هذا هو عصرنا

١

ليس العصر من العصور عددًا من السنين يكبر حينًا ليمتد بضعة قرون، ويصغُر حينًا ليكفيَه قرنٌ واحد أو بعضُ قرن، وإنَّما «العصر» المعيَّن هو «فكرةٌ» أساسيةٌ تسود الحياة، وتُصبح محورًا تدور حولَه مسالكُ الناس ومناشطهم، حتى إذا ما تطوَّرَت تلك المسالكُ والمناشط، بحيث لم تعُد «فكرة» العصر تكفيها ينبوعًا تنبثق منه المبادئ والقواعد ومواصفات الحياة العملية، أخذَت «فكرةٌ جديدة» في الظهور والانتشار والرسوخ، حتى تصبح بدورها محورًا تدور حوله رحى الحياة، وعندئذ ينظر الناس فإذا هم في عصرٍ جديد، فإذا حدث لفرد من الناس أو لفئة منهم، أن تخلَّفت في رءوسهم فكرةُ عصرٍ مضى، ثم نَشِطوا على أساسها وسلكوا فالأرجح ألا تُسعِفهم فكرتهم القديمة تلك بما يتطلبه العصر القائم من صور الحياة، فيصبحون — بالضرورة — كالغرباء في قومهم، حتى لَتَلتفِت إليهم الأنظار دهشةً، وذلك على أفضل الفروض، أو تلتفت إليهم ساخرة — وذلك على الأعم الأغلب — ولا ينفع المتخلِّف عن «فكرة» عصره أن يُقارِن للناس بين الفكرتَين؛ أي بين العصرَين، ليُبيِّن لهم كمْ كانت الأُولى طيبةً فاضلة خيِّرة أصيلة؛ لأن الحكم في مثل هذه المقارنة، مرهونٌ بالنتائج التي تعود على الناس من ضروب العلم، والقوة، والثراء وغير ذلك مما يرفع «كيف» الحياة في مجمل نواحيها وأطرافها. والأرجح — كما قلتُ — هو أن تكون الفكرة الجديدة أصلحَ لذلك الارتفاع الكيفي المنشود، من «الفكرة» التي ذهبَت وذهبَ عصرُها معها. وها هي ذي قصة «أهل الكهف» للذين غيَّبهم نومهم نحو ثلاثة قرون عن تيار التغيُّر فأصبحوا في قومهم غرباء، إلى الحد الذي أحرجَهم ودفَع بهم إلى العودة حيث كانوا، إيثارًا للموت على حياة المنبوذ في أرضه.

ولا بد ﻟﻠ «فكرة» الجديدة التي يتولَّد عنها عصرٌ جديد، أن تبلُغ من الغزارة حدًّا من شأنه أن يُفسِح المجال لأفكارٍ فرعية تنبثق منها ولفروعٍ من تلك الفروع حتى تظلل الحياة على تشعُّبها وتعقُّدها وكثرة الأفراد والجماعات التي تستظل بظلها، فإذا أخذنا الفترة التي امتدَّت بالغرب من عصوره الوسطى إلى اليوم — وهي نحو أربعة قرون — على أنها عصرٌ جديد واحد أعقب ما يُطلَق عليه في تاريخهم اسم «العصور الوسطى» كانت «الفكرة الجديدة» التي ميَّزتْه عن سابقه، هي أن يضيفوا إلى قراءة الكتب الموروثة عن أسلافهم (وأقول: أن يُضيفوا ولا أقول: أن يُحلوا محلَّها) قراءة ظواهر الطبيعة قراءةً مباشرة، لعلهم يخرجون بما يخرجون به من قوانين العلم الطبيعي التي من شأنها أن تزيد من قدرة الإنسان على تسخير الطبيعة لخدمته، وأعظمُ ما ينتُج له عن ذلك التسخير هو التحرُّر من قيودٍ هي أقسى ما يتعرض له الإنسان من قيود، وأعني القيود التي تفرضها طبائع الأشياء على الإنسان قبل أن يعرف كيف يُلجمها فيمسك بأعنَّتها ويُسيِّرها كيفما أراد لها أن تسير. ولكَ أن تُلقي بلمحةٍ خاطفةٍ إلى ما قد حقَّقه الإنسان لنفسه من سيادة بمعرفته لقوانين الضوء والصوت والكهرباء والجاذبية … إلخ.

لكن تلك القرون الأربعة التي يمكن ضمُّها معًا تحت فكرةٍ واحدةٍ جديدة هي فكرةُ قراءة الطبيعة قراءةً مباشرة يمكن كذلك أن تتفرَّع بين أيدينا إلى عصورٍ فرعية، يمتدُّ كل عصرٍ منها قرنًا واحدًا على التقريب، ولكلٍّ من تلك الفروع خصائصه المميزة التي تجعل منه عصرًا قائمًا بذاته. وعلى هذا الأساس ننظُر الآن إلى عصرنا الفرعي الذي نعيش فيه، وأعني هذا القرن العشرين، فما هي «الفكرة» الجديدة التي باتت محور الرحى، وميَّزَت هذا القرن عن سابقه. وأرجو من القارئ ألا ينسى أننا نتحدَّث الآن عن «الغرب» المتمثل في أوروبا وأمريكا الشمالية؛ لأن حضارة العصر من صُنعه، ثم سارت معه على الطريق بعضُ أقطار الشرق الأقصى كاليابان، وأما بقية العالم فقد كفاها أن تأخذ ولا تعطي. وأعود بعد ذلك فأسأل: ماذا كانت «الفكرة» الفرعية الجديدة التي عَمِلَت على أن يكون القرن العشرون وحدةً حضاريةً قائمة بذاتها؟

ولكي نُجيب عن ذلك أُريدكَ أن تقف معي لحظةً عند مفترق القرنَين؛ التاسع عشر والعشرين، لنُدير أبصارنا، في مجال العلوم متسائلين: هل حدَث فيها من جديد؟ وعندئذٍ سيجيئنا الجواب واضحًا نعم. فإذا كان العصر بمعناه الواسع الذي يشمل كل ما أعقب العصور الوسطى قد عُرف بخروج العلماء من محابسهم ليجوبوا الأرض والبحر وأفلاك السماء، كاشفين عن كل مستورٍ غطاءه ما أسعفَتْهم قدراتهم في هذا السبيل، ومع الكشف يقرءون صحائف الكون فيعلمون ظواهره. أقول إنه إذا كان العصر الحديث بمعناه الذي امتدَّ أربعة قرون، قد كان مداره «قراءة» الطبيعة قراءة مباشرة، بعد أن كان شُغل العلماء الشاغل قبل ذلك هو أن ينكبُّوا داخل الجدران يقرءون صحف السابقين، فإن «العصر» بمعناه الأضيق الذي يقتصر على القرن العشرين وحده، لا يزال استمرارًا للاتجاه نفسه، إلا أن قراءته للطبيعة مختلفة الأساس عمَّا كانت عليه. وقد تسأل أليس كتاب الطبيعة هو هو نفسه الكتاب الذي قرأه جاليليو ونيوتن؟ فنجيب نعم هو هو الكتاب، لكن الذي اختلف في القرن العشرين، هو الزاوية التي ينظُر منها إلى المادة المقروءة. وأُحب في هذه المناسبة أن ألفِتَ نظر القارئ إلى نقطةٍ مهمة في دنيا العلم هي أن الظاهرة المعروضة للبحث، ولنفرض مثلًا أنها ظاهرة الضوء، لا تبوح بسرها طواعيةً، بل إن العالم الباحث هو الذي يقدح ذهنه ليهتدي إلى طريقة تجعل الظاهرة تُفصح عن قوانينها؛ فعلماء «الضوء» قد ابتكروا من عندهم فكرةً هي أن يحاولوا قراءة ظاهرة «الضوء» بطريقةٍ «هندسية» أي كما تُقرأ أشكالُ الهندسة من خطوط وزوايا. إنهم لا يَرونَ هذه الخطوط والزوايا في «الضوء» بادئ ذي بدء، بل يرونه كما تراه أنت وكما أراه أنا حين ننظر إلى ضوء الشمس أو ضوء المصباح، ولكنهم — أعني علماء الضوء — افترضوا من عندهم أن سرَّ قوانين الضوء قد ينكشف لهم إذا هم نظروا إلى الظاهرة من هذه الزاوية الهندسية. وقد كان أن دبَّروا التجارب التي يحصُلون بها على خيطٍ رفيع من الضوء يشبه الخط المستقيم، ويُسقطونه على مرآة، فرأَوه ينعكس على سطحها بزاويةٍ قاسُوها فوجودها مساوية لزاوية سقوط الضوء على سطح المرآة. إذن فها هو ذا قانونٌ علميٌّ عن ظاهرة الضوء، وهكذا.

ونعود إلى حديثنا عن عصرنا بالمعنى الضيق الذي يحصر العصر في القرن العشرين فنقول إنه استمرار للثلاثة القرون السابقة في الاتجاه بالجهد العلمي نحو قراءة الطبيعة قراءةً مباشرة، إلا أن القراءة اختلفَت أبجديتها عما كانت؛ فبعد أن كان أساسُها عند نيوتن وغيره من علماء الفترة السابقة هو أن أي شيء يبقى على حاله، عاجزًا عن أن يغير شيئًا من وضعه، حتى يأتيه عاملٌ خارجي فيغيره، فالجسم المتحرك في اتجاهٍ ما يظل متحركًا في هذا الاتجاه لا ينحرف عنه إلا إذا صدمَه جسمٌ آخر فيتغير، لا يتغير إلا بفعل عامل خارجي، هو الأساس الذي نقرأ عليه ظواهر الطبيعة في مسالكها. جاء هذا القرن العشرون ليغير أساس القراءة، فيجعل التغير نتيجة اعتمالٍ داخلي في الشيء المتغير، بالإضافة إلى ما قد يكون هنالك من مؤثِّراتٍ خارجية، ولماذا غيَّر العلماء أساس القراءة؟ إنهم فعلوا ذلك حين رأَوا أن الفرض السابق قد تركَ مشكلاتٍ بغير حل، فكان لا بد من بحث عن رؤيةٍ جديدة تُفسِّر كل ما هنالك من ظواهر، فمثلًا كان قانون الجاذبية عند نيوتن مقبولًا في الأجسام التي تقع في خبرة الإنسان، لكنه لم يكن يصدُق على طرفَين؛ الأجسام ذات الأبعاد الفلكية البعيدة كالضوء الآتي من مصادر نائيةٍ يبعد ملايين السنين الضوئية، وكذلك لم يكن يصدق على المكان اللامتناهي في الصغر، كحركات الإلكترونات داخل الذرة؛ فالإلكترون يقفز من فلك إلى فلكٍ آخر غير مقيدٍ بقانون الجاذبية عند نيوتن. وهكذا كانت هنالك مشكلاتٌ لا تحلها الرؤية النيوتونية التي كانت لها السيادة نحو قرنَين، وكان محورها أن المكان مطلقٌ وأن الزمان مطلق، وأن قوانين المادة في حركتها حتمية الحدوث.

وجاء عصرنا ليرى غير ذلك، فيقرأ ظواهر الكون على أساس «النسبية»، لا على أساس أن حقائق الكون مطلَقة، بمعنى أن كتلة أي شيءٍ تتغير بتغيُّر سرعته، وأن أطوال الأشياء تتغير بتغير اتجاه حركتها، وتفصيلات كثيرة في هذا الصدد يعرفها العلماء المختصُّون، لكن الذي يهمنا نحن ممن لا يعلمون إلا أقل من القليل عن تفصيلات العلوم الطبيعية وقوانينها، هو أن التغيُّر قد شَمِل طبيعة القانون العلمي نفسه؛ فبعد أن كان يقينًا رياضيًّا محتومًا، أصبح عمليةً إحصائية تنتهي بنا إلى درجةٍ عالية من «الاحتمال»، وذلك لأن الظاهرة الطبيعية لم نعُد ننظر إليها على أنها محدَّدة تحديدًا قاطعًا، بل هي في حقيقتها الموضوعية مذبذبة، ولذلك فمقاييس أطوالها وأحجامها وسرعاتها … إلخ، تتغير قليلًا في كل مرة، ويقتضي الأمر أن تُؤخذ تلك المقاييس عدة مرات ليُستخرَج متوسِّطها، فضلًا عن أن أجهزة القياس نفسها تزداد دقةً كلما تقدَّم العلم، بل إن «تعريف» تقدُّم العلم هو ازدياد الدقة في أجهزته، ومع زيادة الدقة في الجهاز تتغير أرقام المقاييس.

كان الفكر العلمي إبَّان القرن الماضي قد أخذ يتراكم في توكيده للرؤية الجديدة التي تجعل تغيُّر الأشياء — والأحياء منها بوجهٍ خاص — مرهونًا باعتمال كيانها الداخلي؛ أي إن التغيُّر لم يعد مقصورًا على العوامل الخارجية وحدها. وجاءت أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن بذروة ذلك التراكُم في نظرية النسبية عند أينشتين، فماذا يكون وقع ذلك كله على «الإنسان» حين يتأمل حقيقة وجوده وصورة العلاقات التي تربطه بالآخرين؟ قد يُدهشكَ أن نُلقي هذا السؤال عقب اللمحة الخاطفة التي قدَّمناها عن تغيُّر الرؤية عند علماء الطبيعة عما كانت عليه رؤية العلماء في القرون السابقة، ودع عنكَ رؤية ما قبل هذا وذاك من عصورهم الوسطى، لكن علم العلماء في أي عصرٍ لا يخاطب الخلاء، بل إنه علمٌ يتبعه تطبيق، والتطبيق لا يكون إلا في دنيا الناس؛ فمُحالٌ أن يكون لعلم العصر المعيَّن اتجاه وأن يكون لأهل العصر اتجاهٌ مضاد، كل ما في الأمر هو أن تغيُّر النظرة العلمية يسبق تغير الحياة العملية، ريثما ينتقل التغير من النظرة إلى التطبيق. على أن الأرجح أن يكون علم العلماء قد سبقَه بفترةٍ قد تطولُ يسودها مناخٌ عام ينسج خيوطه السابقون لعصورهم من رجال الفكر والأدب والفن. وهذا هو بالفعل ما قد حدَث في حالتنا هذه؛ فقد ظهر من الفلاسفة والمفكرين ورجال الأدب والفن، ابتداءً من رومانسية العشرات الأُولى من القرن الماضي، التي تبدَّت في كبار الشعراء والروائيين وفي فلسفة هيجل المثالية، ثم في فلسفة شوبنهاور ونيتشه التي تجعل أولوية الحياة في إرادتها قبل أن تكون في تعلُّقها، وكلها اتجاهاتٌ تُحوِّل محور الارتكاز في تطوُّر الحياة من تأثير العوامل الخارجية إلى اعتمال الدوافع الداخلية. وانعكس الاتجاه نفسه في أواسط القرن الماضي على مُفكِّرين من أمثال ماركس وفرويد. وربما كان الشذوذ الوحيد هو نظرية «دارون» في التطوُّر وكان ظهورها في أواسط القرن الماضي أيضًا؛ فهي وإن سايَرتْ عصرها في توجيه الاهتمام نحو فكرة التطوُّر، إلا أنها جعلَت تطوُّر الكائنات الحية نتيجةَ عواملِ البيئة الخارجية، التي تُرغِم الكائن الحي على أن يتكيَّف لبيئته وإلا كان مصيره سرعة الفناء، وهو اتجاهٌ جاء عصرنا ليُعلن نقيضه — وهو أن حياة الكائن الحي من الداخل هي التي بفاعليَّتها تُملي على البيئة شروطَها وذلك بأن تُغيِّرها لتجعلها أصلح لبقائها.

إلا أن العصر الواحد لا بد أن يسوده آخر الأمر صوتٌ واحد، وإلا فلا هو «عصر» ولا هو يحيا كما تُريد له الحياةُ السوية أن يحيا، فإذا كان العلم والفكر والفن والأدب قد عَمِلَت كلها خلال القرن الماضي وأوائل هذا القرن على أن تجعل الطبيعة تتحرك من داخلها — حتى ما هو ماديٌّ منها — فهل يمكن أن يأتي إنسانُ القرن العشرين ليترك نفسه فريسةَ عواملَ خارجية تُشكِّله كما أرادت؟ تُسعده أو تُشقيه كما تشاء؟ على أن زوال رؤية عامة لتأخذ مكانها رؤيةٌ جديدة، تنتشر حتى تصبح هي الرأي العام بين الجماهير، لا بد له من رجَّةٍ كبرى تهزُّ أوضاعًا بالية فتهدمها لتُقام أوضاعٌ جديدة. وكانت هذه الرجَّة هي التي تمثَّلَت في حربَين عالميتَين، وفي سلسلة من الثورات توسَّطَتهما أو أعقبَتْهما مباشرةً بعد الحرب العالمية الثانية، وبينها ثورة مصر ١٩١٩م، وثورتها ١٩٥٢م؛ أولاهما عقب الحرب العالمية الأولى والثانية عقب الحرب العالمية الثانية، وثوراتٌ أخرى رأيناها بعد ذلك بقليلٍ في بعض أقطار العالم العربي وفي كثيرٍ من بلدان القارتَين الآسيوية والأفريقية، فماذا أرادت كل هذه الثورات لشعوبها؟ الجواب في ضَوءِ ما ذكرناه هو أنها أرادت لحياة الإنسان فردًا أو شعبًا أن يكون له ما لسائرِ كائنات الأرض والسماء من إرادةِ تغييرِ نفسها بنفسها.

لكن شيئًا يَلفِت أنظارنا فيما تميَّزتْ به العناصر المختلفة التي أخذَت في الظهور منذ أواخر القرن الماضي، والتي اتجهَت منذ ظهورها تتضافر عنصرًا مع عنصر لينتهي أمرها إلى أن يُنسج بعضها مع بعضٍ في حياة هي الحياة التي يحياها العالم الآن، وذلك هو أن تلك العناصر المستحدَثة كانت تنطوي على ضدَّين في وقتٍ واحد؛ إذ تنطوي على ما من شأنه أن يزيد من حرية الإنسان مما يُقيِّده في انطلاقة فكره ونشاطه، ثم ينطوي في الوقت نفسه على ما يزيد قيوده قيودًا من نوعٍ جديد. وأوَّل ما نذكُره في هذا الصدد هو ما أخذ يظهر منذ أواخر القرن الماضي وطَفِق منذ ظهوره وإلى يومنا هذا يثب وثباتٍ سريعةً جبارة حتى لقد أوشك أن يطوي الحياة الإنسانية بكل أطرافها تحت جناحَيه وأعني به «العلم التكنولوجي». وهنا أودُّ للقارئ أن يُمعن النظر في قولنا «العلم التكنولوجي» ليُلِمَّ بما تعنيه على وجه الدقَّة حتى لا تنقلب عليه العادة التي لا بد أن تكون قد تجمَّدَت فيه من كثرة تكرار هذه العبارة أو ما يقرب منها مأخوذة عن غير فهمٍ صحيح؛ فأولًا: لا ينبغي لنا أن نتجاهل حقيقةً هامة هي أن هذا الطراز الجديد من «العلم» يختلف اختلافًا بعيدًا عن صور «العلم» التي سبقَت فيما سبق من مراحل التاريخ، وأساس الاختلاف هو استخدام الأجهزة في عملية البحث العلمي بصفةٍ أساسية. ولم يكن العلم في تاريخه كله قد عَرفَ قبل ذلك استخدام أجهزة تُساعد على دقة البحث إلا بدرجةٍ لا تكاد تستحق الذكر. وحتى ذلك القليل من الأجهزة الذي كان إنما كان على درجةٍ من البساطة شديدةٍ لا تُقاس بما نألفه اليوم في أجهزة العلم من دقةٍ بعيدة المدى. وثانيًا: يحسُن بنا أن نكون على وعيٍ يقظ بأن معنى كلمة تكنولوجيا في هذا السياق ليس كما أصبح شائعًا في الناس الآلات التي تُنتَج آخر الأمر ليستخدمها الناس في حياتهم من مصانعَ وأدواتٍ للحياة اليومية كالسيارات وأسلحة القتال والثلاجات وغيرها؛ فهذه كلها ثمراتٌ نتجَت عن العلم التكنولوجي؛ فكلمة تكنولوجيا عندما استُعملَت لأول مرة في المجال العلمي إنما قُصِد بها منهج البحث العلمي عن طريق استخدام أجهزة تساعد على دقة النتائج. وإذا جاز لنا أن نصف عصرنا بأنه عصرُ التكنولوجيا؛ فذلك لأن الأجهزة العلمية قد كثُرت وتنوَّعَت وازدادت دقةً حتى أصبحَت ملمحًا بارزًا من ملامح العصر، ولم يكن العصر الواحد من العصور السابقة يعرف في ميادينه العلمية إلا عددًا قليلًا وبسيطًا من أجهزة البحث العلمي بحيث لم يكن من حقه أن يصف نفسه بهذه الصفة. وثالثًا: أن الأجهزة العلمية قد أخذَت تتطور بسرعةٍ شديدة حتى لَتتعاقَب الأجيال في كل نوعٍ منها تعاقبًا سرعان ما ينسخُ جديدُها قديمها مما يعمل على تغيُّر وجه الحياة تغيرًا يفوق شطحات الأحلام. وكان لهذا التغير السريع أثَره العميق في بنية المجتمع؛ إذ أصبحَت الخبرةُ الأكثر في أيدي الشباب بعد أن كانت على مدى التاريخ في أيدي الشيوخ.

وأخذَت الآلات الناتجة عن العلم التكنولوجي من الكثرة والكفاءة بحيث وصلَت إلى بيت الريفي في قُراه وكُفوره ونُجوعه. ولأول مرة في تاريخ الإنسان يمُد «العلم» أطرافَه بما ينتُج عنه إلى أبعدِ بعيدٍ من حياة الناس اليومية. لقد كان العلم فيما مضى يشغل جماعة العلماء فيجيء ويمضي دون أن يشعر بمجيئه ومُضيِّه إلا أقلُّ من القليل بين أفرادٍ يُعدُّون على الأصابع، ولو أن تلك الآلات التي أنتجَها العلم وجهازه كانت ضعيفةَ الأثَر في الجانب الكيفي من حياة الإنسان لما حقَّ لنا أن نُطيل عنها الحديث، ولكنها جاءت لتزيد من حرية الإنسان بما لم تستطِع أن تُحقِّقه كل القرون الماضية مجتمعة، فخذ معنى «الحرية» من أي جانبٍ شئتَ تجدْها قد زادت بفضل أجهزة العلم وما نتج عنها من آلات وأدوات زيادةً تلفِت النظر. ألم يكن الإنسان إلى عهدٍ قريب يحمل الأثقال على ظهره وكتفَيه كأنه دابةٌ من دوابِّ الحيوان؟ بل إنه لا يزال كذلك في كثير من بلدان العالم المتخلف؟ فجاءت الآلة لتحمل عنه هذه الأثقال. وانظر إلى العمارة تُبنى في بلادنا وإلى العمارة تُبنى في بلدٍ تقدَّمَت آلاته؛ فالإنسان عندنا لا يزال يحمل الحجارة والرمل وكلَّ ما تتطلَّبه عملية البناء، والإنسان في البلد المتقدم لم يعُد يحمل شيئًا. تلك إذن حريةٌ بدنية انتقل منها إلى حريةٍ «عقلية». وانظر كَم يستعين الإنسان في بلدٍ متقدم بالجهاز والآلة على معرفة ما لم يكن ليعرفه أحدٌ من قبلُ إذا اعتمد على حواسِّه وحدها وعلى قُوَّته الذهنية وحدها. وبديهي أن حرية العقل مقرونةٌ بسَعة المعرفة؛ إذ ماذا تُجدي كلمة حرية في مجال التفكير إذا لم يكن في حوزة الإنسان معرفةٌ بطبائع الأشياء التي يريد أن يكون «حرًّا» في استخدامها؟ الحق أننا نقول لغوًا إذا مضَينا في ذكر ما قد بات جزءًا لا يتجزأ من حياة الإنسان المعاصر. وكل ما في الأمر من اختلاف بين إنسانٍ هنا وإنسانٍ هناك هو اختلافٌ في درجة الحرية البدنية والعقلية؛ فكلما ازداد استخدام الأجهزة والآلات ازدادت معه الحرية، وكلما قلَّ قلَّت، ولكن هل جاءتنا تكنولوجيا بما جاءت به من حرية البدن والعقل منحةً خالصةً من الشوائب والأضداد؟ كلا، كلا فحياة الإنسان لا تعطيه النعمة إلا إذا اقتصَّت منه الثمن باهظًا كأنها المرابي اليهودي في مسرحية «تاجر البندقية» قد أعطى ليستردَّ مقابلَ ما أعطاه لحمًا ودمًا من جسد مَن نَعِم بعطائه. وهكذا أنعمَت علينا تكنولوجيا العصر بحرية لم يكن أسلافُنا ليحلُموا بجزءٍ منها، لكنها أعطت بشمالها ما اقتصَّت أضعافَه بيمينها، قيودًا على قيودٍ لم يكن ليشقى بها أسلافنا؛ فالعامل في مصنعٍ حديث يُنتج الكثرة الغزيرة، أما هو في شخصه فقد سلبه ذلك المصنع نفسُه فرديتَه وحريتَه وجعله لا يزيد إلا قليلًا على أي مسمار أو ترس من مسامير الآلات وتُروسها. إنه يعمل من الصباح إلى غروب الشمس دون أن يعلم ماذا صنع، ولماذا؟ لأنه مكلَّف بجزءٍ يسيرٍ لا معنى له عنده يُكرِّره ويُكرِّره آلاف المرات دون أن يدري كيف بدأت السيرة وإلى أية غاية تنتهي، فأُصيب العامل بما نقرأ عنه من ويلات الحياة الصناعية؛ قلق وتمزُّق واغتراب وملَل ويأس وضَيعة إيمانٍ بقيمته وقيمة حياته.

وانظر إلى أمثلةٍ من الأجهزة التي تُنتجها مصانع التكنولوجيا مما له صلةٌ بحياة الإنسان الخاصة كالراديو والتليفزيون تجِدْ إلى جانب فوائدها العظيمة في طريق المعرفة والتنوير وفي التسوية بين عباد الله غنيِّهم وفقيرهم في قضاء أوقات الفراغ؛ فجميعُهم على السواء يشاهدون ويسمعون ما يَشهَده الجميع ويسمَعونه، ولكن اقلب صفحة هذه النعمة لترى النقمة كامنةً في ظهرها؛ فأولًا كان حتمًا محتومًا بطبيعة الحال أن تُراعى أغلبية الجمهور فيما تعرضه هذه الأدوات؛ ومن ثَمَّ وجب تبسيط المعرفة وتسطيحها. ووجب كذلك تفتيتها وجباتٍ مجزَّأَة بحيث لا يزيد عرض الموضوع الواحد على أكثر من بضعِ دقائق. ومن هذه الأشياء المبتورة أصبحَت تتكون ثقافة من يتثقَّف، ومع ذلك فلا تُقاس هذه البلوى بالنكبة الكبرى التي تلحق بحرية الإنسان، فتأمَّل كم أعطتنا من حرية العقل بما قدَّمَته لنا من معارف وكم سلَبتْ من حريَّاتنا حين حتَّمَت على المُستقبِل أن يبلع المُرَّ، ولا تُناقِش. وتبلُغ النكبة أقصاها عندما يهبط على الشعب مُستبدٌّ، وعندئذٍ فلا يسمع المتلقي إلا كلمةً واحدة هي كلمته. ولا غرابة أن نجد زعيم الانقلاب حيثما وقع انقلاب يسرع أول ما يسرع إلى دار الإذاعة، فإذا سيطر عليها فقد قطَع معظم الطريق إلى ذروته. ولا نقول شيئًا عن ويلات الحروب الحديثة بما أمدَّها به العلم الحديث وتقنيَّاته، فذلك مكرورٌ مُعادٌ ومعلوم للكبار وللصغار.

وللحديث بقيةٌ نستكمل بها صورة عصرنا وأين يقع العربي منه وأين يقع هو من قلب العربي وعقله.

٢

فتح القرن العشرون أبوابه على أفكار ضخمةٍ غزيرة الثراء، أفرزَتْها عقول الجبابرة من أبناء القرن الماضي، ولكن القرن الماضي لم يَنعَم ولم يَشقَ بالعيش في ظلال أفكاره، وتَركَ لخلفائه من أبناء هذا القرن العشرين، أن يُحلِّلوها ويبسُطوها ويُطوِّروها، لتخرج بهم آخر الأمر من حياةٍ ذهب عهدها، إلى حياةٍ جديدة في عهدٍ جديد. وكانت هذه هي سُنة الحياة الفكرية على امتداد تاريخها؛ فرجال الفكر يُفرِزون فكرهم الرامي إلى التطوير والتعديل، ثم يذهبون مع ذهاب جيلهم دون أن يتسع لهم الوقت فيَرَوا ثمراتِ فكرهم، وقد سارت بأرجلها على الأرض أو طارت بأجنحتها في السماء؛ لأن هذه الثمار الحية التي تتفتَّق عنها الأفكار، إنما هي مقسومةٌ للجيل اللاحق أو الأجيال اللاحقة. وهكذا كان الأمر حين ورثنا نحن أبناء هذا القرن العشرين، عن القرن الماضي، وكان علينا نحن أن نَستولِد تلك الأفكارَ نتائجَها لنحيا بها ولها. ولقد أسلفنا لك القولَ في حديثنا الماضي، بأن تلك الأفكار الضخمة القوية الغنية بما انطوت عليه من غزارة الفحوى، وإن تكن قد اختلَفَت ميادينها، إلا أنها جميعًا أوشكَت أن تدور معًا على مدارٍ واحد، هو أن الحقيقة الكونية في مجموعها، وأن كل كائنٍ حيٍّ مفرد من كائناتها، جوهره «الحركة» وليس «السكون»، وأن كل شيءٍ تنبُع له حركتُه التي يتغيَّر بها ويتطوَّر من داخله، وليس كل التغيُّر ناشئًا عن فعل العوامل الخارجية.

وكان من الطبيعي أن تتولَّد عن هذا التحوُّل رؤيةٌ علمية جديدة، ترى الأشياء ناميةً متطوِّرة متغيِّرة، بعد أن كانت الفكرة العلمية قائمةً على افتراض الثبات والسكون والدوام على حالةٍ واحدة، فلا يتحرك ساكن إلا بعاملٍ خارجي يُحرِّكه، ولا يسكن متحركٌ إلا بعاملٍ خارجي يُوقف حركته. وكان السؤال إذا ما رأى الناس متحركًا أن يسألوا: ما الذي بثَّ فيه الحركة، فأصبح السؤال إذا ما رأى الناس ساكنًا أن يسألوا ما الذي جمَّد فيه حركتَه؟ واختصارًا كان الثبات الساكن هو الأساس المفترض، فأصبح التغيُّر المتحرك هو ذلك الأساس. ولا عجب أن ترى ذلك كله قد انعكَس في فلسفات «التطور» التي شغلَت كثيرين من فلاسفة القرن الماضي والقرن الحالي على السواء.

ومع هذا التغيُّر في الرؤية العلمية، من السكونية إلى الحركية، أُضيفت للعلم قوةٌ منهجية تتمثل في استخدامه للأجهزة في بحوثه استخدامًا على نطاقٍ واسع، حيث أصبحَت هذه الظاهرة معلمًا من أبرز معالم عصرنا، وهي ظاهرة التكنولوجيا أو «التقنيات». وقد أسلفنا لكَ في حديثنا الماضي أن المعنى الأساسي لهذه الكلمة كان يُشير إلى منهج البحث، ولكنه اتَّسع مع الأيام ليضيف جانبًا آخر، وهو الشائع اليوم بين الناس، وذلك هو أن يُطلَق هذا الاسمُ نفسه على المصنوعات التي تنتُج عن استخدام ذلك المنهج، وبعبارةٍ قصيرة نقول إن التعبير الصحيح بادئ الأمر، هو قولهم، العلم بالتكنولوجيا، ثم غلب على الناس اليوم أن يقولوا «العلم والتكنولوجيا» كأن العلم شيءٌ يسبق، والتكنولوجيا شيءٌ آخر يتبعه في الظهور.

وفُتحَت أبواب القرن العشرين، فيما فُتحَت عليه، على هذا الضرب الجديد من العلم الذي يُقام على أجهزة، ويُنتج بدوره أجهزة، وكانت لهذه الحداثة العلمية حسناتها وسيئاتها، كان لها خيرها وشرها، وفي طليعة خيراتها — كما بينَّا في الحديث السابق — ما كسَبته للإنسان من حريةٍ يتحرر بها من قيود الطبيعة المادية، بعد أن طال العهد بالإنسان عبدًا لها، فمن ذا الذي استطاع من بني الإنسان، منذ دبَّ إنسانٌ على الأرض بقدمَيه، أن يغوص في أغوار البحر كما غاص إنسان اليوم، أو أن يطير في أطباق السماء كما طار، أو أن يُسرِع في انتقاله على اليابسة كما أسرع؟ من ذا استطاع في كل مَن شهدهم التاريخ، أن يخترق الجدران بضروب الأشعة ليرى ما وراءها ويسمع؟ فطبيب اليوم يكشف في جسم مريضه عن كل خبيءٍ مستور في القلب والرئتَين والمعدة والأمعاء، دون أن ينخدش خدشٌ في جسم المريض. ومن ذا الذي استطاع من أطباء الأمس القريب والبعيد، أن يستبدل في الإنسان المريض بقلبه التالف قلبًا صحيحًا، وبكليته الفاسدة كليةً سليمة؟ من الذي أرغَم جفاف الصحراء أن يُنتج الغلال والخضر والزهور كما أرغمه إنسان اليوم، ثم من ذا الذي جرؤ أن يصنع ما يُشبه العقل الإنساني في جهازٍ كما جرؤ إنسان اليوم؟!

ولن نستطرد أكثر من هذا في ذكر ضروبٍ من سيطرة الإنسان على تمرُّد المادة وعنادها بفضل العلم الجديد وتقنياته، لكي نقلب صفحتَه الأخرى التي مُلئَت بقيودٍ وأغلال قيَّدَت الإنسان وغلَّتْه بسبب العلم الجديد وتقنياته. وقد ذكرنا في حديثنا الماضي أمثلة لذلك فيها الكفاية، إلا أن إنسان العصر لم يقف عاجزًا أمام هذه العلوم، ينعم بخيرها ويشقى بشرِّها وهو في حَيرةٍ من أمره، بل هو يُحاول أن يجد لسموم حضارته الجديدة، لعلمها التقني الجديد، ترياقها، فإذا كان العلم الجديد بما يفرضه على طبيعة الإنسان من ضوابط وقيود، قد سلَبه تلقائيته الفطرية، بمثل ما أضاف له حريةً إزاء الظواهر الطبيعية التي لم يكن له إزاءها حول ولا قوة، فقد شاع في نفسه شعورٌ بالضيق للتلقائية الحرة التي ضاعت، أكثر مما شاع فيها من رضًى وطمأنينة بالحرية المكسوبة، التي أمدَّته بشيءٍ من السيادة على عناصر الطبيعة التي تحيط به؛ ومن ثَمَّ راح ينشئ لنفسه أدبًا جديدًا، وفنًّا جديدًا، رُوعي فيهما أن تكون النبرة الذاتية الخاصة بالمبدع، أعلى صوتًا وأبرز ظهورًا من الجانب الذي يُشير إلى وقائع الكون الخارجي وقوانينها، راجيًا بذلك أن يعتدل له الميزان بين داخل وخارج، أو بين ذات وموضوع.

فرأينا في الأدب الجديد صورًا اغترفها الأديب المبدع من ذات نفسه اغترافًا، حتى لَيكاد المتلقي أن يتعذَّر عليه الفهم؛ إذ الفهم ميسور حين تكون الإشارة إلى «واقع» مشترك بين المبدع من جهة والمتلقي لثمرة إبداعه من جهةٍ أخرى. أما حين تنعدم، أو تكاد تنعدم تلك الحلقة الوسطى، فها هنا يتعذَّر جدًّا في كثيرٍ من الأحيان أن يجد المتلقي ما يفهمه حق الفهم فيما يطالعه من شعر أو رواية أو مسرحية من الأدب الجديد، اللهم إلا أن يتولى ذلك دارسٌ متمكِّن، يستطيع أن يرجع إلى مراجعَ المكتبة الأدبية، ليتعقَّب الغوامض إلى أصولها عساها تضيء له ما قد غمض عليه واستعصى. وهذا هو ما رأيناه في الأدب الأوروبي الجديد عقب الحرب العالمية الأولى، بل وإن مبدعي الأدب عندئذٍ لم يجعلوا أمرهم سرًّا على الناس، وأعلن بعضهم صراحةً بأنه قد تعمَّد الغموض إلا على القادرين. وأما العامة من جمهور القُرَّاء — إذا جاز هذا القول — فلم يكونوا عندهم بذوي خطر يُحسب له حساب، وإلا فكيف أمكن أن تصل بهم الغفلة وسهولة الانقياد حدًّا يستسلمون معه للساسة الذين تُغريهم حرفة السياسة وحماقتها أن يبثُّوا الفرقة بين الإنسان والإنسان، ويُشعلوا الحروب نارًا لا تُبقي ولا تذَر. وإذا لم يكن أمرُ المبدعين للأدب في العشرات الأُولى من هذا القرن هو كذلك «في الغرب» فلمن — إذن — كَتَب «جيمس جويس» روايته «يولسينر» عصيةَ الفهم إلا على الدارسين، ولمن كتب «أزراباوند» شعره الذي ملأه بمفرداتٍ من لغاتٍ مختلفة يكاد يستحيل على قارئٍ فوق متوسط القُراء أن يقرأ ليفهم، إلا إذا قرأ وهو في مكتبةٍ جامعية تعدَّدَت فيها قواميس اللغات، لا يُستثنى منها اللغة الصينية واليابانية.

كان ذلك ضربًا من ضروب الألغاز في أدب هذا القرن في عشرات أعوامه الأُولى. وكان بعض التعليل لتلك الظاهرة هو أن مبدع الأدب قد أراد أن يُطلق لنفسه العِنان إقرارًا وتثبيتًا لوجودها، فيشعُر بحريته الشخصية وقد رُدَّت إليه بعد الذي فقدَته في عالم العلم والصناعة، بما في ذلك العالم من ضوابط وضواغط! لكن ذلك لم يكن هو الضرب الوحيد فيما لجأ إليه مبدعو الأدب في هذا الصدد، بل لجأ نفرٌ كبير منهم عن عمد وتدبير، إلى مُركباتٍ لغوية لا تُفهم بالطريقة المألوفة لفهم المقروء، قائلين في ذلك إنهم لا يعرضون على الناس «فكرًا» واضح الحدود حتى يُطالبهم القُراء بالفهم المحدَّد الصريح؛ لأن ذلك أمرٌ متروك لﻟ «علم» في ميادينه، وأما الأدب فتُصاغ عبارته ﻟ «تُوحي»، فإذا أفلحَت في الإيحاء للقارئ بالحالة النفسية المطلوب إشاعتُها في النفوس، فقد أفلَح الأدب في أداء رسالته.

وربما كان اتجاه الفن الجديد إلى التمرُّد على «عملية» عصرنا وما قد طغَت به على روح الإنسان المتطلعة بطبيعتها، الحرة في تلقائيتها وفي تفرُّدها، أقول إنه ربما كان التمرُّد على نمطية العلم والصناعة في عصرنا، أوضَح ظهورًا في الفن منه في أي مجالٍ آخر؛ فكُلنا يلحظ كم تحلَّل الفنان التشكيلي الجديد من الروابط التي تربط مبدعاته بصور الأشياء كما تقع في الخارج، وطَفِق ذلك الفنان يبتكر لحريته تلك أسلوبًا جديدًا في كل يوم؛ فهو اليوم «تجريدي» وكان بالأمس «تكعيبيًّا» أو «سرياليًّا»، وسوف يكون غدًا مزيجًا من هذا وذاك. إنه لا يريد أن يكون مسئولًا في إبداعه الفني إلا عن طريقة استخدامه للألوان والخطوط والفراغ والملاء في مسطَّح لوحته؛ فهو — كما شاع القول — ينتج «موسيقى للعين» كما ينشئ الموسيقار موسيقى للأذن، فهل يجوز لسامع المعزوفة أن يسأل الموسيقار: أين المقابل الموضوعي لمعزوفتك في الطبيعة التي تُحيط بنا؟! فإذا كان هذا السؤال غير واردٍ في دنيا الأنغام، فيجب كذلك ألا يرد في دنيا الألوان والخطوط. ووراء هذه الحرية الذاتية في الإبداع الفني، يكمُن الدافع الأساسي، وهو أن تقنين العلم والصناعة في عصرنا قد أزهَق روح الإنسان وأرهقَها، فانتقم لنفسه بإسرافه في الركون إلى ذات نفسه فيما يقوله شعرًا وما يعزفه موسيقى وما يرسمه ألوانًا وخطوطًا، لا سلطان عليه في ذلك إلا قواعد الفن ذاته.

وهنا نُعرِّج بالحديث إلى الأدب العربي وإلى الفن العربي كما نراهما الآن، لنلحَظ فيهما ملامحَ مما قد جرى في الغرب ردًّا لفعل العلم والصناعة هناك، فلا يسعنا إلا التساؤل في شيء من العجب: لأي المؤثِّرات في حياتنا العربية يستجيب رجال الأدب والفن عندنا؟ إن العربي لم يشارك العالم الحديث في علمه وفي صناعته بأكثر من أنه يشتري مؤلفاته العلمية ليتعلم العلوم الحديثة، ويشتري مصنوعاته الجديدة لينعم بها، فلا هو عانى في ساحة العلوم إبداعًا، ولا هو قد مارس حياة الصانع وهو يبتكر في صناعته أشكالًا جديدة، فما الذي ضغط على نفس العربي حتى ضاقت ودفعَتْه دفعًا إلى التمرُّد في دنيا الإبداع الأدبي والفني، إنقاذًا لتلقائيتها الطبيعية التي أفقدَتْها إياها معاناة العلم في انضباطه، ومكابداتُ الصناعات في دقتها؟ بل إن العربي في الحربَين العالميتَين الأولى والثانية لم يُشارِك محاربًا في ساحات القتال، وإنما كان موقفه موقف المتفرج، كلا، بل كان موقفه موقف من وقَف ينتظر حكم القضاء فيه؛ إذ إن تلك الحروب إنَّما وقعَت بين ضباعٍ يقتتلون على فريسة، وبين الفرائس المقتَتل عليها كانت الفريسة العربية!

أفيحلُّ للشاعر العربي — أو الأديب العربي، أو الفنان العربي — أن تضيقَ له نفس وأن يضطربَ له قلبٌ بذات الصورة التي ضاقت بها نفس الشاعر في الغرب واضطرب قلبه؟ ومع ذلك فقد شاع فينا شعرٌ جديد انصرف فيه الشاعر إلى ذات نفسه انصرافًا تامًّا، وأخذ يغترف من تياره الشعوري الباطني ما ليس يفهم له معنًى إلا صاحبه، أو ناقدٌ متحذلق يدَّعي أنه يعلم؟ نعم لقد كان ما يُريده الشاعر دائمًا — أيًّا كان مكانه وزمانه — لا ينكشف كله للقارئ، بل يظل بعض المعنى المقصود حبيسًا في «بطن الشاعر» — كما كان العرب يقولون — لكن تبقَى بين المعلوم والمجهول من معنى الشعر المعروض، نسبةٌ معقولة؛ ومن هنا استطاع القارئون أو السامعون درجةً من الفهم، حتى لو بعُدَت مسافة المكان وفترة الزمان، وإلا فكيف يُتاح للعربي اليوم أن يفهم بدرجةٍ كافية، شعرًا أنشده أصحابه منذ خمسة عشر قرنًا؟ لكن اقرأ لشاعر عربيٍّ جديد، أو استمع، تجدْكَ أمام مركَّباتٍ لفظية قد تردعُك بشفافيتها، وإيحاءاتها، وهي في كل الحالات تُشير إلى باطن أكثر جدًّا مما تشير إلى ظاهر. وسؤالنا المطروح هنا هو: ماذا دعا شاعرنا الجديد إلى هذه الضبابية الموحية وليس هناك في حياته العصرية إلا سلبيةٌ يتلقَّى بها علوم الغرباء ومصنوعاتهم؟! ربما جاءك الجواب بأن أزماتهم في الوطن العربي من نوعٍ مختلف عن أزمات المبدعين في الغرب، لكنها أزماتٌ على أية حال جاءت، فإذا كانوا في الغرب قد ضاقوا صدرًا بضبط العلم ودقة العمل في المصانع، فنحن قد ضاقت صدورنا هنا بأفاعيل السياسة الخارجية، ومظالم السياسة الداخلية، فقد تُزهق نفوسَهم هناك معاملُ العلم ومصانع الإنتاج، وتُزهق نفوسَنا هنا معتقلات وصورٌ مختلفة من الاضطهاد والتعذيب والانتقام وكَمِّ الأفواه، فضلًا عن ضيقٍ اقتصادي في العيش تتعذَّر معه الحرية لو أردناها، فأي عجبٍ — إذن — أن ينكَبَّ الشاعر على ما قد طواه بين ضلوعه من هموم؟ وجوابنا على ذلك هو حَيْرة لا تعرف كيف تُجيب، اللهم إلا «حدْسًا» نرى به ما لا نملك له برهان العقل، والذي نراه بذلك الحَدْس المبهم هو أنه ما دامت قد اختلفَت همومنا نوعًا عن همومهم؛ إذ اختلَفَت مصدرًا وطبيعةً، فقد كان المتوقَّع المرجَّح — إذا لم تتدخل سلبية المحاكاة العمياء — أن يجيء ردُّ الفعل على صورةٍ عربيةٍ فريدة في نوعها وطبيعتها. وهذا الذي نقوله الآن يصدق على الأدب صِدقَه على الفن بجميع أشكاله، ونسوق مثلًا؛ فقد نشأ في الغرب أدب «العبَث» أو ما أسميناه نحن عندئذٍ بأدب «اللامعقول»، وكان الدافع إليه هناك هو الدافع نفسه الذي بسطناه فيما سلف، وهو أن ظروف الحياة العصرية قد مزَّقَت المجتمع الإنساني شعوبًا وأفرادًا، تمزُّقًا نشأ عنه عدمُ التفاهُم بين متكلمٍ وسامع أو بين كاتب وقارئ؛ إذ انسدَّت قنواتُ التفاهُم بين الطرفَين؛ فما يقصده المتكلم لا يصل إلى قلب السامع، لاختلاف نظرته، فيُجيب جوابًا بعيدًا عن سياق الحديث. وهكذا جاء هذا الأدب انعكاسًا للحياة المعاصرة هناك، فأغرى أدبُهم العبثي هذا بعضَ أُدبائنا لينسجوا على منواله، وكان اعتراضنا عندئذٍ هو أن ما دفَعَت إليه ضروراتُ الحياة هناك ليس حتمًا أن يكون هو ما تدفَع إليه الضرورة هنا، ففيم المحاكاة؟ إنهم هناك قد شَبِعوا إلى حدِّ التخمة علمًا وصناعةً، فضاقت صدورهم، وأما نحن فلم نَعبُر بعدُ عتَبةَ الدخول إلى دنيا العلم والصناعة، اللهم إلا في صورةٍ سلبيةٍ متلقية، ليس فيها عناء المبادرة والكشف والإبداع، فلماذا نفزع حنينًا إلى العبث كما يفزعون؟

والمفارقة التي تلفِت النظر حقًّا، هو أننا قد نُسرع إلى الأخذ بكل بدعةٍ جديدة تظهر في الغرب، إذا جاءت في ميادين الأدب والفن، لا نقف لنرى في تلك البدعة ما يمكن أن يلتئم منها بتيَّارنا الذوقي وما لا يمكن، في الوقت الذي نتردَّد ألف مرة إذا ما دُعينا إلى الأخذ بالجانب المنهجي من الحياة العقلية العلمية عندهم، حتى لقد انقضى على لقائنا الحديث مع الغرب نحو قرنَين دون أن نفتح صدورنا وعقولنا للوقفة العقلية العلمية التي هي عماد الحضارة الحديثة؛ لأنها هي التي انتهَت بهذه الحضارة إلى ما يُميِّزها من علمية النظر حتى في المجالات التي لم يكن مألوفًا من قبلُ أن تندرج في دائرة المنهج العلمي، وبصفةٍ خاصة ما يختص منها بالإنسان وحياته الفردية والاجتماعية، فإذا كانت حياة الغرب في حضارته الجديدة تقوم على ركيزتَين؛ إحداهما علم من النوع التكنولوجي الجديد، والأخرى فنون وآدابٌ جديدة تُسرِف في الاغتراف من تيار الشعور الداخلي، لعل ذلك يُعين الإنسان على تقرير ذاته أمام طُوفان الآلات التي يتدفَّق بها العلم، والتي من شأنها أن تُحوِّله ليكون عبدًا لها بعد أن كان الظن أن يكون سيدُها، أقول إنه إذا كانت حضارة الغرب الحديث تقوم على هاتَين الركيزتَين، فقد كان موقف العربي الحديث منهما هو أن يفتح ذراعَيه في فرحة الطفل، ليستقبل كل جديد في ناحية الفن والأدب، وأن يُعرِض عن قبول الوقفة العقلية العلمية إلا في حدودِ ما يحفظه أثناء دراسته، حفظًا لا يُصاحبه قلبٌ مطمئنٌّ مؤمن، مع أن منطق الحياة السوية يصرخ بأنه إذا كان الإنسان ليقبل أحد الجانبَين دون الآخر لأي سبب من الأسباب، فالجانب المتصل بالذات الإنسانية وذوقها — وهو جانب الفنون والآداب — هو الذي لا يُؤخذ عن الغرباء بل يُترك لينبع وينمو داخل الحدود، وأما الجانب العقلي العلمي فهو مشترك بين الناس جميعًا؛ فلا خير في أن يأخذه عربي عن يوناني أو عن هندي أو عن إنجليزي أو عمَّن شاء له الحظ من سائر الشعوب أن يكون له السبقُ في علمٍ أو ما يترتَّب على علم؛ لأن ذلك كله وليد العقل، والعقل إنسانيٌّ مشترك. ولا بد لنا أن نذكُر هنا عن آبائنا العرب الأولين، حين فتَحوا أبوابهم ونوافذهم على الحضارات القديمة المجاورة لهم، لينقلوا عنهم ما أرادوا نقله، لم يتردَّدوا في نقل كل ما استطاعوا الحصول عليه من نواتج العقل البشري، كالعلوم والفلسفة، لكنهم أحجموا على نقل الأدب؛ إذ لم يتصوَّروا إلا أن يكون الأدب نباتًا محليًّا ينبُت في وطنه الذي ينتمي إليه.

وربما تساءل قارئ هامسًا لنفسه: لماذا يزعُم لنا هذا الكاتب — كما رأيناه يزعم دائمًا — أن العربي الحديث قد تردَّد في قبول الجانب العقلي العلمي من حضارة الغرب الحديث، وها هي ذي جامعاتنا وسائر معاهدنا الدراسية، مُكِبَّة على ذلك العلم بشتَّى فروعه ومختلف درجاته؟ والجواب على ذلك هو أن نطلُب من القارئ المتسائل أن يفرِّق بين «حفظ» ما نتلقاه من علوم الغرب، ثم ممارسة تلك المادة المحفوظة في حياتنا العملية ممارسةً تنحبس في حدودها، وبين حالةٍ أخرى يتشرَّب فيها منهج ذلك العلم ليستخدمه — أولًا — في المشاركة الإيجابية في الكشف العلمي، و— ثانيًا — ليحمل ذلك المنهج العلمي في صدره ميزانًا يزن به الأفكار العامة، كلَّما نشأت عند الناس فكرةٌ يقابلون بها مشكلةً عَرضَت لهم في حياتهم.

لكن انظُر حولك بعين نزيهةٍ، وارقُب شعور العربي كما يُعبِّر عنه في مناسباتٍ كثيرة، نحو «العلم» وحدود قدرته، ونحو «العقل» وعجزه، ولم يكن مثل هذا الحذَر في تقدير الإنسان لقدراته لِيثير القلق؛ لأنه حذَرٌ مطلوب حتى لا يُسرِف الإنسانُ في ذلك التقدير إسراف الطفل الغرير الذي يمُد ذراعه ليُمسك بالقمر، لولا أن العربي حين يسخَر من منجزات العلم الحديث، ويهزأ بالعقل الإنساني وقدراته، إنما يفعل ذلك على ظنٍّ منه بأن مثل هذه الوقفة تُرضي ضميره الديني، وبأنها وقفةٌ تتضمن أن اعتزاز الإنسان بعقله، واعتداده بقدرته العلمية كما تشهد بها منجزاتُه الحديثة، فيه جرأةٌ على رب العالمين، الذي هو العليم والذي هو القدير، وكأن أحدًا من الناس على مدار الكوكب الأرضي جميعًا، يسبق إلى وهمه في مثل هذا السياق، أنه خالقُ عقل نفسه، ولذلك فهو صاحب الفضل في كل ما ينتُج عن ذلك العقل من علمٍ ومنشآتٍ ونُظم، كلا، إن شيطانًا وَسوَس للعربي منذ نهض في أوائل القرن الماضي وإلى يومنا، بأن العقل وقُدرته رجسٌ، فلا يجوز الاقتراب منهما بأكثر من أطراف الأنامل. وإن شئت أن تتبيَّن ذلك، فقارن مقارنة متأنية بين معظم أوطان الجنس الأصفر — الصين — واليابان، وكوريا، وتايوان وغيرها — في الروح التي يأخُذون بها الجانب العلمي والصناعي من الحضارة الحديثة، دون أن يكون في ذلك إهدار لذرةٍ واحدة من قوميتهم، أقول: قارن تلك الروح بروح العربي إزاء هذا الجانب، ولو كان العربي في غنًى عن العلم ومنجزاته لقلنا معه: كفى الله المؤمنين شَرَّ القتال. لكنه من أكثر أهل الأرض إقبالًا على شراء تلك المنجزات. يُذكِّرني ذلك بخبرٍ سمعتُه من صديق، أُعيدُه هنا لنضحكَ تخفيفًا مما يُثقل قلوبنا بالحسرة والأسى، على عربيٍّ أراد له الله سبحانه وتعالى أن تكون له الريادة، وأراد لنفسه التبعية، فيقول الخبر إن بلدًا عربيًّا يقع على شاطئ بحرٍ يكثُر فيه السمك، لكن أهله لا يصيدونه لأنهم لا يأكلونه، وجاءت إلى أرضهم شركةٌ أوروبية وأقامت مصنعًا، فيُصاد السمك ويقوم المصنعُ بتجهيزه وتعليبه، فأقبل الناس عندئذٍ على شرائه في صورته المصنَّعة! ولنتذكَّر أن الشركة الأوروبية قد استخدَمَت أهل البلد في عملية الصيد وقام مصنعُها بالإعداد والتعليب! وفي هذا الخبر موازاةٌ مع ما كنا بصدَد الحديث فيه؛ فقد وهبنا خالقنا عز وجل «عقولًا» لتُنجز ما يتفق مع طبيعة العقل، وطبيعتُه فكر وعلم وزراعة وصناعة … إلخ، فأهملنا عقولنا في أدمغتنا، عُزوفًا عن إعمالها فيما خُلِقَت لتُؤدِّيه، فلما أنجز الغرب ما أنجزه بعلمه، اشتريناه!

لكل عصر فكرةٌ تُميِّزه، لا يشذُّ عن ذلك عصرنا، وفكرته — أساسًا — هي أن يقرأ الطبيعة قراءةً جديدة، لم يقرأها من قبلُ عصرٌ آخر، وهي قراءة نتجَت عنها للإنسان حسنات وسيئات؛ فمن العلوم الجديدة وتطبيقاتها نشأَت حريةٌ أوسعُ أفقًا وأعمق غورًا، حين تَحرَّر الإنسان بفضلها من عوائق الطبيعة، لكن المصدر نفسه قد أدَّى إلى قيود من نوعٍ جديد فَرضَت على الإنسان، كادت تُفقِده هويَّته وذاتيَّته، لولا فنونٌ جديدة، وآدابٌ جديدة وبعض النظُم الجديدة، عَمِلَت كلها على إعادة التوازن، وهذا هو عصرنا بخيره وبشَره. ولستُ أُطالب العربي بأن يسبح في بحره عن صَممٍ وعمًى، بل أُطالبه بأن يُشارِك بنصيبٍ في الإمساك بعجلة القيادة، ليحمل مع غيره تبعاتِ عصرٍ هو يعيش فيه.

٣

حوارٌ غريب جرى بين هذا الكاتب ونفسه، عندما أمسك بالقلم ليكتب هذا الجزء الثالث من حديثه عن هذا العصر الذي هو عصرنا، فانقسَمَت نفسه قسمَين؛ سائلًا ومجيبًا. وفيم الغرابة؟ أليست هذه هي طبيعة العملية الفكرية كلما وقعَت لإنسان؟ ماذا تكون «الفكرة» — أية فكرة وكل فكرة بلا استثناء — إن لم تكن عند صاحبها جوابًا عن سؤالٍ دارت به نفسه وإن لم ينحدر بين شفتَيه لفظًا مسموعًا؟ كل فكرة هي جواب عن سؤال فقد كان موضوعٌ ما غامضًا عند السؤال، وأصبح واضحًا بدرجة ما عند الجواب، ولكن لا علينا، فماذا سألت النفس السائلة عند هذا الكاتب لحظةَ إمساكِه بالقلم ليكتب، وبماذا أجابت النفس المجيبة؟

بدأَت السائلة فقالت: مهلًا! ألا تلحظ أن فترة الزمن التي تُسمِّيها «عصرنا» تكاد هي نفسها أن تكون فترة الأعوام التي امتدَّت بك على هذه الأرض؟

قالت المجيبة: إي والله إنهما ليكادان يتطابقان؛ فقد امتدَّ بي العمر حتى أمسك بالقرن العشرين من طَرفَيه، أو هو أوشَك على ذلك، ولكن ماذا تُريدين بسؤالك؟

قالت السائلة: لقد طافت بي فكرةٌ أردتُ عرضها، وهي أن أسألَك: ألا يكون من الطريف ومن المفيد أن يجيء حديثُك هذه المرة عن عصرنا حديثًا عن صورة العصر مُجسَّدة في خبرتك؟ فتحدَّث أيها الكاتب عن نفسك، تحدَّث عن عَصرِكَ من الزاوية التي رأيتَه منها.

قالت المجيبة: وهل تظُنين أن أمامي طريقًا غير هذا الطريق؟ ومن أين يغرف الكاتب مادة حديثة إذا لم يغترفها من تجاربه؟

وهنا بدأتُ أكتب لأضع حقيقةً أُولى بين يدَي القارئ. وهي أنِّي رجلٌ قُسمَت له حياةٌ هادئة أهدأَ ما تكون الحياة، قضى معظمها (أم أقول «كلها») في بحر من كلماتٍ قارئًا حينًا، كاتبًا حينًا، وكان ذلك منذ خرج من بُرعم الطفولة. إنه لم يواجه صور الحياة في زحمة الطريق، بل التقَط ما التقَطه منها حين وقعَت عيناه عليها (وكانت له عندئذٍ عينان) مرسومةً في كلمات، فكان كلما وقع على شيءٍ منها بدَت له الكلمات كأنها مصابيحُ يفهم على ضوئها ألغازًا، مما شَهِده بالفعل في مسالك الناس، وما يكون «العصر» الذي نتحدَّث عنه، إلا أُناسًا وما سلكوا؟ ومن السلوك ما يَبني ومنه ما يَهدِم، أو يذهب في الهواء هباءً مع الهباء.

وصورة الحياة خلال هذا القرن العشرين، هي — كما انطبع بها صاحب هذه الكلمات — حروبٌ وثوراتٌ تملأ النصف الأول من القرن، فكأنها الفئوس تهوي على البنيان العتيق لتهدمه. يتلوه ربع القرن، جاء كأنه الصدى لتلك الحروب والثورات لأنه شغل نفسه بأن يُهيل البنيان المتهاوي ركامًا من الأنقاض، ثم بدأَت بعد ذلك بشائرُ رفع الأنقاض لتخلو الأرض لبنيانٍ جديد يُقام على فكرٍ جديد. والأمل هو أن يتحقق هذا الحلم إبَّان القرن الحادي والعشرين، فأما أُولى هذه المراحل الثلاث فهي التي شَهدَت حربَين عالميتَين؛ الأُولى فيما بين ١٩١٤م و١٩١٨م، ولم تقع أنباؤها على مسمع هذا الكاتب إلا كما تقع أواخر الصدى، صوتًا خافتًا مُحيَت حروفه ومعالمه، ففقد المعنى. وأما الثانية فكان صاحبنا ينتقل مع العمر بين الشباب والرجولة، ومع ذلك فلم يُدرِك أبعادها ومغزاها كل الإدراك، مع أنه قضى شطرًا منها في إنجلترا دارسًا، فشَهِد شَررَها من بعيدٍ فعرف لمحةً من ضراوتها، وهي حربٌ امتدَّت ما بين ١٩٣٩م و١٩٤٥م. ومع الحربَين العالميتَين، وقعَت في الفترة التي نتحدَّث عنها، ثوراتٌ وحروبٌ إقليمية كانت بالنسبة إلى الحربَين العالميتَين بمثابة الهوامش التي تُورِد تفصيلاتٍ توضِّح ما قد ورَد في المتون، وذلك إذا رأينا في تلكما الحربَين ما يشير إلى انقلابٍ حضاريٍّ وشيك الوقوع، تتغيَّر فيه أوضاع العالم تغيُّرًا ينقله من قديمٍ إلى جديد. ومن الثورات نذكر ثورة روسيا سنة ١٩١٧م، وثورة مصر سنة ١٩١٩م، ومعها ثورة الهند، ومن الحروب الإقليمية نَذكُر الحرب الأهلية في إسبانيا في الثلاثينيات بين اليمين واليسار. وكان من أهم معالم تلك الفترة «فاشية» موسوليني في إيطاليا، و«نازية» هتلر في ألمانيا؛ مرحلة صَخبَت بدويِّ المدافع في ساحات القتال وبهُتافات الحناجر في شوارع المدن، وبملايين الضحايا سالت دماؤهم لتشهد على غفلة الإنسان وهو يُمسِك بالزمن حتى لا تتحرك خطاه، ولتشهد في الوقت نفسه على طموح الإنسان، وهو يدفع الزمن دفعًا لينقل قَدمَيه سائرًا بالناس إلى أمام.

ولقد أراد الله لهذا الكاتب أن يكون رفيقَ كتابٍ متعلمًا ومعلمًا، وصاحبَ فكرٍ حرٍّ ناقد يبحث في وقائع الدنيا عن «أفكارها» التي تُخفيها وراء ظاهرها، وحاملَ قلمٍ يرصُد ما قد اختلَجَت به نفسه من رؤًى، فرأيناه خلال ما وعاه من تلك الحروب والثورات، قد استخلَص لنفسه شيئًا من لُبابها كما يراها. وكان من ذلك اللُّباب الذي استخلَصه، والذي وجد مصداقه فيما يحياه هو في شخصه وفيما يكابده في تلك الحياة من شدٍّ وجذب، أقول إنه كان قد رأى في اللباب الذي استخلَصه مما حوله، ومما يُحسُّ ويعي أن هذا العصر بحروبه وثوراته قد جاء إلى الناس بأضدادٍ لم يستطيعوا حتى هذا اليوم أن يُوفِّقوا بينها لتستقيم بهم حياةٌ وتستقر.

وفي مقدمة هذه الأضداد ما تطلَّبه العصر من حرية للإنسان الفرد، وما تطلَّبه في الوقت نفسه من سيطرة الجماعة على كل فردٍ من أفرادها، ومن تكون هذه الجماعة؟ إنها في معظم الحالات تكون متمثلةً في إرادة حاكمها وفي لسانه، فما يريده هو يُصبح بقدرة قادرٍ ما تريده الجماعة كلها، وما ينطق به لسانه هو يكون بمشيئة الله ناطقًا بما تُريد الجماعة أن تقولَه لو كان لها لسان. لقد كان صاحبُ هذه الكلمات شابًّا في فترات الثورات والحروب، كان قارئًا دءوبًا للكتَّاب العرب ولبعض الأعلام من كتَّاب الغرب، فكان أعمق الأثر فيما تَركَه هذا كله في نفسه، هو أن الأولوية الأُولى في القيم الإنسانية، إنما تكون لحرية الفرد فكرًا ونشاطًا، مع ما يُراعى في هذه الحرية الفردية من عدم العدوان على حريات الآخرين. وكيف يخرج بنتيجةٍ غير هذه النتيجة، ما دام قد قرأ متفهمًا مترويًا، ما كتَبه أحمد لطفي السيد، وطه حسين والعقاد وهيكل وسلامة موسى وغيرهم من أعلام ذلك الجيل؟ ثم كيف يخرج بنتيجةٍ غير هذه عن حرية الفرد من الناس فكرًا وفعلًا، بعد أن قرأ شيئًا كثيرًا بما كتبَتْه الطليعة الفكرية في إنجلترا بصفةٍ خاصة ممن أطلَقوا على أنفسهم منذ أوائل القرن اسم «جماعة بلومزبري»؟ إن كل كاتبٍ من أولئك وهؤلاء كان يترك قارئه وقد ارتسمَت في ذهنه صورة للإنسان الذي يحترم إنسانيته فردًا قوي الاعتداد بفرديته؛ لأنه مسئولٌ وحده أمام ضميره، ومسئول وحده أمام الله سبحانه وتعالى عما نطق به لسانه وما قدَّمَتْه يداه. أيقول يومئذٍ إذا سُئل عن ضلالةٍ اقترفَها: لقد خطَب الزعيم في الجمهور فقال:

بالحق أو بالباطل خرج صاحبنا مما قرأه لأعلام عصرنا، هنا وهناك، بأن للفرد الإنسان حقوقَه التي تنبُع له من فطرته التي فطره خالقُه عليها ولا تُمنح له هبةً من أحد، وعلى رأس القائمة في تلك الحقوق الفطرية حق «الحرية» على أن تُفهَم عند الناس فهمًا مستنيرًا؛ فهي دائمًا قوة تبني ويستحيل على طبيعتها أن تكون عامل هدم، إلا أن تَهدِم العوائق التي تُصادفها على الطريق. لكن العصر نفسه الذي نادت بشائره بحرية الإنسان فردًا مسئولًا، قد حمل في أعطافه رسالةً أخرى، فحواها أن يتكتَّل جمهور الناس في الجماعة المعيَّنة ليجعلوا الحياة مشاركةً متساوية بين الجميع، عاليهم مع سافلهم عند السفوح، أو سافلهم مع عاليهم عند الذُّرى. وكما كان محالًا — من الوجهة العملية — أن تتحقق هذه المشاركة المتساوية إلا إذا أمسك بالزمام زعيمٌ قوي القبضة صارخ الصوت، فلتكن هذه سنة الحياة الإنسانية؛ ومن هنا تولَّدت نُظمٌ سياسية في كثيرٍ جدًّا من بلدان العالم الثالث، التي ظَفِرَت بحرياتها السياسية بعد الحرب العالمية الثانية، ونتيجةً لها كفَرتْ بحرية الفرد مستقلًّا عن قومه. إذن فلا مجال لأحزابٍ تصطرع في الرأي، ولا موضع لجهودٍ فرديةٍ يسير بها أصحابها ليُحقِّقوا نجاحًا لأنفسهم في دنيا الاقتصاد، إلى آخر ما نعرفه في هذا السبيل.

ولا يدري صاحب هذه الكلمات كَمْ من الناس هم الذين أحسُّوا بالتضاد بين الدعوتَين اللتَين جاء بهما عصرنا؛ دعوته إلى حرية الإنسان، ودعوته إلى حياة المشاركة المتساوِية بين الناس ومشاركة تمحو الفوارق التي قد تُفضِّل منهم إنسانًا على إنسان. لكنه — أعني هذا الكاتب — قد أحسَّ ذلك التضاد في كل نفَسٍ شَهقَت به رئتاه أو زفَرت، فلو أنه كان ممن يَحيَون لأنفسهم فكرًا لجاز له أن ينطوي على أفكاره التي قد تتولَّد له عما يجب وما يجوز وما يمتنع فلا يُحس بفكره أحد؛ ومن ثَمَّ فلا يلحظ حدةَ التضاد الذي أشرنا إليه فيما يخُص حق «الحرية» كما جاء عصرنا مبشرًا به، لكنه — أعني هذا الكاتب — قد وضع لسانه في سن قلمه منذ زمنٍ بعيد، منذ أن كان في عشرينيات عمره الأُولى، أحَسَّ به القُراء أو لم يُحسُّوا فذلك لا ينفي شيئًا من صِدق هذا القول، لكن الذي أحَسَّ بما يكتبه منذ ذلك الزمان البعيد هي إدارة الحكومة التي لم يكن ليعلم أين تسكُن ولا من يُمثِّلها.

ولم يكن قَط هذا الكاتب ممن تعلَّقَت نفوسهم بالسياسة، إلا كما يتأثر كل عابرِ سبيل من المواطنين، حتى نتوقع لإدارة الحكم أن تمُدَّ بصَرها وسمعَها لترى وتسمع ما يكتبه شابٌّ هو من غمار الشباب — نعم، إنه لا يتواضع إذ يقول هذا القول عن موقعه من الناس يومئذ — وإنما كان كل اهتمامه معلقًا بمستويات الفكر التي تتصل بمواقع الحياة اتصالًا وثيقًا، ولكنها في الوقت نفسه تعلو عن أرض هذه الحياة العملية بضع درجاتٍ لتصل إلى مبادئها ومراميها، وما هو إلا وقد أطبق عليه سدَنة الحكم ذات يوم، والشاب لم يزل في باكورة حياته الفكرية ليجُرُّوه إلى تحقيقٍ إداري طال فيه السؤال وطال الجواب:

س: ماذا تعني بقولك كذا وكيت؟

ج: عنيتُ هذا وعنيتُ ذاك من المعاني. وعاد الشاب إلى بيته وهو يسمع دقَّات قلبه في صدره لأنه خُلق لحياةٍ هادئة ولم يكن من هدوء الحياة ما تعرَّض له، ذلك اليوم، وكان سؤاله لنفسه شبيهًا بسؤال هاملت: أتريدها حياةً أم تريدها ضربًا من الموت؟ لا، لا بل أريدها حياة، إذن فلأحمل تبعات الحياة، المسئولة، وسوف أمضي.

وذلك هو عصرنا في أضداده التي بشرَّ بها؛ إذ أعطى الإنسان الفرد بيمينه حق الحرية المسئولة، ثم أسرع فمحاها حين نادى بوجوب المشاركة المتساوية برغم ما قد فرَّق الله سبحانه وتعالى بين عباده فجعلهم درجات؛ في قوة العضل وفي قدرة العقل وفي الهُدى، وفي كل جانب من جوانب حياتهم.

ويقترن بهذا التضاد بين حق الإنسان فردًا وحقه عضوًا في جماعة تضادٌّ آخر على نطاقٍ أوسع، وهو أن نادى بضرورة استقلالية الشعوب من قبضة مستعمريها ونادى إلى جانب ذلك بضرورة اجتماع الشعوب في هيئة دوليةٍ تكون لتلك الشعوب وسيطًا للمحاورة والمشاورة فيما قد يعترضُها من مشكلات. إلى هنا والكلام معقولٌ لا ينبئ بالتناقُض، إلا أن هذا التناقُض سرعان ما يظهر في صورتَين؛ الأولى هي أن وفود الدول الأعضاء إذ هي في طريقها إلى مجمع الصفاء والإخاء والمحاورة والمشاورة، إنما تحمل في حقائبها روحًا قوميةً متزمتة متعصبة، تعتزم أن تقول ما عندها، وألا تُنصِت إلى ما يقوله الآخرون، وتنتهي الجلسات ولا إخاء ولا صفاء ولا محاورة ولا مشاورة. وأما الصورة الثانية فهي أقسى وأبشع، وخلاصتها أن خمس دول كبرى قد خصَّت نفسها بحق، هو أن ترفُض أي قرارٍ تصل إليه سائر الدول، ولا تراه في صالحها، على أن رفضها هذا لا ينصبُّ عليها وحدها، بل هو كافٍ لهدم القرار من أساسه بالنسبة إلى الجميع، وما معنى هذا؟ معناه أن تلك الدول الكبرى الخمس بمثابة من يقول لعشرات الدول الأخرى: نحن أيها السادة إخوةٌ متساوون، إلا أننا نحن الدول الكبرى سادةٌ وحدنا ما نفَعَنا يقوم وما ليس ينفعنا ينهدم، ولعنة الله على من يجرؤ فيدعي بأن التناقُض أمرٌ تأباه فطرة العقول — وهذا هو عصرنا.

هذه — إذن — واحدةٌ. وأما الأخرى فهي عن فكرة «العدالة» مقرونة بالمساواة، وهي — كحق الحرية للأفراد وللشعوب — من أهم الحقوق الإنسانية التي ركَّز عليها «إعلان حقوق الإنسان» الذي صدر عن هيئة الأمم المتحدة في باريس في ديسمبر سنة ١٩٤٨م، أي إنها حقوق يريد لها عصرنا أن تتحقق، لكن ما أبعد المسافة بين الأُمنية وتطبيقها! نعم إنها لَمِن حسناتِ عصرنا أن نجد ضميره الاجتماعي العام أشدُّ يقظةً مما عَرفَه الإنسان في القرون الماضية، بدليل أنه قد أصبح مألوفًا لنا أن نجد هيئاتٍ تُسهِم عن طواعية في الدفاع عن حقوق الإنسان في غير أوطانها، كما هي الحال — مثلًا — في مؤسسة العفو الدولية — ومقرها في إنجلترا — تتعقَّب بدقة في كل أقطار العالم حالات الاعتداء على تلك الحقوق من قِبَل الحكومات لتعلن عنها بكل وسائل الإعلان ردعًا للمعتدي. كما أصبح مألوفًا لنا أن نجد حركاتٍ تعاونيةً تنشط تلقائيًّا في أي مكانٍ من العالم لتعمل على إعانة الشعوب المنكوبة في وجهٍ من وجوه حياتها، كما قد حدث في أقطارٍ كثيرة لمعونة الشعوب الأفريقية إزاء ما أصابها من جفاف، وما حدث كذلك من جهودٍ دولية لمساعدة السودان عندما نُكِب بالسيول وفيضان النيل في صيف ١٩٨٨م.

كل ذلك محسوب للعصر الراهن، لكنه لا ينفي صورًا من الظلم الظالم الذي يلحق شعوبًا أو فئاتٍ مظلومة ولا يتحرك لها ضمير؛ فالإرهاب تقترفه دولةٌ معزَّزة عند حُماة العصر وهُداته غير الإرهاب تؤدِّيه جماعةٌ ليس لها نصيب من الرضى عند هؤلاء الحماة الهداة. حدث لهذا الكاتب أن ذهب إلى الولايات المتحدة الأمريكية خلال العام الجامعي ١٩٥٣-١٩٥٤م، أستاذًا زائرًا بناءً على اتفاقية عُقدَت عامئذٍ بين أمريكا ومصر لتبادل الأساتذة، فكان نصيبه أن يقع الاختيار عليه، وهناك عُيِّنَت له خلال الفصل الدراسي الأول، جامعة من جامعات الجنوب، حيث التفرقة العنصرية كانت على أشدِّها. لقد كان يعلم قبل سفره كثيرًا من تلك التفرقة بين البيض والسود (أو «الزنوج» كما وجدتُهم يقولون) لكن مُحالٌ على خيال أن يتخيل ماذا تعني تلك التفرقة في الواقع العملي حتى يراه بعينه. وتصادف أن قرأ صاحبنا في صحيفةٍ يومية تصدُر في البلد الذي كان يقضي فيه النصف الأول من مهمته خبرًا يروي عن محاكمة مواطنٍ أبيض قتل مواطنًا أسود في حانة، ولنلحظ هنا أنه بينما يُسمَح للبيض أن يرتادوا أماكن السود فإنه لا يُسمَح للسود أن يرتادوا أماكن البيض. وجاء في الخبر المنشور في الصحيفة عن محاكمة القاتل الأبيض، نصُّ العبارة التي نطق بها القاضي بحكمه، وفيه يقول مخاطبًا المتهم ما معناه: لقد قضت المحكمة بسجنك سنتَين، لا لأنك قتلتَ رجلًا أسود؛ بل لأنك سمحتَ لنفسك أن تُخالط السود، فوصَلتَ بذلك جنسَين أراد لهما الله أن ينفصلا. قرأ صاحبنا هذه العبارة فنقلها نقلًا حرفيًّا في مذكِّراته لأنه كان يُعدُّ مادة لكتابٍ يصدره عن أيامه في أمريكا خلال زيارته الأولى. ولم يمضِ بعد ذلك يومان، حتى اجتمع صاحبنا مع مدير الجامعة في حفل عشاءٍ وجلس معه على المائدة وفي سمرٍ تبادلاه، سأل مديرُ الجامعة الضيفَ المصري قائلًا: بماذا انطبعَت نفسك عن بلادنا؟ فأجاب الأستاذ إجابة تعمَّد أن يُورِد فيها دهشَته لحكم المحكمة في قضية الأبيض قاتل الأسود؛ ففضلًا عن غرابة أن يحكم على جريمة قتلٍ متعمدٍ بالسجن سنتَين، فقد كان الأغرب هو حيثيات الحكم. وهنا أطرق مدير الجامعة لحظة، ثم قال: لقد عُوقب القاضي الذي أصدر هذا الحكم — وأودُّ أن أُذكِّر القارئ بأن ذلك كان منذ خمسة وثلاثين عامًا (ونحن الآن في سنة ١٩٨٨م) ولا أدري إلى أي حدٍّ قد تغيَّرت الصورة بالنسبة إلى التفرقة العنصرية في أمريكا.

وما دام الحديث قد انتهى بنا إلى التفرقة العنصرية فلا يجد هذا الكاتب بُدًّا من ذكر الموقف في جنوب أفريقيا بين الأقلية البيضاء الحاكمة والأكثرية السوداء صاحبة الحق الأول في أرضها. وليس من القُراء من لا يعلم حقيقةَ ما يجري هناك من تفرقةٍ عنصرية بين اللونَين، وشيء كهذا يُراود خيال اليهود في إسرائيل بالنسبة إلى عرب الأرض المحتلة؛ فلقد ظُلم اليهود على أيدي النازية في ألمانيا الهتلرية، وليس في العالم كله منصفٌ لم يغضب لهذا الظلم، فهل يُعقَل أن ينتقم اليهودي المظلوم في حكم النازي لنفسه من الفلسطيني في بلده؟ وكان حماةُ العصر وهُداته من أنصار العدالة والمساواة قد ضجُّوا وحُقَّ لهم أن يضِجُّوا للوحشية النازية، وما زالوا حتى هذه الساعة يتسابقون إلى العمل على مواساة اليهود فيما نُكِبوا به وهو واجبٌ يُشكرون على أدائه، ولكن انظر إليهم وقد دارت الدوائر نفسها على عرب فلسطين وعلى أيدي من؟ على أيدي من ذاقوا مثل هذا العذاب، فماذا صنع حماة العدالة والحرية والحق في عصرنا؟ صمُّوا آذانهم وأغمضوا أعينهم، واكتفَوا بعباراتٍ مَكْسُوَّة بميوعة الدبلوماسية التي تتكلَّم ولا تقول شيئًا؛ فهذا هو تعريف الدبلوماسي الماهر — كما يُقال — ومثل هذا الكيل بكيلَين ومعالجة الأمور الخطيرة بوجهَين هو من ملامح عصرنا.

ومع ذلك فهذا هو العصر الذي أنصف الملايين بعد عصورٍ من الظلم والإهمال؛ ففيه قامت حركاتٌ اجتماعية إصلاحية على صورةٍ فريدة في التاريخ كله؛ إذ هي حركاتٌ تجاوزَت الحواجز الإقليمية والقومية ليجتمع بها الشبيه بشبيهه في رابطةٍ متآزرة يشُدُّ بعضها أزر بعض في المطالبة بحقهم الضائع؛ فالعامل مع العامل مهما تباعدَت بينهما المسافات واختلفَت الأوطان، والمرأة مع المرأة والأديب مع الأديب، والرياضي مع الرياضي. وهكذا وبهذا التضامُن المهني والحرفي عبر الحدود أمكن للأبصار أن ترى وللآذان أن تسمع حتى كسبَت كل جماعةٍ بعض حقوقها المشروعة؛ فالعمال في شتى أرجاء العالم قد انتقلوا من دائرة المُحال إلى دائرة الممكن، أعني أنه بعد أن كان الرأي على امتداد التاريخ هو ألا يكون للعامل نصيبٌ في الحكم والإدارة، أصبح ذلك ممكنًا ومشروعًا، بل أصبح واجبًا مفروضًا في كثيرٍ من الأحيان. والمرأة أضافت إلى حقوقها في البيت والأُسرة حقوقًا لم يكن مُعترفًا بها، من حيث هي مواطنةٌ تشارك بما تستطيع قدراتها ومواهبها أن تُشارِك به في شئون بلادها بجميع ميادينها. وهكذا قل في سائر الجماعات التي يرتبط أفرادها بما هو مشتركٌ بينهم من مهنة أو عقيدة. على أن هنالك جماعتَين لم يكونا موضع عنايةٍ في الضمير الجماعي العام، مع حقهما الصارخ في تلك العناية، إلا أنهما لم تكونا تنطقان لاستحالة النطق على إحداهما ولعجز في الصحة عند الثانية، فأما الأولى فهي «الأطفال» أينما كانوا، وأما الثانية فهي «الشيوخ»؛ فلكلٍّ من الجماعتَين ضرورة ملحةٌ في رعاية القادرين، لكنها ضرورة لم يكن يلتفت إليها أحدٌ بالقَدْر الكافي على الصعيد الرسمي. وكان الفضل لعصرنا هذا أن جذَب الانتباه إلى الجماعتَين حتى أصبحَتا اليوم موضعَ أرَقٍ في الضمائر.

وكذلك كان لعصرنا هذا فضل «التعاون» بين الشعوب على نحوٍ لم تعرفه الإنسانية من قبلُ وذلك في أمور الثقافات المتنوعة في الشعوب المختلفة، كيف تضمن كل ثقافةٍ منها أن تنمو على أسسها الخاصة مع إمكان تفاعُلها مع سائر الثقافات، وهذه مهمةٌ يضطلع بها في عصرنا مؤسَّسة اليونسكو التي هي جناحٌ من أجنحة الأمم المتحدة. وهنالك أجنحةٌ أخرى لكلٍّ منها شأنٌ تختص برعايته على مدار العالم بغير تفرقةٍ بين شعوبه؛ فكل الدول تُساهِم بنصيبٍ في التمويل، على أن يكون الاتفاق مرهونًا بالحاجة إليه في أي موضعٍ نشأَت تلك الحاجة. ومن هذا القبيل منظمة الصحة ومنظمة الزراعة ومنظمة العمل وهكذا.

لكن روح الإخاء التي أنشأَت في عصرنا هذا التعاون بين مختلف الشعوب والاعتراف بحقوق الإنسان اعترافًا أزاح نِير العبودية والتبعية والخضوع، فتحررت «الألوان» البشرية بعد أن كانت السيادة للونٍ واحد هو اللون الأبيض، ولذلك كُتبَت له السيادة في الحكم ولثقافته السيادة على سائر الثقافات، أقول: إن هذه الروح من الإخاء والحرية مع كل ما أثمَرتْه في عصرنا من طيِّب الثمرات، لم تمنع أن يكمُن وراءها روحٌ مضادة ربما كانت أشد وأفعل أثرًا، وهي روح العصبية العرقية والثقافية، وتظهر للناس في صورة التكتُّلات السياسية التي يتحصن بها كل فريقٍ ضد غيره. وفي هذا المناخ المشحون بالحذَر والتأهُّب اشتدَّت الحاجة إلى ترسيخ «الانتماء» ليكون كل فردٍ على وعيٍ بمن هو أحق بمساندته في الشدائد. وإنه لمن عجبٍ أن تكون هذه هي صورة العالم العصري وظروفه، كلٌّ يبحث عن مأمنه ليلوذ به إذا وقعَت واقعة، والأمة العربية التي حباها الله بكل ما تحتاج إليه أمةٌ من عوامل الوحدة ما زالت تتلفَّت حولها تتساءل إلى أي قطبٍ ينتمي أبناؤها، وكأنما التاريخ لا يصرخ بأن هذا الوطن الممتد من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي يرتبط بثقافةٍ واحدة في العقيدة والفن والأدب والتقاليد برغم التفاوت بين أجزائه في البعد التاريخي؛ فقد يضرب جزءٌ منه في عمق التاريخ حتى يبلُغ مطالع الضوء عند بزوغ فجره، وقد تتفاوت سائر الأجزاء بعد ذلك حداثةً على صفحات التاريخ، لكن الشجرة الثقافية واحدةٌ وطرحها ذو مذاقٍ متشابه متقارب.

هذا هو عصرنا بما له من حسنات وفاعلية وما عليه من سيئات، لم يُكتب على بابه ﻟﻠ «غرب فقط» حتى يظن الآخرون أن الدار ليست دارهم، بل هي دار للجميع وعلى جميعنا تقع تَبِعاتُها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤