الفصل الثاني

عناق خطوط الطول

(أ) عرف منذ البداية أن الحياة حوار، وأن الشعر حوار، ولأنه بفطرتِه ومعتقده الفكري جدليٌّ أصيل، فقد عرف أيضًا أن الحوار يفترض الخلافَ والتعارضَ والتضادَّ، وأنه يقوم على الدَّوام على الصِّراع بين قُطبَيْن أو طرفَيْن متناقضين يحرص المفكر، مثل كيركجارد ونيتشه، على استمراره؛ تعبيرًا عن صيرورة الوجود وتناقض العالم والوجدان، أو يسعى بكل جهده، مثل هيجل وماركس، إلى التأليف بينهما في مركب جديد، يتحقَّق معه التجانُس والوئام بعد الحرب والصراع والخصام. ثم لا يلبث هذا المركَّب أن يواجهَ نقيضًا جديدًا يدخل معه في الحوار أو الصراع، وتدور العجلة الجدليَّة وتدور حتى تصِلَ، أو لا تصل للتأليف بينهما في مركب آخَر.

هل ينتمي عادل قرشولي إلى الفريقِ الأول، أم إلى الفريق الثاني؟

الإجابة حاضرة، ناصعة كضياء الشمس: لقد شاء لنفسه، وشاء له قدَرُه أن يكون بحياته وشعره وسيطًا جدليًّا، أو جسرًا ممدودًا بالمحبَّة والتفاهُم والمودَّة والاحترام المتبادل بين لغتَيْن وأدبَيْن، وحضارتَيْن أو عالمَيْن مختلفين، لم يكن ذلك أبدًا، ولن يكون أمرًا سهلًا؛ لأنه، كالحياة والشعر، عملية متَّصلةٌ تجري كنهر الصيرورة الجيَّاش بالحركة والتدفق، وسط النتوء والصخور، وتتعرض للأنواء والأعاصير، وتفرض عليها الضرورةُ أن تخترق الحواجزَ والقيود والسدود.

(ب) كان على الشاعر — بعد صدور ديوانِه الأول بالألمانية الذي عرفنا قِصَّتَه، وخلال ما يقرب من عَشر سنوات — أن يخوض معارك مختلفة، ويمرَّ بأزماتٍ قاسية: تعمق اللغة الأخرى والأدب الآخر إلى حدِّ التمكن من التوجُّه للمخاطب الجديد بلغته، ومشاركته في هموم حياته ومجتمعه وثقافته؛ المرور بأزمة خلق شعري من نوعٍ فريد نتيجة التصميم على الكتابة بلغة جديدة، والتوجه لمخاطب جديد؛ التخلص من أوهام كثيرة وعزيزة عن «جنة العمال والفلاحين»، وازدياد الوعي بحقيقة الواقع الذي يخنقه الملل واللامبالاة، وتهيمن عليه الأوامر والتعليمات والشعارات. يواربُ الباب أحيانًا لنسماتٍ من الحرية، ثم لا يلبث أن ينفد صبره عندما تهبُّ تيارات النقد والتمرد والغضب، فيعيد فتحَ أبواب العقوبات والمحظورات والمعتقلات على مصاريعها. ثم المعاناة من طغيان تأثيرِ الآخر الذي عايَشَ شعره وفكره عدة سنوات، حتى لمس جذوره واستظل بفروعه؛ لا سيما بريشت ومجموعة الشعراء المقرَّبين منه، الذين سبَحُوا مع الموجة الجديدة، وجذبوه للسباحة معهم إلى الحدِّ الذي أحسَّ معه بخطر تهديد ذاتيَّته الفنية وهويته الشخصية والقومية. مع ذلك لم تتوقَّف الجهود المبذولة لعبور الأزمات ومدِّ الجسور، وتحسس الطريق للعثور على «الوطن» الشعري الحقيقي داخل الذات، في أعمَق طبقاتها الواعية واللاواعية.

(ﺟ) و«عناق خطوط الطول» (١٩٧٨م) هي المجموعة الشعرية، التي تُسجل مشاهدها وصورها ذبذبات تلك الزلازل التي هزَّت كيانه، ومزَّقته بين عالمين ووطنَيْن ولغتَيْن وثقافتَيْن، وذلك قبل أن يطمئن لنجاحه في مدِّ الجسور وغرس الجذور، ولمس الحقيقة الباطنة في عالمه الباطن:

هناك وهناك،
هنا وهناك.
أين أكون أنا في بيتي؟

•••

في لغتَيْن تُصاغ الجملة.
في عالمين تُمسك اليدان بالأشياء.
في الحلم تكلِّمني أمي بالألمانية،
وتُكلمني بالعربية زوجتي السكسونية.

•••

من خط طول إلى خط طول
تقفز أحلامي خفيفة الأقدام،
تمتدُّ فروع شجرتي،
وكل زهرة تحمل
وشمَ قوافل الشمس القديمة العهد،
التي تنبض خلال عروق شجرتي.

•••

آه
يا خطوط الطول!
أنت يا غصون شجرة السنديان،
وشجرة الزيتون،
تعانقي بقوة،
بقوة أشد
داخل ذاتي.

والجزء الأول من أجزاء القصيدة الأربعة يؤكِّد تمزق الأنا الشاعرة بين اﻟ «هنا» واﻟ «هناك»، وتوترها بين القطبَيْن المتنابذين اللذين تمثلهما هاتان الكلمتان، وتعبِّران بهما عن اتجاهين مختلفين تنتفِي عن كلٍّ منهما الراحة والاستقرار والأمان، ولا بدَّ من البحث عنهما في شيءٍ يوحِّد بينهما، أو يصل بين شاطئَيْهما.

ويأتي السؤال المحدد عن الوطن: أين أكون في بيتي؟ في هذا الشاطئ أم ذاك؟ على هذا القطب أم القطب الآخر؟ يتبيَّن من الأبيات التالية استحالة التمسك بأحدهما دون الآخر، سواء بالنسبة للإنسان «في عالمين تمسك اليدان بالأشياء»، أو بالنسبة للشاعر والشعر ﻓ «الجملة تُصاغ في لغتين». وتتكاثف الأمور، ويتعقد الموقف، وتتشابك خيوطُه بعد ذلك، فالسؤال عن الوطن الذي يبدو بسيطًا وواضحًا لا تظهرُ له إجابة واضحة وبسيطة مثله. إن العالمَيْن يختلطان أو يمتزجان، ولكن هذا يحدث في الحلم، وفي الحلم وحده يبدو عثورُ الشاعر على الوطن أمرًا ممكنًا؛ ففروع شجرتِه تنتشر، وتمتد فوق خطوط الطول. والشجرة نفسُها رمز للجذور الثابتة في الأرض، وللنفس الكبيرة التي لا تستريح؛ حتى توحِّد في ذاتها بين العالمَيْن.

غير أن ينابيع الطفولة لا تجفُّ أبدًا، بل تسري نابضةً في عروق الشجرة التي تحمل أزهارها وأثمارها وشم قوافل الشمس القديمة قِدَم طفولة الشاعر وصباه وأجيال سبَقَتْه، وأخرى ستجيء بعده.

ونسمع التنهيدةَ فنشعر بأن صحوة الواقع قد جاءت في أعقاب نَشوةِ الحلم باللقاء، أو العناق الذي لم يتحقق بعد. وتتخذ خطوطُ الطول مضمونًا محدَّدًا ومعنًى مجسَّدًا؛ فالسنديانة الألمانية والغربية، وشجرة الزيتون السورية والعربية يمثِّلان الحضارتَيْن المختلفتين اللتين يتحرك بين شاطئيهما شراعُ «الأنا» الشاعرة التي تحاول — ولو في الحلم — أن تقرِّب بينهما إلى حدِّ التوحد في عمق الذات، الذات التي ضربت الشجرتان جذورهما في صميمِها، وبقيت متشبِّثةً بجوهرها وسرِّها.

وإذا كانت قصائدُ الشاعر تزخر بالتعارضات والصراعات بين طرفَيْن أو قطبين يحاول أن يجمع بينهما: بين شجرة زيتون وشجرة سنديان، بين الصراخ والصمت، والحب والموت، بين النقد إلى حدِّ الغضَب والتمرُّد والرضا، إلى حدِّ الاعتكاف والعُكوف على الذات، فإن «عين الشاعر الثالثة»، أو حَدْسه الكاشف الذي لا يخطئ، يدلُّه دائمًا على أن العالم لا يُرَى على الحقيقة إلا في كليَّته، وأنه إذا كان يتمزق بين تناقضاته وأطرافه المتصارعة، فإنه لن يجد العالم — كما يقول بيت مشهور للشاعر رلكه — إلا في الباطن وحده. ولا غرابةَ بعد هذا في أن تنتهي القصيدة بأمر ملحٍّ ومعبِّر عن القلق، ونفاد الصبر: «تعانقي بقوة، بقوة أشد، داخل ذاتي …»

(د) لم يكن الطريق إلى كتابة الشعر بلغةٍ أخرى غير لغةِ الأم بالطريق السهل؛ فقد شَعَر في مطلع الستينيات — كما سبق القول — بأنه قد فقَدَ ظلَّه الذي لازَمَه منذ مَولِده في نفس اللحظة التي ترك فيها وطنَه. ولم يقتصرِ الأمرُ على فقدان المخاطب العربي الذي كان يتوجَّه إليه بشعره المبكر ويتأثر به، كما يؤثِّر عليه خلال عملية إبداعه، وإنما بلغ حدَّ الإحساس المهول بفقدان الهوية، وجد نفسه في حالة عَجْزٍ مطلق عن التعبير للآخرين عما يجيش في كيانه، كما وجد الآخرين يعاملونه كأنه طفل متخلِّف، أو معوَّق. وبعد أن تحرَّر من الظروف المهينة التي أحاطت بالفترة الأولى من وجوده في المهجر، واستقرت قدماه في مدينة ليبزيج؛ وجد نفسه في مواجهة اللغة التي يتكلم بها الناس، وتنطق بها الأحداثُ الجارية من حوله، أمام أحد اختيارَيْن لا بديلَ له عن أحدهما: فإما أن يغرس جذرًا في اللغة والثقافة الجديدة عليه، وإما أن يدفن نفسَه بنفسِه في قبر الصَّمت. وكان عليه بطبيعة الحال أن يختار الأولى؛ حتى يؤكد لنفسِه أنه حي وفعال ومشارك، وحتى يتمكن من وَضْع قدمه في صميم الساحة الثقافية الجديدة التي وجد نفسه فجأةً على هامشها.١

وبقي الطريق إلى كتابة قصائده الأولى بالألمانية طريقًا شاقًّا مضنيًا؛ فقد سبقته جهود طويلة في دراسة اللغة والأدب الألماني، وتاريخه (إلى حدِّ تكليفه بعد ذلك بالقيام بتدريسِه في نفس الجامعة)، وفي الاطِّلاع على نماذجه الكبرى في شتى عصوره، والتعمق في تذوق بعض قِمَمه الحديثة والمعاصرة، وبالأخص شعر بريشت والأجيال التالية المتأثِّرة به سلبًا أو إيجابًا، بالإضافة إلى الإنتاج الشعري لطائفةٍ من أصدقائه وزُملائه في معهد الأدب الذين سبَق الحديث عن موجتِهم الجديدة.

(ﻫ) ومرَّت القصيدة الألمانية، التي بدأ في كتابتها منذ منتصف الستينيات، بعدَّةِ تحولات. كانت في الأصل — كما يُؤْثِر أن يسميها — قصائدَ ظرفية عبَّرت عن لحظة آنيةٍ عاشَها، ثم رفعها التشكيل الشعري من حدَثٍ جزئيٍّ وهامشي إلى حدث كلِّيٍّ وعام. ولست أدري على وجه التحديد؛ هل كُتِبت القصائد الأولى في الأصل بالعربيَّة قبل أن يترجمها بنفسه، ويضيف إليها أصدقاؤه الألمان لمَسَاتِهم الإبداعية، أم أنها تُرجمت مباشرة عن قصائد عربية سابقة، وبقِيَتْ من حيث الموضوع والشكل متأثرةً بالتُّراث الشعري العربي، واحتفظت بلغة غنية بالصور المذهلة، ونهلت مضامينها من ينابيع الحب والحنين للوطن، والنضال في سبيل الحرية والكرامة والسلام والأخوة البشرية، وسائر المُثُل، والأحلام التقدمية التي جعلتْ من الخطاب الشعري دعوةً ونداء ورسالة تبشيرية وتحريضية؟ لست أدري هل كان الأمر على هذه الصورة أو تلك؟ فالذي أدريه — من كلام الشاعر نفسه في حواراتٍ ومناسبات عديدة — أن هذه القصائد الأولى قد لفتَتْ إليها أنظار القراء، وبَهَرت المستمعين الذين تحمسوا لها حماسًا جارفًا في الندوات التي كانت تُلقَى فيها؛ بسبب السحر الشرقي الذي يسري فيها، والمناخ العربي الذي كان يُظلِّلها، والصور والأخْيِلَة والاستعارات والتشكيلات الجمالية التي عَمِل الموروث الشعري العربي، مع ذكرياتِ الطفولة والصبا في أزقَّة دمشق وأمسياتها الحلوة، عملَهما في غزل نسيجها؛ أي إنها قد جذَبَتْ إليها العيون والآذان بسبب «غرائبيتها»، أو ما فيها من عناصر عجيبة وغير مألوفة. وقد كان هذا على وجهِ الدقة هو الذي دفعَ الشاعر على الثورة والغضب؛ فقد رفض أن يكون تحفة شرقية، أو زهرة مجلوبة من بلدٍ بعيد، وهكذا تحولت القصيدة الألمانية من وسيلةٍ ضرورية واضطرارية للتواصل مع الآخر، إلى بنية جمالية متفردة تنتزع الإعجاب بقيمتها الفنية في ذاتها، لا بسبب ما تحتويه بالضرورة من توابل شرقية وعربية، إلى أن أصبحت في النهاية — وبالأخص في ذروةِ تجلياتها الشعرية على لسان عبد الله في الديوان الذي سنجدُه في هذا الكتاب — أصبحت مناجاةً ذاتية أو صوتًا ثانيًا يعبِّر عن حوارِ الذات مع ذاتها. مرَّ الشاعر بأزمة إبداع استمرت معه قرابة العشر سنوات، قبل أن يصدرَ ديوانه الذي يضمُّ القصائد التي كتبها بالألمانية مباشرةً، ودون الحاجة إلى وسيط من الأصدقاء لإعادة إبداعِها وصياغتها صياغة شعرية. ولا شكَّ أن قُرَّاءَه «الآخرين» قد أحسُّوا، وهم يطالعون أبيات «عناق خطوط الطول» (١٩٧٨م)، أو يستمعون إليها من فمِ صاحبها، أنهم أمام شعرٍ حقيقي لا شعر «غرائبي»، يستثير إحساسهم الموروث بالشرق، أو يُرضي أحكامهم وتحيزاتهم المسبَقَة عن العرب وحضارة العرب. ولعلَّ أول صدًى لهذا الاستقبال الجديد هو الذي دعا أحد النقاد لأن يمنحَه «المواطنة الشعرية لجمهورية ألمانيا الديمقراطية».٢

ويضم الديوان — الذي اقتبسنا منه قصيدةَ العنوان، التي وقفنا معها في بداية هذا الفصل وقفةً قصيرة — قصائد متنوعة الموضوعات ما بين السياسة والنقد الاجتماعي، وحياة اللاجئين أو المهاجرين، فضلًا عن موضوع الحب الذي كان، ولا يزال هو سندَ وجوده.

(و) كان هدفه من هذا الديوان هو أن يوحد في شخصِه بين خطوط الطول؛ غير أن العقبات التي تحول دون هذا التوحيد كادتْ أن تصل إلى حدِّ الارتطام بجدران المستحيل. وأول هذه العقباتِ هي مشكلة الحياة والكتابة بلغتَيْن، وبخاصةٍ بعد أن اتخذ قراره الحاسم بأن ينطق لسانُه الشعري مباشرةً بالألمانية، وأن يخاطب المتلقي الجديد بلغته، ويعبر عن همومه التي يعيشها معه، ويشاركه فيها بالعاطفة والفعل، ولا يقف موقفَ المتفرج الذي يتخفَّى وراء قناع الأجنبي، أو المنفي أو اللاجئ والمستَبْعَد. وجد نفسه كمن يبدأ من جديد، وأحسَّ أنه يحيا وينطق ويكتب بلسانَيْن، وأن ذلك يضاعف وجودَه في شخصين، أو يشقه نصفين، ولكنه ظلَّ إلى اليوم، كما يقول صديقه الناقد والشاعر هاينز تشيخوفسكي، في تعقيبه على ديوانه «لو لم تكن دمشق» (١٩٩٢م): ظل يحمل العبء الثقيل بجدارة وكبرياء، وبقدر غيرِ قليلٍ من الحكمة والالتزام والبهجة والمتعة أيضًا.

كان على يقينٍ من أنه منفيٌّ في اللغة الجديدة، وأن اللغة التي يكتب بها ستبقى مختلفة عن لغة أهلها الذين نشئُوا عليها وفيها؛ إذ يتحتم عليه أن يجدد خَلْقها في كل قولٍ أو فعلٍ تَوَاصُليٍّ، وأن يجعلها متطابقة مع حالة المنفيِّ أو اللاجئ التي لا ينكرها، وإن حاول جهدَه أن يتجاوزها، بحيث تصبح في حقيقتها ووظيفتها لغةً للتواصل والأمل، تصبح بيتَه وملاذَه، ومحطَّ رجائه وثقته في المستقبل. صحيح أنها لم تكن لتصبح بالنسبة إليه «لغة الأم»، إذ يستحيل على الإنسان أن يستبدل بأمه أمًّا أخرى، ولكنها استطاعت أن تحتلَّ مكان «الحبيبة» التي تستند إليه كما يستند إليها، وتلجأ إليه كما يلجأ إليها كلما أعوزه التعبير عن هواجسه وشكوكه، وأحزانه وأفراحه، وذكرياته وأشواقه، وكلَّما أراد أن يشعر بأنه مشارِكٌ في الأحداث والتغيرات التي تتمُّ في وطن الغربة الذي اختاره بإرادته الحرة وطنًا ثانيًا، وآمن بقيمِه العليا وتوجهاته الأخيرة، وإن تزايدت شكوكه مع الزمن في صحة تطبيقها وممارستها على أرض الواقع.

(ﻫ) هكذا تغيرت اللغة التي جعلها وطنه وسكنه، وبدأ ينظم بها شعره. وتغير المخاطب الذي قصده بهذا الشعر المعبِّر عن تعاطفه معه، ومشاركته له بالرأي والفعل، والقادر، تبعًا لإيمانه الراسخ مع معظم أبناء جيله ﺑ «الكلمة – الفعل»، على تغيير العالم. وكان من الطبيعي أن تتغير أغراض هذا الشعر وموضوعاته عما كانت عليه من قبل، تستوي في ذلك قصائده السابقة بالألمانية، أو بالعربية التي غلبت عليها النغمة العاطفية والحنين للماضي، ولم تكترث باتخاذ موقف نقدي من مشكلات الحاضر وأزماته، حتى إذا شغله الشعر الحديث بعُمق، وبالأخص شعر بريشت، حاول أن يصل إلى الوحدة الجدلية التي تؤلف في قصائده بين العقل والعاطفة، بحيث لا يطغى أحدهما عليه؛ ذلك لأن لغة الشاعر، على حدِّ تعبيره في مقال نشره في عام ١٩٦٥م، بجريدة الشعب التي تصدر في مدينة ليبزيج: «ينبغي أن تكون حوارًا بين عقله وقلب القارئ، أو بين قلبه وعقل القارئ، فاللغة التي تتجه من العقل إلى العقل هي لغة العلم، أما اللغة التي تتَّجه من القلب إلى القلب فهي لغة المحبين.»

كانت عقلانية بريشت الجدَلية قد سيطرتْ عليه فترة من الزمن، حتى أيقن بأنه لن يصل إليه إلا إذا تخلص من تأثيره عليه، وكسا عقلانيته بثوب الصورة والاستعارة النابعة من فطرته، ومن موروثه العربي المغروس في دمه. وهكذا «أخذت الاستعارة، لا الفكرة الواضحة كالبلور، هي التي تقود قلمي، وبدا لي وكأنني لست أنا الذي يشكل شعري، بل إن الشعر هو الذي يشكِّلني ويؤثر على الرؤية وزاوية النظر، بل وأحيانًا على أسلوب الأداء.»٣
(ﺣ) وكما تخلص من العناصر «الغرائبية» التي جذبت المتلقين إليه في البداية، استطاع كذلك أن يتخلص من تأثير بريشت، وتأثير أستاذه «ماورر» وسائر الشعراء — وبالأخص أصحاب الموجة السكسونية الجديدة — الذين تأثر بهم إلى درجة المحاكاة في بعض الأحيان أو المعارضة في أحيان أخرى.٤ كان عليه أن يجد نفسه أولًا قبل أن يجد طريقه للخلاص من أزمتِه الطويلة، وقد وجدها عندما وجد كذلك مكانه بين التيارات الأدبية المتلاطمة من حوله، وعرَف أن دوره الحقيقي هو الجمع بين تراثه الأدبي الموروث، وبين التراث الألماني والعالمي في وحدةٍ واحدة، أي عندما تأكد لديه الوعي بمهمَّته وواجبه في الحياة والشعر؛ مد الجسور بين أدبين وتراثين وعالمين، وترك جذور السنديان والزيتون تتعانق بقوة في داخله، كما تتعانق خطوط الطول.
١  راجع مقالَه الهامَّ: إشكالية الكتابة بلغتَين، مجلة فكر وفن، العدد ٦٦، ١٩٩٧م، وكذلك التمهيد لهذا الكتاب.
٢  هو إكهارد ميدر، في مراجعته للديوان بمجلة الأدب الألماني الجديد، عدد شهر أغسطس سنة ١٩٨٩م. ولا يغيب عن فطنة القارئِ أن التعبير الذي استخدمه الناقد لا يخلو من نغمةِ التفضل، أو التعالي التي تطغَى على نغمة الكرم، أو النبل.
٣  عن مقال للشاعر بعنوان: «طريقي الطويل إلى بريشت»، نشر في مقابلات مع بريشت، نصوص أدبية، الكراسة الخامسة، مؤسسة روزا لوكسمبورج، ١٩٩٨م، ص١٠٦، ذكرته فريدريكه هيندلر في رسالتها عن حياة عادل قرشولي وأعماله، ص٣٩.
٤  لم يكن بريشت وحدَه هو النموذج الذي تأثر به الشاعر في مرحلة الأزمة، بل كانت هناك نماذج أخرى أحبَّها أو قلَّدها، ثم تخطاها جميعًا، ليجد نفسه وصوته: لوركا، ونيرودا، وطاغور، وناظم حكمت، بالإضافة إلى أصدقائه الذين سبَقَ ذكرهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤