وقيعة

فارس فارع القد، وسيم الطلعة، تكشف أسارير وجهه عن نبل عريق، وشرف رفيع، وتنطق ملامحه ونظرات عينيه بشجاعة تفرَق منها الشجعان، وبطولة يعزُّ مثلها على الأبطال، وكان يتقلَّد سيفًا حُلِّي غمده بالذهب، وزيِّن بنفيس الجوهر، ويتنكَّب رمحًا تقبِّل أشعة الشمس سنانه فترسل بريقًا وهَّاجًا يكاد يُحسِر العيون، وقد امتطى جوادًا كريمًا راح يهملج في بخترة وزهو، كأنه كان يعتز بكرم سلالته، أو يتيه بشرف منبت فارسه الشَّعشاع.

سار الجواد بين الوخد والخبب في طريق مدينة حلب، في يوم صائف من سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة، فانفجرت السابلة عن طريقه كما تنفرج أمواج البحر أمام سفينة تداعب شراعها الرياح، وأخذ الناس يتهامسون في إجلال وخشية: هذا أبو فراس! هذا ابن عم الأمير! هذا بطل حصن برزويه! هذا فارس الدولة وشاعرها المغرِّد! وكان بين القوم رجل قوي الأسر مفتول العضلات، ظهرت في وجهه سطور كتبتها السيوف، ونقَّطتها النبال، فدلت على أن عمَّارًا القضاعي جندي قديم مغامر، عرك الوقائع وعركته، وخاض غِمارها فغمرته، قال عمَّار لمن بجانبه في صوت خافت: لقد شهدت خمس وقائع مع هذا البطل، رأيت فيها من إقدامه وجرأته، وصدق درايته بالحروب، ما يكاد يذهل المجاهد عن كوارث الحروب. فأجابه صاحبه: لقد كنت إذًا مشاهدًا لا محاربًا. فابتسم عمار ابتسامة مبهمة فيها ازدراء، وفيها رفق القويِّ بالضعيف، وفيها اعتزاز الشجاع بمكانته. ثم قال: كنت مشاهدًا حقًّا، ولكن لا كما تشاهد اليوم أبا فراس، وهو يتمايل فوق جواده اللعوب في دروب حلب، وقد نصبت السلم على المدينة ورواقها، وأصبح أهلها لا يخافون إلا من سهام عيون الحسان! دعك يا صاحبي من ذكر الحرب والمحاربين فتلك دماء طهّر الله منها سيوف الجبناء.

– أتعدّ كل من لم يشهد الحرب جبانًا؟

– إن اقتراب الروم من أطراف مملكتنا، وضغنهم القديم الموروث على المسلمين وملوك المسلمين، وادّعاءهم أن بلادنا قطعة من مملكتهم الواسعة، اغتصبها منهم الإسلام بسيفه، ثم ما أعدّوه لنا من غوائل الحرب؛ كالنار اليونانية والدبابات الهائلة، كل هؤلاء مما يوجب الجهاد، ويدفع كل مسلم إلى امتشاق الحسام، والموت في سبيل دينه ووطنه شهمًا كريمًا.

– أما أنا فلن أمتشق الحسام، ولن أخوض غمار الهيجاء. فنظر إليه عمّار في اشمئزاز، وقال ولسانه يتعثَّر من الغيظ: كنت أظن قبل أن أراك أن اللحَى من خصائص الرجال.

– وهي لا تزال من خصائص الرجال، وإن أمامك لرجلًا.

– رجل بلا قلب.

– رجل لولاه ما امتلأت خياشيمك كبرًا، ولا انثنى عطفك تيهًا عند ذكر الحرب والنزال.

– من تكون؟

– أكون كما أكون.

– بالله قل لي من تكون؟ فأجاب الرجل وفوق شفتيه ابتسامة ماكرة: أنا يا سيدي الشجاع المغوار صانع سيوف، لولا يده هذه ما جرّدت أنت ولا قائدك أبو فراس في الحرب صمصامًا.

فضحك عمار طويلًا، ومد يده إلى صاحبه في سرور، يشعر به من وجد في عدو صديقًا جديدًا. ثم أخذ يشدُّ على يده ويهزّها هزًّا، ويقول: صانع سيوف؟! حقًّا لولاك ما حملتنا إلى الجهاد قدم. نعم يا صاحبي، أنت لا تشهد الهيجاء، ولكنك حقًّا نون النصر فيها وصاده وراؤه، ولولاك ما عزَّ للمسلمين جانب، ولا خفق على حصونهم عَلَم. انظر؛ ما أظن أبا فراس إلا ذاهبًا إلى قصر الرحبة.

– إني لمحت في وجهه كُدرة الغضب، وأخشى أن يكون قد جاء إلى الأمير نذير جديد من قِبَل الروم.

– أظنهم سيقضون وقتًا طويلًا يلعقون فيه جراحهم، بعد هزيمتهم في «سروج». تلك كانت موقعة رائعة حقًّا. لقد زحف فيها الروم علينا في عديد الحصى، وقد اشتجرت رماحهم حتى سدّت الأفق، وصال بطاريقهم، ووثبت دباباتهم، وتطايرت نيرانهم التي لا تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، وقد أعجبتهم في ذلك اليوم قوتهم، وزهاهم ما أجلبوا به من خيل ورَجْل وعُدة وعتاد، وزُلزل المسلمون زلزالًا شديدًا، واتجهت عينا سيف الدولة إلى السماء في رجاء المستغيث، حتى إذا اشتد الكرب، وبلغت القلوب الحناجر، سمعنا على الرغم من لَجَب الحرب زمازمها، صوتًا مجلجلًا يصيح: إليَّ إليَّ أيها المجاهدون! إن أبا فراس قائدكم المفاخر بشجاعتكم يدعوكم لتخطفوا ثمر النصر من أيدي هؤلاء العلوج. إن دباباتهم لن تغني عنهم اليوم شيئًا، وإن قلبًا يملؤه الإيمان، وذراعًا تشدها العزيمة، أقوى من كل ما جمعوا وعدّوا. إننا أيها الأبطال لم نجاهد لأرض وقلاع، وإنما نجاهد لدين وتاريخ ومجد قديم. إن الروم إذا برعوا في الحرب فهم في الفرار أبرع إذا حمي الوطيس، وصدقت الحملة. إليَّ إليَّ أيها المجاهدون، ثم إلى الجنة إلى الجنة أيها الشهداء! وما كاد يتم نداءه حتى وثب بجواده نحو الحصن، ونحن خلفه كالأسود الغاضبة، ريع حماها، وديس عرينها، وتكاثر حوله الروم فكان يطوح برؤوسهم يمنة ويسرة، كما ينثر الزراع الحب. حتى إذا وصل إلى القمة خلع راية الروم، وقذف بها في التراب ثم صاح: الله أكبر! الله أكبر! فردَّد الجيش صيحته، وتواثب المسلمون على الحصن، حتى أجلوا الروم عنه، فانطلقوا خلف بطاريقهم في سرعة الريح يلتمسون الفرار، وعاد المسلمون بالنصر والأسرى والأسلاب والغنائم.

– لقد كان ذلك فتحًا مبينًا.

– وسيتلوه فتوح لو اتحد العرب، وكانوا يدًا على من سواهم. عم صباحًا يا صاحبي، واعمل في طبع السيوف ليل نهار، فإني أخشى أننا لا نزال في بداية صراع طويل الأمد.

بلغ أبو فراس أرض الحلبة، وهي في سفح جبل الجوشن، ووصل بعد قليل إلى قصر سيف الدولة بن حمدان، وكان قصرًا سامق البنيان، يُطل على نهر قويق، بذل فيه المهندسون والرسامون كل ما في مُكنة البشر من إبداع، وزيِّنت حيطانه وسقوفه بالنقوش البارعة، والتهاويل الرائعة، وكان لقاعته الكبرى، وهي قاعة الرسل خمس قباب تحملها اثنتان وأربعون ومائة سارية من الرخام الأبيض الناصع، المحلى بالذهب، وبها مئات من النوافذ الزجاجية البديعة الألوان، أما الأثاث فكان فوق ما يصف الشعر ويرسم الخيال، وقد أحاطت بالقصر الحدائق والبحيرات يجري إليها الماء من تماثيل سمك ضخم، صنع من خالص النضار، وركبت له عيون من ثمين الجواهر.

وما كاد أبو فراس يثب من صهوة جواده، حتى تلقّاه بشارة ونجا، غلاما سيف الدولة، بما يليق بمنزلته من إجلال وحفاوة، وكان أبو فراس لا يزال عابسًا متجهم الوجه، فانحنى نحوه نجا قائلًا: سعد صباح الأمير، ما للوجه المشرق البسّام تعلوه اليوم سحابة عابسة؟ فهل في الأمر شيء يا مولاي؟

– لا شيء يا نجا، ولكنها ظنون الشاعر وهواجسه، التي كثيرًا ما تطغى على ثبات الفارس وركانته، وتصور له في الحلم ذلًا، وفي الإقدام طيشًا وجهلًا. أتعرف يا نجا لمن هذا البيت:

كلُّ حلم أتى بغير اقتدار
حجة لاجئ إليها اللئام؟

فأسرع نجا، وكان من أنصار المتنبي المعجبين به فقال: هو يا سيدي لأبي الطيب من قصيدته التي يقول فيها:

إن بعضًا من القريض هُذاء
ليس شيئًا وبعضه إحكامُ

فاربدّ وجه أبي فراس، وقال: نعم، إنه لذلك الزقِّ المنتفخ بالعظمة الحمقاء، والغرور الكاذب، أين ابن عمي يا نجا؟

– في القاعة الكبرى يا سيدي. فسار أبو فراس في دهاليز القصر وأبهائة، وقد انتثر فيها العبيد والمماليك الروم، يروحون ويجيئون في حركة دائبة، ورهبة وإطراق، يعرف كيف يصطنعهما رجال القصور. فلما وصل إلى القاعة تلقّاه سيف الدولة مرحبًا باشًّا، وكان سيف الدولة جسيمًا قسيمًا، واسع العينين تشع منهما عزيمة المجاهدين، وفي وجهه سمرة العرب، وملامح النبل والبطولة.

أخذ أبو فراس يتحدث عن الجيش، وما يبذل في إعداده لمكافحة الروم، وردّهم إلى تخومهم. فتململ سيف الدولة في حزن وأسى، وقال: أخشى يا ابن عمي أن القوم هنا لا يدركون ما يحيط بالدولة من خطر داهم، فإني أرى أكثرهم منصرفًا عن الجهاد ثقة بي، واعتمادًا على عِظَمِ قُوَّتي، كأن في سيفي سحرًا بابليًّا إذا لوّحت به للأعداء انهارت جيوشهم في طرفة عين. إن بمملكتي أبطالًا، ولكن بطولتهم مخبوءة مغمدة؛ لأنهم يظنون أنهم يعيشون في ظلال وارفة من الأمن، وأن أعظم معونة يبذلونها للدولة أن يسيروا في مواكبها، ويأخذوا زينتهم في صدور مجالسها.

– نحن لا تعوزنا السيوف يا مولاي، ولا تعوزنا السواعد المفتولة، ولا القلوب الضيغمية، وكل عربي منا يضع قلبه ورمحه في أول الصفوف، إذا جدَّ الجدّ، وأذّن مؤذن الجهاد، ولكن الذي نحن في أشد الحاجة إليه حقًّا أصوات رنانة مجلجلة، تثير الحميّة، وتلهب العزائم، وتخلق من اليأس ثقة، ومن التردد إقدامًا، وتذكّر بالمجد الغابر، وتوجّه الأمل الحائر، وتوقظ النفوس إلى ما يحيط بها من كوارث تريد أن تنقض. المملكة يا سيدي تتحرّق شوقًا إلى من يذيع مآثرها، وينشر مفاخرها، ويملأ الآذان بوقائعها المظفّرة، وبحسن بلاء أبطالها الميامين.

– ألا يقوم المتنبي بهذا، وهو خير شاعر أنبتته أرض العرب؟

– إنه لا يقوم بشيء منه يا مولاي، وهو رجل صلف تيّاه، شائك الخلق نافر الطبع، أبغض الناس فأبغضوه فنفرت قلوبهم من شعره.

– إن بيتًا واحدًا من شعره كفيل بأن يملأ الآفاق، ويشغل الدنيا، ويرفع الدولة التي يغني بمديحها إلى مسارح النجوم.

– إن الشعر يا ابن العم روح قبل أن يكون لفظًا ووزنًا، وهو شعاع من نفس قائله، ونور يفيض به قلب صاحبه، فإذا كانت تلك النفس مظلمة قاتمةً مدنَّسة بالحقير من الأغراض، وكان ذلك القلب نهبًا للأطماع الدنيئة، جاء منهما الكلام فاترًا خائرًا مقطوع النفس، ضعيف المُنَّة.

– هل ترى من هذا النوع قوله:

بذا قضت الأيام ما بين أهلها
مصائب قوم عند قوم فوائد؟

– وماذا في هذا البيت يا مولاي؟ إنه لم يبذل فيه جهدًا، ولم يعمل رويّة، ويعلم الله أنه استرق معناه سرقة الطوّار البارع في النهار المبصر. استرقه من شاعر دفنته يا مولاي حيًّا بالانصراف عنه، والاستهانة بشعره. استرقه من شاعر غنَّى بمجد دولتك، فما ألقيت إليه سمعًا، وأشاد بمآثرك فما حققت له أملًا. ذلك الشاعر يا مولاي هو أبو الحسين الناشئ الأصغر، الذي يقول فيك حينما شغلك عنه انصرافك إلى ذلك المتنبي، واحتفاؤك به، وإسكات كل صوت للشعراء دونه:

إذا أنا عاتبت الملوك فإنما
أخطُّ بأقلامي على الماء أحرفا
وهبه ارعوى بعد العتاب ألم يكن
تودده طبعًا فصار تكلّفا؟

– حقًّا كان من حق الناشئ عليَّ أن ينال من إقبالي عليه ما هو حقيق بشعره وأدبه، إني أعذره يا أبا فراس، فقد أبطأ عنه عطائي حينًا من الدهر طويلًا: هل سرق معناه الرائع من هذا الشاعر الذي ظلمناه وبخسناه حقه؟

– نعم يا ابن العم سرق المعنى من قصيدة لهذا الشاعر ينوِّه فيها بصولة بني حمدان، ويذمّ بني العباس، الذين لا يفتئون يدسون لهم الدسائس غيرةً وحسدًا، ويغرون في الخفاء بعض القبائل الخارجة علينا، كبني كلاب وبني العجلان، بالانتقاض على مملكتنا، ومصارحتنا بالعصيان، فهو يقول:

إليكم يا بني العباس عني فإنني
إلى لله من ميلي إليكم لتائبُ
تركت طريق الرشد بعد اتضاحه
وأقصاكم عنه ظنون كواذبُ
أترضون أن تطوى صحائف عصبة
كرامٍ لهم في السابقين مراتب
فلا تذكروا منهم مثالب إنما
مثالبُ قوم عند قوم مناقب

– حيا الله أبا الحسين! لقد أحسن الزود عنا، ولكني لا أرى أن أبا الطيب سرق منه معناه، لأن هذه في ناحية، وبيت أبي الطيب في ناحية، إلا أن تدعي أنه سرق الأسلوب والأسلوب ملك شائع لجميع الشعراء. لا يا ابن العم إن المتنبي أرفع قدرًا، وأبعد منزلةً في الشعر، من أن يتدلّى إلى فتات غيره. إنني شاعر قبل أن أكون ملكًا وفارسًا، ومعرفتي بابتداع الكلام لا تقل عن درايتي بامتشاق الحسام.

فاربدّ وجه أبي فراس قليلًا، وأطرق واجمًا، ثم رفع رأسه وعلى وجهه ابتسامة الظفر، وقال: مهلًا يا ابن العم، فما خالجني شك من تمكنك من ناصية الشعر، واستذلالك أوابد المعاني، ولولا ذلك ما أجاد شعراء المملكة في مديحك، ولا جودوا في الثناء عليك؛ لأنهم يعلمون أنهم يعرضون نسيجهم على خير بزّاز، ويقدّمون فنهم إلى أمهر الأدباء في تصاريف الكلام، ولعمري إن شاعرًا لم يسبق مولاي في وصف قوس قزح حين يقول:

وساق صبيح للصبوح دعوته
فقام وفي أجفانه سنةُ الغُمض
يطوف بكاسات العقار كأنجم
فمن بين منقض علينا ومنفض
وقد نشرت أيدي الجنوب مطارفًا
على الجو دُكنا، والحواشي على الأرض
يطرّزها قوسُ الغمام بأصفر
على أحمر في أخضر تحت مبيضّ
كأذيال خودٍ أقبلت في غلائل
مصبّغة، والبعض أقصرُ من بعض

وإذا لم يرض مولاي أن يكون المتنبي قد أغار على بيت الناشئ، فما أظنه يجحد أن شاعره اللص سرق هذا المعنى بعينه من قول الحارث بن حلّزة:

ربما قرت عيونُ بشجا
مُرمِض قد سخنت منه عيون

وأكبر الظن أن شاعره، وهو أعجز من أن يمتد حفظه إلى العهد الجاهلي، وجد الطريق سهلة مذللة إلى حبيب بن أوس الطائي، فاغتصب المعنى من قوله:

ما إن ترى شيئًا لشيء محييًا
حتى تلاقيه لآخر قاتلًا

ماذا تقول يا سيدي في هذه السرقة الصارخة، وتلك الإغارة الوقحة، التي لا تقلّ عن إغارات اللصوص، وقطّاع الطريق؟

– لقد نظر المتنبي إلى معنى الطائي ما في ذلك شك.

– ثم إن هذا السّارق لا ينكس رأسه خزيًا، بل ينفخ خياشيمه، ويتحدَّى كل شاعر من شعراء مولاي في جبريّة وعجب، إنه في هذه القصيدة التي استشهد مولاي ببيت منها يقول:

خليليّ ما لي لا أرى غير شاعر
فلم منهم الدعوى ومني القصائد؟

ويقول في أول قصيدة أنشدها بين يدي سيدي:

غضبت له لما رأيتُ صفاته
بلا واصف، والشعرُ تهذي طماطمه

فيصف جميع شعراء مملكته بأنهم عُجم لا يُبينون، وعلوج لا يفهمون، وأشهد أن الشعراء لم يغضوا عنه عجزًا عن معارضته، فإن لكل منهم لسانًا لو ضرب به حجرًا لفلقه، وإن في شاعرك المغرور المتشدق من وضاعة النسب، وسماجة الخلق، ولؤم العنصر، ما يغري ضواري الشعراء، وما تتحلب له نهمًا أفواه الهجاء، ولكنهم سكتوا مرغمين محزونين؛ لأنه في كنف مولاي وحمايته، ولأنهم يظنون أن ثلبه، وتمريغه في التراب، قد يغضب مولاهم، فتركوه لك يا سيدي ولكنك تركته عليهم يمزِّق أعراضهم، ويسخر من فنهم، ويتحداهم في بذاءة وجبروت، وقد كان من أثر هذا أن انصرف الشعراء عن مدحك، فلا يحييك منهم شاعر بكلمة، وتفرَّد بك هذا الشاعر الدخيل فأخذ يتيه عليك، ويخاطبك مخاطبة الند والنظير، ويمر العام فلا يجود عليك إلا بقصيدة أو قصيدتين، بعد أن تلح في الطلب، وتلحف في المسألة، وبذلك انقلب الوضع، وعكس الأمر، وأصبح الأمير يستجدي شاعره، وأصبح الشاعر يراوغ ويماطل في العطاء، ما هذه الحال يا مولاي؟!

– لقد قلت حقًّا يا ابن العم، ولكني أخشى إذا انصرفنا عن هذا الشاعر أو صرفناه، أن يلحق بأعدائنا، فيرفع من شأنهم، ويشيد بمجدهم، وقد علمت أن عبد الإخشيد بمصر يبذل الآن فوق ما يستطاع لاستهوائه وإغرائه بالجاه والمال؛ ليصل إلى أرض مصر، ولست تجهل يا أبا فراس ما بيننا وبين الإخشيد من عداء محتدم، فقد وثبت علينا جيوشه منذ سنوات فاستولت على دمشق زينة العواصم، وغرّة جبين الشام.

فإذا ذهب المتنبي إلى العبد زاد دولته قوة، ومسح عنه عار الرَّق ووصل نسبه بمعدِّ بن عدنان. ثم إني أخشى، وهو لدود الخصام علقميّ اللسان ألا يتعفف عن أن ينال بهجائه، وهو نفسه الذي يقول:

ومكايد السفهاء واقعةٌ بهم
وعداوةُ الشعراء بئس المقتنى

– إنه لن يذهب إلى مصر يا مولاي، كن من ذلك على يقين. إنه يذهب إلى العراق؛ ليتصل بالخليفة والوزير المهلبي فإن كبره سيزيِّن له أنه أحقُّ شعراء الأرض بالاتصال بالخليفة، وأن شعره أغلى من أن يبعثر على الأمراء وحكام الأطراف، وإذا بلغ بغداد يا ابن العم فإن مائة دينار من خزانتك هذه، ترسل إلى ابن الحجاج وابن سُكرة، وهما أقذع الشعراء هجاء، وأفحشهم سبابًا كفيلة بأن تشغله عن هجاء الناس جميعًا، وتدفعه إلى الانصراف إلى نفسه.

– لا أكذبك أبا فراس إني سئمت كبره وإدلاله وتجنيه، ولن أنسى ما اشترطه عليّ ذلك الأحمق عند أول اتصاله بي من ألا يكلف تقبيل الأرض بين يدي، وألا يخلع سيفه في حضرتي، وألا ينشدني شعرًا إلا وهو جالس، ولقد قبلت منه كل ذلك على مضض، حين ظننت أن إغداقي عليه، وإحساني إيه يروضان من نفسه الجامحة، فما أجدى ذلك فتيلًا.

– إنك يا مولاي تمنحه كل عام ثلاثة آلاف دينار، غير ما تفيض عليه من الصلات والهبات، ثم إنك لا تظفر منه بعد كل هذا إلا بثلاث قصائد، نصف أبياتها في مدح نفسه، والازدهاء بمواهبه، ولو فرّقت في كل عام مائتي دينار على عشرين شاعرًا لأتوا بالمعجز المطرب، ولبزوا ذلك الوقع في كل ما يتبجح به من إجادة وإعجاز، وإن شعراء مملكتك، والشعراء الوافدين عليك قد يزيدون على المائة وهم يا ابن العم يرتقبون منك نظرة عطف؛ ليملئوا الدنيا باسمك دويًّا، ويرسلوا أجنحة الشعر بمديحك خفّاقة في الآفاق.

– صدقت أبا فراس لن يكون لهذا الشاعر الزنيم مكان من رعايتي بعد اليوم! غير أني أرى أن نخرج من هذا الأمر بكياسة ورفق، كما دخلنا فيه بكياسة ورفق.

– هذا ما أشير به يا مولاي، ويكفي أن تصد عنه شهرًا حتى يزمع الرحيل.

وحينما انتهى أبو فراس من إحكام مؤامرته، حيّا سيف الدولة وانصرف، وما كاد يعود إلى قصره، وكان بالقرب من برج أبي الحارث، حتى رأى به طائفة من الشعراء ينتظرون عودته، بينهم أبو العباس النامي، وأبو الحسين الناشئ، وأبو القاسم الزاهي، وأبو الفرج السامري، وكان من ألد أعداء أبي الطيب الحاقدين عليه. فلما رأواه همّوا لاستقباله محتفين، وطفقوا يسألونه في شوق ولهفة عما تم في أمر المتنبي وسيف الدولة من نبذ المتنبي، وتقريب شعراء مملكته. فطار الفرح بقلوبهم، وأخذ كل منهم يفكّر في مطلع قصيدة يمدح بها سيف الدولة؛ ليكون من السابقين الأولين.

أخذ سيف الدولة يفكر في أمر المتنبي، بعد أن تركه أبو فراس وقد تراكمت عليه الهموم، وانتابته الظنون، وعبثت به الهواجس. فهو مرة يرى أن أبا الطيب صنّاجة ملكه، وناشر فضله، وأنّه الغاية التي تقطّع دونها أنفاس الملوك، والحلم الذي يتطلّع إلى تحقيقه كل أمير، وأنه أشعر من رددت أصداءه آفاق العرب، وأندى صوت يجلجل بالشعر فيخوض البحار، ويثب الجبال، لا يقف دونه سدّ، ولا يعترضه حائل، وأن شعره جيش أقوى من الجيش، وعتاد يزدري بكل عتاد. من هو سيف الدولة حتى يظفر بدولة الشعر كلها مجتمعة في رجل يمجد أفعاله، ويخلد محامده، ويبث الرعب في قلوب أعدائه؟

يرى سيف الدولة كلّ هذا، فيرفع رأسه باسمًا مبتهجًا، وقد كاد يُثلج صدره برد اليقين، ولكنه لا يفتأ حتى تهجم عليه الوساوس من كل مكان، صارخةٌ عاوية وهي تصيح: ما هذا التدلّي إلى الحضيض؟ وما هذا الاستخذاء لشاعر مجنون بالعظمة تيّاه على الملوك؟ أنت يا ابن حمدان ملك من سلالة ملوك، ولكنك في سبيل أمل كاذب، من نبي كاذب، نزلت بنفسك إلى الهاوية حتى صرت له مملوكًا! اذكر إن كنت ناسيًا أنه يقبل صِلاتك الجزيلة آنفًا، ويتقلب في نعمتك حاقدًا، واذكر إن كنت ناسيًا أنه لا يجود عليك بقصيدة إلا كارهًا متثاقلًا، ثم اذكر أنك كثيرًا ما استبطأت مديحه فأفنيت الحيل في استجدائه، فتارةً ترسل إليه أبياتًا لشاعر ليقول على مثالها، وتارةً تزعم أنك أعجبت ببيت قديم لتستثير خاطره الراكد، وخياله الكليل. كلُّ هذا وهو سادر في غروره وكبريائه، يسخر في خبيئة نفسه من الملوك والمماليك، ويُردّد في صدره قولته الحمقاء:

أيَّ محل أرتقي
أي عظيم أتّقي
وكلُّ ما خلق اللـ
ـه وما لم يخلُق
محتقر في همتي
كشعرةٍ في مفرقي

إنه وايم الحق رجل ثقيل الظل، مستكره الطباع، ولو كان ينطق بالوحي، ويستملي شعره من ملائكة السماء! إن نُفرة الناس منه ذهبت بروعة شعره، فلم يجد بين القلوب منزلًا، ويلٌ له مني؟ لن يعيش هذا الرجل في مملكتي بعد اليوم، فإنه لا تؤمن عواقبه، وهو حقود لئيم، يسخط على اليد تمتد إليه بالإحسان، ويأنف من النعمة يسوقها إليها كريم. أليس هو القائل:

مدحتُ قومًا وإن عشنا نظمتُ لهم
قصائدًا من إناث الخيل والحُصُن
تحت العجاج قوافيها مُضمرةٌ
إذا تنوشدن لم يدخلن في أذن

لا. لا. فليخسأ ذلك المتشدق. أو ليرحل من بلادي إلى أيِّ بلد شاء. لا أريد شعرًا، ولا أريد ذلك المجد الموهوم الذي سيخلِّده شعره.

قال سيف الدولة هذا، وهو يحرك ذراعيه فعل الغاضب المحموم. ثم قام متجهًا إلى الجناح الذي به أهله بعد أن زالت عنه آلام الشكوك، وسكنت نفسه إلى ما عقد عليه العزم، وبينما هو يسير في دهليز طويل، إذ سمع أصواتًا في حجرة، فاقترب وأنصت، فإذا غُلامُه نجا وأبو الحسن بن سعيد راوية المتنبي يتحاوران، فأرهف السمع فإذا نجا يقول: إنها من أروع قصائده، وكل شعره رائع خلَّاب. استمع لي يا مولانا، وأصلح خطئي إذا أخطأت:

فديناك من ربع وإن زدتنا كربَا
فإنك كنت الشرق للشمس والغربا
وكيف عرفنا رسم من لم يدع لنا
فؤادًا لعرفان الرسوم ولا لُبَّا؟

فصاح ابن سعيد: هذا شعر كان في صدور الشعراء سرًّا مكتومًا حتى جاء أبو الطيب فأفشاه، وكان في كهف الغيب رحيقًا مختومًا حتى ظهر ابن الحسين ففضَّ خِتامه. اقرأ يا بنيَّ من مديحه:

هنيئًا لأهل الثغر رأيك فيهم
وإنك حزب الله صرت لهم حزبا
وأنك رعت الدهر فيها وريبه
فإن شكَّ فليحدث بساحتها خطبا
فيومًا بخيل تطرد الروم عنهم
ويومًا بجود تطرُدُ الفقر والجدبا
سراياك تترى والدُمُستق هارب
وأصحابه قتلى وأمواله نهبى
أتى (مَرْعشًا) يستقرب البعد مقبلًا
وأدبر إذ أقبلت يستبعد القربا
كذا يترك الأعداء من يكره القنا
ويقفُلُ من كانت غنيمته رعبا
مضى بعدما التفَّ الرماحانِ ساعةً
كما يتلقى الهدب في الرقدة الهدبا
ولكنه ولَّى وللطعن سَوْرة
إذ ذكرتها نفسُه لمس الجَنْبا

الله! الله! هذا فيضُ الكريم الفتّاح، هذا ليس بشعر يا ولدي، إنه يكاد يكون من وحي جبريل. إن شعراء سيف الدولة جميعًا أعجز من أن يقولوا:

ولكنه ولّى وللطعن سورةٌ
إذا ذكرتها نفسه لمس الجنبا

فصاح نجا قائلًا: أتعرف يا سيدي أني كتبت نسخًا من هذه القصيدة، وبعثت بها إلى مصر وبغداد ودمشق وفارس وإفريقية والأندلس؟

كان سيف الدولة يسمع هذا الحوار، ولكنه لم يطق أن يصبر طويلًا فدخل الحجرة غاضبًا، وقال: ما هذا الهذر الذي تخوضان فيه؟ قاتل الله المتنبي وشعره! أكلما ذهبت إلى مكان سمعت الناس يتحدثون في هذا الوغد أو يدرسون شعره؟ إن بابي سيغلق دونه بعد اليوم. لقد علمت من ابن عمي أبي فراس من شأن هذا الرجل ما كنت أجهل. إنه يتقلّب في نعمتي، ويضمر لي ولمملكتي أسوأ ما ينطوي عليه ضمير. فليذهب إلى حيث يشاء، وليجعل من ملوك الأقطار التي ينزل بها آلهة تعبد، فلست في حاجة إلى هذره وهُرائه.

ولما انصرف سيف الدولة التفت ابن سعيد إلى نجا، وقال هامسًا: دسيسة جديدة وربّ الكعبة. لقد أوشك أعداء أبي الطيب أن يظفروا به هذه المرّة، ولكني لن أنيلهم مأربًا. لن أتركهم ينالون من هذا السرِّ السماوي غرضًا. إنه الحسد يا بنيّ الذي قتل النبوغ في العرب، وذهب بريح العرب. أين نعلاي؟

– إلى أين أيها الشيخ؟

– إلى أبي الطيب. إلى نادرة عُطارد. إلى الذي يقول:

وما أنا منهُمُ بالعيش فيهم
ولكن معدن الذهب الرَّغامُ

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤