لقاء

إلى أين تذهب يا أبا الطيب؟ سؤال كثر توارده على خاطر المتنبي كلما طالت عليه الطريق، وهاجت به الذكريات. سؤال كان ينفر من أن يجيب عنه، ويود بنزع الروح لو أنه استطاع أن يلوي عنان جواده إلى بلد آخر؛ ليستريح من هذا السؤال السمج، ومن تلك الوخزات القاتلة، التي تهلع لها نفسه كلما ألحف هذا السؤال، وألحّ. ما هذا البطر الذي أفسد عليه حياته ورنّق عيشه؟ وما هذا الكبرياء البلهاء التي قذفت به إلى الدمار، وما هذه الكرامة التي حدت به إلى الذل والصغار؟ يتكبر على سيف الدولة خير أبناء العربية، وأشجع فرسانها، ويأنف من الإقامة في كنفه بين ظلال النعيم، وفي رحاب العز والجاه العريض. ثم يتدلل فيأبى أن يمدحه إلا إذا استجدى مديحه، ونزل عن جبروته صاغرًا ذليلًا! ثم يصول في صلف وعربدة على كل من حوله، فيتسامى على أقارب الأمير، وينهال بهجائه كل شاعر في قصره، ويقذف كل عالم في حضرته بكل قاصمة من السباب! ثم ينتهي به هذا الجنون إلى أي شيء؟ إلى ما هو فيه الآن مما يبكي له الشامت، ويجزع الحاسد. إلى أن يفارق الجنة؛ ليضل في مهاوي الجحيم. إلى أن يهدم كل مجد بناه، ويقضي على كل أمل داعبه وناغاه. إلى أن يتسلق إلى الحياة من جديد ولكن في شامخ وعر المرتقى، كثير المزالق، قد ينتهي إلى هباء. إلى أن يمدح ذلك العبد الحبشي الضخم المشافر، المنتفخ البطن المتفلفل الشعر، ويترك سادات العرب وصناديدها لا يجدون لمحامدهم ناشرًا ولوقائعهم واصفًا. إلى أن يضع رأسه تحت قدمي هذا الزنجي الفدم، بعد أن أنف أن يطأطئه لأعاظم الملوك. إلى أن يقول لليل الدامس أنت البدر المنير، وللعيّ الجاهل أنت نبراس البيان وخليفة سحبان، وللغبيّ المغفل أنت الحكمة صوِّرت في إنسان. أهكذا تنتهي به الحال؟ أين شهامته وعزيمته العصامية، وأين أشعاره التي كلها علو وشمم، وشهامة وإباء؟ هل أصبح كل ذلك رمادًا ليس به بصيص نار؟! وهل آضت كل هذه المناقب سرابًا يحسبه الظمآن ماءً، حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا؟!

يمر كل هذا بخاطر أبي الطيب والجواد يقطع به المفاوز بين الرملة ومصر، فيئن أنين المكلوم، ويزفر زفير المحموم، ولكنه يعود فيمني نفسه بالأوهام، ويهدِّي من ثائرتها بأضغاث الأحلام، ويتجه نحو زاوية أخرى من زوايا التفكير فيقول: إن الحزن على ما فات من صفات النساء، والرجل الحق من يتخذ من هفواته سُلّمًا إلى الفوز، والدنيا فيها الخير وفيها الشر، ولكن العاقل الحكيم من يقلب الشر خيرًا، ويبسم للأيام لتخضع له الأيام، ولم لا أصل إلى العبد الأسود إذا كانت آمالي في قبضته السوداء؟ ولم لا أمدحه إذا كان في مدحه ما يحقق الرجاء؟ الولاية! الولاية هي خاتمة آمالي، ونهاية مطافي، ولن أبالي في طريق نيلها ببذل ماء المحيّا والحياة، وتعفير الوجه بتراب أدنى الأدنياء، ولو قيل لي: لن تكون ملكًا إلا إذا مدحت الكلب، وغازلت القرد، لفعلت راضيًا مغتبطًا. نعم، إني أبغض الأسود وأشمئز من لقياه، وألعن الزمن الأغبر الذي ألجأني إليه، وأحنّ إلى سيف الدولة، وأبكي على عهده الوارف الظلال، ولكن ما حيلتي؟ وليس إلى مآربي من وسيلة إلا أن أقصد هذا الكافور؟

ومرت بالمتنبي أيام حتى بلغ بلبيس، وهذا أول أملاك مصر في هذا العهد، ولشدّ ما كانت دهشته حينما رأى الزعيم عبد العزيز بن يوسف الخزاعي يترقّب مروره في طائفة كبيرة من عشيرته. فلما قرب منه المتنبي تقدم فقبض على عنان جواده باشًّا مرحبًا، وطلب إليه النزول ليستريح عنده فقبل المتنبي، ورأى في ضيافة عبد العزيز من الكرم ورحابة الصدر ما فرّج عن نفسه، وأزاح بعض أحزانها.

وجرى الحديث في أثناء الليل عن مصر وأحوالها، وعن كافور ووزرائه وبطانته، ثم مال إلى ذكر حلب، وإلى أخبار سيف الدولة، فقال الخزاعي: أشهد إنه بطل، وأشهد إنه من العار على ملوك العرب جميعًا، أن يدعوه يناضل الروم وحده، مع ما لهم من عَدد وعُدة.

– الغيرة والحسد يا ابن يوسف هما اللذان أذهابا ريح الإسلام، وأضعفا أمراءه، ومن عجائب القدر أن كثيرًا ممن يقدرون في هذه الأيام لا يملكون!

– ولكن سيف الدولة من القليلين الذين يقدرون ويملكون. لقد كنا نتلقف ما يحمله إلينا البريد من قصائدك في وصف مواقعه، ولقد كانت والله عجبًا من العجب، وسحرًا من السحر. لم تركته يا أبا الطيب؟

– ذلك حديث طويل يا ابن يوسف، ومن الخير أن يترك الجرح حتى يندمل.

ففطن عبد العزيز إلى أن المتنبي يتألم لهذه الذكرى، فانصرف عن هذا الحديث فيها.

وبزغت الشمس، ورحل المتنبي بعد أن توثقت الصداقة بينه وبين عبد العزيز، وعاهده على أن يكثر من زيارته بالفسطاط، ومضى يوم وبعض يوم، بلغ فيه أبو الطيب باب مصر الشرقي المسمى: باب الصفاء.

كانت مدينة الفسطاط في ذلك الحين مستبحرة العمران، وافرة الثروة، كثيرة السكان، تشرف على النيل رياضها الباسمة، وقصورها العالية التي قد يصل ارتفاع بعضها إلى سبع طباق. حكى بعض المؤرخين: أن ستة عشر ألف دلو كانت تتدلى من طاقات بيوتها المطلة على النيل، وكانت رائجة التجارة، كثيرة الأسواق والحمامات والخانات والمساجد، التي أشهرها الجامع العتيق، الذي بناه عمرو بن العاص بعد الفتح.

وكان أهلها في بسطة من العيش، ورغد من النعيم؛ لكثرة الأموال، واتساع الخصب، وقد كثر بها الأدباء والشعراء، ورحل إليها كثير من أقطاب العلم والأدب في الشرق، فوجدوا في كنفها الرغد وطيب الحياة، وكان الجامع العتيق يزخر بالعلماء وطلاب العلم، الذين وفدوا عليها من أقطار الأرض؛ لتلقي علوم العربية، وفنون الأدب، وكان بها إلى جانب ذلك مجالس أنس ولهو، ومجانة وشراب، تهوى إليها أفئدة الشباب، وتختلف إليها جماعات الأدباء — لا تقلُّ عما كانت تزهى به بغداد في ذلك الحين، إسرافًا وجنونًا.

وكان قصر كافور بخطة سوق العسكر، بالقرب من بركة تجري فيها الزوارق، وتلتف حولها بساتين ناضرة تعرف بجنان بني مسكين، وكان القصر شامخ البنيان، ضخم الأركان، كأنه الحصن العظيم، وقد انتثرت حوله الحدائق الخضر، وانهمرت الجداول المتدفقة. أما أبهاؤه ودهاليزه وقاعاته: فقل ما شئت في جماله وبهائها، وزينتها، وما أنفق في بنائها من أموال يكاد يُخطئها العد، وكانت قاعة الملك كأنها قطعة من ذهب: فسقوفها وحيطانها ونقوشها وتصاويرها كلها من الذهب الإبريز، الذي يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار.

جلس كافور الإخشيدي في اليوم السابع عشر من جمادى الآخرة سنة ستٍّ وأربعين وثلاثمائة — على عرش ملكه، ورجال قصره وجيشه وقوف يحيطون بسريره في رهبة وخشية، كأنهم يحرسون سرًّا سماويًّا مقدسًا، وجلس إلى يمينه نقيب الطالبيين عبد الله بن طباطبا، فالشريف إبراهيم بن محمد العلوي، ثم صالح بن رشدين الكاتب، ثم الذين يلونهم في المرتبة من العلماء ورجال الدين، وجلس إلى يساره وزيراه: جعفر بن الفرات، وأبو بكر بن صالح، وقائد عسكره سمول الإخشيدي، ثم من يتلوهم في المرتبة من رجال الدولة.

وكان كافور أسود اللون، فاحم السواد برّاقه، قصير القامة مترهل اللحم، طويل الذراعين، منتفخ البطن، ضخم الجمجمة، أفطس الأنف، مثقوب الشفة السفلى، واسع العينين، صافي بياضهما. تنبعث منهما ومضات فيها دهاء، وفيهما مكر وخداع.

وكان يحمل فوق رأسه عمامة كبيرة من الحرير الأبيض، المطرَّز بالذهب، ويلبس ثوبًا من الخزّ التنيسي الثمين، فوقه جبَّة من الحرير الأخضر فضفاضة واسعة الكمين.

وكان على الرغم من دمامته وخسة منشئه وجهله، ذكيًّا متوقد الذكاء، شجاعًا حازمًا داهية في ميدان السياسة. فإنه حينما مات سيده الإخشيد اضطربت أحوال مصر، وحَجَلت الفتنة، وتطلعت رؤوس كبار القواد إلى الحكم. فخرج كافور بولدي الإخشيد: أنوجور، وعلي، إلى بغداد فأقر الخليفة الراضي أنوجور على ملك أبيه، واهتبل سيف الدولة فرصة موت الإخشيد فوثب على دمشق، واستولى عليها، فسار إليه كافور في جيش لجب فهزمه وأجلاه عن المدينة.

وقد حال حزم كافور وعمق سياسته دون زحف المعز لدين الله على مصر، حتى كتب إليه بعض شيعته في مصر … إذا زال الحجر الأسود، ملك مولانا المعز الدنيا كلها … ولا يريدون بالحجر الأسود إلا كافورًا.

وكان محبًّا للأدباء والعلماء، يصلهم ويقرّبهم، وكانت تقرأ عنده في كل ليلة سير الأنبياء، وأخبار الأمويين والعباسيين.

هذا إلى كرمه وتواضعه، وشدة تمسكه بالدين. فقد كان أبو جعفر بن طاهر العلوي يقول: ما رأيت أكرم من كافور: كنت أسايره يومًا في موكب خفيف وهو يريد التنزه، وبين يديه عدة جنائب بسروج من ذهب وفضة، وخلفه بغال يمتطيها الخدم والعبيد، فسقطت مقرعته من يده ولم يرها خدمه فنزلت عن دابتي وأخذتها من الأرض ورفعتها إليه، فذعر لما فعلت وقال: «أعوذ بالله من بلوغ الغاية. ما ظننت أن الزمان يرفعني حتى تفعل بي أنت هذا؟» وكاد يبكي. فقلت: أنا صنيعة الأستاذ ووليه. فلما بلغ باب داره ودّعني، فلما سرت التفت فإذا النجائب والبغال كلها خلفي. فقلت: ما هذا؟ قالوا: أمر الأستاذ أن يحمل موكبه كله إليك. فأدخلته داري، وكانت قيمته تزيد على خمسة عشر ألف دينار.

اتجه كافور إلى وزيره ابن الفرات، وقال في صوت خافت: أظن الشاعر الجديد قد وصل إلى المدينة.

– نعم يا مولانا، لقد علمت من بعض الجند أنه وصل الآن.

– هل أعددت له كل شيء؟

– نعم يا مولانا، لقد أعددت له دار أبي بكر القريبة من باب الساحل، فُرِشت بأحسن الأثاث، ووضع بها من يكفي لخدمته.

– هذا حسن. لعله لا يفرَّ منا كما فرَّ من ابن حمدان!

– إن للشعراء يا مولانا ميزانًا للأخلاق غير الميزان الذي تواضع عليه الناس. فقد قال هذا الشاعر لابن حمدان:

وقيَّدت نفسي في ذراك محبةً
ومن وجد الإحسان قيدًا تقيّدا

ولكننا رأيناه يفر منه كما يفر الزئبق من البنان.

– ماذا يقصد الشاعر يا جعفر من هذا الشعر الذي ذكرته؟

– يقول يا مولانا، إنه قيد رجليه عند ابن حمدان، وإنه لا يرحل عنه لأنه يحبه.

– ها ها. فهمت فهمت، وبعد أن قيد رجليه فك قيدهما وفرّ؛ لأنه هو الذي قيد نفسه. أما إذا قيّده غير يا جعفر، فإنه يصعب عليه أن يفر.

– لا شك في أنه سينسى عند مولانا كل ملوك الأرض.

وبينما هما في الحديث، إذ دخل كبير الحجاب وهو يقول: إن الشاعر المتنبي يلتمس أن ينال شرف المثول أمام مولانا. فرفع كافور رأسه، وقال: ليدخل.

دخل المتنبي في ثياب السفر، بعد أن خلع نجاد سيفه بالباب، فقبّل الأرض ثم أطرق قليلًا، فحيّاه كافور قائلًا: أهلًا بشاعر العرب. أهلًا بأبي الطيب. لقد أبطأت علينا كثيرًا، والدولة لا تكمل عظمتها إلا بمثلك. إنك ستكون في ضيافتي، وأرجو أن تطيب لك الإقامة. أقبل عليَّ أبا الطيب، ثم مد يده فانكب عليها كأنه يريد أن يقبلها، فجذبها العبد منه وهو يقول: أستغفر الله! ثم أشار فأحضر كرسي إلى جانبه، وأومأ إلى أبي الطيب بالجلوس، وهنا قال ابن الفرات: قد قرأنا ما ورد علينا من شعرك في ابن حمدان فرأينا فنًّا جديدًا، وروحانية قوية تهز المشاعر، وتثير خامد القلوب، ونرجو أن يتفتّح لك النيل وحدائقه الباسمات عن معانٍ لم تخطر ببال شاعر. إن بمصر يا أبا الطيب كثيرًا من الشعراء، وأكثرهم مجيد مبرِّز، وقد رحل عنا منذ قليل أبو نصر كشاجم، وهو شاعر مبدع سبّاق. فمصر اليوم تجري في ميدان العلم والأدب مع بغداد في طلَق، وتكاد تجلِّي عليها في شئون الحرب والسياسة.

– علمت أن بمصر شعراء، وأرجو ألا يكون شأني معهم كما كان مع شعراء حلب! إن الشعر يا سيدي دولة يأبى رعاياها أن يختاروا لهم ملكًا، ولو أراد الحسد أن يبني له عشًا ما اختار إلا قلب متشاعر. دعني من هؤلاء؛ لأنني جئت للأستاذ وحده ولن أقول في غيره.

– لن تقول في غيره؟!

– إن من أدب الشاعر أن ينصرف إلى ممدوحه، فلا يلهج إلا باسمه، ولا يشيد إلا بفضله.

فاربّد وجه ابن الفرات، وتكلف ابتسامة حاولت أن تمحو ما بدا على وجهه من سيماء الغضب، وقال: وأظن أن من أدب الشاعر أيضًا أن ينصرف عن ممدوح؛ ليمجّد ممدوحًا آخر، ويدّعي أن الدهر لم يسمح بسواه! فأسرع أبو الطيب قائلًا: إن القلب قلَّب، والشعر كالناس قد يخطئ أحيانًا ثم يصيب شاكله الصواب. فاتجه إليه ابن الفرات في نظرتي نمر، وقال: أرجو ألا يخطئ هذه المرة يا أبا الطيب! وهنا تحرك كافور من مجلسه قليلًا فوقف مَن بالقاعة، ووجه الحديث إلى المتنبي قائلًا: يوم الثلاثاء إن شاء الله نسمع إنشاد الشاعر، بعد سبعة أيام. فوقف المتنبي وحيَّا في خضوع ثم خرج.

ذهب المتنبي إلى داره الجديدة وفي رفقته صالح بن رشدين، وكان شاعرًا مجيدًا، أولع بشعر المتنبي قبل أن يراه، فلما رآه زاد به إعجابًا، وله حبًّا: أحب فيه الرجولة ومخايل الشهامة، ورأى فيه شاعرًا لا كالشعراء، وفي شعره شعرًا لا كالشعر، كأن ما كان سمعه من شعره صورة لنفسه الطموح وخلقه العظيم، فلما بلغا الدار، شدَّ على يده وقال: لقد أحببتك وهفت نفسي إليك منذ رأيتك يا أبا الطيب. فهل أطمع في أن تقبلني صديقًا؟ لقد سمعت حديثك مع ابن الفرات، وعرفتُ أنك أغضبته، وهو رجل له دهاء الثعلب وفتك النمر، يحوك من خيوط الشمس شباكًا، ويخلق من قطرات الغمام نبالًا، وقد كان يريدك على أن تمدحه فجبهته في غير رفق، ورددته في غير إحسان، وهو لن يترك لك هذه، ولو اعتصمت بأسباب السماء. فاحذره يا أبا الطيب، واحذر من تخاطب ومن تعاشر في هذا البلد. إن العيون هنا تنبثّ في كل مكان، والجواسيس ينفذون إلى ما لا ينفذ إليه الهواء. احذر أبا الطيب، فإن أصحاب الأخبار في هذه الدولة هم المصرِّفون للأقدار، ولهم مناهج يعجز إبليس اللعين عن انتهاجها: يأتون إليك مرة في صورة الناصح، ثم ضحك وقال: وأخشى أن تعدني منهم — ومرة يشتكون إليك جور الحكام، وأخرى يمدحون أمامك من لا يستحق المدح. فاحذرهم يا أبا الطيب، وانصرف عنهم في هوادة ولطف، وأرجو أن تتخذني لك أخًا مرشدًا، وخليلًا ناصحًا.

فهز المتنبي يده وقال: إني أشرف بصداقة سيد شعراء مصر، وسأمشي في نور هدايتك.

ودخل المتنبي الدار جزعًا محسورًا، فوصف لمحسد كافورًا ومجلسه فقال: دخلت يا بني على أمَة حُبلى يسجد أمامها صناديد الأبطال، ويخضع لإشارتها دهاة الرجال. جلس فوق عرشه، فرأيت في ثياب أمير قردًا، عيناه عينا ثعلب، وإطراقه إطراق ثعبان. أما ابن الفرات: فثقيل متعالم متعاظم، نظر إليَّ في كبر وجبرية كأنه ينظر إلى شاعر مجتد أفَّاق. سُحقًا لهم، وسحقًا للزمان الذي قذف بي إليهم: والله لكأني أشعر أني جئت لأهجوهم لا لأمدحهم! وكيف تنبسط نفسي لمديحهم، أو يتحرك لي لسان بالثناء عليهم؟ إن مدح الأسوَدِ سيخلق في الشعر فنًّا جديدًا، أسمعت يا محسد؟ سيخلق فن المديح الهجائي.

– كيف يا أبي؟

– إني أعتقد أن لحظات ستمر بي وأنا أقرض الشعر في الأسود، أنسى فيها نفسي فربما طفرت مني أبيات في مديحه، هي شرّ من الهجاء.

– وماذا تصنع إذا فهم؟

– إنه لا يفهم يا أغبى الأغبياء. هات عبدنا مسعودًا وأنشده إحدى قصائدي، فإن فهمها، اقتنعت وأخذت الحذر.

– إن مسعودًا لا يفهم؛ لأن كافورًا مسعود قبل أن يكون كافورًا، ومسعودًا كافور بعد أن كان كافورًا.

– والوزراء والشعراء الذين حوله؟! ألا تخشاهم؟!

– اسمع يا بني: عن الكلام الموجّه يفهم من ناحيتين، وهؤلاء لجبنهم وجلالة قدر كافور عندهم، لا يفهمون إلا ناحية المديح.

– وإذا فهموا الناحية الأخرى؟

– لا أبالي ما يفهمون. إن شعري لن يكون إلا صورةً لنفسي رضي الناس أم أبوا، ولو كنت من الذين لا يقولون الحق الذي تجيش به نفوسهم؛ لكنت اليوم ملكًا، أتندّر بالأسود الزنيم.

ومرّ أسبوع صاغ في غضونه أبو الطيب أول قصيدة في مدح كافور، وحين حان الموعد غصّ القصر بالأدباء والشعراء، والعلماء، وجلس كافور على عرشه، وقد أحاط به القواد والوزراء، والأشراف والعلماء، وقوفًا، وقدم المتنبي فانحنى في إجلال وخشوع، وأخذ ينشد قصيدته في صوت ندّي حلو النبرات، وكان صدى كل بيت إعجابًا واستحسانًا، وطلب بعض الشعراء إعادة بعض الأبيات؛ لرصانتها، ولما فيها من تجديد رائع، وفن رفيع، وكان كافور يهز رأسه طول مدة الإنشاد، كأنه أرجوحة طفل عنيد، أبى أن ينام. فلما فرع أبو الطيب أمر له كافور بعشرة آلاف درهم، وأقبل القوم عليه يحيّونه وينثرون فوقه أزاهير الإعجاب والثناء، وخرج مع الشريف إبراهيم العلوي وهو مطرق الرأس، حزين يهمس بمطلع قصيدته:

كفى بك داء أن ترى الموت شافيًا
وحسبُ المنايا أن يكنَّ أمانيا

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤