الفصل الخامس

لم تستطع الحياة الجديدة أن تنأَ بي عن النجاح، ولا عن حميدة، فقد كنتُ أعتبر صلتي بهناء نوعًا من المتعة، أما صلتي بحميدة، فنوع من الرُّوحانية، الوحيدة التي تأثرتْ صِلتي بها هي وصفية، فقد أحسستُ أنني عازف عنها أو شبه عازف.

وكانت عمتي تصدق دائمًا أنني أذاكر مع منعم، وكانت نتائجي تؤكد لها صدق المذاكرة، فالموهبة التي أتمتع بها في فهم الدروس وهي تلقى عليَّ في الفصل موهبةٌ أكاد أتفرد بها بين زملائي جميعًا.

وهكذا وصلتُ إلى الجامعة في يسر، وكان لي مجموع يمكِّنني أن أختار، فاخترتُ كلية التجارة، واختار وجدي كلية الزراعة.

ولما حصل وجدي على الثانوية العامة أحضر له أبوه سيارةً يذهب بها إلى الجامعة، وأحسستُ أن عمتي واقعة في حرجٍ كبيرٍ بالنسبة إليَّ، فهي لا تستطيع أن تهدي لي سيارةً، ولماذا لا تستطيع؟ إن عندها مالًا يكفي أن تشتري لي سيارةً، بل وعشر سيارات إذا شاءت، ولكن أيهون عليها مبلغ ضخم كهذا؟ الأغنياء أشد حرصًا على أموالهم من الفقراء أمثالي. لماذا أنا فقير؟ إن أبي أخوها، ولكنه لا يملك إلا بقايا هزيلة من أرض ومرتبة، أما هي فترفل في غنًى فاحش.

عجيب أن الفلوس دائمًا تعرف طريقها إلى الفلوس.

إن عمتي لم تبع من أرض أبيها شيئًا في حين باع أبي أرضه جميعًا إلا خمسة أفدنة، أغلب الأمر أنه أبقاها للذكرى، وليكون له ببيت القرية صلة، أي صلة؟

وتزوج أبي من أمي وهي فقيرة مثله، وحين يجتمع الفقران تصبح الحياة كآبةً وضيقًا وحرجًا. وأنا لا أنسى سعادة أبي أنني أُرَبَّى في بيت عمتي، هذه السعادة التي أتاحت لي أن أنال مزيدًا من المال منه، الأمر الذي جعل يدي مبلولةً دائمًا، فعمتي تعطيني على غير علمٍ من أبي، وأبي يعطيني على غير علم من عمتي، وأفوز أنا بنفحات الاثنين. وأنا أقدر طبعًا سعادة أبي وهو يعطيني، وما عطاؤه هذا إذا قورن بما كان عليه أن يبذله في الإنفاق عليَّ؟! إن عمتي تقوم بكل شأني من ملابس ومصاريف وطعام، وأنا على ثقة أنها لا تأخذ من أبي مليمًا واحدًا.

وأنا لا أشعر بأي غضاضةٍ في هذا، فأنا ما دمت تلميذًا لا بد أن ينفق عليَّ أحدٌ من الناس. أن يكون هذا الأحد عمتي أو أبي، هذا أمر يسوِّيانه بينهما دون أي تدخل مني ولا غضاضة.

أحيانًا أشعر بشيءٍ من الخجل أمام وجدي، ولكنه خجل لا يلح عليَّ، وسَرعان ما يذوب في تيار الحياة الصاخبة التي أعيشها.

ومنذ عرفتُ هناء أصبحتْ حالتي المالية ثراءً فاحشًا، ففي يومٍ زرتها في البيت، فإذا هي تلقاني في ابتسامةِ من يخفي شيئًا مفرحًا. اذهب إلى حجرة النوم.

– ألا أشرب شيئًا أولًا؟

– بل تذهب أولًا.

– وحدي؟

– ستجد لفافةً، فضها وقل رأيك.

وذهبت فوجدت بلوفر الصوف الإنجليزي الفاخر، ومعه قميصان من أحدث طراز، شكرتُها وأطلتُ في الشكر، حتى إذا هدأ بنا الشكر قليلًا: هناء.

– هيه.

– أنت تعرفين عني كل شيء.

– ماذا تقصد؟

– إنني أعيش مع عمتي ولست مع أبي.

– طبعًا.

– ماذا أقول لعمتي عن هذه الهدايا؟

– آه صحيح، لم أفكر في هذا.

– إنها تعرف كل شيءٍ ألبسه، فأنا لست ابنها، والإنسان لا ينسى الأشياء التي يأتي بها لغير ابنه.

– فعلًا.

– في هذه المرة سأقول لها إنني اشتريت هذه الأشياء من فلوس أخذتها من أبي. ولكن بعد ذلك؟

– اسمع، أنا لا أستطيع أن أحبك ولا أقدم لك هدايا، وتصرف أنت مع عمتك كيف تشاء.

– ولماذا لا تجعليني أنا أشتري هذه الهدايا؟

– تقصد …

– أقصد كلما أردتِ أن تشتري هديةً قولي لي عنها، وأنا أقوم بشرائها.

– وماذا تقول لعمتك.

– الفلوس يمكن أن تختفي، أما الملابس …

– آه فهمت، ولد! هل عرفت أحدًا قبلي؟

– أنا، لقد تسلمتِني وأنا طفل أحبو.

– من أين تعلمتَ كل هذا؟

– أنتِ تجهلين قدرك كأستاذة.

أصبحتُ منذ اليوم في بحبوحةٍ من المال، ولكنها على كل حال بحبوبة لا تتيح لي أن أشتريَ سيارةً، وإنما تسمح لي أن أنفق على السيارة إذا جاءت.

حاولتْ عمتي محاولةً فاشلةً أن تخفف وقع سيارة وجدي عليَّ: ستكون سيارتك أنت وهو، وجدي أخوك، وسيارة واحدة تكفيكما. ولا شك أن عدم الاقتناع كان واضحًا على وجهي.

الشعور بالفقر مَرير، والشعور بالفوارق أشد مرارةً، لو لم تأتِ سيارة وجدي ما أصبحتْ عندي مشكلة، ولكن هذا شعور عجيب، لماذا وضحتِ المشكلة عندما أصبح لوجدي سيارة؟ إنني على الحالين، سواء اشتُريَ لوجدي سيارةً أو لم يُشترَ له، ليس عندي سيارة، فلماذا هذا الحزن المرير والألم والسخط، بل والثورة، لماذا هذا جميعه يمور في نفسي؟ لأنني لا أملك سيارة؟ وإنما فقط لأن وجدي أصبح عنده سيارة؟ أليس هناك طلبة آخرون عندهم سيارة؟ فلماذا تحرقني سيارة وجدي بالذات؟ انهمرتْ على نفسيَ الآلام، لماذا وجدي غني وأنا فقير؟ ولماذا يربَّى في بيت أبيه ولا أعيش في بيت أبي؟ ولماذا لا يكون الناس جميعًا أغنياء؟ أو لماذا لا يكون الناس جميعًا فقراء؟ ولماذا لا يستطيع الآباء جميعًا أن يلبوا مطالب أبنائهم؟ ولماذا جاءوا بهم إذا كانوا عاجزين عن تلبية رغباتهم؟ كيف تلد لحظة المتعة كل هذا الشقاء للبشرية؟ إذا كنتُ وحيد أبي ولم يستطع أن يقوم بشأني، فكيف به لو كان قد جاء معي بإخوة وأخوات؟ أكان سيرمي كل واحدٍ منا عند عمة أو خالة، إلى الجحيم هؤلاء الأخوة جميعًا؟ بل إلى الجحيم الناس جميعًا كلهم أجمعون. أب لا يقدم لي إلا مالًا هزيلًا، وعمة تأتي لابنها بسيارة ولا تأتي لي بمثلها، وقوم كلهم أغنياء أو غير مبالين، كلٌّ له شأنٌ يغنيه. وأنا لولا هناء لكنتُ شيئًا ضائعًا لا طعم له، ولا لون، ولا رائحة.

كنتُ في غرفتي لا أجد شيئًا أصنعه، فقد كنتُ أقصد في هذه الأيام التي تلتْ مجيء السيارة أن أتجنب عمتي، وأتجنب الخروج مع وجدي في سيارته، وكنتُ في هذا الوقت من اليوم الذي لا أستطيع أن أصنع فيه شيئًا؛ ميعاد الكباريه لم يأتِ بعد، وهناء نائمة، ومنعم أيضًا نائم، وأنا استيقظت منذ قليل أواجه الوحدة، نوعًا من الوحدة العجيبة التي قد لا يعرفها أحد، فإن لي أصدقائي ولي من أحبهم ومن يحبونني، ولكنني كنتُ كثيرًا ما أشعر بالوحدة في داخلي، لا أدري من أين كان يهاجمني هذا الشعور بالوحدة كلما خلوت إلى نفسي؟ أتراه ينطلق إليَّ من موت أمي، أم من إقامتي في غير بيت أبي؟ ربما، فقد حُرمتُ أمي وأنا بعدُ صغير، وعشت في بيت عمتي منذ منابت صباي وشبابي، ولكن من الطبيعي أن أتعود الأمرين، لا أدري، كل ما أدريه أنني كثيرًا ما كنتُ أشعر بالوحدة، وكنتُ أواجه هذا الشعور بحديث مع حميدة، فهي الوحيدة بين كل من أعرف التي كنتُ ألقي بوحدتي على عتباتها، فأشعر بأنني شيء ثمين يمكن أن يحبه مخلوق نوراني كريم. لم تستطع هناء كما لم تستطع وصفية من قبل أن تُلحق أي أثر بالحب الصارخ العملاق الذي كان ينمو في كِياني لحميدة، حتى لم يكن المستقبل يعني شيئًا بالنسبة إليَّ إذا هو خلا من حميدة، وكان حبي لها يتمثل في حديث بيننا يجري عبر التليفون أحيانًا، أو يجري في لقاءٍ سريع تصطنع هي أسبابه في أحيانٍ أخرى.

وكم خلا بنا المكان، ولكني لم أجرؤ على تقبيلها، بل إنني حتى لم أفكر، والشعور العجيب الذي كان يراودني دائمًا هو خوفي أن يطغى بيَ الحب يومًا؛ فأجد نفسي أقبلها، وتسكت هي على قبلتي دون مقاومة أو زجر وتعنيف. لم أكن أتصور أنها ترضى أن يقبلها أحد، حتى ولو كان أنا. لم تكن حميدة عندي حبًّا ترويه القبلات، وإنما كان حبًّا أشبه بالصلاة أتخشع في محرابه مثل عابدٍ متصوفٍ ينسى في هذا المحراب من الحياة كل الحياة، ولا يتمثل له إلا حبه وصلاته.

– ألو.

– أين أنتَ؟

– بل أين أنتِ؟ أنا أطلب يوميًّا ولا تردين.

– كان أبي بجانب التليفون دائمًا.

– خير.

– حركة ترقيات ينتظر أخبارها.

– أريد أن أراكِ.

– آه، لا أدري كيف، اسمع.

– هيه.

– هل تستطيع أن تنزل حالًا؟

– فورًا.

– نلتقي على أول شارعنا.

– اقفلي السكة.

– اقفل أنت.

– لن أضع سماعة التليفون قبلكِ أبدًا.

– حسنًا، سأفعل أنا، وتنزل فورًا.

•••

– كان لا بد أن أراكِ.

– خيرًا.

– أحس بالضياع وأنا بعيدٌ عنك.

– أتذاكر يا أمين؟

– المؤكد أنني سأنجح، وأنتِ؟

– أنا أيضًا سأنجح، ولكن …

– ماذا؟

– لا أريدك أن تشغل نفسك.

– بماذا؟

– بي.

– خاطِبٌ آخر!

– ثري.

– وماذا فعلتِ؟

– رفضتُ.

– وبعد؟

– أبي مُصِرٌّ.

– وبعد؟

– تصرفتُ أنا.

– كيف؟

– تصرفتُ والسلام.

– كيف؟

– أقول لك ولا تضحك؟

– لا، لن أضحك.

– صفعته.

– ماذا؟

– صفعته بالقلم على وجهه.

– العريس؟

– العريس.

– كيف؟

– جاء يومًا مع أمه، وفتحت الباب، وبالصدفة لم يكن أحد واقفًا بجانبي، فوجدت نفسي أرفع يدي في الهواء، وأهوي بها على وجهه.

– يا خبر أسود.

دقت أمه صدرها: يا لهوي! إيه ده يا بنتي اللي بتهببيه. ونظر هو إليَّ مليًّا، وكأنما فهم كل شيء. مسكين والله، صعب عليَّ يا أمين، بصحيح صعب عليَّ، أرادت أمه أن تدخل؛ فأمسك بيدها، وعاد بها يهبط السلم، هو صامت وأمه لا تكف عن الكلام: بسم الله الرحمن الرحيم، ده البنت مجنونة، الحمد لله اللي عرفنا من بدري، يا عيني يا ابني، لا حول ولا قوة إلا بالله.

أمسكتُ فجأةً بحميدة، وهوَيت عليها أريد أن أقبلها في الطريق؛ فإذا هي فجأة تتجمد كأنها تمثال من أعصاب، ووجدتُ نفسي تعود إليَّ قبل أن أكمل المحاولة، ووجدتُ موجةً من الطمأنينة والانشراح تملأ صدري، ثم رحت أضحك كمجنون من كل شيء، من القلم الذي أكله خطيبها، ومن تعليق أمه، ومن هجوميَ الأرعن، ومن تجمد حميدة. ونظرتْ إليَّ حميدة بضع لحظات، ثم انفجرت هي الأخرى ضاحكةً، وكأنما كانت ترى كل ما أضحك من أجله متمثلًا في ضحكتي المجنونة الطاغية.

•••

عدت منتشيًا إلى البيت، فلا أدري لماذا لم أجد في نفسي خفةً إلى هناء في ليلتي تلك، لم أمِلْ على أحد من أهل البيت، فقد كرهت أن يرانيَ أحد منهم فرحًا، فأنقل إليه فرحتي، وأنا لا أريد لأحدٍ منهم أن يفرح.

قصدت إلى حجرتي، فإذا وصفية نائمة في سريري ملقية نفسها لابسة لبسها المفضل، فهي عارية كاسية. لم أدهش، ولكنني كنتُ أريد هذه الليلة أن تظل ملكًا لحميدة.

– عندي لكَ أخبار مدهشة.

– صحيح، ماذا؟

– الدفع مقدمًا.

– تحت أمرك.

– قبلة طويلة.

– أهي كل الثمن؟

– الباقي بعد أن تسمع الأخبار.

ودفعت المقدم.

– قولي.

– غدًا ستكون عندك سيارة.

– ماذا قلتِ؟

– ما سمعتَ.

– وتريدين قبلةً واحدةً؟

– مجرد مقدم.

– كيف عرفتِ؟

– بوسائلي الخاصة.

– احكي لي.

– فوجئتُ بأبيك قادمًا إلى هنا، سأل عليك، قلت: خرج. وسأل عن الست، فذهبتُ به إلى حجرة البوفيه، وجلسا، وكان الباب مفتوحًا فسمعتُ.

– ماذا سمعتِ؟ قولي.

– يا سليم، لا بد أن نشتريَ سيارةً لأمين.

– سيارة كيف؟! أنت تعرفين.

– بع فدانين، وسأكمل أنا الباقي.

– إلى هذه الدرجة؟

– وجدي الآن عنده سيارة، ولا أحب أن يشعر أمين …

لم أعد أسمع. بنت الكلب! أكان لا بد أن تجعله يبيع فدانين؟ كانت تستطيع أن تدفع الثمن كله، ماذا يصيب الثراء الفاحش إن نقص منه ألفان أو ثلاثة آلاف؟

غناهم يزيد حرصًا على الغنى، كم فدانين عند أبي حتى يبيع؟ وماذا يبقى لي إذا عرف طريق البيع؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤