رحيل

لزم المتنبي داره أيامًا يفكر ويُدبّر، ويبحث عن طريق للفرار من حلب، وهو يعلم أن سيف الدولة سيسدّ دونه المنافذ، ويسأل عنه الفلوات، وأنه سيرسل جواسيسه في كل مكان يتعقبون خطواته، ويترسمون آثاره. فكّر أولًا في الذهاب إلى حمص ولكنه رأى أنها من أملاك سيف الدولة، وأن الفرار من حلب إليها ليس إلا كما ينتقل الطائر الحبيس في قفصه من ركن إلى ركن. ثم فكّر في أن يصارح سيف الدولة بأن ثواءه طال في حلب، وأنه يعتزم الرحيل عنها، وأن ينشئ قصيدة فريدة في مدحه وتوديعه، ولكنه رأى بعد طول التكفير وتقليب الرأي أن سيف الدولة لم يصل به البله إلى أن يطلق من يده شاعرًا تتنافس في احتيازه ملوك الأرض. يرسله من يديه؛ ليغني بمجد منافسيه، ويطلق لسانه المرّ بهجائه والإزراء بملكه. إنه إن صارح سيف الدولة بهذا فليس لذلك من عاقبة إلا أن يعتقله وينكل به، ويقضي على آماله الجسام.

فكر المتنبي طويلًا ودبَّر طويلًا، حتى هداه التفكير إلى أن يتحيَّن غفلة من الأمير ويفر إلى دمشق. فأظهر الود لسيف الدولة، وأكثر من زيارته، ثم التمس منه أن يأذن له بالسفر إلى إقطاعه «بمعرّة النعمان» فأذن له، وما كاد يظفر أبو الطيب بهذا الإذن حتى أسرع إلى داره، وكان قد أعدّ عدته للرحيل منذ أيام، فدعا ابنه محسّدًا وعبده مسعودًا وأنبأهما بأن يحملا إلى دمشق في خفية وحذر ما خف من متاعه على ظهور الجياد، وأنه سيلحق بهما إذا خُفِّضت عنه العيون، ونام عنه الرقباء. فامتثلا الأمر، ولم تمض ساعات حتى كانا في طريق دمشق ينبهان الأرض في صمت ورعب ووجل.

أما أبو الطيب فانتظر إلى الهزيع الأخير من الليل، ثم خرج متسللًا ينظر في الظلام، فلا يرى إلا أشباح الظلام، ويصغي فلا يسمح إلا دقات قلبه الواجف الحزين. حتى إذا وثق أن عينًا لا تنظر، وأن أذنًا لا تسمع، انطلق كما ينطلق السهم، وانقضَّ كما ينقضُّ القدر المحتوم، ولفه الليل كأنه طيف نائم، أو خيال شاعر، أو كما يقول:

وكنت إذا يممت أرضًا بعيدةً
سريتُ فكنت السر والليل كاتِمُه

ولم يمتع به النهار حتى جاوز أملاك سيف الدولة، فاطمأنت نفسه قليلًا، ولكن الفكر عاوده، والأمل الحائر ساوره: إنه قادم إلى دمشق. ماذا يفعل بها؟ هل هي خاتمة المطاف؟ هل انتهى به الطموح إلى أن يلقي بنبوغه في مدينة يحكمها رجل من قبل كافور؟ إنه أسمى منزلة وأعلى كعبًا من أن يخص بمدحه خليفةً أو ملكًا، فهل ينتهي به الأمر إلى أن يكون ذيلًا في حاشية والٍ ليس في العير ولا في النفير؟ إنه كان في طليعة أمره يمدح أمثال هذا الوالي ومن هم دونه، ولكن هيهات! هيهات! لقد تغيَّرَتْ الحال وتبدَّل الأمر، وأصبح لا يرجو المال وقد نال منه كثيرًا، ولكنه يطلب الآن ما هو أعظم من المال، وما هو أبقى من المال. ماذا يعمل في دمشق؟ سؤال لم يستطع عنه جوابًا بعد أن ردده وردده. حتى إذا يئس، ألقى لفرسه العِنان، وعوَّل على أن يترك الليالي تلد ما تشاء من عجائب.

بلغ المتنبي دمشق، فاتجه بجواده نحو دار أبي الحسن الممشوق الشاعر، وكانت له به صداقة على قلة أصدقاء المتنبي وخلصائه، وكان أبو الحسن يزور حلب كثيرًا، وكان مولعًا بشعر المتنبي، كثير الإعجاب به، حتى سماه أدباء عصره بصاحب المتنبي، وكثيرًا ما دعاه أن يزوره بدمشق، فلم يفكر المتنبي — حينما عزم على الرحيل إلى دمشق — إلا في أن يكون ضيفه، حتى يبتَّ في مصيره برأي.

نزل المتنبي أمام دار أبي الحسن، وكانت في سفح قاسيون، فتلقاه صاحب الدار مرحِّبًا، وقد كاد الدهش يعقد لسانه، والفرح يطير بصوابه. ثم قال:أهلًا بأمير الشعر وفارس البيان، ومحيي ما درس من لغة العرب. من كان يظن أن داري هذه، ستظل أكبر شاعر تتزاحم الملوك على عتبات شعره؟!

– إن الملوك الآن لا يتزاحمون يا أبا الحسن، ولكن الشعراء الذين أرخصوا مواهبهم، ونزلوا بفنهم إلى الحضيض، هم الذين يتزاحمون على عتبات الملوك.

– هؤلاء يا سيدي ليسوا شعراء، وسيف الدولة يعرفهم واحدًا واحدًا، ولا يقيم لهم وزنًا إلى جانب شاعره المحلّق، الذي ينطق بوحي الحكمة، ويرسل الأوابد التي تعيا بأمثالها العقول.

– إن سيف الدولة ليس الآن كما تعهد يا أبا الحسن. إنه قد غيّرته علينا الغير.

– غيرته الغير؟ سيف الدولة؟ أكرم ملك عربي، وأعظم مقدِّر لعقول الرجال؟!

– نعم يا أبا الحسن، وأنا الآن حرّ طليق، وكثيرًا ما خطر لي أن أهجر الشعر، وأستنجد بسيفي ورمحي، لنيل مطلبي.

فوجم الممشوق، وهز رأسه في أسًى وحزن، ثم قال: إن مثلك لا يستطيع أن يهجر الشعر. إنه مزاج روحك، وقطرات دمك. إن الطير لا تستطيع إلا أن تغرد، والمزهر لا يستطيع إلا أن يرنم، وإذا تركت الشعر فإنه لا يتركك أو تتركك أنفاس الحياة. حدثني أبا الطيب بما جرى بينك وبين سيف الدولة. فقصَّ عليه أبو الطيب قصته، ولوّنها بكثير من وساوس عواطفه، وتهاويل خياله. فقال الممشوق: وماذا عزمت أن تفعل يا ابن أخي؟

– لم أعقد عزمًا لأني وجهت كل همي إلى الفرار من سيف الدولة أولًا. أما ما يكون بعد ذلك، فتركته لتصاريف القدر.

– طب نفسًا أبا الطيب، فلن يكون إلا الخير.

وشاع الأمر في المدينة، ولغطت الأفواه بقدوم المتنبي إلى دمشق، وأسرع الشعراء والأدباء والعلماء إلى لقائه بدار الممشوق. فكان بين زوّاره من أعاظم الشعراء: أحمد بن محمد الطائي، ومن كبار العلماء: عبد الرازق الأنطاكي مقرئ أهل الشام، وأحمد الغساني النحوي، وعبد الله المقري، وكان يحفظ خمسين ألف بيت من أشعار العرب.

وكان المتنبي على جفوته ونفرته يصطنع البشاشة لزواره، ويتسع صدره لهذرهم. فقد عرف أن بقاءه في دمشق معقود برضا كبار أدبائها عنه، وتقديرهم لأدبه وخلقه.

وسمع ابن ملك اليهودي — وكان عاملًا على خراج الشام من قبل كافور — بفرار المتنبي، فأرسل رسالة إلى مصر على جناح طائر، يخبر فيها كافورًا بوصول المتنبي إلى دمشق فلم يمض إلا ثلاثة أيام حتى وصل إليه جواب من كافور، يلح فيه بأن يعمل كل ما في مكنته لإغراء أبي الطيب بالقدوم إلى مصر، وأن يبذل له ما شاء من رغائب.

وحينما علم عبيد الله بن طغج، والي دمشق من قبل الإخشيد بمقدمه أرسل إليه أحد كبار حاشيته يدعوه إلى قصره، ويلح في أن ينزل في ضيافته. فرأى المتنبي أن من الحكمة ومسايرة الأمور، أن يلبي الدعوة شاكرًا. فانتقل إلى قصر الوالي الذي بالغ في إكرامه والحفاوة به، والإغداق عليه.

وكان مجلس الوالي يجمع في كل ليلة كبار القواد والعلماء والأدباء، وكان المتنبي فارس الحلبة في هذا المجلس، وملتقى العيون، وموضع الإكبار، فقال الوالي ذات ليلة موجهًا الحديث إلى أبي الطيب: لم أر أبلغ في تصوير الظَّفَر والانتصار من قولك في سيف الدولة:

وكم رجالٍ بلا أرض لكثرتهم
تركت جمعهم أرضًا بلا رجل

فأطرق المتنبي شأن من تعزف نفسه عن أن يسمع مديحه بأذنه، وانطلق الأدباء يبينون ما في البيت من بديع الوصف، ورائع الخيال، وقال الوالي: إن الذي يُمدح بهذا خليق بأن يخلِّده الزمان.

وانبرى الطائي يقول: ما دام بيننا أبو الطيب، فلن نُحرم سماع مثل هذه الكلم البواقي في رجال دولتنا، وأسرع الوالي فقال في خبث واحتيال: هذا إذا رأى أبو الطيب في رجالنا ما يثير شعره، ويحفز شيطانه. إني حضرت كثيرًا من الوقائع، وهزمت كثيرًا من الجيوش، ولكن كل ذلك ذهب في الهواء؛ لأن شاعرًا مثل أبي الطيب، لم يقل فيَّ مثل هذا البيت!

وهنا اتجهت أنظار الجمع إلى المتنبي، كأنهم يقولون بلغة العيون: لم يبق إلا أن تسرع إلى إجابة الطلب، فقد نثر الصائد الحب ووقع الطائر في الشرك، فليس له من مناص، وبُهت المتنبي لهذه المفاجأة، وتمتم بكلمات مبهمة قد يفهم منها الرضا، وقد يفهم منها الإباء، وتقضى بعض الليل وانصرف السامرون إلى دورهم.

وانفرد المتنبي في مثواه وقد تزاحمت عليه الهموم، وانتابته الحيرة، واستبد به القلق، هذا الوالي يريد أن يمدح بمثل ما مدح به سيف الدولة سيّد العرب! يا للهول، ويا للداهية الداهمة! إن من سخرية القدر وأضاحيك الزمان أن يفرّ المتنبي من مدح سيف الدولة، العربي المجاهد، المبسوط اليد، الرحب الفناء — ليرغم على مدح ذلك الأعجمي الحقير، الذي لا يقاس بشسع نعل ابن حمدان! ماذا جرى لهذا الفلك الدوار، وماذا أصاب أعين الأقدار، حتى تُنزل أبا الطيب هذا المنزل المهين، وتسلكه في سلك صغار الشعراء الذين يمدحون كل من شموا في يديه رائحة درهم؟! لا إنه لن يهوي إلى هذا الدرك، ولن يقذف بنفسه في تلك الهاوية. لقد أنف من البقاء بحلب — وكان فيها رفيع المنزلة معروف المكانة — لأن ابن حمدان كان يتعالى عليه أحيانًا، وينظر إليه نظرة الأمير للشاعر. فكيف يستطيع أن يبقى بدمشق شاعرًا مغمورًا لوالٍ مغمور؟! لا. لا. إنه لم يُخلق لأمثال هؤلاء. إنه خلق لتصغر في عينه العظائم، «وليترك في الدنيا دويًّا كأنما تداول سمع المرء أنمله العشر» وماذا هو فاعل إذًا؟ ليس أمامه إلا أن يرحل، وإلا أن يفر بنفسه من هذا الهوان، وإلى أين؟ قاتل الله هذا السؤال! إنه يفجأه دائمًا حين لا يجد له جوابًا. يرحل إلى بلاد الله، وينزل حيث يجد العزة والعظمة والكرامة … ليس شيء أيسر من هذا.

وبينما هو في هذا البحر المضطرب من الأفكار، إذا عبده مسعود يدخل الحجرة في هدوء ويقول: إن ابن ملك يطلب مقابلة سيدي.

– ابن ملك؟ من ابن ملك؟ نعم نعم. لقد تذكرت. دعه يدخل.

وكان ابن ملك قصير القامة، نحيف الجسم، يلوح لمن يراه أنه في سن الأربعين أو جاوزها قليلًا. له عينان يسيل دمعهما من علّة ملازمة، وقد احمرّت جفونهما، وأنف ضخم، ووجهه طويل تعلوه صفرة كدرة، ولحية تغزر عند الذقن، وتخف إلى أن تنمحي في العارضين، وكان قذر الملابس، زريّ البزة، له عمامة سوداء، أرسل منها ذؤابتين من شعره تسيلان فوق صدغيه. دخل ابن ملك فسلّم على المتنبي، ثم قال: لقد زهيت الشام بزيارتك يا ابن الحسين. إن صوتك الرنّان سوف يسكت أطيار غوطة دمشق، وإن مصر وهي من أقوى دول العرب ستسير من ظفر إلى ظفر، طروبًا مهتزةً بأنغام شعرك، الذي يبعث فيها القوة والعزيمة وحب الغلب.

– لقد حسن ظنك بنا يا ابن ملك، ولكننا قوم لا نقول حتى نرى، ولا نشيد بمكرمة أو نثني على فضل، حتى يُملى علينا فنكتب.

– هذا حق، وهذا هو الذي يصل بشعرك إلى قرارة القلوب، وهذا أيضًا هو الذي حفزني إلى زيارتك الليلة. فقد أرسل إليّ سيدي كافور اليوم بريدًا خاصًّا لأدعوك إليه؛ لأنه علم بقدومك إلى دمشق، وهو يريد أن يزيَّن ملكه بفرائد شعرك، وأن يسبق ملوك العرب في أن يكون بين خاصته أشعر شعراء العرب.

وجم المتنبي حينما دهم بهذا الطلب، فأخذ يتلوَّى في مقعده كما يتلوى الملسوع، ثم قال وهو يتصبب عرقًا: أمهلني يا ابن ملك حتى أفكر، فإن ارتجال الفكرة في مثل هذه الأمور قد يكون مدعاة للزلل.

– ليس هناك زلل يا أبا الطيب في الاتصال بملك تعد دولته من أعظم دول العرب.

– دعني الآن يا ابن ملك، فإني لا أحب الرأي الفطير.

– إني أعجب منك. مَن مِن الملوك تقصد بعد أن نبذت سيف الدولة؟ إن كنت تريد بغداد، فخذها نصيحة من يهودي يرى أن مثلك لا يستطيع الإقامة بها يومًا واحدًا، وإن كنت تريد بلاد فارس، فإنك لن تكون فيها إلا «غريب الوجه واليد واللسان». فلم يبق إذًا إلا مصر، ولم يبق إذًا إلا كافور، وهو خير من يقدِّر الرجال، وقد يجد فيك سيدي كافور أكثر مما يجد المرء في الشاعر، قد يجد فيك — وهو ناقد بصير — صدق الرأي، وحسن التدبير، وعلو الهمة، فيوليك إمارة تظهر فيها فضائلك، ويتجلّى المخبوء من مناقبك. لا تتردد يا سيدي، إن مصر تسعد كل من دخلها: رحل إليها يوسف الصديق غلامًا مملوكًا، بثمن بخس، دراهم معدودة، فأصبح بعد قليل وزير المال، وصاحب الأمر والنهي في شؤون الدولة، أقبل يا أبا الطيب ولا تتردد، فإني أعرض عليك ثروة وعزًّا وجاهًا، وربما كنت أعرض ولاية، فانفجرت أسارير المتنبي قليلًا بعد انقباضها، وثارت في نفسه شياطين الجشع والطموح، ونسي العبد الأسود وما في مدحه من ذلة ومهانة، في جانب ما فتح له اليهودي من أبواب المجد والسؤدد والعظمة، التي هي حبيبة لنفسه قريبة إلى فؤاده. فرفع رأسه وتنفّس طويلًا، ثم قال: سأذهب أولًا إلى الرملة لزيارة أميرها الحسن بن طغج، وبعد ذلك سأرى ما يكون.

– هذا حسن. اذهب إلى الرملة يا سيدي، فإن أميرها سيقنعك بأن مصر خير مكان يشرق فيه أدبك، ويصدح فيه شعرك. متى ترحل إلى الرملة؟

– بعد غدٍ.

ورحل المتنبي إلى الرملة، وأقام في كنف الحسن بن طغج، فأكرم وفادته، ووصله فأجزل الصلة، ولم يتصدَّق عليه المتنبي بعد كل هذا الإغداق، إلا ببعض أبيات في المديح.

وكتب كافور إلى صاحب الرملة يلحُّ في قدوم المتنبي، ولبث ابن طغج أيامًا يزيِّن إلى أبي الطيب الرحيل إلى مصر، وهو يمانع وينفر كما ينفر المهر الجموح. حتى لان قياده في نهاية الأمر، حينما أغرته الوعود، وحينما رأى أن الإقامة بالشام لا تستطاع. فشدَّ رحاله إلى مصر في طليعة جمادى الآخرة سنة ستٍّ وأربعين وثلاثمائة. سار إليها يبسطه الرجاء، ويقبضه الإباء وهو يمنِّي النفس ويداعب الأمل:

وحيد من الخلان في كل بلدة
إذا عظم المطلوب قلّ المساعدُ

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤