دراسة لمسرحية تاجر البندقية

مجمل الرواية

أنطونيو تاجر شريف النفس نزيه الطعمة من تجار البندقية، وقد سميت الرواية باسمه، وعلى الرغم من استقامة الخلق عنده فإن موجة من الحزن تغلب على مزاجه. وقد حاول نفر من أصدقائه — وهم سالانيو وسالارينو وجراتيانو وباسانيو — أن ينزعوا منه هذه النزعة الحزينة بإصفائهم الود إياه.

كان باسانيو أدنى الأصدقاء مرتبة إلى قلب أنطونيو وأصفاهم له ودادًا، وهو شاب أعانه شبابه الغض وكرمه الواسع على أن يفقد ثروته.

وكان قلب باسانيو يخفق بحب فتاة ثرية واسعة الميراث اسمها بورسيا، وهبت لها الأقدار من فضائل النفس ومواهب الخلق قدر ما وهبت لها من واسع الثراء. وقد أعانها مالها وفضائل النفس التامة فيها على أن يتقدم لبابها الخطَّاب من طبقة الأمراء والأشراف ليظفروا بها زوجة نادرة المثال. وكان من خطابها أمير مراكش وهو شاب أسمر الأديم لوحته الشمس في مسقط رأسه، وأمير أراغون، وأمير نابلي، وأمير ألماني، وشريف إنجليزي، ونبيل إسكتلاندي. ودخل باسانيو بين هؤلاء الخطاب المثرين لعله يفوز بالفتاة بورسيا دونهم جميعًا.

ولم يكن أمر اختيار زوج من هؤلاء الخطاب موكولًا إلى إرادة الفتاة نفسها، ولكن أباها أوصى قبل وفاته أن يكون ذلك إلى اقتراع على صندوق من صناديق ثلاثة: أحدها ذهبي، والآخر فضي، والثالث من مادة الرصاص. وفي هذا الأخير صورة لبورسيا، فمن وقع اختياره من الخطاب على الصندوق الرصاصي كانت الفتاة من نصيبه، وكان جديرًا بالاقتران بها.

ودخل باسانيو بين الخطاب وهو مفلس من المال وغني بالحب المعتلج في قلبه، فاضطر أن يقترض المال الذي يتقرب به إلى بورسيا حتى يليق به موضعه بين الخطاب. فلجأ إلى صديقه الوفي أنطونيو — أو تاجر البندقية — الذي كانت أمواله وعروضه كلها على سفنه وفلكه المشحون فيها وراء البحار. فاضطر أنطونيو — وفاء بحق، صديقه باسانيو — أن يقترض المال باسمه من يهودي في مدينة البندقية اسمه شيلوك. وقبل أنطونيو الوفي شرطًا وضعه اليهودي في الصك، وهو أنه إذا فات الأجل المضروب لوفاء الدين استحق شيلوك اليهودي على أنطونيو المسيحي أن يقتطع رطلًا من اللحم من صدره … وقد رضي أنطونيو بهذا الشرط القاسي الوحشي قيامًا بحق صداقة باسانيو عليه. ورضي أن يقترض من شيلوك على الرغم من كراهته له واحتقاره إياه، لأنه كان نهازًا لسماحة النصارى من أهل البندقية الذين كثيرًا ما أوذوا من رباه الفاحش.

وتقدم باسانيو ليخطب بورسيا على الطريقة التي أوصى بها أبوها الميت من الاقتراع على الصناديق. وقد أدنى الطمع الخطاب من الصندوق الذهبي أو الفضي فباءوا بالخيبة في خيرة لم يكن لهم فيها الخير … وكأنما ألهم باسانيو الخير الذي شاءه الله له — كما تقضي بذلك حبكة الرواية — فوقع اختياره على الصندوق الرصاصي الذي يبشر مختاره بقبوله زوجًا لهذه الفتاة الثرية العاقلة.

وبينما باسانيو في نشوة أفراحه لخروج الاقتراع على ما يهواه، ولظفره بفتاة أحلامه إذا به يعلم أن خسرانًا كبيرًا قد حل بعروض أنطونيو وأن سفنه قد تعرضت لثورة البحار، وأنه أصبح بذلك عاجزًا عن الوفاء بدين اليهودي في أجله. وأن اليهودي قد أمعن في المطالبة بتنفيذ حرفية الصك — أي اقتطاع رطل من اللحم من جسد أنطونيو — ما دام قد فات أوان أداء الدين.

وترك باسانيو عروسه الجميلة في زحمة الأفراح بالزواج منها، مصممًا على أن يخلص حياة صديقه الوفي أنطونيو من يد شيلوك اليهودي الذي لا يرحم، ولو كان في ذلك حتفه هو. لأنه لا ينسى أن أنطونيو استدان المال من اليهودي لأجله هو لا لأجل نفسه.

ولما علمت بروسيا بالأمر كله وطدت عزمها على أن تدافع عن أنطونيو وأن تخلصه من المحنة التي وقع فيها مع شيلوك المصمم على الوفاء بشرط الصك، وهو اقتطاع رطل من لحم أنطونيو الذي لا ينفعه الآن في نظر اليهودي مال مهما طال …

وتنكرت بورسيا في زى محام من الفتيان وأجادت الدفاع عن أنطونيو الذي لم يعرفها، كما لم يعرفها زوجها باسانيو، لأنها كانت متنكرة. واستطاعت في ذكاء وحسن حيلة أن تحيل شيلوك اليهودي إلى راجٍ ذليل … فقد استعملت شرط اقتطاع اللحم ضده، مصممة على أن يكون اللحم بلا قطرة من دم، تمشيًا مع حرفية النص الذي ينص على أن رطل اللحم بلا دم … وهكذا كان القانون على شيلوك لا له، واضطرته بورسيا — وهي في ثوب فتى محام — أن يكتب أمام دوق البندقية عهدًا على نفسه بأن ينزل عن كل ثروته يوم وفاته لابنته جسيكا التي كانت سرقت قسطًا من ذهب أبيها وأثمن جواهره وهربت بها مع عشيقها المسيحي لورنزو وهو واحد من أصدقاء أنطونيو.

ومن عجب أن يعيش لورنزو وجسيكا بنت شيلوك في بيت بورسيا الضخم خلال اشتغال هذه بالدفاع — متنكرة — عن أنطونيو أمام محكمة البندقية وعلى مشهد من الدوق.

وبعد انتهاء المحاكمة إلى المصير الذي صارت إليه بخيبة شيلوك اليهودي وخسرانه وفقدانه ثروته، وصيرورته مدينًا ذليلًا محرومًا بعد أن كان دائنًا طاغيًا متجبرًا — بعد هذا تنتهي الرواية بوصول أوثق الأخبار عن نجاة سفن أنطونيو مما قد أشيع عن هلاكها، وتختم المسرحية ختامًا سعيدًا يجتمع فيه الأزواج باسانيو وبورسيا، ولورنزو وجسيكا، كما يلتقي معهم صديقهم الوفي أنطونيو الذي عادت إليه سفنه وأمواله سليمة صحيحة، كما عادت إلى جسيكا — ابنة شيلوك وزوجة لورنزو — أموال أبيها شيلوك الذي تمثلت في جشعه وحقده وفساد طبعه وقساوة قلبه حفنة من أخلاق قومه …

منابع هذه الرواية

قصة تاجر البندقية منسوجة من خيوط متنوعة قديمة قدم الطبيعة البشرية، حتى ليؤكد مؤرخو الأدب الإنجليزي أن هيكل الرواية كله ليس لشكسبير فيه إلا فضل الحبكة الفنية. فإن حكاية الاقتراع على الصناديق، وحكاية اقتطاع رطل من اللحم البشري مما يرتد إلى أصول تاريخية قديمة من المحتمل أن تكون شرقية. على أن حكاية الصناديق — كما جاءت في مسرحية تاجر البندقية — موجودة في مجموعة لاتينية من القصص تسمى: “Gesta Romanorum” جمعت في سنة ١٣٠٠. وقد ترجمت إلى الإنجليزية وطبعت بوساطة “Wynkiv de Worde”، وكانت شائعة بين الإنجليز في عصر أليصابات إلى حد أنها طبعت ست مرات بين سني ١٥٧٧ و١٦٠١، أي في شباب الشاعر شكسبير.
أما حكاية اقتطاع رطل من لحم الإنسان فهي موجودة في الأساطير الآرية وفي الأدب الشرقي جملة والمصري القديم خاصة. وقد ظهرت في الأدب الإنجليزي في قصيدة “Cursor Mundi” سنة ١٣٢٠، وهي قصة دينية شرط فيها اقتطاع بضعة من اللحم من غير أن تراق قطرة من الدم. ولعل مرد هذا الجزاء القاسي إلى القانون الروماني العنيف الذي يعطي الدائن حق اقتطاع فلذة من لحم المدين … ولقد ظهرت قبل شكسبير قصص لا بأس بعددها تروى فيها حكاية الرطل من اللحم البشري كالقصة التي كتبها بالفرنسية «ألكسندر سلفاين» وترجمها إلى الإنجليزية “L. P. London” سنة ١٥٩٦. ولعل أقرب هذه الحكايات شبهًا بحكاية شكسبير في مسرحيته تاجر البندقية هي حكاية “Pecorone” التي أوردها “Giovanni Fiorention” في مجموعته القصصية سنة ١٣٧٨ — أي بعد وفاة الكاتب الإيطالي الشهير «بوكاسيو» بثلاث سنوات.

أما حكاية هرب جسيكا بنت شيلوك بعد أن سرقت بضعة من مال أبيها وجواهره فيمكن أن ترتد إلى أصل إيطالي في القرن الرابع عشر، وذلك في رواية نوفلينو لسالرنو، فهي تحدثنا عن ابنة ثري بخيل من أهل نابلي، سرقت جواهر أبيها واتخذت سبيلها في الأرض هربًا مع عاشقها … على أنها بعد ذلك حكاية شائعة في ممالك الأرض جميعًا.

على أن الفكرة الرئيسية في رواية «تاجر البندقية» يقال إنها مأخوذة من «ملهاة البندقية» التي يزعم “Fleay” أنها الأثر الأدبي الضائع للكاتب Dekker والتي كان اسمها «يهودي البندقية». ومهما يكن من أمر مصادر الحكايات التي اشتملت عليها مسرحية شكسبير فإن شاعر الإنسانية الذي لا يدانى قد خلع عليها من عبقريته ومن روحه ومن سحر لغته ما جعلها رائعة عالمية فوق مناط الحكايات والأقاصيص.

البناء المسرحى ووحدة الزمان والمكان

إذا كنا نسلم بالعناصر الرئيسية التي وضعها أهل الخبرة للمسرح بعد طويل من التجارب، والتي بنوها على المفتتح، وابتداء العقدة، ونقطة التحول، وانحدار نحو الختام، والخاتمة، فإنه من المسلم به أن خاتمة المأساة تنتهي بصراع البطل ضد قوات معادية، وينتهي الصراع بهزيمة البطل، على حين ينتهي في الملهاة بانتصاره. وعلى ضوء هذه المبادئ نقول: إن «مسرحية تاجر البندقية» هي ملهاة ينتصر فيها أنطونيو علي كل الصعوبات التي اعترضت سبيله. فعلى حين تتأزم الأمور أمام أنطونيو ويعجز عن الوفاء بدين شيلوك في موعده، وتأتيه أخبار الخسارة لعروضه وأمواله وسفنه في الساعة التي يفرح فيها باسانيو بزواجه من بورسيا — على حين يحدث ذلك إذا بالمحاكمة تبدأ، وإذا بالفتاة الثرية العاقلة بورسيا تحول القانون في براعة وحذق إلى صدر شيلوك، فتختلط المأساة الفرعية العارضة بالملهاة الأصيلة، وينتهي ذلك كله بالنهاية السعيدة على نغمات الموسيقى، وفي سفور القمر المطل المضيء على قصر بورسيا بمدينة بلمونت.

ولقد نحى شكسبير وحدة الزمان والمكان جانبًا في هذه المسرحية، وجرى على وحدة أكمل وأتم — هي وحدة الحياة. وبذلك سار على طريقة ابتداعية خالف بها المذهب الاتباعي القديم «الكلاسيكي».

وتستغرق هذه المسرحية في مقياس الزمان ربع عام تدور فيه الأحداث مدارها، ولكنها تبدو لنا حين نسمعها أو نقرؤها أنها تدور في ساعات قصار … على حين تنتقل المشاهد من مدينة البندقية إلى مدينة بلمونت طردًا وعكسًا. وهنا يحق لنا أن نقول مع القائلين: إن الوقت عند شكسبير مستقل كل الاستقلال، أو غني كل الغنى عن الساعات والتقاويم …

أشخاص المسرحية

ليس مبالغة في القول أن نقول إن مسرحية «تاجر البندقية» غنية غنى وافرًا في شخصياتها. وهو غنى ليس في الكم وحده، ولكنه يضيف إلى الكيف ما يجعل هذه الرائعة واحدة من أجمل روائع شكسبير. ولقد قسم الشاعر الإنساني أشخاص روايته إلى مجموعات متشابهة أو غير متشابهة ولكنها محكمة الاختيار إلى حد يجعل كل واحدة منها قائمة واضحة المعالم، ثابتة في المكان الذي اختاره لها المؤلف، بحيث لا يختلف وضع مع وضع، ولا يتنافر شيء مع شيء … فهناك مجموعة يتوسط عقدها تاجر البندقية — أنطونيو — وهناك مجموعة يتوسطها شيلوك، ومجموعة تتوسطها الفتاة الثرية العاقلة الحصيفة بورسيا. على أنه ليس من الإنصاف ونحن في معرض تحليل شخصيات المسرحية أن نغفل الإشارة إلى جسيكا بنت شيلوك وهي التي شغفها الفتى المسيحي لورنزو حبًّا، فهربت معه بما حملته من أموال أبيها البخيل وجواهره. وهما شخصان ذوا دورين عارضين في الرواية، إلا أنهما يكبران شيئًا في خلال المسرحية حتى يبدوا من أهم عناصرها. ولنبدأ بشخصية:

أنطونيو

هو شخصية هامة جذابة في المسرحية، وفي طيبة طبعه وسلامة نفسه ما يجعل منه بطلًا طيبًا إذا وزن بمقابله شيلوك. ويبدو على ملامح وجهه الطيب ما يبين عن أنه مثقل النفس بهموم ثقال، فهو حزين في أول مشهد من المسرحية حزنًا لم يستطع أن يكشف عن أسبابه لصديقيه سالارينو وسالانيو، فقد ظنا أن به لوعة من وجد أو خوفًا من توقع خسارة في تجارته. إلا أن سمات الكآبة البادية غالبًا على وجهه لم تستطع أن تغير شيئًا من كرم نفسه ورفيع صفاته. فهو جواد بأعز ما يملك، لا يضن بمذخور التلاد على أصدقائه، فهو صبور في المحن، عاف عن الزلات، حر حين يحب، وصريح حين يكره، وهو يحب المال لا لذات المال، ولكن ليعين به صديقًا أو يسعف به مكروبًا. ألم تدفعه المروءة إلى أن يضمن صديقه باسانيو عند اليهودي شيلوك الذي أقرضه المال على شرط أن يأخذ رطل لحم من جسمه إذا فات موعد وفاء الدين ولم يستطع المدين وفاء؟ وقد ظل أنطونيو طول المسرحية طيبًا من جميع نواحيه، إلا أنه كان شديد الوطأة في حملاته اللسانية على شيلوك اليهودي حين كان ينعته بأشنع الأوصاف وأقذر النعوت، وحين أعلن أمام دوق البندقية أنه تهيأ صابرًا لما ترميه به نفس شيلوك الخبيثة من الرزايا. ولقد استسلم أنطونيو للمصير الذي يريده به اليهودي من قطع رطل من اللحم من جسمه، وتمنى — في غير سخط ولا جزع — لو حضر صديقه باسانيو ليرى بعينيه كيف جاد بحياته في سبيل الوفاء بدينه. وهنا يتغير موقف المخاصمة والمحاكمة بين شيلوك وأنطونيو حينما تتولى بورسيا الدفاع عن أنطونيو، فتجعل من حرفية القانون سلاحًا ضد شيلوك بدلًا من أن يكون سلاحًا في يديه. وتنجلي هذه الغمرات كلها ضد أنطونيو عن انتصاره وانتصار صديقه باسانيو، كما تنجلي عن سلامة سفنه التي أشيع أنها كانت قد صارت إلى هلاك في عرض البحار.

باسانيو

هو صديق أنطونيو الذي اقترض له المال بضمانته من شيلوك، وكان باسانيو بحاجة إلى المال ليتقدم به إلى خطبة الفتاة الوارثة الجميلة بورسيا، فكل محنة لقيها أنطونيو كانت من أجل باسانيو. وكان كل شيء في المسرحية ينبئ بأن باسانيو هو المقدور أن يكون زوجًا لبورسيا الجميلة على الرغم من ازدحام الخطاب من الأمراء على بابها، فجاء اقتراع الصناديق من نصيبه مؤيدًا لاختيار بورسيا لو كان لها وحدها الخيار. فهو فتى سري النفس نظيف السلوك. وهو فوق ذلك رقيق الحس. ما كاد يعلم — وهو في مباهج العرس بزواجه من بورسيا — بأزمة أنطونيو وإلحاح اليهودي عليه بتنفيذ الشرط في اقتطاع رطل اللحم من جسمه، حتى ترك زوجه الجميلة في ليلة عرسها وخف إلى مكان المحاكمة لعله يفتديه أو يسعفه بالمال الكثير الذي أمدته به بورسيا لو أمعن اليهودي شيلوك وغالى في المطالبة بمال بدلًا من رطل اللحم …

بورسيا

هي الفتاة الوارثة الثرية، التي أراد لها أبوها قبل أن يموت أن تتزوج عن طريق الاقتراع على صناديق ثلاثة: أحدها ذهبي، والثاني فضي، والثالث رصاصي. فلم يكن اختيار بعلها لها، وإنما لما تحكم به القرعة بين الخطاب الكثر الذين تقدموا لخطبتها. وقد كانت ترى مما يشق عليها أن تكون فتاة عاقلة مثلها غير قادرة على قبول من تحب، أو رفض من لا تحب. وكأنما الأقدار السعيدة كانت تهيئ لها السعادة حينما وقع اختيار الشاب باسانيو على الصندوق الرصاصي الرابح. ولكن باسانيو فقير لا يقوى على منافسة الخطاب الأثرياء، فلجأ إلى صديقه أنطونيو — تاجر البندقية — ليقرضه المال. ولكن أنطونيو — في غمرة من الضيق المالي — لجأ إلى اليهودي شيلوك الجشع الحقود. وما كادت بورسيا تعلم بمحنة أنطونيو حين عجز عن وفاء الدين في أجله، حتى همت لتنقذ أنطونيو من تصميم اليهودي شيلوك على تنفيذ الشرط القاضي باقتطاع رطل لحم من جسده. إن أنطونيو قد أسلف لها يدًا غير مباشرة حين ضمن القرض الذي أخذه باسانيو ليتقدم إلى خطبتها، فكيف تقصر الآن عن معونته في النكبة التي مني بها أمام شيلوك؟ لقد تنكرت في زى محام شاب لتدافع عن أنطونيو وتنقذ حياته من يد اليهودي العنيد الحقود. ولقد كان موقعها في المدافعة أمام دوق البندقية موقعًا اختلط فيه الشعر بالفلسفة. وامتزج فيه الوقار الرصين بالسخرية اللاذعة. وما أروعها وهي تلجأ إلى لغة الشعر لتتحدث عن الرحمة حديثًا تحاول أن تلين به قلب اليهودي الذي قد من صخر! وما أذكاها وهي تحول القانون ضد شيلوك! فإنها اشترطت عليه أن يقطع اللحم من جسم أنطونيو بلا قطرة من دم، وإلا قضى عليه قانون البندقية بمصادرة أمواله وأملاكه، وهنا اضطر شيلوك — مكرهًا — إلى أن يرضى بأن يرد إليه أصل قرضه من غير تنفيذ لشرط اللحم! ولكنه في النهاية خسر قرضه، وخسر ماله كله الذي ذهب إلى ابنته جسيكا وزوجها لورنزو … ولقد بلغ من حكمة بورسيا أن الكاتبة المسز جايمسون قالت: «إن شكسبير هو الفنان الوحيد — بجانب الطبيعة — الذي يستطيع أن يحيل النساء عاقلات حكيمات من غير حاجة إلى أن يجعل منهن رجالًا.»

شيلوك

إذا كانت بورسيا هي جمال هذه المسرحية فإن شيلوك اليهودي الجشع هو سر القوة الكامنة فيها. وقد حاول شكسبير أن يجمع كل خصائص اليهود وصفاتهم العامة في شخصية شيلوك، الذي يمثل الشعب اليهودي أصدق تمثيل. ففيه منهم تلك الكبرياء العاتية التي لم تقف لحظة خلال العصور عن أن تثير العداوات، وفيه ذلك الشح المفرط الذي يقود إلى الجشع البغيض، وفيه منهم ذلك الضعف والذلة. فهو في الحق نموذج من آلام اليهود وكراهيتهم. وقد كان هو نفسه موضعًا للازدراء الشديد والإهانات المتصلة من المحيطين به من مسيحي البندقية.

وكان له بينهم أعداء يرى نفسه أكبر من مصالحتهم، وإن كان أضعف من مقاومتهم. على أنه فوق ذلك لم يكن في يهوديته بأكثر منه في شيلوكيته … فله من السمات الخاصة ما يزيد على سمات قومه …

ولقد صوره شكسبير حقودًا منتقمًا أكثر منه طماعًا جشعًا؛ فإن الحقد كان يجري في مفاصله مجرى الدم … فقد أنساه حقده حب المال وهو يخاصم أنطونيو أمام دوق البندقية، حتى لقد رفض أن يدفع له دينه أضعافًا مضاعفة لقاء أن يشفي حقده باقتطاع رطل من اللحم من جسد أنطونيو. وكل ذنب أنطونيو لديه أنه رجل تجمعت فيه أكرم خلال المسيحية — أو الإنسانية — فهو مسماح كريم منجد مغيث للملهوف لا يقرض بالربا مطلقًا ولا يتعامل به. حتى لقد قال عنه الناقد الأديب “H. N. Hudson”:

لما كان الجشع والحرص هما هوى نفسه الذي تحكم فيه فإن الفضائل المسيحية التي لا تتفق مع ذلك بدت في عينيه من أكبر الذنوب.

ولقد بلغت شهوة المال والحرص عند شيلوك حدًّا جعلت منة شخصًا بليد الحس، وضيع النفس. فلم يحزنه شيء حينما فرت ابنته جسيكا مع عاشقها المسيحي لورنزو أكثر من حزنه على المال الذي هربت به … كأن الشرف عنده شيء لا اعتبار له بجانب المال. ويقول حينما علم نبأ هروبها بالمال والمصوغ: «من لي بابنتي ميتة عند قدمي، والماستان في أذنيها؟!»

وبلغ من بلادة حسه أنه ألف أن يسمع أفحش الطعن فيه فلا يتحرك ولا يثور، ولا يبدي آية من آيات الغضب. وكثيرًا ما ندد به أنطونيو وباسانيو وأصدقاؤهما فلم يبد عليه أنه سمع من واحد منهم كلمة … ويتمتع شيلوك — لو صح هذا التعبير — بنصيب كبير من المكر والخبث الذي بدا جليًّا في المحاورة بينه وبين أنطونيو وباسانيو، حينما جاءاه لطلب القرض منه. كما بدا جليًّا في المحاورة بينه وبين سالانيو وسالارينو حينما فات أجل الدين وحق تنفيذ الشرط القاضي على أنطونيو باقتطاع رطل من لحم جسده.

وإذا جاز لنا هنا أن نعود مرة أخرى إلى حقد شيلوك فإنه كان حاقدًا على المسيحية بحكم يهوديته، وكان حاقدًا على أنطونيو لأنه كان يسخر منه من ناحية، ولأنه كان تاجرًا شريفًا نجدًا غير مراب ولا حريص على مال، وكان حاقدًا على لورنزو المسيحي صديق باسانيو لأنه أغرى ابنته جسيكا بمغريات الحب فهربت معه من بيت أبيها شيلوك حاملة معها ما حملت من ذهبه ومصوغاته.

ولقد ضاع ذلك اليهودي التاعس في نهاية الخصومة بينه وبين أنطونيو ضياعًا ماديًا لا قيامة له بعده … بفضل براعة بورسيا في الدفاع. فضاعت أمواله كلها التي أنفق الساعات في جمعها لتذهب إلى لورنزو المسيحي الذي تزوج بابنته جسيكا. وعاد من صفقة القرض التي كان يحسبها رابحة بأفدح خسران …

ولقد بلغ من خطر الدور الذي قام به شيلوك أن المسرحية كادت تسمى باسمه بدلًا من اسم أنطونيو تاجر البندقية. فقد وجد في أحد السجلات القديمة “Stationers Registers” تعريف بهذه المسرحية هكذا: «هذا كتاب تاجر البندقية، أو كما يسمى باسم آخر: يهودي البندقية.» ولقد يدلنا هذا النقش الوثيق على أن شكسبير كان في شك من أن يسمي مسرحيته بإحدى التسميتين نسبة إلى أنطونيو أو شيلوك. وأيًّا ما كان الأمر فإن شيلوك هو «شخصية» هذه المسرحية، وما عداه من الشخصيات فتبع له. ولكن أنطونيو من ناحية الدراما هو شخصية هذه الرواية، فلولاه ما كان لشيلوك ظهور …

جسيكا

ابنة شيلوك اليهودي، ولكنها لا تبدو في أي موقف من مواقفها في المسرحية على صورة تنفر القارئ أو المشاهد، فقد اجتمع لها من اللطف والوداعة والجمال ما ينسينا كثيرًا من سيئات أبيها، حتى لقد يظن الظان أنها ليست من طينته، ولا من ديانته، فهي كما يقول سالارينو مخاطبًا شيلوك بعد حادثة هربها: «بين دمك ودمها من البون مثل ما يختلف النبيذ الأحمر عن النبيذ الأبيض!»

على أن فرار جسيكا في ذاته مع عشيقها المسيحي لورنزو قد يحملنا على فرض احتمالين لا ثالث لهما: فإما أن تكون الفتاة فتاة غير طيبة، وإما أن يكون أبوها غير طيب. وخاصة بعد أن سرقت معها جمهرة من مال أبيها، ولكننا حين نلتمس لها العذر في الفرار من بيت ضرب الشح والحرص والتقتير عليه بجرانه، فإننا لا نعفيها من بعض اللوم على سلوكها هذا. ومن عجب أن هذه الفتاة المحرومة قد آلت إليها أموال أبيها شيلوك بعد أن خسر قضيته مع أنطونيو. وصار مصيدًا بعد أن كان طالب صيد …

لورانزو

هو عاشق جسيكا ابنة شيلوك اليهودي. وقد هرب بها في ليلة كان أبوها فيها مدعوًّا إلى حفل تنكري. وساعده على الهرب بها وبالمال الذي حملته جراتيانو وسالارينو، وهما من أصدقاء أنطونيو وباسانيو، وكأنما كان شيلوك يحس بما سيحدث تلك الليلة، فقد خاطب ابنته موصيًا إياها بتغليق الأبواب وإحكامها وحذرها أن تذهب إلى النافذة لتطل منها … ومن عجب أن تهرب جسيكا مع لورنزو إلى بيت بورسيا وزوجها باسانيو، وأن يتولى العاشقان الهاربان الإشراف على هذا القصر حتى تعود بورسيا منجزة مهمة دفاعها النبيل عن أنطونيو وهي متنكرة في بزة فتى من أقدر المحامين.

بقيت بعد هذا شخصيات جراتيانو وسالارينو وهما من أصدقاء أنطونيو وباسانيو. وقد بلغ بهما صدق المودة وخلوص الحب حدًّا يضمهما في إطار فريد نادر من الصداقة التي تجلى مثلها الرفيع في أنطونيو.

أما طوبال اليهودي صديق شيلوك فهو شخصية ثانوية الأهمية، ولكنه على كل حال كان يحمل إلى شيلوك أطرف الأخبار وأسوأها … حمل إليه نبأ خسارة سفينة من سفن أنطونيو، كما حمل إليه في اللحظة عينها نبأ عن ابنته الهاربة جسيكا أنها أنفقت ثمانين دوقية ذهبية في ليلة واحدة بمدينة جنوا … ويا للمفارقة بين النبأين!

أما شخصية لنسلو جوبو فهي شخصية تعتمد على عنصر الضحك والغرابة. لقد كان في خدمة شيلوك اليهودي، ولكنه وجد من سوء عشرته ما لا يطمع بالبقاء عنده، فتركه إلى خدمة باسانيو. والحق أن بيت شيلوك كان يشبه قطعة من الجحيم … ولقد عبرت عن ذلك جسيكا ابنة شيلوك حين خاطبت لنسلو جوبو قائلة: «أنا متكدرة لتركك أبي، وستكون لك وحشة في هذا البيت الجهنمي.» ولقد انتقل لنسلو إلى بيت باسانيو — أو إلى قصر بورسيا — حيث أوت إليه جسيكا مع عشيقها وزوجها لورنزو، وحيث صارت إليها ثروة أبيها شيلوك وأمواله الواسعة …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤