مقدمة

كنتُ أحاضر طلابي في الجامعة ذات يوم، وكان موضوعُ المحاضرة متصلًا بمناهج البحث العلمي، وكانت المادة التي أعرضها في المحاضرة مستمدةً من علماء الغرب وفلاسفته؛ ذلك لأن العلوم الطبيعية حديثة النشأة، لم تكَد تُولد قبل عصر النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر، ولم نذكر العلوم الرياضية؛ لأنها أقدمُ نشأةً وأسبقُ تطورًا من العلوم الطبيعية، وأما قبل ذلك فقد كانت مختلطةً بأصول فلسفية، معتمدةً في أغلب الأحيان على تأمُّل نظري أكثر مما تعتمد على مشاهدة متعقبة وتجريب دقيق صارم. ولما كانت الحضارة الإنسانية منذ النهضة الأوروبية قد اتخذت الغرب — أوروبا وحدها أولًا، ثم أوروبا وأمريكا معًا بعد ذلك — مقرًّا لها في طريقها الطويل الذي أخذَت تنتقل خلاله من موطن إلى موطن، فقد بات الغرب — إبَّان الثلاثة القرون الأخيرة — هو مركز العلم، فلا مندوحة لمن يريد التحدث عن أصول العلم وفلسفته ومنهجه، عن الرجوع إليه ليستقيَ منه مادة حديثة.

غير أنني ما كدت أفرغ من محاضرتي تلك عن فلسفة العلوم الطبيعية ومناهجها، حتى سألني طالب، وكانت في سؤاله رنَّة العاتب: لماذا لم تجعل من أمثلتك المعروضة مثلًا من علماء العرب؟ ألم يكن للعرب علمٌ يُرجَع إليه ويُستفاد من مناهجه؟ … وبرغم يقيني من أن العلم قد انتقل اليوم نقلة فسيحة بعُدت به عما كان عليه في العصور الوسطى — في الشرق وفي الغرب على السواء — وأن اختلاف علم اليوم عن علم الأمس لا يقتصر على مقدار الحقائق المحصَّلة وحدها، بل إن اختلافهما قد جاوز الكمَّ إلى الكيف؛ فالأساس نفسه قد تغيَّر، وتغيَّر معه اللون الغالب كلُّه. أقول إنه برغم يقيني من ذلك، إلا أنني أحسست بشيء من الحق في اعتراض الطالب؛ لأنه مهما بعُدت مسافة الخلف بين اليوم والأمس، فما كان علم اليوم لتقوم له قائمة لولا علم الأمس؛ وإذن فلا شك أن واجبنا العلمي يقتضينا أن ننظر فيما كان لنقدره قدره أولًا، ولنزداد به فهمًا لما هو كائن ثانيًا، وإذا كان هذا هو ما يقتضيه الواجب العلمي على إطلاقه، فإن هذا الواجب تجاه علمائنا العرب الأولين ليزداد إلحاحًا علينا بأن ينهض منَّا مَن يؤديه.

وصحَّت مني العزيمة منذ ذلك الحين أن ألبِّيَ رغبة الطالب؛ لأنها في الحقيقة رغبةُ وطن ناهض أراد أن يجمع في نهضته النظرةَ إلى أمام واللفتة إلى وراء، حتى يجيءَ طريقُ السير موصولَ الحلقات مرتبط المراحل؛ وبدأتُ بإمام العلوم الطبيعية عند العرب، ألا وهو جابر بن حيان.

لكني ما كدت أبدأ العمل حتى أخذَت الصعابُ تزداد أمام عيني ازديادًا سدَّ عليَّ الطريقَ مرارًا، فكم من مرة وهِنَت العزيمة يأسًا، وكم من مرة ملأتُ نفسي بالعزيمة من جديد؛ وأصعب تلك الصعاب هو أن ليس بين أيدينا هنا إلا عددٌ قليل من مؤلفات ابن حيان التي يعدُّونها بالمئات، وأما بقيتها فهي لا تزال في صِوَرها المخطوطة مبعثرة في مكتبات أوروبا؛ ولو أراد الباحث أن يوفِّي موضوعه حقَّ البحث الصحيح، لالتزم أن يطلع على النصوص الأولية جميعًا قبل أن يخطَّ من بحثه سطرًا واحدًا؛ فما بالك وابن حيان يُحذِّر قارئَه في مواضع كثيرة من رسائله ألَّا يهمَّ أحد بدراسته إلا إذا جمَع مؤلفاتِه كلَّها، حتى لتراه يتهكم أحيانًا على مَن يكتفي ببضعة من كتبه ليستدل منها مذهبه كاملًا؛ فالجزء — كما يقول — لا يسوغ الحكم على الكل، وأحسب أن لو بُعث ابن حيان اليوم ليُلقيَ نظرة على كتابي هذا عنه، لألقاه مزورًّا مغضبًا؛ لأنها دراسة لم توفِّ الشرطَ الجوهري في بحث علمي، واستغنت بالقليل عن الكثير.

لكن شفيعنا عند ابن حيان لو ألقى إلينا بهذا اللوم، هو: أولًا — أنه هو نفسه كثيرًا جدًّا ما أنبأنا في رسائله أن طريقته في التأليف هي أن يُعيد في كل كتاب ما قد أورده في سائر كتبه، ولكنها إعادة بصورة جديدة، فكأنما الكتب يوضح بعضها بعضًا، ولا يضيف بعضها إلى بعض؛ فإذا كنَّا قد اكتفينا بما بين أيدينا من مؤلفاته — ومنها ما يقال عنه إنه أهم كتُبِه جميعًا، وهو كتاب الخواص الكبير — فلم يَفُتنا شيءٌ من مذهبه، وإن فاتَتنا ألوانٌ أخرى من التعبير كان يمكن لهذا المذهب نفسه أن يصوَّر بها؛ وثانيًا — لو أننا انتظرنا لا نكتب عنه إلا بعد أن تتكامل لنا مؤلفاتُه كلُّها، فالأرجح جدًّا أن يظلَّ مهملًا أمدًا طويلًا من الزمن، لا نعرف عنه إلا اسمه، فينهض من طلابنا مَن يسأل: لماذا لم تحدثونا عن علمائنا العرب بمثل ما تتحدثون به عن علماء الغرب؟

وأيًّا ما كانت الأسباب التي تشفع لي أو لا تشفع لي هذا الصنيع، فها أنا ذا قد صنعتُ ما صنعته، متقدمًا به إلى كل قارئ يودُّ أن يذوقَ بطرف اللسان حسوةً من عالم عربي أصبح اسمه في تاريخ العلم مرتبطًا بعلم الكيمياء ارتباطًا شديدًا، لا في الشرق العربي وحده، بل وفي أوروبا كذلك، التي لم تكَد تعرف جامعاتها مراجع تُدْرَس في علم الكيمياء حتى القرن الخامس عشر إلا كتب جابر بن حيان.

كان جابر — شأنه في ذلك شأن رجال العصور الوسطى جميعًا، يستمد أصوله الفكرية من تراث اليونان، ثم يبني عليها ما شاءت له قدرتُه أن يبنيَ من علم جديد. ومن التراث الفلسفي اليوناني أخذ جابر فكرة الطبائع الأربع الأولية التي منها نشأت الكائنات جميعًا، وهي: الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة؛ ولو قلنا ذلك بلغةِ اليوم لقلنا إنها الحرارة بدرجاتها المختلفة والصلابة بدرجاتها المختلفة، وإذا كانت الحرارة في جوهرها حركة، وإذا كانت الصلابة في جوهرها تقاربًا في ذرَّات الجسم الصلب، فالأصول الأولية — بلغة اليوم — هي حركة الذرات، التي إن ازدادت سرعة كانت حرارة، وإن قلَّت سرعة كانت برودة، وإن تزاحمت كانت صلابة، وإن تباعدت كانت ليونة — ومهما يكن من أمر، فقد أخذ جابر عن التراث اليوناني هذه الطبائع الأولية الأربع، وجعلها أصلًا للكائنات جميعًا.

هذه الطبائع الأربع الأولية تجتمع اثنتين اثنتين فتكوِّن أجسامًا أربعة: فالحرارة واليبوسة معًا يكوِّنان النار، والحرارة والرطوبة معًا يكوِّنان الهواء، والبرودة واليبوسة معًا يكوِّنان الأرض، والبرودة والرطوبة معًا يكوِّنان الماء؛ وليس في الطبيعة كائنٌ يخلو تركيبه من أن يكون واحدًا من هذه الأجسام، أو مزيجًا مركَّبًا منها، لا فرق في ذلك بين جماد ونبات وحيوان إلا في نوع المركَّب ودرجة التركيب.

وإذا كانت أصول الأشياء مشتركة بينها جميعًا، جاز أن نحوِّل بعضها إلى بعض، لا نحتاج في ذلك إلا إلى دراسة الجسم الذي نريد تحويله والجسم الذي نريد الحصول عليه، لنرى فيمَ يتفقان وفيمَ يختلفان، فنضيف الناقص ونحذف الزائد حتى نحصل على ما نريد الحصول عليه.

ولعل أهم ما شغَل جابرًا من ذلك هو تحويل المعادن بعضها إلى بعض؛ ونظريته في ذلك مؤدَّاها أن للمعادن مقومَين أساسيَّين هما: الكبريت والزئبق — وهذان بدورهما قد تكونان في جوف الأرض على مرِّ الزمن الطويل من العناصر الأساسية: النار والهواء … إلخ، وما من معدن بعد ذلك إلا وهو تركيب من زئبق وكبريت بنِسَب مختلفة؛ وعمل الكيمويِّ في تحويل المعادن هو نفسه عمل الطبيعة في تكوينها، لولا أن الطبيعة قد استغرقَت آمادًا طوالًا في تكوين ما كوَّنته من ذهب وفضة ونحاس وغيرها، على حين يستطيع العالِم بتجاربه أن يختصر الزمن إلى برهة وجيزة — وكيمياء جابر هي تفصيل القول في هذه التجارب.

لكن جابرًا لم يكن كيمويًّا وكفى، بل كان كذلك فيلسوفًا، يتصور الأمور كما يتصورها الفلاسفة من حيث محاولتهم أن يجمعوا أشتات الكون في بنية واحدة، يبحثون لها عن مبدأ أول ثم يفرعون منه الفروع، وهكذا فعل جابر، فله محاولة من هذا القبيل يدعمها بجدل فلسفي من الطراز الأول.

وقد قسمتُ هذا الكتاب تسعة فصول لأصوِّر بها جابرًا من شتى نواحيه، تصويرًا تعتمد فيه الأجزاء بعضها على بعض؛ فحاولت في الفصل الأول أن أعرِّف شيئًا عن شخصه متى عاش، وبمَن تأثَّر، وأيَّ كتُبٍ ألَّف؟ وفي الفصل الثاني والفصل الثالث معًا ألقيتُ الضوء على منهجه العلمي، حتى تسهل المقارنة بعد ذلك بينه وبين فلاسفة المناهج العلمية الذين أَلِفنا دراستهم في هذا الباب؛ وفي الفصل الرابع تحدثت عن فلسفته اللغوية لأهميتها الشديدة بالنسبة إلى نظرياته الكيموية؛ وذلك لأن الرأي عند ابن حيان هو أن الاسم دالٌّ على طبيعة مسمَّاه، فالعلاقة وثيقة بين اللغة من جهة والطبيعة من جهة أخرى، فلا مندوحة لمن أراد تصريف الأشياء الطبيعية عن معرفة الأسماء والعبارات التي جاءت لتدل على تلك الأشياء، وهي لم تَجِئْ جزافًا، بل جاءت من إملاء العقل الذي اهتدى بطبيعة المسمى قبل أن يضعَ له اسمًا يدل عليه؛ فإذا ما فرغنا من فلسفته اللغوية، خرجنا إلى حيث الكون الخارجي، وقد جعلنا الفصل الخامس مجالًا لذكر فلسفة جابر الكونية، وألحقناه بالفصل السادس عن البروج والكواكب التي فضلًا عن كونها جزءًا من الكون واجب الدراسة لذاته، لكنها أيضًا ضرورية لدراسة طبائع الأشياء نفسها، ما دامت البروج والكواكب تحدد الزمن، والزمن أمر حيوي في تكوين أي شيء مهما كانت طبيعته. وهنا نجد الطريق قد مُهِّد تمهيدًا صالحًا لنبدأ الحديث في أخص خصائص جابر بن حيان، ألا وهو علم الكيمياء عنده، وقد تحدثنا عنه في الفصل السابع؛ وأردفناه بفصل يصور جابرًا الفيلسوف، ثم ختمنا الكتاب بفصل تاسع وأخير يبيِّن كيف لم يَسْلَم هذا العالِم من شطحات الخيال.

وأنه لواجب علينا في هذا المقام أن نُحييَ ذكرى «بول كراوس» الذي لولا ما قدَّم إلينا من مخطوطات لجابر، جمعها من مختلف المكتبات في أوروبا، ونشرها في كتاب «مختار رسائل جابر بن حيان»، وذلك بالإضافة إلى مجلدين ألَّفهما في جابر بن حيان، تحدَّث فيهما حديثًا مستفيضًا عن كتُبِه ومذهبِه، أقول إنه لولا هذه الآثار العلمية الجليلة التي تركها «كراوس»، لكانت الكتابة عن ابن حيان — بالنسبة لي على الأقل — ضربًا من المحال؛ فقد اعتمدت كلَّ الاعتماد على مجموعة المختارات التي نشرها من رسائل جابر، بالإضافة إلى ما هو موجود من رسائله في دار الكتب بالقاهرة مما لم ينشره «كراوس»، وهو قليل.

فلست أطمع في أن يُعدَّ كتابي هذا عن جابر بن حيان أكثر من محاولة متواضعة لإلقاء يسير من الضوء على حقيقته، وهي — فيما أعلم — أول محاولة من نوعها لمؤلف عربي.

زكي نجيب محمود
الجيزة في ٢٤ يناير ١٩٦١

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤