فرار

أبل المتنبي من الحمى، وعادت إليه قوته، وأخذت آماله تطل برءوسها من جديد، وعاد أصدقاؤه وخلصاؤه ينصحون له بمجاملة كافور، واستجلاب مودته، بعد أن أساءته قصيدة الحمى وزادته سخطًا على الشاعر. فعاد المتنبي إلى زيارة القصر، وإلى مجازاة الابتسام بالابتسام كما يقول، حتى إذا كان شهر شوال سنة ثلاثمائة وتسع وأربعين أوعز كافور إلى أحد ندمائه أن يدعو المتنبي إلى مديحه، وأن يمنيه الأماني، وكان كافور يريد أن يزيل بالقصيدة الجديدة ما تركته قصيدة الحمى من سوء الأثر في نفوس المصريين، واستجاب المتنبي لما طلب منه، وعاوده الأمل في أن الأسود سيفي بوعده آخر الأمر، وأنشأ قصيدة كانت آخر سهم في كنانته، والقصيدة — كما عوّدنا أبو الطيب عند مدح كافور — ليس فيها من مدح كافور إلا التافه اليسير، فإنه تحدث فيها عن نفسه في ثمانية عشر بيتًا، وألح في إنجاز ما وعد به في عشرة أبيات، وكان منها:

وفي النفس حاجات وفيك فطانة
سكوتي بيان عندها وخطاب

ولما أتم المتنبي القصيدة أمام كافور، قال له ابن الفرات في خبث ودهاء: أجدت يا أبا الطيب وأحسنت! غير أن قصيدتك في مدح فاتك كانت أجزل من هذه، وأطول نفسًا، ولكن لعلك تريد أن تحقق ما قلته في قصيدة فاتك:

وقد أطال ثنائي طول لابسه
إن الثناء على التنبال تنبال

فوجم المتنبي لهذا السهم النافذ، وعلم أن لا مخلص له من الدسائس ما دام بين هؤلاء المناكيد.

وانتظر المتنبي وعد كافور فطال انتظاره، وكان الأسود قد أذن لفاتك بدخول الفسطاط للاستشفاء بعد أن ألحت عليه العلة بالفيوم، فجدد أبو الطيب الاتصال به، ورأى بعد أن يئس من كافور أن ينزل حاجاته بواديه الخصيب، وتوثقت المودة بين الصديقين، وهب الجواسيس وقالة السوء ينقلون إلى القصر كل يوم أخبارهما، وربما غالوا في الأخبار وزوقوا الأحاديث، بما يضيفون إليها من زور وبهتان.

ومر عام وأكثر من عام على هذه الحال؛ فطالت الجفوة بين المتنبي وكافور، واتسعت الهوة، وأصبح المتنبي لا يمشي خطوة إلا ووراءه جاسوس يرقب كل ما يقول ويفعل، ويكاد يعد عليه أنفاسه.

زار مرة ابن رشدين فاستقلته عائشة، وعلى وجهها مسحة من كآبة، وهي تقول: أهلًا بالشاعر الكسل! أتمر سنة لا نسمع فيها منك شيئًا؟!

– إن البلابل لا تغني وسط حفيف السهام. إني قدمت إليك وورائي جاسوس صحبني من داري إلى هنا، وأخشى أنه لا يتحرّج من أن يكون بعد قليل ثالثنا.

– كيف ذلك يا أبا الطيب؟

– جيراني أصبحوا عليَّ عيونًا، وصاحب الأخبار يطرق داري كل ليلة؛ ليتحقق من أنني لا أزال بمصر، وأنني لم أفر.

وبينما هما في الحديث؛ إذ دخل ابن رشدين ومعه الشريف إبراهيم العلوي وعبد العزيز الخزاعي، فلما رأوا المتنبي أقبلوا عليه يحيونه، وقال عبد العزيز: ما لي أراك واجمًا يا أبا الطيب؟

– إن حبل كافور يضيق حول عنقي قليلًا قليلًا، فلم يبق إلا أيام حتى أختنق. فأسرع الشريف يقول: هذا صحيح، ويجب علينا جميعًا أن نفكر في هذا الأمر الجلل. فصاحت عائشة في ذعر: ما الخبر؟

– الخبر يا سيدتي أن حاجب الوزير أبي بكر بن صالح شيعي شديد التمسك بمذهبه، وهو لهذا يخلص لي الحب والمودة، ثم هو يعلم صلتي بأبي الطيب، وقد زارني اليوم وأكد لي أنه سمع كلامًا دار بين أبي بكر وابن الفرات يدل على أن هناك مؤامرة دنيئة تحاك خيوطها للإيقاع بالمتنبي بعد عيد الأضحى. فقالت عائشة: بقي على العيد أيام …

– في هذه الأيام نستطيع أن نعلم عملًا حاسمًا. فقال عبد العزيز: الرأي عندي أن يستعد أبو الطيب من الآن للفرار. ثم طلب منهم إغلاق الأبواب والنوافذ، وعاد إلى الحديث، فقال بصوت خافت: يقوم العبيد غدًا بدفن الرماح في الرمل وراء المقطم، وقبل الرحيل بقليل تحمل على الإبل قرب من ماء النيل تكفي لعشر ليال، ويحمل زاد يكفي لعشرين يومًا حتى إذا كانت ليلة عيد الأضحى تسلل أبو الطيب إلى الصحراء بعد أن يتسلل إليها قبله ابنه وعبيده، وسأكون في رفقة الشاعر، وسنهتبل فرصة اشتغال رجال القصر بالعيد وبما يوزعه عليهم كافور من الهدايا والصلات، فنفر دون أن يشعر بنا أحد، حتى إذا فرغوا من العيد ومن منح الهبات، ولن يكون ذلك إلا بعد يومين نظروا يمنة ويسرة فلم يجدوا لطريدتهم أثرًا.

فقال الشريف: هذا حسن، ولكن كافورًا إذا لم يجده بعد يومين من فراره أرسل خلفه شياطين جنده فوق سوابق الخيل فأدركوه ولو كان فوق بساط سليمان. فقال عبد العزيز: إننا سنغادر الفسطاط قبل فجر يوم الأضحى، وسنمتطي جوادين من سلالة الجواد الذي وصفه أبو الطيب:

رجلاه في الركض رجلٌ واليدان يدٌ
وفعله ما تريد الكف والقدم

فلن يدركنا الظهر إلا ونحن أمام بلبيس، وهناك أرسل مع أبي الطيب بعض عبيدي الذين يعرفون مسالك الصحراء. فقال ابن رشدين في حدة: أي طريق يسلكون؟ إن سلطان كافور يمتدُّ إلى كل طريق توصل إلى العراق.

– إنهم سيسلكون طرقًا غير معروفة، ويطرقون مفاوز مجهولة، وينزلون حول مناهل لم يطرقها طارق، وإنه جنود كافور بعد طول البحث والنصب سيتطلعون إلى السماء، ويظنون أن أبا الطيب قد اتخذ إليها سبيلًا. فتنهدت عائشة ونظرت إلى المتنبي، ودموعها تنهمر انهمارًا. ثم عادت تفكر فرأت أن حياته في ميزان القدر، وأنها يجب أن تنسى نفسها لقاء نجاته من كارثة محققة، فحاولت أن تجفف دموعها، وتبسط من وجهها وقالت: ولكن حتى يحين موعد الفرار يجب على أبي الطيب أن يظل متصلًا بالقصر حتى يصرف الأنظار عنه. فقال الشريف: نعم، وفوق هذا أرى أن يذيع بين رجال القصر أنه سينشد كافورًا قصيدة بعد أيام العيد. فصاح الجمع: هذا حسن هذا حسن …

وقام المتنبي إلى داره ومعه عبد العزيز، وأشرق عليهما الصباح حتى شرعا في إنفاذ خطتهما في دقة وإحكام، وكان المتنبي في غضون هذه المدة يروح ويجيء مطرقًا حزينًا يتمتم بكلمات، ثم يخرج من كمه ورقة ويدوِّن فيها ما تفيض به شاعريته، وتسلل محسدًا والعبيد متفرقين من الفسطاط إلى بلبيس، فلم يشعر بهم أحد، وانتظر المتنبي وعبد العزيز ليلة العيد حتى إذا هدأت الأصوات، ونامت العيون، وخلت الطرق من السابلة، خرجا من الدار في إسراع وصمت، كأنهما طيف خيال أو خطرة ببال، وما جاوزوا باب الصفاء، حتى طار بهما الجوادان فلم تستبن العين لهما أثرًا.

ولاح فجر العيد سنة خمسين وثلاثمائة، وذهب كافور في موكبه الحافل للصلاة بالجامع العتيق، وشغل رجال القصر بعد الصلاة ببذل العطايا للعلماء وكبار الجنود، ومضى يومان ذهل فيهما القوم عن المتنبي وعن تقصي أخباره، وحدث بعد ذلك أن دخل أبو بكر بن صالح على ابن الفرات وقال: لم نر المتنبي أيام العيد، ولم يزرنا في خلالها فماذا جرى له؟

– لعله مريض. فأرسل بعض الأعوان للسؤال عنه.

فأسرع أبو بكر وأمر طائفة من الجند بالذهاب إلى دار المتنبي والتحقق من أمره، وسار الجند إلى الدار فرأوا بابها مغلقًا ففتحوه ودخلوا فلم يجدوا بالدار ديَّارًا. فأخذتهم الدهشة، وأخذوا يبحثون في كل حجرة، وبلغ أحدهم حجرة نوم المتنبي فرأى سريره وكأن فوقه شيئًا قد التف بغطاء، فصاح في جذل: هنا الشاعر يا إخواني! هلم إليّ! إنه نائم في فراشه، وجاء الجند، ورفع أحدهم الغطاء فلم يجد تحته إلا ورقة كتبت فيها قصيدة طويلة فأخذها، وبعد أن يئس الجند من العثور على الشاعر ذهبوا إلى أبي بكر وأخبروه. فأسرع إلى كافور وهو يرتعد من الغضب ويصيح: لقد فر المتنبي يا مولانا! لقد فر من أيدينا على الرغم من كل ما بذلنا من حيطة وحذر! فصاح كافور في صوت يخنقه الغيظ: أية حيطة وأي حذر؟ ويل لنا منه إن لم نقبض عليه!! سيخلد هجونا على الدهر، وسيجعل من اسمنا سخرية ترددها الأيام! ابعثوا خلفه الجنود. ابعثوهم وراءه في كل مكان يمكن أن ينفذ منه: في الصعيد، وفي طريق الشام، وفي طريق برقة، وفي الماء، وفي الهواء. فرّ منِّي الفاجر وضحك مني ولعب بي! وكنت أظن أني ألعب بألف من أمثاله المغرورين! وبينما هو في حدة غضبه يزمجر كما يزمجر النمر الجريح، إذ مد الجندي يده إلى أبي بكر بالورقة التي رآها في فراش المتنبي فأخذها منه ويده ترتعد، ورآه كافور فسأله ما هذه؟ فلمح منها أبياتًا وقال: يا مولانا هذه قصيدة وجدها الجنود في فراش الشاعر البغيض، ولن أستطيع قراءتها. فصاح كافور في غضب مخيف: اقرأ ويلك كل ما فيها، ولا تترك منها حرفًا! فقرأ وهو يتصبب عرقًا:

عيد بأية حال عدت يا عيد؟
بما مضى؟ أم لأمر فيك تجديد؟
أما الأحبة فالبيداء دونهم
فليت دونك بيدًا دونها بيد!
لولا العلا لم تجب بي ما أجوب بها
وجناء حرف، ولا جرداء قيدود
يا ساقِيَيَّ أخمر في كؤوسكما؟
أم في كؤوسكما همٌّ وتسهيد
أصخرة أنا ما لي لا تحركني
هذي المدام ولا هذي الأغاريد
إذا أردت كميت اللون صافية
وجدتها وحبيب النفس مفقود
ماذا لقيت من الدنيا؟ وأعجبه
أني بما أنا باك منه محسود!
أمسيت أروح مثر خازنًا ويدًا
أنا الغني، وأموالي المواعيد!
إني نزلت بكذّابين، ضيفهم
عن القرى وعن الترحال مصدود
جود الرجال من الأيدي، وجودهم
من اللسان. فلا كانوا ولا الجود!
ما يقبض الموت نفسًا من نفوسهم
إلا وفي يده من نتنها عود
أكلما اغتال عبد السوء سيده
أو خانه فله في مصر تمهيد؟!
نامت نواطير مصر عن ثعالبها
فقد بشمن وما تفنى العناقيد!
لا تشتر العبد إلا والعصا معه
إن العبيد لأنجاس مناكيد
ما كنت أحسبني أحيا إلى زمن
يسيء بي فيه عبد، وهو محمود!
ولا توهمت أن الناس قد فقدوا
وأن مثل أبي البيضاء موجود!
جوعان يأكل من زادي ويمسكني
لكي يقال عظيم القدر مقصود
من علم الأسود المخصيّ مكرمة
أقومه البيض أم آباؤه الصيد؟
أم أذنه في يد النخّاس دامية
أم قدره وهو بالفلسين مردود؟

•••

وعاد الجنود بعد شهر فدخلوا إلى كافور يخبرونه في دهش، بأنهم لم يتركوا منفذًا إلا سلكوه، ولكنهم لم يقفوا للمتنبي على أثر، كأنه ابتغى نفقًا في الأرض أو سلمًا في السماء. فصعق كافور، وكاد يسقط من كرسيه. ثم حملق مذعورًا كأنه كان ينظر إلى المتنبي وهو يفرقع بإصبعيه في وجهه ساخرًا ويقول:

فربتما شفيتُ غليل صدري
بسير أو قناة أو حسام
وضاقت خطة فخلصت منها
خلاص الخمر من نسج الفدام

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤