مرض

استمع المتنبي لنداء عائشة فكان يزور القصر في كل يوم، ويبسط من وجهه لرجاله، ويتحيّن الفرص للقاء ابن الفرات وأبي بكر، ويبذل لهما ما يستطيع من بشر مصنوع، وكانت أبواب كافور أمامه مفتّحة مرفوعة الحجب، فوجد المتنبي من سهولة الوصول إليه مجالًا لاجتذابه، ووسيلة إلى العود إلى مطالبه، مرة بالتصريح ومرات بالتلويح، والأسود لغز مغلق، أو بيت من أبيات الفرزدق تعب فيه المعربون والشارحون، فهو دائمًا يبتسم، وهو دائمًا مهذّب أنيس متواضع، وهو دائمًا إذا أشار المتنبي إلى مطامحه، سريع الإجابة على شرط ألا يُفهم من إجابته شيء.

خرج المتنبي من عنده يومًا وهو مهموم بعد أن مزق هذا الزنجي وسائله، وقطع حبائله، وبعد أن عبث بهذا العقل الحكيم المتفلسف كما يعبث الصبي بالأكر. خرج يتعثر في طريقه وهو يشعر بصداع شديد كاد يمزق جبهته وصدغيه، ويحس بردًا يسري في أوصاله اهتزت له ذراعاه، وقضقضت أسنانه، فأسرع إلى داره وهو يمشي كالمختبل، وما كاد يصل إليها حتى دعا عبده مسعودًا؛ ليساعده على خلع لباسه، فلما انتهى رمى بنفسه في فراشه وهو يصيح: غطني، زملني. لا تترك في الدار غطاءً ولا مطرفًا ولا حشيّة إلا وضعته على جسمي! أوقد النار يا مسعود. إن ثلوج الشام جميعًا تتساقط على فراشي، وتنفذ إلى مسارب جسمي. لقد قتلني ابن سوداء الجبين بالسم، سأموت بهذا البلد النائي طريدًا شريدًا خائب الأمل مفصوم الرجاء.

وعصفت الحمى بالمتنبي، واجترفه تيارها فتصبب جسمه عرقًا، وراح في سبات مضطرب قلق، وأخذ يهذي ويصرخ بألفاظ تقطّع نياط القلوب. فقد سمعه عبده وابنه وهو يقول: جئت مصر يا أبا الطيب؟ … اضرب هذا الكلب يا محسِّد قبل أن يثب عليّ … مرحى … مرحى … كنت ترجو أن تنال كل شيء، فلم تظفر بشيء … أبعد الكلب عني يا مسعود. مسكين مسكين … حلب حلب أين منك حلب … مرحبًا بمولاي سيف الدولة!

نهبت من الأرواح ما لو حويته
لهنئت الدنيا بأنك خالد

لقد كاد يقتلني هذا الفرس الجامح … لا تكثر من الكلام يا ابن رشدين … جئت إلى الأسود فعاقبني الله على يد الأسود … يا للخزي ويا للعار … ذهب مجد أبي الطيب … كافور! أنت الشمس وأنت القمر … معد بن عدنان فداك ويعرب … ها … ها … معد بن عدنان فداء هذا الزنجي الحبشي الذي بيع بثمانية عشر دينارًا … ها … ها … ثمانية عشر دينارًا ليس غير … ليس غير … من يشتري؟ … سنبيع العبد أيها السادة …

ثم تشتد به الحمى فيغطّ في نوم عميق.

أصيب المتنبي بالحمى الأجمية (الملاريا) وكانت إصابته شديدة، وحينما أفاق في الصباح زالت عنه آثار الحمى وخمدت نارها، ولكنها خلّفت وراءها آلامًا في العظام، وضعفًا في الجسم شديدًا. فقضى النهار في سريره، وما كادت تختفي الشمس ويرسل الليل على الكون سدوله، حتى عاودته الحمى أشدَّ ما كانت، وسبح في بحر مضطرب من الهُراء والهذيان.

ومرت ثلاثة أيام لا يزور فيها المتنبي دار ابن رشدين، فقلقت عائشة، ودخلت على أخيها شاحبة مضطربة، وهي تقول: هل رأيت أبا الطيب؟

– لم أره منذ ثلاثة أيام. ماذا بك يا عائشة؟

– ليس بي شيء إلا أنه لم يعودنا أن ينقطع عن زيارتنا يومًا واحدًا، وأخشى أن يكون قد أصابه مكروه.

– لا تراعي يا حبيبتي، فقد يكون ذهب إلى بعض أصدقائه بالجيزة، وقضى عندهم أيامًا، وسأذهب الآن إلى داره وآتيك بالخبر اليقين.

– اذهب يا صالح وعد إليّ بجلية الأمر، فإن الشك يكاد يقتلني.

وخرج صالح مسرعًا حتى بلغ الدار، والشمس مائلة للمغيب، فلما دخل وجد العبيد صامتين واجمين، وأحسّ بسكون الموت يلف الدار، ويرف بجناحه البارد على كل ركن من أركانها. فمرّ حتى بلغ حجرة المتنبي فرأى محسّدًا ومسعودًا جالسين حول سريره في حزن وإطراق، ورأى المتنبي مسجًى يتنفس تنفسًا قصيرًا مضطربًا. فمشى على أطراف أصابعه كأنه يمشي فوق أرض مقدسة، ثم لمس كتف محسد لمسًا خفيفًا، وأشار إليه أن يخرج ليسائله. فلما خرج سأله مذعورًا: ما الخبر يا محسد؟

– لا ندري يا سيدي. فقد جاء أبي من القصر مساء السبت وهو يشعر ببرد شديد، ثم انتهى هذا البرد إلى سخونة كأنها من لفح الجحيم، ثم حسنت حاله في الصباح، ولكن الحمى لا تزال تراوحه كل مساء.

– سيشفى قريبًا إن شاء الله. لا تجزع يا محسد، فإننا اعتدنا هذه الأمراض في مصر حتى ألفناها. سأمر عليكم في الصباح لأراه، وأرجو أن يكون قد أبلّ.

ويذهب قُدمًا إلى عائشة فيفض إليها الخبر، فتطير نفسها شعاعًا، وتسرع إلى ثيابها لترتديها، فيصيح بها أخوها: إلى أين يا عائشة؟

– إلى أبي الطيب. هلم معي إليه فوالله ما يمنعني من الذهاب وحدي إلا أني امرأة، ولن يليق بنا يا أخي أن نترك الرجل الغريب المسكين يموت وحده منكودًا محسورًا. إن من اسمه يملأ فم الدنيا، وشعره تتغنى به الآفاق، يرقد الآن مسجًى في قاعة مظلمة، يطلب العطف فلا يجده إلا في قسوة الأقدار، والحنان فلا يراه إلا في مخالب الموت! هلمَّ يا أخي إليه، فلعلنا نستطيع أن نعمل له شيئًا إن بقي هناك شيء يعمل.

ويصلان إلى الدار، ويدخلان حجرة المريض وهو يصلى بلهيب الحمى، ويئن أنينًا، وقد عاوده الهذيان فجعل يصيح: حاذر سيف الدولة … إن العلج وراءك وسيفه في يده … لقد قتلت الملعون برمحي … قتلته … قتلته … ما هذه النيران التي ترسلها علينا الروم كأنها قطع الجحيم؟ … أبعدوا هذه القرود عني … أنا اليوم والي صيداء … أقبلوا أيها الوفود … هل من ظلامة؟ … الصل الأسود! … أبعدوا الصل الأسود عني … إنه كاد يقتلني … مدحته … مدحته … وماذا في يدي؟ … لا شيء … لا شيء … آمالي؟ … أطماعي؟ … طموحي؟ … هواء … هواء … هواء.

وغلبته الحمى فحبست لسانه، وسمعه صالح وعائشة فغلبهما البكاء، وأخذت عائشة تهز رأسها في حزن ممضّ وتقول: وا حسرتاه على البطولة الوثّابة، والرجولة الغلّابة! وا حسرتاه على الخلق الراسخ، والمجد الشامخ! على مثلك أبا الطيب تشق الجيوب وتمزق القلوب. أسفي على ذلك اللسان العضب الذي كان ينثر فرائد الحكم، كيف أصبح يهذي كما يهذي الممرور! وعلى ذلك العقل القهار، كيف اضطرب ميزانه والتهمته النيران!

ثم قامت متعثرة متخاذلة، وهي تقبض على يد أخيها وتقول لمحسد: لابد له من طبيب. لا يصح أن نترك شاعر الدنيا وحكيمها يموت دون أن نبذل كل شيء في سبيل شفائه. سأذهب أنا وأخي إلى الطبيب.

ثم يخرجان في عجلة حتى يصلا إلى دار بزقاق القناديل، كان يسكنها «نسطاس بن جريج» أشهر أطباء مصر في هذا العهد، حتى إذا طرقا الباب وأخبرا الطبيب الخبر، لبس ثيابه على عجل، وخرج معهما حتى بلغوا دار المتنبي، وبعد أن اختلى الطبيب بمحسد وأخبره بكل شيء، دخل على المريض فجسَّ يده، وهز رأسه وقال: إن المرض شائع معروف بمصر، وهو سليم العاقبة إذا عني بالمريض. ثم التفت إلى عائشة فرأى الدموع تنهمر من عينيها، فضحك طويلًا، وربت كتفها وهو يقول: لا تخافي يا سيدتي على شاعرنا، فإني عالجت آلافًا من أمثاله، وقد شفوا جميعًا، والذي أوصي به أن تبعدوا عنه اللحم والسمك، وأن تقصر غذاءه على اللبن، وأن تسقوه إذا عطش ماء السكر الممزوج بعصير الليمون، وسأبعث إليكم بقارورة دواء يشرب منها نصف كأس ثلاث مرات في كل يوم. إنه سيجد الدواء مرًّا، ولكنه دواء شاف سريع الأثر. ثم التفت إليهم وقال في سخرية تُحبّ دائمًا من الأطباء: لا تخافوا يا أولادي، فإنه سيشفى بعد أيام، ثم حيّاهم وانصرف، وقد ملأ نفوسهم آمالًا، وبدّلهم من بعد خوفهم أمنًا، والتفتت عائشة إلى محسد كالمستأذنة المتهيبة، وقالت: هل من بأس في أن أبيت أنا وأخي هنا الليلة؟ فأجاب مسرعًا: لا يا سيدتي، إن ما تبثينه حول المريض من رحمة وحنان سيكون أشفى له من كل دواء.

واستيقظ المتنبي في الصباح مضنًى منهوكًا، فلما فتح عينيه ورأى صالحًا وعائشة جالسين إلى سريره كاد ينكر ما أبصر، فحملق في دهش، وقال في صوت خافت: أنت هنا يا صالح؟! أنت هنا يا سيدتي؟!! الآن لا أحس بأوجاع الداء. جزاكما الله عن الغريب المسكين خيرًا! لا تخافا عليّ، فإني لا أظن أني مائت في هذه الرقدة؛ لأن الله أكرم من أن يقضي عليّ قبل أن أنال من آمالي شيئًا.

وبعث الطبيب بالدواء، ومرت أيام على أبي الطيب كان يشعر فيها بدبيب الشفاء يسري في أوصاله، فلما استطاعت يده أن تقبض على القلم طلب من محسد ورقًا، ثم وضع يده على جبهته، وسرى في بادية من الخيال، وأخذ يكتب، وعاد بعد حين صالح وعائشة إلى زيارته فمد إليهما يده بورقة فاختطفتها عائشة ونظرت فيها مليًّا، فإذا قصيدة من أروع ما تنفَّس به الشعر العربي! بدأها بالشكوى وضعف الثقة بالناس. ثم ثنّى بوصف الحمى التي أصابته، ثم عاد إلى ذكر سوء حاله بمصر، وإلى تمني الرحيل عنها، في أسلوب يستنزل العصم، ويذيب الصخور الصم. نظرت عائشة في القصيدة ثم قرأت بصوت عالٍ:

ولما صار ودُّ الناس خبًّا
جزيت على ابتسام بابتسام
وصرت أشك فيمن أصطفيه
لعلمي أنه بعض الأنام
وآنف من أخي لأبي وأمي
إذا ما لم أجده من الكرام
ولست بقانع من كلِّ فضلٍ
بأن أعزَى إلى جد همام
عجبت لمن له قد وحد
وينبو نبوة القَضِم الكهام
ولم أر في عيوب الناس شيئًا
كنقص القادرين على التمام
أقمت بأرض مصر فلا ورائي
تخب بي الركاب ولا أمامي
وملّني الفراش وكان جنبي
يملُّ لقاءه في كل عام
وزائرتي كأن بها حياء
فليس تزور إلا في الظلام
بذلت لها المطارف والحشايا
فعافتها وباتت في عظامي
أراقب وقتها من غير شوق
مراقبة المشوق المستهام
ويصدُق وعدها، والصدقُ شر
إذا ألقاك في الكرب العظام
أبنت الدهر عندي كل بنت
فكيف وصلت أنت من الزحام؟
جرحت مجرّحًا لم يبق فيه
مكان للسيوف ولا السهام
يقول لي الطبيب: أكلت شيئًا
وداؤك في شرابك والطعام
وما في طبه أني جواد
أضر بجسمه طول الجمام
تعود أن يغبر في السرايا
ويدخل من قتام في قتام
فإن أمرض فما مرض اصطباري
وإن أحمم فما حُمّ اعتزامي
وإن أسلم فما أبقى ولكن
سلمت من الحمام إلى الحمام

فلما انتهت صاحت: لقد غفرت للحمي كل ذنوبها! وإذا كانت الكوارث تخلق مثل هذا الشعر، فمرحبًا مرحبًا بالكوارث!

وتسامع الأدباء بالقصيدة، وأقبلوا زرافات على دار المتنبي يستنسخونها، وأجمعوا على أنها خير ألف مرة من رائية عبد الصمد بن المعذل في وصف الحمى، ووصلت نسخ منها إلى القصر، واجتمع رأسان لقراءتها؛ ليستخرجا منها ما يصلح لدسيسة جديدة، هما رأس ابن الفرات ورأس أبي بكر بن صالح، ولكن روح المتنبي كانت تحوم حولهما وهي تهمس:

ومرادُ النفوس أصغر من أن
نتعادى فيه وأن نتفانى
غير أنّ الفتى يلاقي المنايا
كالحاتٍ ولا يلاقي الهوانا

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤