدة الأمة وسرعة نمائها وازدياد قوتها وسلطانها. وللقوة ضروب وللسلطان دروب؛ فالقوة تكون في العلم وفي الثروة وفي الحرب، وفي استثمار البيئة استثمارًا يُخرج كنوزها نباتًا وحيوانًا ومعادن تجتمع كلها في اقتصاد قويٍّ. وأما دروب السلطان فقد تنوَّعَت مع الزمن ثلاثة أنواعٍ اختلفت باختلاف المراحل الحضارية في حياة الإنسان؛ فبدأ الإنسان بأن بحث صاحب السلطة عن قوته في إخضاع بني وطنه واستعبادهم لصالح نفسه، وبهذا كانت الحرية عندئذٍ لفردٍ واحد، وإرادةٍ واحدة، وعلى الجميع أن ينشطوا كلٌّ في طريقه، لكي يحققوا لذلك الفرد الواحد ما أراد. وتقدَّم الزمن وسلكَ الباحثُ عن السلطة دربًا جديدًا، فإذا كانوا بنو قومه قد استطاعوا أن يظفَروا لأنفسهم بالحرية داخل أرضهم، فلماذا لا يتجهون جميعًا حاكمًا ومحكومًا نحو أقوامٍ أخرى خارج حدود بلادهم ما زالوا يزحفون على طين الأرض، لا يعرفون لأنفسهم قَدْرًا ولا كرامةً، وهناك يُحقِّق الباحثون عن قوة السلطان ما يشتهون، فسكان الأرض المغزوَّة رقيقهم يُفلِحون لتُثمِر الأرض للسادة الحاكمين، ثم انتقل الزمن ببني آدم إلى مرحلةٍ جديدة حين استعصى على أولئك الباحثين عن قوة السلطان، أن يُطيلوا بقاءهم في أرض الرقيق، وذلك لأن رقيق الأمس قد صَحَوا من الغيبوبة وطالبوا بالتحرُّر، وأُظفِروا به ثم لم يعرفوا بعد التحرر كيف يصبحون «أحرارًا»؛ وذلك لأن «الحرية» بمعناها الصحيح الواسع، هي الفهم بأسرار الطبيعة لقَهرِها فتزيد من قوة القاهر سلطانًا على سلطان، وذلك هو عصرنا هذا كما تستطيع أن تراه إذا أرسلتَ البصر نافذًا به إلى قلبه ونواته.

فالبشر في عصرنا مجموعتان؛ مجموعةٌ وجَّهَت عقولها إلى «الطبيعة» لتعرف سر الكهرباء والمغناطيس والجاذبية، ولتعرف كل ما استطاعت معرفته عن الضوء والصوت والهواء، وغير ذلك مما بلغ مسامعنا وما لم يبلغ. وأما المجموعة الثانية من البشر فقد «تحرَّرتْ» حقًّا ممن كانوا حتى الأمس القريب غزاتها والممسكين بزمامها، لكنهم بعد أن أُزيحت عنهم الأغلال والقيود، وحكموا أنفسهم بأنفسهم لم يعرفوا ماذا يفعلون، ولم يجدوا أمامهم إلا أن يمدُّوا أيديهم إلى أولئك الغزاة الذين أمسكوا ذات يوم برقابهم، يطلبون منهم فتاتًا من موائدهم العلمية ليقتات عليها أبناء الذين «تحرَّروا» ويشترون منهم صنائعهم التي صنعوها هناك بعلومهم، ومع كل صناعة يجيء خبيرٌ منهم إما ليُقيم، وإما ليُعلِّم أهل البلد الذي اشترى الناتج الصناعي كيف يُدار، فالأحرار حقًّا هم أصحاب العلم وما ترتَّب عليه، وأما «المتحرِّرون» فما زالوا يمدُّون أذرع الحاجة والعوز، لا حول لهم إلا ما يتصدَّقون به عليهم ولا قوة لهم إلا بما يتلقَّونه من غُزاة الأمس من سلاح الحرب وآلة السلم.

فأين نجد العلة؟ لماذا يظل أقوياء الأمس هم أقوياء اليوم، برغم ما تحرَّر به ضعيف الأمس، ولم يستطع بتحرُّره أن يبلُغ من القوة ما أراد؟ إن علة ذلك مطروحةٌ أمام أبصارنا إذا أردنا رؤيتها رأيناها، وخلاصتها هي أن علماءهم هناك ورجال الفكر منهم يصبُّون الجزء الأكبر من طاقتهم العقلية على «الأشياء» فيعرفونها، وهم بالمعرفة المكسوبة يملكون زمامها. وأما علماؤنا ورجال الفكر منا، فيتجهون بجهدهم نحو «أقوال» كتبَها أصحابها، فعالِمنا هو من درَس ذلك المكتوب، ومُفكِّرنا هو من وجَّه فكره نحو فكرِ سواه، سواءٌ أكان ذلك السوى من السالفين أم كان من المحدَثين أو المعاصِرين.

فالأمر — إذن — هو — في المقام الأول — أمر تربية وتعليم يعملان على توجيه الناشئ، نحو «الشيء» بالإضافة إلى توجيهه نحو «الكتاب»؛ فبالاتجاه الأول يعتاد الكشف عن المعرفة كشفًا جديدًا أصيلًا، وبالاتجاه الثاني يحصل على نتائجَ كَشَف عنها الآخرون. ولعل مثل هذا القلق الثقافي الذي نُحسُّ به اليوم في أنفسنا، حين نرانا أتباعًا يرتدون ثياب الأحرار، هو الذي أَحسَّ به في زمانه شاعر الهند العظيم «طاغور» لكنه لم يقف عند قلقِه يجتَر الحسرة والأسف، بل أنشأ في بلده مدرسة على الصورة التي تخيَّلَها وتمنَّاها. وما زالت تجربته تلك في «سانتفاكتين» موضعَ تعليقٍ من رجال الفكر التربوي في الغرب؛ فهي مدرسة بغير جدران؛ إذ تقع على أرضٍ مكشوفة تحفُّها غابة وتُحيط بها أنواع النبات والحيوان، وأُقيمَت في ركنٍ منها مساكنُ بسيطة للدارسين، فماذا يدرس الدارسون؟ إنه لا «فصول» ولا «دروس» ولا أجراس تُدَق للحضور والانصراف؛ فكل دارسٍ له أن يختار مما حوله حجرًا، أو شجرًا، أو طيرًا، أو ما اختار من صنوف الحيوان، وعليه أن يقدم ما قد «كشَف» عنه من حقائق حول ما اختاره. كان طاغور مؤمنًا أشد الإيمان، بأن التعليم «فاعلية» داخلية تنشَط بها طبيعة المتعلم، وليس التعلم آذانًا تُصغي إلى ملقنٍ يُسمُّونه مُعلمًا. وإن مثل هذه الطبيعة في الإنسان، هي التي تُشيع فيه الفرحة إذا ما صنع لنفسه شيئًا بالمقارنة مع حالته إذا تلقَّى هذا الشيء مصنوعًا جاهزًا. ويحكي طاغور في كتابٍ له (بالإنجليزية) يُفصِّل فيه القول عن خبرة حياته، فيقول إن أحد الأثرياء في بلده عاد من رحلةٍ له إلى أوروبا بلعبةٍ فاخرة لولده الصغير، وكانت فيما أذكُر سيارة أو طيارة تسير بقوةٍ ذاتية، وتصادَف أن خرج الطفل بلعبته الفاخرة هذه إلى الطريق العام أمام منزله فرأى على مقربةٍ منه أطفالًا شغَلوا أنفسهم ﺑ «صنع» طيارةٍ من ورق، واقترب منهم فأغراه ما يصنعون وترك لعبته الجاهزة على جانب الطريق، ليشاركهم فيما يُنشئون، وكان لكلٍّ من الأطفال دورٌ يؤدِّيه، فهذا يقصُّ الورق، وهذا يعُد الأعواد التي يُقام منها هيكل الطائرة، وثالثٌ يجهِّز الخيط الذي سيُربط فيها من طرف ليمسكوا هم بالطرف الآخر عندما تعلو طائرتهم في الجو. وهكذا حتى فرغ الصانعون من صنعهم، ودفَعوا بالطيارة في الهواء، وإذا هي تعلو وتعلو، فيمدُّون لها الخيط بمقدارِ ما تعلو، فلا تَسَل عن الفرحة الغامرة المموَّجة بالزهو بما حقَّقوه بصنعهم، فأين ذلك كله — عند الطفل الغني — من حالته الأولى عندما كان يلعب بما تلقَّاه جاهزًا صنَعه آخرون؟

شيءٌ كهذا يمكن أن يُقال عن الحياة الفكرية؛ فليست الصلاحية مرهونةً بالمصدر الذي نستمدُّ منه الفكرة: نجعل الموروث العربي مصدرنا أم نجعل الغرب هو ذلك المصدر؟ ثَمَّ مُعتركٌ حول أشباحٍ في الظلام، بل تتوقَّف الصلاحية على مدى اتصال الفكرة المعيَّنة بالمشكلة الحقيقية المراد حلُّها؛ فما يحلُّ لنا إشكالنا هو الفكر الصحيح سواء اكان مما ورثناه عن أسلافنا أم كان مستعارًا من الآخرين، فإذا كانت المشكلة المعروضة اقتصادية، كأن نبحث عن الطريقة التي تؤدي بنا إلى أوفرِ إنتاجٍ ممكن، وجب أن تنصَبَّ الطاقة العقلية على جوهر مشكلتنا ذاتها، وليس أن نفتح دفاترنا أو دفاتر الأخرين بحثًا في صفحاتها عما نتوقَّع منه الحل. إن الرجوع إلى هذه الدفاتر إنما يجيء على سبيل الاستضاءة بما سبقنا الآخرون إليه، لنُجري معه شيئًا من المقارنة الضابطة الهادية، لكن المعول الأساسي يكون على معطيات واقعنا نحن لا واقع سوانا في ماضينا أو في ماضي الغرباء وحاضرهم. ما الذي ألزمنا — مثلًا — بأن نُقيِّد أنفسنا بادئ ذي بدءٍ بقسمة مجال النشاط الاقتصادي إلى عامٍّ وخاص، ثم نظل ندور وندور حول النسبة بينهما اتساعًا وضيقًا كم تكون؟ وإننا لنسأل مخلصين: أكُنا نستعرض واقع حياتنا حقًّا حين أعطينا كل هذا الوزن الراجح لما نُسمِّيه بالقطاع العام، أم كنا ننقل من الدفاتر وأي دفاتر؟ لقد كانت في هذه الحالة دفاتر الغرباء من ذوي المذاهب، ثم ما هو إلا أن أحَطْنا فكرة «القطاع العام» بما يُشبِه القداسة حتى لا يمسَّها أحدٌ بسوء، فهل حلَّلْنا أخلاقنا الاجتماعية تحليلًا كافيًا، فوجدنا أننا أشد إخلاصًا في أداء واجبنا حين تكون «الدولة» هي صاحبة العمل؟ إن طريق الفكر السديد يقتضي ألا يُقام قانونٌ ما في جماعة معينة إلا إذا كانت ضرورةُ حياتها تمليه، وحتى القوانين القضائية حين يصوغها مُشرِّعون مختصُّون، لا تستمد قوة الفعل في ساحات المحاكم إلا إذا بُنيَت على ظروفٍ اجتماعية سبقَتها، وأفرزَت سبلًا أمام الناس في حياتهم الفعلية يلتمسونها لتنحلَّ العُقَد التي استعصَت عليهم، وهنا يأتي المُشرِّع فيُتقِن الصياغة لما كان الناس قد لجئوا إليه بالفعل، فتُصبح تلك الصياغة هي «القانون» الذي يُقاس إليه في المحاكم. وهكذا يكون الحال — أو يجب أن تكون — في كل «فكرٍ» سليم منتج، وبعبارةٍ أخرى، وهي العبارة التي كرَّرناها فيما أسلفنا، نقول إن المفكر الأصيل يُوجِّه فكره نحو «الشيء» أي نحو «الموضوع» قبل أن يُوجِّهه نحو فكرٍ جاءه من سواه فيُصبح فكرًا على فكر. إن هذا الكاتب كثيرًا ما تساءل بينه وبين نفسه مرة، وبينه وبين قارئه مرة: ما الذي أبطأ النهضة العربية، بحيث انقضى ما يقرب من قرنَين كاملَين منذ بدأَت بوادرها، دون أن تبلُغ ما بلغَتْه شعوبٌ أخرى في أقل من نصف هذه السنين؟ وهنا قد نسمع صوتًا من ذوي اللجاجة الجوفاء يصيح في وجوهنا متحديًا: ماذا تعنيه بكلمة «نهضة» هذه التي زعمتَ أنها بدأَت منذ مائتَي عام ولم تبلُغ مداها؟ أهي التحضُّر بحضارة الغرب؟ إن كان هذا عندك هكذا، فاذهب إلى حيثُ شئتَ ولسنا معك. ولأصحاب هذا الصوت الصارخ نقول: فلتكن «النهضة» هي الصحوة التي تؤدِّي بنا إلى «القوة» بعد ضعفٍ أصابنا، والقوة لا يُفهَم لها معنى إلا بالقياس إلى ما يستطيعه المنافسون، فإذا كنت سريع الجري بالنسبة إلى زيد، ودخلت سباقًا مع خالد فظَفِر هو بالسبق كان عليك — إذا أردتَ محاذاتَه أو التغلُّب عليه — أن تزيد من قدرتك. والقوة التي نبتغيها متعددة الفروع فهي في العلم، وفي الإنتاج وفي إرهاف الذوق وفي القتال، وفي سرعة الأداء، وفي كل ما تراه سبيلًا إلى إنسانٍ حُفزَت قدراته الفطرية المكنونة إلى حدها الأقصى. وأحسب أن هذا الفهم لمعنى «النهوض» لا يجد اعتراضًا إلا عند من جرؤ فقال إنه يُؤثِر الجهل على العلم، والمرض على العافية، والقعود الكسيح على خفَّة الحركة.

فإذا زعمنا أن النهضة العربية قد سارت بخطواتٍ بطيئةٍ انتهت بها إلى موضعٍ متخلف في مضمار الحياة العصرية، وأردنا إقامة الدليل على صدقِ ما زعمناه؛ فما علينا إلا أن نفصل فروع «القوة» تفصيلًا يُمكِّننا من مقارنة أنفسنا بغيرنا في كل فرع، وعندئذٍ ترى الحق أبلج واضحًا ويتخرَّس الصوت المحتج في جهالة. لننصرف إلى السؤال التالي بجدية لمن أراد لأمته الرفعة والتفوق، والسؤال هو: على من تقع التبعة في تغيير هذا الركود؟ والجواب السريع هو أن التبعة واقعة على مبدعي الثقافة فنًّا وأدبًا وفكرًا، والفكر هو الذي قصدنا إليه في هذا الحديث دون الفن الخالص والأدب الخالص؛ فلهذَين حديثٌ مختلف. ومن هذا الجواب نخطو إلى سؤالٍ آخر هو: وماذا يصنع «الفكر» أولًا، ثم ماذا تُريد له أن يصنع ثانيًا؟

أما عن «الفكر» وطبيعته، فقد أفضنا القول في تحديد معناه، بالقياس إلى جناحَين آخرَين من أجنحة «الثقافة» بمعنًى من معانيها؛ فجناحٌ منها هو الإبداع الفني والأدبي، وهو إبداع يقوم فيه الخيال بدورٍ كبير، ويتضح مادَّته من المضمون الخبري (من «خبرة» المبدع) وهو مضمونٌ ذاتي يختص بصاحبه، شاركَه فيه الآخرون أم لم يشاركوه. وأما الجناح الثاني فهو جناح المعرفة العلمية التي يتعلَّق مضمونها بالأشياء الخارجية كما هي واقعةٌ تراها أبصار المشاهدين على السواء، وبين هذَين الجناحَين تقع مدينة «الفكر» الذي هو مجموعةُ معانٍ لا هي من قبيل ما يُبدِعه الخيال في الفن والأدب، ولا هي من قبيل العلم الذي نهج بناءه الدقةُ والتعميم والتجريد، ويبلُغ في ذلك أقصى مداه إذا استطاع أن يسوق بضاعتَه في صيغٍ رياضية بحت، حتى لا يكون فيها أثرٌ لخيال المبدعين في مجالَي الفن والأدب. أقول إن عالم «الفكر» يقع بين هذَين الجناحَين، بمعانيه التي لا هي من هذا الجناح ولا من ذاك، إلا أنها هي هي التي تُغذِّي الجناحَين معًا بقيمٍ تنضبط بها الخطى. ومن أمثلة المعاني التي يتألَّف منها هذا العالم الغريب — عالم «الأفكار» — الحرية، والتعاون، والصدق، والحب، والخير، والسعادة، والإيمان، وغيرها مما يجري مجراها. ولقد تعمَّدتُ أن أجعل «الإيمان» آخر الحلقات التي ذكرتُها لأردفه بإشارة إلى «الدين» ودوره في البناء الثقافي كله؛ فمن أهم ما يؤديه أنه هو الذي يجيء للإنسان بكثيرٍ جدًّا من القيم التي هي في حقيقة أمرها بمثابة الجوهر من مضمون الفكرة، إذا استحقَّت أن تكون بين أفراد الأُسرة، أسرة المعاني التي تمُد الجناحَين الآخرَين بضوابط السير، ولا أقول إنها تمدُّها بالمضمون ذاته؛ فرجال العلم — مثلًا — مطالبون بأمانة البحث، والذي يُطالِبهم بصفة الأمانة هذه، هو فكرةٌ استمدَّت غذاءها من الدين. وكذلك يُقال عن رجال الفن والأدب عندما يُطالَبون بالصدق فيما يُبدِعون.

تلك — إذن — هي طبيعة «الفكر»، أما ما نُريد من المفكرين أن يؤدُّوه حتى تنطلق النهضة العربية وثبًا وثبًا بعد ركودٍ وقعود فهو — على سبيل الإيجاز — أن يرسموا الأهداف ليهتدي بها السائرون، كلٌّ منهم في ميدانه، لكن الغاية واحدة للجميع، فماذا تكون تلك الغاية المنشودة؟ هذه واحدة من مهام الفكر ورجاله، وهي المستوى الأعلى. وأما الثانية من تلك المهام وهي المستوى الأدنى، فهي أن يرصُدوا مشكلاتنا القائمة على أرضنا بالفعل، ليُعالجوها بقدراتهم العقلية ابتغاءَ الوصولِ إلى حلولها؛ فالمدار هو المشكلة المعيَّنة وحلُّها، وليس المدار مذهبًا نضَعه في المقدمة ليكون لنا بمثابةِ محطة القيام للمسافر؛ فالمذهب الجدير منا بالتأييد هو الذي نجده في الحلول النافعة، وهذه الحقول تأتي بالنسبة إلى العملية الفكرية آخر الطريق وليس أوله. وأما بالنسبة إلى مَن يحيا حياة العمل والتنفيذ؛ فهي الركيزةُ الأُولى التي يرتكز عليها في رسم الطريق.

المناخ الفكري الذي يُخيِّم على الأمة العربية اليوم، والذي لا حيلة للناس إلا أن يتنفَّسوه بخيره وبشره، إنما هو صنيعةُ من نسجوه خيطًا خيطًا بما كتبوه أو أذاعوه، وبين هؤلاء النساجين، بل وفي طليعتهم رجال «الفكر» فحتَّى مبدعي الفن والأدب فينا يستقون بعض الوحيِ مما يتنفَّسونه في جوٍّ ثقافيٍّ يَحيَون بين خيوطه، فتعالوا نتعقب معًا أولئك الذين أخذوا خلال ما يقرب من قَرنين يصبُّون في مسامعنا فكرهم قطرة قطرة، حتى إذا ما صَحَونا إلى حالة الوعي، وجدنا أوعيتنا قد امتلأت بما قطروه، وإذا بالكثرة منا قد استمدَّت منه الغذاء الذي لا يجدون لأنفسهم غذاءً سواه، ثم إذا بهذا الغذاء يتحول عندهم إلى ما يشبه العقيدة التي يجاهدون في سبيل بقائها، وإنك لتراهم يربطونها بالهوية العربية، وبالروح الوطنية، بل وبالعقيدة الدينية أحيانًا، حتى تكتسب حصانةً تحميها من نقد النقاد أو عدوان المعتدين، مع أنها في أصل نشأتها، قطراتٌ من مدادٍ أفرغَتْها أقلام الكاتبين على ورق، أو موجات صوتٍ أرسلَها المذيعون من بوق المذياع. نعم، تعالوا معًا نراجع معظم ما قرأناه وسمعناه، لنرى طبيعته على حقيقتها. وإننا لواجدوها — على أرجح الظن — فكرًا يدور حول فكرٍ سبق به غيرنا إلى عرضه. وإننا لَسعداءُ إذا وجدنا الكاتب منا قد جاء في مرحلةٍ أولى بعد مرحلة الفكر الأصيل؛ وذلك لأننا قد نجد المفكِّر منا يعلق بفكره على تعليقٍ كان هو بدوره تعليقًا على تعليق.

وربما سمعنا صوتًا صارخًا باللجاجة — مرةً أخرى — يتحدانا قائلًا: وما العيب في قول يشرح قولًا، وفي فكر يعلق على فكر؟ فنُجيب بقولنا: إنه لم يكن ليصيبنا من ذلك أذًى، بل ربما كان أمرًا مطلوبًا ونافعًا، على شريط ألا يكون نشاطنا الفكري الوحيد، أو أن يكون نشاطنا الغالب الذي منه تنشأ عقول وتتكوَّن مذاهب؛ لأن ثَمَّةَ طريقًا آخر للفكر يجب أن تكون له في حياتنا أولوية، بل أن تكون له «أعلوية» — إذا صحَّت هذه الكلمة — على ما عداه وأعني به ذلك الفكر المبدَع الأصيل غير المسبوق، والذي من شأنه أن ينبُع من واقع حياتنا التي نحياها حتى لو اضُطرِرنا إلى مراجعة أفكار الآخرين.

وبعد هذا، فلأُبين للسائل المتحدي، وجهًا من وجوه النَّكْبة الفكرية التي نُنكَب بها، إذا ما أنفقنا معظم طاقتنا الفكرية على فكر الآخرين وشرحه، بدل أن نتجه بمعظم جهودنا العقلية نحو نشاط عقليٍّ أصيل يقيم لنا مناخًا ثقافيًّا جديدًا يتلاءم مع ما تتطلبه ضرورات حياةٍ جديدة نحياها؛ فالقاصرون المقتصرون بفكرهم على فكر آخر — قديم أو حديث، موروث أو منقول عن آخرين — يُقدِّمون لنا الأذى من وجهَين؛ أولهما أنه لا جدي فيما يُقدِّمونه؛ لأنه على أحسن الفروض يعرض علينا تحليلًا جديدًا لصورةٍ فكرية كان أبدعَها مبدعها لظروفٍ أحاطت به، وقد لا تكون محيطةً بنا. وأرجو ألا يفهم من ذلك بأن مثل ذلك العمل الفكري مرفوضٌ من أساسه إذ هو مطلوب ونافع شريطة أن يُؤخذَ في حدوده، وهو أنه أقرب إلى «التاريخ» يُقدِّم إلينا مادة الفكر عند سابقين أو لاحقين. وقد يختلط علينا الأمر، فنظنُّه فكرًا يصلح لمعالجة شئون حياتنا الواقعة جملةً بجملة وحرفًا بحرف، هذه واحدة. والأخرى هي أن المفكر على هذا النحو المعلِّق والشارح لفكر الآخرين، إذا ما وصل إلى نتائجَ انتزَعَها مما يُعلِّق عليه ويشرحه، قد يوهمنا بصدق نتائجه صدقًا موضوعيًّا تطبيقيًّا، ما دامت هي صادقةً في استدلالها من أصولها التي استُنبِطَت منها، وليس كل قارئ قد اكتسب القدرة على التفرقة بين الحالتَين، مما يترتب عليه موقفٌ فكري شبيه بما نحن فيه اليوم وهو أن تشيع فينا أفكار لها صدق الاستدلال من أصولها، فنظن أنها كذلك صادقةٌ صِدق التطبيق على الواقع الجديد.

إنه إذا كانت النهضة العربية قد أبطأَت الخُطى فلم تلحق بالركب إبداعًا وكشفًا وريادةً وتغييرًا لوجه الأرض، فإن لذلك أسبابه، وسببٌ من هذه الأسباب أن رجال الفكر من الأمة العربية قد اتجهوا بمعظم طاقاتهم نحو فكرِ قد فرغ منه أصحابه، فقنعُوا به موضوعًا لفكرهم ووقَفوا هم وأوقفوا أمتهم معهم عند مواضعِ أقدامهم وكانوا بموقفهم هذا من الأتباع.

٣

سألتُ خيالي: هلا بحثت لي عن صورةٍ أُصوِّر بها للناس حياتنا الفكرية على حقيقتها العارية؟ إني أريدها صورةً واضحة الدلالة بحيث تقترب من أفهام المثقَّفين على اختلاف درجاتهم؛ ففي جماعة المثقَّفين صحاح، وأنصاف، وأرباع. فأجابني الخيال بأن رسم لي دُكَّانًا يعرض الملابس الجاهزة صنوفًا وأشكالًا؛ فهنالك قطع الثياب العربية من كل طراز ولكل الأحجام، ومعها قطع الثياب الغربية كذلك على اختلاف ألوانها وأشكالها وأحجامها، وفي صحن الدكَّان زحامٌ شديد، لا هو بالكثيف الذي يُوصف بأن ليس فيه موضع لقدم تُضاف إلى أقدام الحاضرين، ولا هو بالخفيف الذي يُبدي أرض المكان وكأنها خالية، وتنظر في الصورة فترى الزبائن وقد انصرف كلُّ فردٍ منهم إلى نفسه يقيس على بدنه هذه القطعة أو تلك من الثياب المعروضة، غير عابئٍ بما يفعلُه سواه.

شكرتُ الخيال على سرعة استجابته، وهنَّأتُه على دقة صنعته. والحقُّ أن الصورة التي قدَّمها قد جاءت من إحكام الدلالة، بحيث تصلُح لرسام الكاريكاتير؛ فهي تكشف عن تفصيلات المعنى المطلوب لكل ذي عينٍ تبصر، وتنطقُ بأبعاد ذلك المعنى لكل ذي أذنٍ تسمع؛ إذ المعنى وأبعاده، هو ما أجملناه في الحديثَين السابقَين، وخلاصته — كما هو ظاهر في العنوان — أن رجال الفكر من الأمة العربية يغلب عليهم أن يبحثوا عند الأخرين عن أفكارٍ جاهزة، فينتقي كلٌّ منهم ما يناسب قدَّه الفكري فيرتديه، ثم هم بعد ذلك ينقسمون جماعات؛ فمنهم من يستريح في ردائه فلا يحاول حذفًا منه أو إضافة إليه، وهو مع ذلك يمشي بين الناس «مفكرًا» أو «مثقفًا» رفيع الفكر غزير الثقافة، ومنهم من يأخذُه القلق، شعورًا منه بأنه إنما يرتدي ثوبًا لم يغزل هو خيوطه، ولم ينسج هو قماشته، كلا، ولا هو الذي صنعه ثوبًا، إنما هو اشتراه شراءً، وارتداه ارتداءً. نعم يأخذه القلق أن تكون هذه هي حاله، فيبحث لنفسه عن مواضعَ في الثوب تحتمل التعديل والتحوير، فيفعل ذلك إشباعًا لرغبته الظامئة في أن تُدرجه الأيام مع المبدعين. وأقصى ما يذهب إليه ذلك القلِق المبدِع، هو أن ينبش في الرداء الذي اشتراه نبشًا، لعله واجدٌ فيه موضعًا فاتَتْه دقة الحياكة فانحلَّت خيوطه، فيُصلِح منه فساده ليُباهي بما صنع ويُفاخر.

إننا نُقسِّم أنفسنا بين مذاهب الفكر في شتى ميادينه؛ فهذا ميدان للفكر السياسي، وذلك ميدان للفكر الاقتصادي، وثالث للفكر الفلسفي، وهكذا. واسأل كيف انقسمنا مذاهب في تلك الميادين تضحكْ ملء شِدقَيك؛ فها هو ذا دكَّان الأفكار الجاهزة مرةً أخرى ندخُله ليبتاع كلٌّ ما يروق له من مذهب، ثم نخرج فإذا بنا قد انقسمنا في مجال السياسة يمينًا ويسارًا، وفي مجال الاقتصاد انغلاقًا وانفتاحًا، وفي مجال الفلسفة مثاليين وتجريبيين ووجوديين وجدليين، وكل ما وجدناه من بضاعة معروضة. إننا لا نبدأ بالمشكلة التي تتعقَّد بها حياتنا الفعلية فنبحث عن الفكرة التي تحلُّها، بل يبدأ كلٌّ منا بالفكرة التي اجتلَبها ليبحث لها في حياتنا عن مشكلة، وقد لا يجد فيظل المسكين قائمًا بفكرته قاعدًا بفكرته، حالمًا بفكرته يقظًا بفكرته، لا يجد لها متنفسًا فيما تضطرب به حياتنا العملية من مشكلات.

إنه ليسيرٌ كل اليسر أن تنقل عن سواك قولًا يحمل فكرة، ثم تجعل مشغلتَك أن تنظر في القول المنقول لتنسلَ منه فروعًا تُبشِّر الناس بها إذا كنت مؤيدًا للفكرة المنقولة، أو لتنسلَ منها فروعًا تُفزعُ بها الناس إذا اخترتَ لنفسك أن تعارض تلك الفكرة المنقولة. نعم هو يسيرٌ كل اليسر أن تبني كلامًا من عندك على كلامٍ استعرتَه من صاحبه، لكنه عسيرٌ كل العسر أن تواجه مشكلة في دنيا الواقع المحسوس لتجد لها حلًّا تبتكره من ذهنك ابتكارًا. وإنني لأرجو من القارئ أن يتمهَّل في قراءته عند هذا الموضع من الحديث؛ لأنه إذا ما أمسك بالفرق الذي أشير إليه بين الحالتَين، كان — فيما أعتقد — قد أمسكَ بعلة العلل في قصورنا الفكري، وسأضرب لكل حالةٍ من الحالتَين مثلًا يوضحها؛ ففي الحالة الأولى — وهي حالة الفكر المنقول — نسُوق هذا المثل: الصراع بين طبقات المجتمع ينشأ من الفوارق الاقتصادية بين الناس، وتذويبُ تلك الفوارق قمينٌ أن يُزيل الصعاب، فها هنا يستطيع المؤيد أن يُخرج من هذا الكلام كلامًا ينادي به أنْ لا بد من أن يكون زارع الأرض هو مالكها، أو ما يُقرِّبه من أن يكون مالكها، وبهذا ينتفي الفارق بين مالك وأجير؛ لأن الطرفَين قد تلاقيا في رجلٍ واحد، وكذلك إذا جعلنا عامل المصنع عضوًا في إدارته، زال الفاصل بين رأس المال والصانع، وهكذا. كما يستطيع المعارض لذلك القول أن يستخرج منه ما ينقُضه، كأن يقول — مثلًا — إن الفوارق بين الناس لا تجعل منهم «فئات» تختلف فيما بينها دون أن يؤدِّي ذلك الاختلاف إلى أعلى وأدنى، ويترتَّب على ذلك أن نجعل لكلٍّ ما يحسنه؛ فالإدارة لمن يجيدها، والعمل لمن يتقنه. ولسنا هنا نريد أن ننتمي إلى التخريج الأول، ولا إلى التخريج الثاني، وكُل ما نريده هو أن نُوضِّح للقارئ كيف يسهل عليه أن يخرج كلامًا من كلام، ما دام الأمر لم ينبُع من أرض الواقع الذي نكابده. وأنتقل بعد ذلك إلى مثل نسوقه للحالة الثانية، وأعني الحالة التي نواجه فيها واقعنا نحو الذي نريد أن نُغيِّره، ونبحث له عن فكرة نُغيِّره بها. وليكُن المثل الذي نختاره هو التوسُّع في الأرض المزروعة، وهو ما يقتضي البحث عن طريقةٍ تُزرع بها الصحراء؛ فها هنا تجد الموقف الفكري قد اختلف في طبيعته من وجهَين؛ أولهما أنه لا يتصدَّى للتفكير إلا أصحاب الاختصاص العلمي. وثانيهما أن مجال التطبيق يفصل لنا بين فكرة صائبةٍ وأخرى مخطئة. في الحالة الأولى ينفتح مجال القول لمن يعلم ومن يجهل على حدٍّ سواء، ويمكن لاختلاف الرأي أن يظلَّ قائمًا إلى الأبد دون أن يجد أحد الفريقَين ما يحسم به صواب رأيه وخطأ رأي خصومه. وأما في الحالة الثانية فالأغلب أن ينتهي الموقف العلمي إلى رأيٍ واحد، ثم تنحصر المشكلة في طريقة التنفيذ، وليس في المراوحة بين رأيٍ أخطأ ورأيٍ أصاب.

وقد يُقال لي هنا: إنك قد جئتَ لنا بمثلَين لا ينتميان إلى بحرٍ فكري واحد، ولذلك لم يعُد يجوز أن تُقارنَ بينهما على نحوِ ما فعلتِ الآن؛ فقد كان المثل الأول الخاص بالصراع الطبقي وما ينتُج عنه من النوع الذي يدركه رجال الفكر بالبصيرة الاجتماعية، وهو نوعٌ قد تجد من الناس مَن يملك بصيرة تدرك حقائقه، في حين لا يملك آخرون مثل تلك البصيرة، فلا يدركون من تلك الحقائق شيئًا؛ ومن ثَمَّ يقع بين الفريقَين اختلاف في الرأي، اختلاف لا سبيل إلى حسمه. وأما المثل الثاني الخاص بالصحراء وزرعها، فالفصل فيه بين خطأ وصواب، مرجعه إلى التطبيق العملي؛ ولذلك فهو أدخل في باب العلوم الزراعية التي هي فرع من العلوم الطبيعية. أقول إنه ربما أُقيم هذا الاعتراض على المثلَين اللذين قدَّمتُهما لأوضِّح بهما الفرق بين حالتَين من حالات «الفكر»، فيحسن بنا — إذن — أن نسوقَ مثلَين آخرُين يقعان معًا في بحرٍ فكري واحد لتسهُل المقارنة. وليكن المثل الأول الذي نوضح به الحالة الأولى، هو أن يبدأ المفكر الإصلاحي عمليته الفكرية من الفكرة القائلة بوجوب طلب العلم من المهد إلى اللحد، وهو قولٌ قديم فيه كثير جدًّا من الصواب في توجيه الإنسان في مجال التعليم، وله في الفكر التربوي المعاصر قرينٌ يشبهه كل الشبه إذ يقول علماء التربية اليوم بوجوب التعليم الذي يدوم مع المتعلم طول حياته، بعد أن كان الظن هو أن تنتهي العملية التعليمية بانتهاء الأشواط الدراسية في المعاهد أو الجامعات. ولنجعل مثلنا الثاني الذي نُوضِّح به الحالة الفكرية الثانية هو أن يُطلَب من وزير التعليم إعادة النظر في نُظُم التعليم القائمة لإصلاحها؛ بحيث تُخرج للأمة مواطنين في مقدورهم دفع الوطن إلى الأمام دفعةً حضارية يلحق بها عصره وما يقتضيه.

فانظر مليًّا إلى هذَين المثلَين المتقاربَين في الهدف، ولكنهما يختلفان اختلافًا بعيدًا في منطق التفكير الذي يتطلَّبه كل منهما، وهو الاختلاف الذي أسلفتُ لك عنه القول بأنك إذا أمسكتَ به، فقد أمسكتَ بخصيصة قد تكون هي المسئولة عن قَدْرٍ كبير من وجوه التخلف في الفكر العربي المعاصر، فأما المثل الذي ضربناه للحالة الأولى، فالفكر فيه يبدأ من «مبدأ» يُفترض فيه الصواب، بحيث يكون مفهومًا للمتكلم والسامع معًا. إنه ليس موضوعًا للبحث والمناقشة والقبول والرفض، وإنما هو «مبدأ» يبدأ منه التفكير ثم يسير سيره المنهجي نحو ما قد يتكشَّف له من نتائجَ تنبثق له من ينبوع ذلك «المبدأ» الذي اتفقنا بادئ ذي بدء أنه مأخوذٌ مأخذ التسليم، ولكن ما هو السير المنهجي الذي أشرنا إليه، والذي يُنظِّم للعملية الفكرية خطواتها في مثل هذه الحالة؟ إنه منهج التوليد، توليد المعاني بعضها من بعض، أو هو — منهج الاستنباط — الذي يعتصر «المبدأ» السالف اعتصارًا ليستخرج منه ما أمكن استخراجه من عصير. وما دام «المبدأ» نفسه مقطوعًا بصوابه، فكل نتيجةٍ تُعتصر منه تصبح بدورها مثله مقطوعًا بصوابها، كأن يقول المفكر لنفسه: إنه ما دام «المبدأ» هو «اطلب العلم من المهد إلى اللحد»، إذن ما يُعَد علمًا هو كلامٌ موجود بالفعل هنا أو هناك، في هذا الكتاب أو ذاك، أو هو شيءٌ محفوظ في الذاكرات، ويجب البحث عن حفَظَته أينما كانوا ﻟ «نطلب» ما عندهم منه، وهو سعيٌ لا ينقطع من لحظة الميلاد إلى لحظة الموت؛ فالطفل منذ ولادته يبدأ في تجميع المعلومات ممن حوله، ليعلم كيف يتكلم، وماذا يأكل، وعلى أي نحوٍ تكون ثيابه. ويكبر قليلًا قليلًا منتهيًا من مرحلة عمرية وبادئًا مرحلةً عمرية أخرى، فلا يكف في كل مرحلةٍ عن «الطلب» باحثًا عن المعلومات المطلوبة في مظانِّها. وهي — كما ترى — سيرة يعتمد فيها الأصغر سنًّا والأقل خبرةً، على من هو أكبر سنًّا وأكثر خبرةً؛ ومن هنا تنبُع أخلاقياتٌ ضرورية تُقنِّن للصغار كيف يسلكون إزاء الكبار … إلخ؛ فنحن أمام بناءٍ فكريٍّ لا إبداع فيه، ولا جديد فيه؛ لأن الطاقة الفكرية كلها مُنصَبةٌ على «مبدأ» مسلَّم بصوابه منذ البداية، وعليها أن تستخرج من البئر ماءها، ما وسَع دِلاءَها أن تُخرج من ذلك الماء الكامن في مخبئه.

وننتقل إلى المثل الثاني الذي يُوضِّح الحالة الثانية، وهي أن يهمَّ وزير التعليم مع من يُعاونه، بإصلاح النظام التعليمي بحيث يُخرِج لنا شبابًا من طرازٍ جديد مرغوبٍ فيه، فها هنا تتغير أمام المفكر نقطة البدء عما كانت عليه في الحالة السابقة، كما تتغيَّر خطوات السير؛ فلسنا هنا أمام «مبدأٍ» موروث، قَبِلناه قَبول التسليم، بل نحن أمام وضعٍ معين لنظامٍ تعليمي معين، يُراد إعادة النظر فيه، لنُبقي على ما نبقي منه، ونُغيِّر منه ما لا بد له أن يتغير ونحذف منه ما يرى وجوب حذفه، ونُضيف إليه ما نرى ضرورة إضافته؛ أي إنه ليس في الوضع التعليمي القائم ما نُسلِّم له مقدمًا بضرورة البقاء، كلا، ولا فيه ما نُسلِّم مقدمًا بضرورة إلغائه؛ فالبدء مختلف — كما ترى — عن البدء الذي رأيناه في الحالة الأولى. ودَقِّق النظر في جوهر الاختلاف بين الموقفَين، تَجدْ أنه بينما كان ما نبدأ به في الحالة الأولى هو قولٌ ورثناه، نرى أن ما نبدأ به في الحالة الثانية هو صورةٌ للمواطن الجديد كما نُريد له أن يكون فيما يستقبل من السنين. وهكذا كان «الماضي» هو ينبوع المعرفة في الحالة الأولى، وأصبح ينبوعها في الحالة الثانية مستقبلًا لم يُولَد بعدُ ونريد أن نُمهِّد لولادته، ويكون ذلك التمهيد بتحليل الوضع التعليمي الراهن، تحليلًا نقارن به العناصر القائمة عنصرًا عنصرًا، بالهدف المنشود، الذي هو المواطن في صورته الجديدة التي نسعى إلى إيجادها بعد أن لم تكن موجودةً، وبهذا التحليل والمقارنة نعلَم ماذا نحذف، وماذا نضيف؟

إنهما وقفتان مختلفتان اختلافًا بعيدًا، ولم نقصد بالأمثلة السابقة إلا توضيحًا بسيطًا مُيسَّرًا لما تختلف به حياةٌ علمية نحياها بالفعل، عن حياةٍ علمية من طراز آخر نودُّ لو عرفنا كيف نُنشِئها لنحياها؛ فليس الأمر مقصورًا على أننا نغترف من تراثنا أفكارًا مبدئية نأخذُها مأخذ التسليم، ثم نحصر نشاطنا الفكري على توليد مضامينها، بل إننا لنُوسِّع في هذا المدى، لنبلُغ به حدوده القصوى، وذلك بأن ننقل عن العصر الجديد أفكاره، كذلك لتكون هي المادة التي تُدرَّس في معاهدنا وجامعاتنا، ولا ضير في ذلك؛ لأن «العلوم» كلها تقريبًا هي اليوم من صُنع غيرنا، ولا خيار لنا في أمرها إلا أن ننقلها إلى طلابنا، لكن الضير كل الضير يكمن في أن ننهَج نحوها نفس النهج الذي نلتزمه في مجال الفكر الموروث، وأعني أن نقف من المنقول الفكري موقف التسليم؛ ولذلك جاءت العملية التعليمية كلها على أيدينا وكأنها عملية تحفيظٍ وحفظٍ لمسلَّماتٍ لا مجال فيها للمراجعة والسؤال.

وقد تقول: وماذا تريدنا أن نصنع بحقيقةٍ علمية ثبت صوابها نظرًا وتطبيقًا، إلا أن نعرفها؟ إنه إذا جاز لمُجادلٍ أن يجادل في مجالات الآراء والظنون، فلا محل للمجادلة في علوم الفيزياء والكيمياء والأحياء وما إليها. قد تقول هذا على سبيل الاعتراض لكنك بهذا القول لم تذكُر من حقيقة الموقف التعليمي إلا نصفها؛ فالعملية التعليمية «مادة» و«طريقة»، فأما المادة العلمية ذاتها، في علوم الفيزياء والكيمياء والأحياء وغيرها من علوم، لا مجادلة فيما صحَّ منها كما قلت، ويبقى بعد ذلك السؤال المهم، وهو: كيف يوصل المعلم إلى المتعلم تلك الحقائق العلمية التي ثبَت صوابها نظرًا وتطبيقًا؟ ولا فرق في هذا السؤال المهم بين مرحلة ومرحلة من مراحل التعليم، من المدرسة الابتدائية إلى كليات الجامعة. أما ما نحن صانعوه اليوم، فهو أن نقدم إلى الطالب نصوصًا تحمل المواد العلمية المطلوب دراستها، على اعتقاد راسخٍ عند المُعلِّم والمتعلم معًا، بأن المطلوب هو الإلمام بما قد حملَتْه تلك النصوص، ومضمار التفاوت بين طالب وطالب، بل بين أستاذ وطالب، ينحصر في «كم» حفظ الدارس من ذلك المحتوى؟ والأكثر حفظًا هو الأعلى درجةً في سُلَّم العلماء.

ذلك هو ما نحو صانعوه الآن، أما الذي كان ينبغي لنا أن نصنعه، فهو أن يتلقى الدارس الحقيقة العلمية المعنية مقرونةً بطريقة اكتشافها، وبمقدارِ ما استطعناه في هذا السبيل. يتخرَّج الدارس وقد أضاف إلى المادة العلمية طرائق الوصول إليها، ومن شأن ذلك أن يُخرج الدارس ومعه منهج العلماء، ليس فقط فيما قد تلقَّاه من حقائق العلم، بل فيما عساه ينشأ من مواقفَ يستشكلُ علينا حلها. ولعل هذا الفارق الجوهري بين دارسٍ يحفظ مادته العلمية، ودارسٍ آخر ألمَّ بالمنهج الذي يُؤدِّي إلى كشف تلك المادة العلمية، هو الذي يُفسِّر لنا ظاهرةً شائعة بيننا شيوعًا جعلها تبدو لنا وكأنها جزءٌ لا يتجزأ من طبائع الأمور، وهي أن تُفاجئنا مشكلاتٌ يعجز عن حلها علماؤنا، فنَستوفِد لحلها «خبراء أجانب» وتسأل: أين تلقَّى هؤلاء «الخبراء الأجانب» تعليمهم، بحيث أصبح في مستطاعهم ما ليس في مستطاع علمائنا؟ ويجيئك الجواب الذي تعلَم منه أن ما درسوه في مادة العلم هو نفسه ما درسه علماؤنا، فتسأل من جديد: ومن أين إذن جاء الفرق، الذي جعلهم يفرزون «الخبراء الأجانب» الذين يقدرون على ما قد عجز عنه علماؤنا؟ ولا جواب على سؤالك هذه المرة، سوى أن علماءنا «حفظوا» مادةً علمية، فذهبوا معها في دنيا التطبيق إلى مداها، لكنَّهم لم يُزوَّدوا بالطريقة التي يلجئون إليها إذا ما أشكَل عليهم أمرٌ لا وجود له فيما حفظوه. وها هنا نجيء ﺑ «الخبير الأجنبي» الذي أضاف إلى مادته العلمية طريقة الكشف عنها، فإذا ما استُحدِثَت في مجاله العلمي أشكالٌ لم تَرِد في المادة المحفوظة توسَّل إلى حلها بوسائل البحث العلمي.

ألم أقل لك إنه مثلٌ واحد من حياتنا الفكرية يكفيك — إذا أطلتَ تدبُّره — لتقع على علةٍ أولى بين عللٍ أخرى، تُفسِّر لك جانبًا من التخلُّف العلمي الذي يصيب حياتنا في الوطن العربي. وتلك العلة الأولى هي أننا نصب طاقتنا الفكرية على فكر آخرين، وقلَّما نصُبُّ تلك الطاقة على «موضوعٍ» بِكرٍ لم يسبقنا إلى بحثه أحد، وذلك لأننا — كما أسلفتُ القول مرارًا — نُدرَّب تدريبًا جيدًا على تناول النصوص العلمية التي تركها لنا سوانا، ولا فرق هنا بين أن يكون ذلك «السوى» من آبائنا نحن في ماضيهم المبدع، أو أن يكون من الغرباء؛ ففي كلتا الحالتَين تئول إلينا نصوص، ندرُسها أو ندرُس ملخَّصاتها، وعلى أحسن الفروض نحاول استنباط ما يمكن استنباطه منها، لكن ذلك كله شيء، والتدرُّب على قراءة كتاب الطبيعة كما تتبدَّى في ظواهرها شيءٌ آخر.

خشوعنا لما هو «مكتوب» آيًّا كان كاتبه، وأيًّا كان موضوعه، ومن أي عصر جاء، هو ظاهرة تلفِت النظر، وقد استوقفَت بالفعل أنظار غيرنا ممن يتابعون العربي في حياته الفكرية. وذهب بعض هؤلاء إلى حد الغلو في تعليلاته لهذا التوقير الذي يبلغ منا إلى حد الخشية الخاشعة أمام ما نُصادفه مكتوبًا، لا سيما إذا كان ذلك مما ينتمي إلى الماضي بسبب من الأسباب، فقال أحد المعلقين من أهل الغرب إن سرَّ ذلك ربما يرجع إلى أن هذه المنطقة الجغرافية الشرق أوسطية، هي التي اخترعَت أحرف الهجاء في الكتابة، فكان لها عند أهل المنطقة ما يُشبه التقديس، فلما انتقلَت فكرة الكتابة باستخدام الحروف ومركباتها من هذه المنطقة إلى اليونان الأقدَمين، نظروا إليها نظرتهم إلى سلعةٍ نافعة استوردوها من أصحابها ومبدعيها، فلم يشعروا إزاءها برهبةٍ تمنعهم من الجرأة عليها تحليلًا وتركيبًا ورفضًا وقبولًا. هكذا قرأ هذا الكاتب لما كتَبه أحد المعلقين من أهل الغرب على موقفنا نحن — أصحاب الاختراع — مما اخترعناه. وإن هذا الكاتب ليذكُر جيدًا كم أخذه الغيظ مما قرأ، متهمًّا صاحب التعليق بالانحراف العقلي انحرافًا مبعثُه التعصُّب ولا شيء غير التعصُّب الذميم؛ فحتى حين يكون لنا الفضل على مستقبل الفكر الإنساني كله، باختراعنا لهذه الوسيلة العبقرية، التي تجعل الكتابة من بضعة حروفٍ تُفك وتركَّب، فتسع مركباتها اللامتناهية فكر الإنسان إلى يوم الدين، أقول إنه حتى ونحن نبتكر للدنيا هذه الوسيلة العبقرية يجيء مثل هذا المنحرف المتعصِّب فيبحث فيها عن ثغرة تشين أصحابها. كان هذا ما قاله هذا الكاتب قولةَ غاضب حين قرأ التعليل المذكور لرهبة العربي مما هو «مكتوب»، وها هو ذا الكاتب نفسه يجد الظاهرة تعترضه في مجرى تفكيره فيطلب لها التعليل، وإذا كان لا يزال على رفضه الغاضب لما قدَّمه من تعليل ذلك الرجل المنحرف المتعصب، فماذا إذن يراه الآن تعليلًا يرضيه؟ إنها حقيقةٌ لا أظنها منكورة من أحد، وأعني ما قد أسلفناه من أن العربي في يومنا هذا، حتى وهو في أعلى درجات القدرة الفكرية، لا يعرف أين يصبُّ طاقته العقلية إلا أن يتجه بها نحو ما يتلقَّاه من أقوال الآخرين، وهؤلاء الآخرون يكونون مرةً من أسلافنا نحن حين نقرأ شيئًا مما خلَّفوه، ويكونون مرة أخرى من أبناء الغرب فيما ننقله عنهم مترجمًا؛ فهو في كلتا الحالتَين يقف أمام «الفكرة» — جاءته من أولئك أم من هؤلاء — وكأنه قد وقف في محرابٍ للصلاة، ولا يجد عنده من سبيلٍ سوى أن يتجه بقوة فكره ليصُبَّها على الفكرة المنقولة؛ أي إن أقصى ما عنده هو أن يسوق قولًا يُعلِّق به على قولٍ جاءه من سواه. ولا ينفي هذا النوع الغريب من الشلَلِ الفكري، أن يجعل المفكر العربي قوله نقدًا يُظهِر به عيوب القول المنقول؛ لأنه سواءٌ قبل أم رفض هذا الذي بين يدَيه، فهو على أي الحالتَين تابعٌ جعل وجوده الفكري مرهونًا بوجود مَن سبقه إلى فكرة قدَّمها إليه، فكأنه قدَّم الغذاء الذي لولاه لهلك صاحبنا جوعًا بكل ما حباه الله به من مواهب النقد والتحليل.

وإذا لم يكن موقفنا إزاء ما يجيء إلينا من فكرٍ منقول عن ماضينا نحن مرة، أو عن ماضي الغرب وحاضره معًا مرةً أخرى، ضربًا من الشلل العقلي الذي يُصيبنا ونحن أمام نصٍّ مكتوب، فبماذا نَصِفه ونُسمِّيه؟ إن ما يظنه هذا الكاتب تعليلًا مقبولًا لهذه الظاهرة التي هي أنَّ فكرنا منصبٌّ أغلبه على فكرٍ جاءنا من سوانا، وقلَّما ينصَبُّ على موضوعٍ خارجي بصورةٍ مباشرة؛ كأن يتجه نحو ظاهرٍ طبيعية يُفسِّرها بقوانينها، أو نحو موقفٍ اجتماعيٍّ أشكل علينا ونلتمس منه مخرجًا، أقول إن الظن الذي يغلب على هذا الكاتب، هو أن موقفنا هذا في التوجُّه بفكرنا إلى فكر ابتدعه سوانا، إنما جاء نتيجةً طبيعية لمنهج «الحفظ» الذي انتهجناه في حياتنا العقلية كلها، منذ أسدَل التاريخ ستارًا كثيفًا على إبداعنا الفكري، وكان ذلك مع الفتح العثماني لبلادنا في أوائل القرن السادس عشر الميلادي؛ فمنذ ذلك الحين انطفأَت فينا جذوة الإبداع فانقلَبَت الحركة العلمية بين أيدينا لتنحصر في تقليب ما قد مضى مما تركه السلف، نتناولُه حفظًا لنصوصه، أو حفظًا لملخَّصاته، أو حفظًا لشروحه. وامتد هذا الاجترار الفكري ثلاثة قرون، فلما جاءت أوروبا إلينا بعلمها الجديد في أول القرن التاسع عشر، واضطررنا إلى فتح مدارس ومعاهد ثم جامعات آخر الأمر؛ لتدريس هذا العلم الغربي الجديد، انتهَجنا نحو هذا العلم الوافد، المنهج نفسه الذي كُنا عندئذٍ نعالج به تراث أسلافنا، وأعني منهج «الحفظ»؛ فماذا يصنع الموهوب منا في حالة كهذه، سوى أن يتجه بمواهبه العقلية نحو ما أُلقي إليه من السلف أو من أبناء العلم الجديد على حد سواء، فيُدير فكره حول فكرهم؟ وهكذا مضينا لا حيلة لنا في عالم التفكير إلا أن نُعلِّق فكرًا على فكر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤