حب

وبنى كافور دارًا جديدة بالقطائع بالقرب من الجامع الأعلى، واحتفل بافتتاحها، ودعا أبا الطيب أن ينشد قصيدة في الحفل، فقضى يومين وهو في تردد: أيشير إلى مطلبه الأسمى، أم يترك الأمر إلى حذق كافور وفطانته، فقد بدرت منه كلمات أمَّل المتنبي منها خيرًا.

ويعقد الحفل، وينشد المتنبي قصيدته، فيبهر الناس بما فيها من جرأة وتدلل على الممدوح حين يقول:

إنما التهنئات للأكفاء
ولمن يدَّني من البُعداء
وأنا منك لا يهنّئ عضوٌ
بالمسرات سائر الأعضاء
مستقل لك الديار ولو كا
ن نجومًا آجُرّ هذا البناء

وتسير القصيدة في الأندية والمحافل، وتردّدها الأفواه، ويرفعها نصراء المتنبي إلى قمة لم يصل إليها شعر شاعر، وينزل بها أعداؤه إلى وهدة ما لها من قرار، ومن العجب أن ما يستهجنه الأعداء هو بعينه ما يستجيده النصراء، وقف صالح بن مؤنس في جامع عمرو بين حشد من الطلبة وأخذ يصيح: اسمعوا أيها الطلاب، اسمعوا اسمعوا هذا الحديث الجديد في الشعر! وهذا الفتح المبين في عالم السخف! أسمعتم أيها الأنجاب بشمس منيرة سوداء؟ أسمعتم بمثل هذا التناقض، وبمثل هذا الخلف؟ شمس تضيء وهي سوداء، وليل يظلم وهو مضيء. أسمعتم برجل أعمى وهو يبصر؟ إن لم تكونوا قد سمعتم بشيء من هذا فاذهبوا واسألوا هذا الشاعر الدعيّ المتشدّق، فإنه يقول ويخاطب مولانا:

تفضح الشمس كلما ذرَّت الشمـ
ـسُ بشمس منيرة سوداء

وهنا يقهقه بعض الطلاب ويصيح: هذا ابتداع جديد، لم تخلق له عقول مثل عقولنا!

ودخل صالح بن رشدين على أخته وكانت تنظر في رسالة من رسائل الغرام التي يبعث بها إليها أبو بكر بن صالح في كل يوم ملحًا مستعطفًا، فقذفت بها في تأفف وسخرية، ثم اتجهت إلى أخيها سائلة: ماذا في يدك يا أخي؟

– القصيدة الجديدة. لقد كان هذا اليوم نصرًا مؤزرًا لأبي الطيب يا عائشة. فقالت: في تطلع وشوق: كيف؟

– قصيدته في الدار الجديدة.

– ليس عندي شك في أنها ستكون درَّة نادرة.

– إن فيها بيتًا لم يخفض جناحه لشاعر من قبل. أسمعت بمثل قوله وهو يخاطب كافورًا:

تفضح الشمس كلما ذرت الشمـ
ـس بشمس منيرة سوداء

– الرنين الرنين!! الرنين يا صالح!!

– لا تقولي الرنين يا عائشة. قولي المعنى، قولي الخيال الغريب! أليس عجيبًا أن يجرؤ شاعر على أن يطرق هذه الناحية الدقيقة المحفوفة بالمخاوف في مدح أسود؟ ولكن أبا الطيب طرقها غير هيّاب، وتحدّى من قبله من الشعراء الذين أكثروا من تشبيه وجوه ممدوحيهم البيض بالشمس. فهو يقول إن كافورًا يفضح الشمس كلما طلعت، بشمس منه من نوع جديد، هي شمس سوداء، ولكنها على سوادها تفوق شمس السماء في إنارة طريق الحق للضالين، وفي رفعة أوجها وبعد منزلتها. أرأيت شاعرًا في القديم قال ما يشبه هذا؟

– لا يا أبا عليّ هذا خَلق جديد. ثم أخذت منه الورقة، وجعلت تقرأ حتى بلغت آخرها، فقبضت على ذراع أخيها وهي تقول: اسمع يا صالح، إن الرجل بعيد المطامع، إنه يطلب من كافور شيئًا عظيمًا فليت شعري ماذا يكون؟ ثم أخذت تقرأ:

يا رجاء العيون في كل أرضٍ
لم يكن غير أن أراك رجائي
ولقد أفنت المفاوز خيلي
قبل أن نلتقي وزادي ومائي
فارم بي ما أردت مني فإني
أسدُ القلب آدميُّ الرواء
وفؤادي من الملوك وإن كا
ن لساني يرى من الشعراء

ماذا يريد يا صالح؟ فابتسم، ثم قال: إنه يقول: إن فؤاده من الملوك، وأخشى أن يجد أعداؤه من مثل هذه البوادر منفذًا للكيد له عند كافور. فتجهّم وجه عائشة وهزّت رأسها وهي تقول: ما أكثر الدسائس في هذا البلد الخصيب! ثم التفتت إلى أخيها قائلة: علمت بما جرى للمتنبي من تألب الشعراء عليه في مجلس أبي بكر بن صالح، ومن انتصاره لهم، وا أسفاه للشاعر الغريب بين هؤلاء الكلاب السود! هلّا دعوته غدًا أبا عليٍّ؛ لنشعره بالأنس، ولنخفف عنه بعض ما يلاقي من الوحشة والضيق؟

– سأدعوه غدًا، وسأدعو معه جملة من الشعراء والأدباء، وستكون ليلةً لاهيةً عابثةً ينسى بها كل ما ينتابه من هموم، وستطربنا «خمر» المغنية، وسننسى عقولنا، ونفرّ من هذا الوقار الملعون الذي أشاب نواصينا قبل الأوان. فضحكت عائشة وقالت: إنني لا أحب هذا الصخب ولا تلك العربدة، ولكنكم معشر الرجال لا تنسون أبدًا أنكم كنتم أطفالًا.

وذهب ابن رشدين إلى دار المتنبي فرأى عنده الشريف إبراهيم العلوي، وعبد العزيز الخزاعي زعيم العرب ببلبيس، ثم بعض المعجبين به من الشعراء كابن أبي الجوع وابن أبي العصام، وكان المتنبي يحدثهم في حروب سيف الدولة، وكيف خاض كثيرًا منها، وكيف لاقى الموت في بعضها. فلما فرغ من الحديث اتجه ابن رشدين إلى من بالمجلس وقال: لقد جئت لأدعوكم مع أبي الطيب للعشاء بداري غدًا، وترجو السيدة عائشة — التي تقدر أدب ابن الحسين وشعره — وأرجو معها، أن تنال هذه الدعوة منكم قبولًا. فأجاب الشريف: إن السيدة عائشة زهرة مصر الناضرة، ونجمها الساطع، ومثلها في طيب عنصرها وعلو منزلتها في الشعر والأدب لا يرد له دعوة. سمعًا وطاعةً يا ابن رشدين، وقال المتنبي: إنني رجل جد وصرامة خلق، وأخشى أن مثلي لا يجد له نصيبًا في مجلس ربات الحجال. فقال الشريف: إن أديبتنا تعشق النفوس قبل الوجوه، وترى جمال العبقرية فوق كل جمال. فلتكن خشنًا كما تحب أن تكون، فإنها ستخلِّص ما فيك من ورد مما اشتبك به من أشواك، وابتسم المتنبي وهز رأسه لابن رشدين بالقبول.

وقدم المتنبي إلى دار ابن رشدين بعد الغروب فاستقبله صاحب الدار، وتقدمت إليه عائشة فمدّت إليه يدها مرحبة محيّية، ونظرت فإذا هي أمام صورة للعظمة العربية والرجولة المتوثبة، ورجعت البصر فرأت ملامح بطولة، ومظاهر عزيمة تتحطم دونها آمال النساء.

أخذت عائشة تحادثه وقلبها يخفق، ولسانها يتعثّر، لقد هجم عليها شعور لم تعرف له من قبل مثيلًا، وأصابت جسمها رعدة لم تدر لها تأويلًا، إنها تحس بسرور يسري في أوصالها ولكنه سرور ممزوج بخوف، مصحوب بما يشبه الألم، وتتخيل كأن نارًا تأججت في فؤادها فأخذ يضطرم بنوازع مجهولة مبهمة، وتدرك لأول مرة أنها أنثى، وأن عاصفة هوجاء تدفعها إلى التشبث بالرجل الجالس إلى جانبها؛ لتجد تحت جناحه الدفء والأمن والنعيم. ما هذه النازعة الجامحة التي جرفتها، وعبثت بها كما تعبث الرياح بأوراق الشجر؟ وما هذا الطارئ المفاجئ الذي دخل قلبها بلا استئذان فاستبد بكل ما فيه؟ أهذا هو الحب؟ إن كان إياه كان شديد البطش، سريع الأخذ، جبارًا لا يرحم، وغازيًا لا يبقي على جريح.

جلست عائشة إلى جانب المتنبي ذاهلة اللب مبددة الفكر، ولكنها بعد حين استطاعت أن تجمع أشتات خواطرها، وأن تنفض عنها قطرات الموجة التي غمرتها، ثم اتجهت إلى المتنبي وقالت: لعلك رأيت يا سيدي في مصر ما يسليك عن الشام؟

– لقد كان عيشي بالشام رغيدًا، وكنت في كنف ملك عربي مجاهد، ولكنّ آدم ورَّث أبناءه السخط على النعيم، وعلمهم مفارقة الجنان.

– متى تسمعنا قصيدتك الثالثة؟

– حينما تسنح الفرصة، وتهفو النفس إلى قول الشعر.

– لو كنت أبا الطيب المتنبي، أو لو كان لي بعض تلك الهبة الغالية التي أنعم الله بها عليك؛ لملأت جنبات الوادي تغريدًا، ولزاحمت الطيور في أوكارها، ولهززت الأغصان في أدواحها، ولأسمعت النيل في كل لحظة ألحانًا تكاد ترقص لها أمواجه ويقف تياره. عجيب شأنكم أيها الشعراء! تضنون بفيض الله على خلق الله. لقد منحتم هبة ما بذلتم فيها جهدًا، ولا مددتم لأخذها يدًا، وهي نبع لا يغيض، وكنز لا يفنى، وهبها لكم واهب الجود وخالق الوجود، ومع هذا تمر الأيام أو الشهور فلا نسمع لكم إلا بيتًا أو أبياتًا قصارًا! إني أعذر الشحيح بماله؛ لأنه جمعه ببذل الجهد، وإضناء الجسم والنفس، وإراقة ماء الوجه، ووصل الليل بالنهار، فهو به ضنين، وعليه حريص. أما أنتم فما عذركم في الضن؟ وما حجتكم على المنع؟ ثم ابتسمت لأبي الطيب، واستمرت تقول: دعني أعاتبك يا أبا الطيب: أقمت بيننا أشهرًا فما اهتزت شاعريتك لوصف ما ترى من روائع المشاهد، ولا اجتذب نظرك جمال يوقظ فيك وسنان القريض! أين من شعرك النيل وأمواجه، وسفنه السابحات، وهو يتهادى بين الشاطئين كالملك بين رعيته يجود على الأرض بمائه تبرًا، فتنثر عليه من أزهارها ياقوتًا ودرًّا؟ وأين من شعرك تلك الأهرام العاتية التي لم ينحن ظهرها لعواصف الدهر وأحداث الزمان، والتي لو تحدثت بأخبار الملوك الذين أقاموا في ذراها، والجيوش التي مرت بها؛ لسمعنا حديثًا عجبًا يهدي إلى الرشد؟ أين من شعرك رياض مصر الباسمة، ومروجها الفاتنة، ونخيلها الباسقات، وأدواحها الظليلات؟ أحب يا أبا الطيب أن تكون شاعر الدنيا لا شاعر الملوك. أحب أن تصوِّر لنا الحياة حلوة لذيذة كما نحب أن تكون. أحب أن يكون في شعرك أمل اليائس، وعُلالة العاشق، وسلوة الحزين وهداية الحائر. إن الشعر دنيا جديدة خلقها الله للناس؛ ليفروا إليها كلما ضاقت بهم دنياهم، وجعل مفاتيحها في أيدي الشعراء، فافتح للناس يا سيدي من أبوابها ما ينقذهم مما هم فيه من بؤس وشقاء! صوِّر لهم جمال الحياة يا أبا الطيب تصويرًا يحبب لهم الحياة، واخلق لهم من رائع خيالك كونًا جديدًا فقد ضاق بهم على اتساعه هذا الكون اللعين.

كان أبو الطيب مطرقًا معجبًا بما يسمع، وكلما رفع بصره رأى جمالًا أعجب مما يسمع وأروع، فثارت في نفسه ثائرة واهنة القوى من الميل، ولكنها لم تجد السبيل إلى قلبه المملوء بالمطامع والآمال. فاتجه إلى الفتاة وقال: إن فيما قلته كثيرًا من الحق يا سيدتي عائشة، غير أنك ظننت أن الشاعر يستطيع أن يقول كلما أراد، ويستطيع أن يجيد كلما أراد، وصوّرت الشعر نبعًا ليس على الشاعر إلا أن يملأ منه الوعاء ثم ينثره على الناس، ومزمارًا يكفي أن ينفخ فيه الشاعر فيأتي بأبدع الألحان. لا يا سيدتي، إن الشعر صعب المرتقى، بعيد الملتقى. إنه طائر حذر خدّاع، طالما زحفت إليه على ركبتي ليلة كاملة في خفوت وتؤدة، ففر من يدي، ثم سمعته عند الصباح يغرّد شامتًا مع طيور الصباح، ورب قافية أعالجها في صبر وجلد كما يعالج الملاح سفينة في بحر مائج، فلا أكاد أظفر بها إلا بعد أن تكون قد تقطعت حبالي وتكسّر شراعي. ليس الشعر بالسهولة التي تظنينها يا سيدتي عائشة، وإلا هان أمره، وكسدت سوقه؛ لأن قيمة كل شيء بما يبذل فيه من جهد، وكلما صعب منال الشيء غلا ثمنه وكثر التنافس فيه. أما أني لم أصف مشاهد مصر، ولم يهزني نيلكم الفياض، ولا هرمكم الرابض في ذيل الصحراء، ولا حدائقكم الزاهية الفيحاء، فلو تعلمين ما بي لأقللت من ملامي. أنا فارس يا سيدتي قبل أن أكون شاعرًا. ثم نظر إليها طويلًا وقال: أنا رجل جمّ المطامع بعيد المرامي. إن لي في الحياة مطلبًا أسمى، طالما خفت أن يطغى عليه الشعر فيهدئ من عزمته، ويقصر من وثبته، وطالما خشيت أن أقنع عنه بالشعر فأخرج من هذه الدنيا ولم أ عمل شيئًا إلا أن يقول الناس: كان أبو الطيب شاعرًا مجيدًا. أنا لا أريد هذا يا سيدتي؛ لذلك اقتصرت من الشعر على القدر الذي يكفي لبلوغ ذلك المطلب، ونيل تلك الغاية. هذا سر لم أذعه إلا لك. ثم ابتسم وقال: واعلمي أني لم أقصد الملوك إلا لأكون كالملوك. فنظرت إليه عائشة نظرة فيها ذهول وفيها حيرة وقالت: أنت بنيل هذه الآمال البعيدة حقيق يا أبا الطيب.

وهنا أقبل الجمع عليهما، ومدت الموائد وفوقها كثير من ألوان الطعام، فأكلوا بين الأفاكيه والطرف النادرة. ثم جيء بأواني الشراب، ومر السقاة على جماعة الشاربين، فأبى المتنبي أن ينال من الخمر شيئًا، وألح عليه القوم فلج في الإباء، وطلبوا من عائشة أن ترجوه أن يشرب فأبت، واصطف القوم حول خمر المغنية فأصلحت عودها وغنت بقول ابن رشدين:

قل لمولاي منعمًا
لِمْ هجرت المتيما؟
أنت أعطشتني إليـ
ـك وأبكيتني دما!

وكانت لؤلؤية الصوت، حلوة المذهب، فتملك الطرب القوم، وزادت النشوة في صخبهم، والمتنبي هادئ مطرق، كأنه لا يشعر بما حوله. ثم طلب منها الجمع أن تغني بشعر لابن أبي الجوع فانطلقت تغرّد:

يا أطهر الناس روحًا
وأطيب الناس راحا
هات اسقني أو تراني
لا أعرف الأقداحا

فماج القوم من الطرب، وقذف بعضهم بالعمائم، وقام سكران يلحّ على أبي الجوع في أن يشرب حتى لا يعرف الأقداح ثم غمز ابن رشدين لخمر بعينه متجهًا نحو المتنبي فأخذت تصدح:

لبِسن الوشي لا متجملات
ولكن كي يصنّ به الجمالا
وضفرن الغدائر لا لحسنٍ
ولكن خفن في الشعر الضلالا

وكان القوم يتمايلون مع الأنغام، لجمال المعاني وحسن الإيقاع، والتفتت عائشة إلى المتنبي وهمست: هذا غزل من القلب يا أبا الطيب، وليس تصوير فنان فحسب؛ لأني أحسّ فيه حرقة العاشق. فالتفت إليها وقال: هذا شعر الشباب يا سيدتي، فضحكت في دهش وقالت: عجيب أن تدَّعي مفارقة الشباب وأنت لا تزال في ربيع الشباب الزاهر.

– ولكن مطامعي تغري بي الشيب والهرم، فأسرعت تقول: دع مطامعك الآن لأننا لم نتبذَّل هذه الليلة إلا لنذهب عنك الوحشة والهموم.

– جزاك الله خير الجزاء يا سيدتي، وبعد أن طال به المقام طلب الإذن بالانصراف، فقام الجمع احتفاءً به، وأمر ابن رشدين عبيده بالسير في ركابه، وخرج مُشيعًا بالإجلال.

وتفرَّق القوم، وانفض سامر اللهو، وصعدت عائشة إلى حجرتها؛ لتستريح بالمنام إذا ظفرت بالمنام، ولكنها جلست في سريرها ذاهلة اللب، مروّعة القلب، تتقاذفها الأوهام، وتعبث بها الظنون، ما هذا الهجوم العنيف الذي غزا فؤادها دون أن تعد له العدة أو تأخذ الأهبة؟ لقد كانت طول حياتها تعتز بأن قلبها حصن لا يُنال، ونجم لا تمتد إليه أمنيات الخيال، وتفاخر بأنها برئت من غرائز النساء التي تدفعهن إلى الاستجابة إلى إشارات الرجال الآثمة، وأعينهم الخائنة. تلك الغرائز التي تبيع الجمال رخيصًا، وتمزق الحياء كما يمزق البرق حجب الغمام. كانت تخالط الرجال وتجالسهم في مجلس اللهو حينًا، وفي مجالس الأدب أحيانًا، وهي كأنها الملك السماوي الطاهر، الذي خلقه الله من نور، وطهّر قلبه من وساوس الإثم ودنس الشهوات. فكانت العيون تغضي أمام جمالها إجلالًا، والنفوس تسجد عند مشاهدتها خشية وخشوعًا، ولم يخل مجلس من تحدث إلا بطهارتها وعفافها، وصون جمالها البارع من أن تمتدّ إليه يد طامع، وكانت نساء المدينة وبناتها — على رغم الحقد الذي يأكل قلوبهن — لا يملكن إلا أن يطأطئن لهذا الجمال المترفع عن أن ينزل في سوق المساومات، أو تنهشه أعين الخاطبات، وكم حام الشبان حول قدسها فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون، وكم بذل أبو بكر بن صالح — أعظم رجل في الدولة بعد ابن الفرات — من وسيلة، وكم ساق من رجاء، وكم تساقطت دموعه على قدميها، فلم يجد منها إلا الرفض والجفاء.

طافت هذه الخواطر بعائشة وكانت تودِّع كل موكب من مواكبها بدمعة حزن وزفرة أنين، ثم عادت تقول: ماذا جرى لعائشة النافرة الشموس؟ كيف ذلّت لسلطان هذا الرجل؟ وكيف قذفت بكبريائها؛ لتلاقي من كبريائه صخرًا أصمّ، لا تزعزعه عواصف الغرام. إنها فتحت له قلبها هذه الليلة فأغلق في وجهها كل باب، وبدا من جمالها ما يكفي لإثارة أبي الهول، ولكنه ظل بجانبها جامدًا كأنه كان ينظر إلى عجوز ورهاء، ويلي من الحب ويلي! لقد صنته عن كل محب معمود يستعذب الموت في حبي؛ لأقذف به بين يدي شاعر لا يحس! رفضت الجاه والمال والشباب والوسامة؛ لأبيع نفسي رخيصة مزجاة لرجل جوَّاب أفّاق جاوز الأربعين! ثم من هذا الرجل؟ إنه ينظر إليّ كما ينظر إلى لعبة لم يحكم صنعها، ويستمع لي كما يستمع لبعوضة تطنّ، ويستدبر محراب حسني كافرًا جحودًا، لا يؤمن بجمال ولا تهزه عاطفة، ويلي من الحب ويلي! ماذا يقول الناس؟ وبم تتحدث السوامر؟ سأكون سخرية المجامع، ومتندر المحافل، وسيقول النساء إن عفافها كان رياءً، وتبتلها كان مينًا وزورًا. ثم أطرقت طويلًا ورفعت رأسها كأنها أفاقت من حلم مزعج، وقالت: وما لي أهتم بحديث الرجال وثرثرة النساء؟ إنني أحببت رجلًا عظيمًا، وتعشقت فنًّا رفيعًا، إنني نفرت من جمال المادة المظلمة، إلى جمال الروح الوضاءة. إنني لا أحب العيون الدعج، ولا الحواجب الزُّجَّ، ولا الثغر اللؤلؤي، ولا القوام السمهري، ولكني أحب العبقرية المتلألئة، والنبوغ الفاتن، والرجولة الوثابة، والنفس الطموح. إن أحمد بن الحسين رجل لا كالرجال، فليس بدعًا أن يكون حبي له حبًّا لا يشبهه حب، ولا يماثله غرام، وإذا كان قلبه اليوم لا يستجيب للحب فإن طول المعاشرة قمين بأن يلين قياده، ويروِّض صعبه، حتى يصبح طيّعًا ذلولًا. إن بعد الليلة سيكثر من زيارتنا، وسيجد من الأنس بنا ما يرسل نفسه على سجيتها، ويطلق عواطفه المكبوتة، والزمان طبيب كل شيء في هذه الدنيا، وقاهر كل جبّار، حتى لو كان أبا الطيب المتنبي. ثم أغمضت عينيها فسبحت في عالم فسيح من الأحلام.

ومرّت الأيام، وكان أبو الطيب يمر بين الحين والحين بدار ابن رشدين، ويجد من رقة عائشة وأدبها وروعة جمالها ما يملأ قلبه سرورًا، وجلس مرةً إليها يسمعها قصيدته التي سينشدها كافورًا، فلما بلغ قوله:

كم زروةٍ لك في الأعراب خافيةٍ
أدهى وقد رقدوا من زورة الذيب
أزورهم وسوادُ الليل يشفع لي
وأنثني وبياض الصبح يغري بي

نظرت إليه وقالت: متى كانت هذه الزورة يا أبا الطيب؟ فالتفت إليها باسمًا وقال: هذه زورة الخيال يا سيدتي. فإن رجلي لم تحملني مرة إلى فاحشة، فضحكت وقالت: صدق الله العظيم: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ثم انطلق يقرأ حتى إذا بلغ قوله:

ما أوجه الحضر المستحسنات به
كأوجه البدويات الرعابيب
حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب

صاحت عائشة فيما يشبه الهلع وقالت: انظر أبا الطيب، فهل ترى في وجهي تزيينًا أو تطرية؟ فأطرق قليلًا، وكأنه ظن أن حديث الأدب سينحرف إلى غير وجهه، وقال: إن حسنك من صنع الله يا سيدتي، وأرجو أن يصونه الله.

– إن هذا الحسن يهيم بحسن آخر لا يرى بالعين؟

– يهيمن بحسن لا يرى بالعين؟

– نعم يهيم بحسن الروح وجمال العبقرية.

– هذا خير أنواع الحب.

– ولكن صاحب هذه العبقرية نفور شامس لا يريد أن يلقي عنانًا، فأطرق المتنبي ثانيةً وقال: يا عائشة، إن قلبي نهبته المطامع، وتقسّمته الآمال، وأخشى ألا يجد فيه الحب متسعًا للهو والمرح.

– إن حبنا حب قدسي ملائكي، ليس فيه إربة للهو والمرح.

– قد كنت دائمًا أذود عنّي طائر الحب خشية أن يصدني عما يعتلج في نفسي من مطامح، وحينما رأيتك أول مرة التمع في قلبي بصيص من الهوى فأخمدته، وصاح صوت في أعماق نفسي فأسكته، ذلك لأنني رجل وهب حياته للمجد، وألقى بنفسه بين شفار السيوف.

تغرب لا مستعظمًا غير نفسه
ولا قابلًا إلا لخالقه حكما
ولا سالكًا إلا فؤاد عجاجةٍ
ولا واجدًا إلا لمكرمة طعما
يقولون لي ما أنت في كل بلدةٍ؟
وما تبتغي؟ ما أبتغي جل أن يسمى!

– إني لا أحبك إلا لهذا ومثله. أحبك حبًّا عذريًّا قدسيًّا تنزه عن دنس الدنيا، وسما فوق كل مأرب، فهل تعاهدني على هذا؟

– أعاهدك يا سيدتي، إن مثل هذا الحب هو الذي طلبه أكثر الناس فلم يجدوه فزهدوا في الدنيا، وزهدوا في الحياة، وإن مثل هذا الحب هو الذي ينفخ في المرء روحًا علوية تدفع به إلى عظائم الأمور، وتنير له طريق المجد، الآن أصبحت مصر لي جنة بعد أن كانت جحيمًا، والآن أجد ما يعزيني في هذه النكبة الفادحة، التي قذفت بي إلى مصر لأمدح الأسود.

وبعد قليل خرج وعطفه يهتز، ووجهه يفيض بشرًا، ولعله كان يقول:

يردُّ يدًا عن ثوبها وهو قادر
ويعصي الهوى في طيفها وهو راقد

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤