الفصل الخامس

القوقاز

ينقسم القوقاز إلى قسمين منفصلين عن بعضهما بسلسلة جبال القوقاز أحدهما في أوروبا والآخر في آسيا، ولغات القوقاز هي الكورجية والمنجريلية واللزجينية والسوانية ولغة الشيشانسي، وفيه أيضًا اللغة الروسية والأرمنية والتركية والفارسية، وعدد اللهجات الكلامية فيه يَبْلُغ نحو ثلاثين لهجة، وميزانية القوقاز ٦٧ مليون روبل (نحو سبعة ملايين جنيه)، ومعظم التجارة في القوقاز بِيَدِ الأرمن وكذلك الصياغة، فَلَهُمْ فيها القدح المعلى، حتى إنَّ جميع جفار الخناجر والسيوف المرصعة هناك من صُنْع أيديهم، وضباط العجم رعايا روسيا لا يحملون الكاسكيت العسكرية مثل إخوانهم في الجيش الروسي، بل يَلْبَسُون القلبق العجمي مرسومًا عليه شارة فارس مُذَهَّبَة أو مُفَضَّضَة، وهي كما لا يخفى عبارة عن أسد شاهرًا سيفًا بيده اليمنى، وعلى ظهره قُرْص الشمس بأشعته الوضاءة، وفوق هذه الشارة التاج الروسي.

وعَلِمْتُ أن البرد في القوقاز في زمن الشتاء يكون شديدًا، وقد يَنْزِل الترمومتر إلى درجة أربعة تحت الصفر، وقد يَقَعُ المطر ستة أيام متوالية في بعض الجهات، وخمسة عشر يومًا ليلًا ونهارًا في الجهات الأخرى.

وكان امتداد سُلْطة روسيا على القوقاز وجميع آسيا الوسطى في القرن التاسع عشر، ولكن بخارى لم تَزَلْ مُحَافِظَة على استقلالها تحت سيادة روسيا.

وحاكم القوقاز لَقَبُهُ كَلَقَبِ حاكم الهند أي نائب الملك. وعدد سكان القوقاز يَبْلُغ نَحْو سبعة ملايين منهم ثلاثة ملايين مسلمون، ومليونان من الكرج، و٢٠٠ ألف منجرليان وهم والكورج نصارى أورثوذكس وكاثوليك ولكن الأكثرية أورثوذكس، وفي الكرج ٤٠ ألف مسلم، والأرمن في الدنيا ٤ ملايين منهم مليون ونصف في القوقاز واثنان في تركيا ونصف مليون في العجم. وهناك طائفة من السكان اسمها السوانت غَيْر معلوم عَدَدُها، وهم لا يزالون على الفطرة حتى إنهم ليكتسون للآن بجلود الغنم وكلهم أورثوذكس، وهم أفقر أهل القوقاز، ومن سكان القوقاز أيضًا ٣٠٠ ألف يهودي. والمنجرليان وإن كانوا كورجا إلا أنَّ لُغَتَهُم لا تُقْرَأ ولا تُكْتَبُ بخلاف لغة الكورج كما قلنا، وكل منهم إذا تكلم لا يَفْهَمُ لغة الآخر.

وفي القوقاز فرقتان عسكريتان؛ إحداهما في قارص على التخوم العثمانية، والثانية في تفليس، وكل فرقة منهما تتألف من نحو ٧٠ ألف عسكري.

وسَمِعْتُ في القوقاز في إحدى الجنائن العمومية في ليلة خيرية مزمارًا وطبلًا بلديًّا، وكان كل الزمارين والطبالين من العجم، ولكن شتان بين نغمات مزمارهم وبين نغمات مزمارنا، فلا عُدِمَتْ مِصْرُ مِزْمَارها وطَبْلها البلدي وكل مشخصاتها ومقوماتها الأهلية.

ومن فلاديقافقاز رَجَعْتُ إلى تفليس بالأوتومبيل، ومِنْ تفليس سَافَرْتُ في السكة الحديدية إلى باكو فوصلْتُهَا بَعْد ١٤ ساعة، وهي مدينة واقعة على بَحْر الخَزْر، وكانت تابعة للعجم ولكنها الآن مِلْك روسيا، وكلها مبنية على الطراز الحديث، وشوارعها منتظمة وفيها النور الكهربائي، وهواؤها رديء وحَرُّها أشد من حر تفليس، والسبب في ذلك وجود آبار النفط على بعد نصف ساعة منها.

وهذه الآبار وإن كانت تَنْفَجِر منها ينابيع الثروة وتَفِيض على أهل البلد النضار، إلا أنها جَعَلَت الطقس في الصيف لا يُطَاق، ولو أن المدينة على شاطئ البحر، وعلى هذا الشاطئ رصيف طويل عريض كُلُّه بالأسفلت يُسَمُّونه البولفار، يَقْصِده الناس مِنْ بعد العصر ويَشْتَدُّ فيه الزحام ليلًا، وفيه تَصْدح الموسيقى العسكرية وكُلُّه يضاء بالنور الكهربائي، وبالقرب منه جنينة البلدية.

وتُعَدُّ باكو عاصمة مملكة البترول والآبار الموجودة فيها وفي الضواحي البعيدة عنها بتسعة عشر فرستا تَبْلُغ مائة بئر، ومنها يخرج أكثر من نصف الجاز الذي يباع في أسواق الدنيا كلها. وفي باكو جملة فنادق أشهرها فندق أوروبا.

وكان بأرباض باكو هيكل قديم لعبادة النيران اسمه زوراستر، ولكنه قد تَهَدَّمَ الآن وتَصَدَّعَتْ منه الجدران، ولم يَبْقَ سوى أطلال بالية تَنْعِق فيها البوم والغربان.

وفي باكو كثير من المسلمين أصحاب الملايين منهم: موسى ناجي يوف، وثروته ٦٠ مليون روبل (ستة ملايين جنيه) وقد مات، والحاج زين العابدين تقي يوف ٥٠ مليونًا، ومرزا علي يوف شرحه، والشيخ علي داداشوف ٣٠ مليونًا، ومختاروف ٢٥ مليونًا.

وكان تقي يوف في أول أَمْرِه «شيالًا»، وهو لا يَعْرِف للآن سوى كتابة اسمه، وعمره ٧٢ سنة، وله وابورات في البحر وبنوكة وفاوريقات، ومآثره على قَوْمه لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى، فَكَمْ أقام لهم المستشفيات وأنشأ المدارس لتعليم البنين والبنات، وله غير ذلك من الأعمال الخيرية ما خَلَّد اسمه وعطر بذكره المحافل والمنتديات، وبعد أن كان لا يملك شيئًا من حطام الدنيا أصبح الآن صاحب خمسة ملايين من الجنيهات، وصار يأمر وينهى ويَحُلُّ ويعقد ويتصدر في المجالس والمجتمعات:

وإذا العناية لاحظت عبد الشرا
نَفُذَت على ساداته أحكامه

وفي باكو أغنياء من الأرمن منهم؛ كوكوساف ثروته ٨٠ مليونًا، ومانتاشيف ٤٠ مليونًا، وهو صاحب معامل البترول في باطوم وقد مات.

وعدد سكان باكو ٢٠٠ ألف نفس، منهم ١٠٠ ألف مسلم و٥٠ ألف أرمني و١٥ ألف كورجي و١٥ ألف يهودي، والباقي من أجناس أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤