الفصل السادس

ذهبتُ في باكر الصباح إلى الكلية، فاليوم هو أهم يوم في حياة التلميذ: نتيجة البكالوريوس. نجحتُ. لم أكن أتوقع مطلقًا شيئًا غير هذا، فقد كنتُ حريصًا دائمًا على حضور المحاضرات، وما كنتُ أسمعه ينطبع في رأسي لا يخرج منه، حتى أضعه على ورق الإجابة. التقدير جيد، لا بأس.

كانت عمتي أول من لقيني في البيت، رأيتُ الفرح الصادق على وجهها، إنها فرحة؛ لأنها تعتقد أنها هي التي نجحت، تعتقد أنها هي التي صنعتني، تعتبرني ملكيةً خاصةً لها. لم يكن هناك وقت أضيعه أكثر مما أضعت، فقد انتظرتني حميدة أربع سنوات كاملة. عمتي أريد أن أخطب.

– ابتسمتْ في خبث.

– يحق لك، ولكن ألا تنتظر حتى تُكوِّن نفسك؟

– أكونها مع زوجتي.

– حميدة؟

ليسوا أغبياء هؤلاء الأغنياء، أم ترانا نحن الأغبياء نحن المحبين؟

ولم أجد شيئًا أجيب به ذكاءها إلا ابتسامةً أفسحتُ لها مكانًا على شفتي.

– أبوها يحب المال.

– أعرف، ولكن لعل الحب يشفع لنا.

– الحب بينك وبينها هي، وليس بينك وبين أبيها.

– قد تضطره هي إلى القبول.

– وترضى أن تتزوجها رغم معارضة أبيها؟

– إنني سأتزوجها هي.

– على كل حال سأدبر الأمر.

– وأعلم أنك قادرة على تدبيره.

•••

– حاولتُ يا أمين بكل جهدي.

– ولم يقبل أبوها.

– طبعًا تعرف السبب.

– أنني فقير.

– قلتُ إني سأعطيك كل ما يلزمك.

– فلماذا اعترض؟

– قال إنه يريد شخصًا يعتمد على نفسه.

ابن الكلب! أستطيع أن أتزوجها رغم أنفه، بل أستطيع أن أتزوجها من غير زواج، وأجعل منه أضحوكةً بين الموظفين، بل أستطيع أن أشيع عنها الشائعات فلا ترى الزواج بعينيها، ولعلي أفعل، ولعلي أفعل.

وفجأة أحسستُ كأن ما أفكر فيه ينتقل إلى عينَي عمتي اللتين تنفذان إلى داخلي في نظرة صفرية مخيفة.

– لا يا أمين.

– لا ماذا؟

– أرى في عينيك وميضًا فظيعًا، أتراه نفس الوميض الذي انبعث منهما يوم أحرقتَ السطح؟

– عمتي.

– الانتقام في هذه المرة سيصيبك كما سيصيب حميدة وأهل حميدة.

– يصيبني.

– ألا تقول إنك تحبها؟

– الحب لا يكون من جانب واحد.

– وماذا تريدها أن تفعل؟

– تقنع أباها، انتهى زمان عبودية الآباء لأبنائهم.

– وتعيش عمرها محرومةً من عطف الأب والأم؟

– سيصفحان.

– فإن لم؟

– سيصفحان.

– ألا تستطيع أن تفكر بعقلهما لحظةً، لحظةً؟

– لا أحد يموت من الجوع.

– أيرمي أب ابنته من أجل مثل هذه القاعدة؟

– فماذا تريدينني أن أفعل؟

– انتظر وكوِّن نفسك.

– وهل ستنتظر هي؟

– أنتَ لا تملك غير هذا.

– بل أملك الكثير.

– لا تقطع كل الحبال.

– فلتنقطع.

– ربما يأتي يوم … ربما … تستطيع فيه أن تتزوجها.

– وكيف ستنتظرني؟

– أنا لا أدري الغيب، ولكن لا تعترض القدر إذا حاولَ يومًا أن يعيدها إليك.

– وأسكت؟

– بل ساعد الأيام.

– ماذا أعمل؟

– حطم هذا السبب الذي منعك عنها.

– إن أباها لا يعرف كم أشقاني، وكم أشقى ابنته.

– أما أنت فلا تهمه في شيء، وأما ابنته فلعله يظن أنه يُعِدُّ لها السعادة.

– كانت حميدة أغلى أمنية في حياتي.

– لا ترغم الأيام يا أمين.

– لا عليك يا عمتي.

وخرجت وكان طبيعيًّا أن أذهب إلى هناء على غير موعد، نائمة هي طبعًا، لم أوقظها وانتظرت ببيتها. لأول مرة أحس أنني يجب أن أكون مع هناء. انتظرت، وطال الانتظار. طلبت منزل حميدة؛ لم ترد، شيء طبيعي، ماذا يمكن أن أقول لها؟ لا بد أن هناك أشياء تقال، لقد اتفقنا أن تنتظرني حتى أنتهي من الدراسة، هل يمكن أن أطلب إليها أن تنتظرني حتى أصبح غنيًّا؟ لكن لا بد أن هناك شيئًا يقال. على كل حال إنه دورها هي أن تقول.

استيقظتْ هناء أخيرًا، وقضينا اليوم معًا. وانصرفتُ في أوائل الليل عائدًا إلى البيت، استقبلني صالح السائق، وأخبرني أن البيه يريدني. هيه يا عم أمين، علام نويت؟

وظننت أنه يكلمني في شأن الخِطبة، ودُهشت؟ فهذا موضوع لا يجوز له أن يخوض فيه.

– فيمَ يا عمي؟

– في حياتك.

– لم أفكر بعد.

– ولكن أنا فكرت لك.

– ماذا؟

– عندي لك عملان تختار بينهما.

إنهما يصران أن أظل ملكية خاصةً لهما، ولكن ما الناس ما دمت أستطيع التخلص وقتما أشاء.

– ألف شكر.

– عندي لك عمل في شركة كبيرة بمرتب أربعين جنيهًا في الشهر. ماذا يظنني هذا الكلب؟ ما أربعون جنيهًا؟ إنها لا تكفي بنزينًا لسيارتي، ولكن المرتب في نظره لا بأس به، طبعًا بالنسبة لتلميذ فقير لم يكد يتخرج. وتذكرت هناء، ثم لم أجب.

– وعندي لك عمل مع محاسب كبير، إذا عملت معه بجد تصبح أرباحك لا حد لها.

– من؟

– مكتب سامي أحمد.

– إنه مكتب شهير.

– ما رأيك؟

– اعمل معه.

– ألا تسأل أباك؟

أبي؟! وما شأن أبي بي؟ ومتى كان لي به شأن؟ إنما قصاراي أن نجحت، وأنني أعمل، وسيظل يعطيني العشرين ملطوشًا التي لا تزيد، ثم لا شأن له بي بعد ذلك، ويُطَمْئنُ نفسه أنه شارك بفدانين في شراء سيارتي، وكأنه اشترى لي عمارةً. أبي؟! وما شأن أبي؟

– لا، لا داعي للسؤال.

– رأيك.

مكتب سامي أحمد يقع في شارع شريف قريبًا من التقائه بشارع ثروت، وسامي أحمد رجل يقارب الخمسين من عمره يعرف كيف يكون رقيقًا مهذبًا، ويعرف أيضًا كيف يكون عنيفًا إذا اقتضى أمرٌ أن يكون عنيفًا.

ولم يكن لقائيَ الأول به محتاجًا أن يكون رقيقًا ولا أن يكون عنيفًا، فهو لا شك قدَّر أنني سأعمل في مكتبه، فالإفراط في الرقة لا داعي له.

– هذا أول عمل لك يا أستاذ أمين.

– نعم.

– أنا لا أدعي شيئًا لا يمثل الحقيقة، ولكن لا بد أن تعلم أن أحسن المحاسبين في البلد تخرجوا في هذا المكتب، ولو عملت بنصائحي فلن يمر وقت كبير حتى تصبح قادرًا على فتح مكتب محترم.

– العمل مع سيادتك في ذاته شرف.

إن الذين تربَوا في بيوت غير بيوت آبائهم يتقنون أن يصنعوا كلامًا مزخرفًا يلقي بالزهو في نفس الآخرين، وقد كدت أرى صدره وهو ينشرح لهذا الحديث مني، ووثبتْ ابتسامة إلى شفتيه، وهبتْ عليه نسائمُ ورِقةٌ كانت غائبةً عنه.

– اعتبرني كوالدك.

أعوذ بالله، ولو علم ماذا يعني أبي عندي لما قال ما يقول، ولكن على كل حال ليس من المرغوب فيه أن يعرف كل إنسان، وخاصةً سامي أحمد، ما أُكِنُّه لأبي من مشاعر.

– في اللحظة التي رأيت فيها سعادتك ثبت في نفسي أنك والد.

– يعمل معي في المكتب شاب … (ثم اجتزأ ضحكةً) ولو أنه عجوز بالنسبة لك، هو الأستاذ فتحي عبد التواب، وآنسة متخرجة منذ سنتين هي الآنسة نيفين السيد، سأعرفك بها الآن.

– أهما اثنان فقط؟

– يا بني، المكتب لا يحتمل أكثر من اثنين أو ثلاثة، فقد أصبحتُ أرفض الأعمال الصغيرة لأترك فرصةً لأولادي الذين تخرجوا عندي، وأصبح المكتب مقصورًا على الزبائن الكبار، وهؤلاء يكفيهم اثنان أو ثلاثة على الأكثر.

كان قد ضرب الجرس وهو يتكلم، وحين جاء الفَرَّاش كان قد أنهى حديثه، التفتُّ إلى الفراش، ثم التفتَ إليه: عم مدبولي الفراش، زاملني منذ فتحت هذا المكتب، هو عندي منذ عشرين سنة. الأستاذ أمين يا عم مدبولي، خل بالك منه.

قال عم مدبولي: ليس لنا بركة إلا هو.

بمثل هذه التمثيليات القصيرة يضحك هؤلاء الأباطرة على هؤلاء البسطاء. عشرون عامًا امتص فيها دماء الرجل العجوز ويباهي بهذا، أما كان الأولى بهذا الرجل أن يستريح وينال معاشًا من هذا المحاسب الجشع.

قبل أن يدخل الزميلان وجدتُ سامي أحمد يقول فجأةً وبلا مقدمات: إن جمالك شيء لا يمكن السكوت عليه.

وخجلت بعض الشيء، وأكمل هو حديثه غير عابئ بخجلي: لا تستعمله مع نيفين.

– يا أفندم العفو.

– ولا تشجعها إن حاولتْ هي الانتفاع بهذا الجمال.

– يا أفندم العفو.

– أنا أراها جميلةً، ولكن مقاييس الشباب في الجمال تختلف تمامًا عن نظرتنا نحن أبناء الخمسين.

– أنا يا سعادة البك …

وقبل أن أكمل دخل إلى الحجرة الزميلان، أما نيفين فهي فتاة يمكن أن يراها بعضهم جميلةً، بل يمكن أن أراها أنا أيضًا جميلة، ولكن الواقع أن أفكاري عن الجمال أصبحتْ لا تتصل في كثيرٍ أو قليلٍ بجمال الوجه وحسن القَوام.

أما فتحي، فشاب في الثلاثين من عمره يبدو عليه الجِد.

تعارف ثلاثتنا، ولم أستطع أن أتغاضى عن نظرة فيها نوع من الانبهار شعت من عينَي نيفين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤