الفصل السابع

هكذا تكلم عبد الله

النص الكامل للديوان
وقال لي:
كل كاتب يقرأ كتابته، وكل قارئ يحب قراءته.
النفري، متصوف من القرن الخامس الهجري

وقال لي:
انظر للآخر وتمعن فيه ببطء.

الجذر

هكذا تكلم عبد الله وقال لي:
لم تَعُد أنت أنت؛
لأنك لو كنت أنت نفسك؛
لما رضيت بما ترضى به.
وقال:
من يفقد الجذر يفقد الثمرة،
ومن يفقد الثمرة يفقد الجذر.
اعلمْ مع ذلك أن الجذر بغير الثمر عقيم،
والعقم كالحجر جاف.
وقال:
اغرس جذرًا تؤسس وطنًا؛
لأن مَن لا وطن له في وطنٍ ما
لا جذر له.
ومن لا جذر له، لا يحمل ثمرة.
أما من لا يحمل ثمرة؛
فهو وحيد مهجور،
مثل الفرع اليابس.
لم تنبس شفتاي إلا بدمعة
فرتْ من العين.

•••

وقال لي:
مكان يحويك،
زمن يحملك،
قوس قزح مغزول في داخلك بقوس قزح.
هناك فحسب تكون حياة،
ويكون زمانك لا زمنيًّا،
ومكانك غير مكاني.

•••

وقال:
القوارب نسيت الريح،
ونكست رءوس الأشرعة.
الشاطئ ما يزال ينتظر،
وينتظر.

الرقص على الحبل

وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي:
الغربة عن يمينك،
وعن شمالك الغربة؛
لأنك ترقص على حبل.
وقال:
السؤال يقف في طريق السؤال،
وكذلك الجواب في طريق الجواب؛
لأنك ترقصُ على حبل.
وقال:
لا الشرق فيك شرق،
ولا الغرب غرب؛
لأنك ترقص على حبل.
وقال:
أغمضْ عينَيْك،
وأسرع في جَرْيِك، ما وسِعَتْك القدرة؛
لأنك ترقص على حبل.

•••

وقال لي:
أقرب من قرب اليد للبدن،
ومن قرب الحدقة للعين.
أقرب من قرب الذكرى للذاكرة،
ومن قرب الطفل لصدر الأم،
يبقى البلد النائي
بالنسبة لك.

•••

لكني قلت:
الغربة ما هي عني بغريبة.
في الجذر تعشش «هذي» الغربة،
ودوامًا
يتوجه شوق للمطلق.
يدعوني
في ليلات الوحدة،
خلف تُخوم جبال سبعة.

اخرُج من هُنا

هكذا تكلم عبد الله، وقال لي:
قدموا لك كرسيًّا لتجلس عليه،
لكنك لم تجلس.
أعدوا لك المائدة لتأكل،
لكنك لم تمد يدك.
كأسًا ناولوك،
لكنَّ شفتيك لم تلمساه.
قال:
أسأت إلى واجب الضيافة،
وإلى حق المضيف.
غير أني قلت:
أوَلا تسمع
كيف يصرخون فيَّ صائحين:
الطعام على المائدة ينبغي عليك أن تتذوقه؟
إذًا فكُلْ!
الخمر في الكأس يجب أن يلذَّ طعمها في فمك.
إذًا فاشرب!
انهض وانصرف للعمل،
هنالك في الخارج.

•••

وقال لي:
دع الحبَّة التي يلقونها عند قدميك،
بيَدٍ لا تعرف الحب.
وحلِّق جائعًا
مع الطيور الصغيرة.
وقال:
نحو الوطن الذي اضطهده
يتوجه الغريب على الدوام،
وهو يستشعر الغربة.

سندباد

وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي:
انثر البلسم على الجرح القديم المرِّ،
وارجع إلى بلدك،
قضيت يومًا كاملًا في رحلاتك،
وربما قضيت ألف عام.
فتحتَ كل صَدَفَة
في بحار الغربة الغريبة،
عامًا بعد عام بعد عام.
ارجع إلى بلدك
فتِّشْ عن الشمس الأليفة
المختبئة في العيون العطشى.
انشر لآلئَك؛
إذ ما جدوى الكلمة
المختنقة فوق شفاهٍ مضمومة.
ما قيمة لؤلؤة بالنسبة للجيد الأبيض،
إن بقيت كامنة في الصدفة؟!

•••

وقال لي:
لا توجد ينابيع
كأنهار العسل،
ولا سنابل تتدلَّى
كعناقيد العنب
في جنة الغربة.

الجنون

وهكذا تكلم عبد الله قائلًا لي:
لو تركت عينيك للجنون؛
لما رأَيَا إلا ما تودَّان رؤيته.
لو تركت يديك للجنون؛
لقبَضَتَا على الجمر،
وصفَعَتَا الطاغية.
لو تركت شفتَيْك للجنون؛
لحطمتا القفل الذي يغلقهما.
لو تركت قدميك للجنون؛
لنبَذَتا الحبل
الذي ترقص عليه.
لو تركت ذاكرتك للجنون؛
لأجاب السؤال على السؤال،
واقترنت النظرة بالرؤيا.

حكاية الشوق

وهكذا تكلم عبد الله قائلًا لي:
انتسب لابتسامة أحفادك الطازجة.
اضرب بقدميك في أغوار صخور
جديدة على الدوام.
دمعة منسابة،
تلك الشامة الأبية على وجنتيك.
وقال لي:
وحدها ذاكرة السماوات الواسعة،
ما زالت تنسج الزرقة الصافية الرائعة.
وفي الذاكرة وحدها ما زالت تتهامس
النوافذ العجوز،
في الحارات الضيقة المتعرجة
وتروي حكاياتها لبعضها البعض.

•••

وقال لي:
لا تدع الغربة تصطادك
في شبكتها.
انظر للآخر وتمعَّن فيه ببطء.
عندئذٍ لن تقوى لحظات الغربة
أن تنفذ في داخلك،
وتتخبطَ حائرةً فيه.

رياح مسرعة

وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي:
أعطِ الغريب كرسيًّا،
مدَّ للغريب مائدة،
زوِّد الغريب بطعامٍ وشراب.
وقال:
أَعِرْ أذنك للغريب عندما يتكلم،
خذ في يديك يديه؛
فهما ترتجفان من البرد.
وقال:
ربما اضطررت مثله أيضًا ذات يوم
أن تضع قدمَيْكَ
في حذاء الريح المسرعة.

•••

وقال:
بشوقها لمقدم الربيع،
تلتف الشجرةُ العارية،
بالريح الثَّلْجيَّة،
وتقاوم الموت.

المتردد

وهكذا تكلم عبد الله وقال لي:
الريح تلوي أنفك،
أكثر من شتاء يزحف عليك.
لقد طال بك التردُّد.
وقال:
ها أنت ذا الوحيد بلا شبكة ولا صيف،
بين فكَّي البحر ومخالب الصحراء.
العمق ما هو بعميق.
من يتجاسر يكسب الكنوز.
ومع بدء الرحلة تنفتح الصدفة،
وتكشف لك عن اللؤلؤة.
والضاحك هو الذي سبق له البكاء.
وقال:
هذه سفينة جديدة لمن لا يخافون؛
ربما تكون آخر سفينة لك.
اركب قبل أن تخنقكَ الغربة،
ويجوِّفك الشك.
اركب،
اغزل شبكتك،
اطرحها،
أَبْدِ شجاعة الملاحين،
تجلد الريح وجوههم،
لكنهم ينشرون أشرعتهم
عامًا بعد عام.

الشوق

وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي:
معلَّق أنت على هذا الصليب،
لكن الصليب نفسه صار محببًا إليك.
دمك جرى في شقوقه،
توحدتَ به كما توحد بك.
لن يمكنه أن يفلت منك،
ولن يسعك أن تفلت منه.
وقال لي:
المجدلية تضمخ قدميك بالعنبر،
المجدلية تنعشك بقطرة ماءٍ منعش.
وقال لي:
اخنق الوهج في صدرك،
أسْكت الشوق في ضلوعك.
أما أنا فقلت: آه!

المسافر

هكذا تكلم عبد الله، وقال لي:
طويل هو السفر، وأنت وحيد في القطار.
لا شيء إلا الجبال في البعيد.
لا شيء إلا اليباب والأزقة الضيقة.
قال لي:
لا أحد يتبعك،
لا أحد يضطهدك،
لا أحد يوقف سيرك.
الناس يختفون، وهم يتراجعون للوراء،
وجوههم لا تلمس الذاكرة،
نظراتهم عابرة،
أصواتهم غير مسموعة،
أما أنا، فقلت:
ليتني أستطيع أن أصل مرةً أخرى إلى مكان،
أن أستريح مرةً أخرى،
أن أعيش حيث تعلم الذاكرة علم اليقين!

•••

وقال لي:
أنت ترى الأفق يترامى أمامك،
ولا تقوى على الوقوف على قدميك،
يدك وحدها هي التي تمتد
من حينٍ إلى حين،
بغير إرادتها.

س

وقال لي:
أنت هو ذلك الذي تبحث عنك فيه،
وهو ذلك الذي يبحث عنه فيك.

الآخر

وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي:
لا يكون أحد خارجك،
إلا وهو كائن فيك.
وقال لي:
الآخر هو أنت وأنت هو.
الجسر الواصل بينكما هو وحده الحياة.
ماذا تساوي الحياة
لو تحطم الجسر؟
وقال لي:
أنت تبتعد بنفسك عن نفسك،
عندما يبتعد الآخر عنك.
وقال لي:
لا تطلق الرصاصة
على صدر أخيك؛
وإلا سقطتَ في قبرِه.

•••

أما أنا فقلت:
الآخر يقتلني
يومًا بعد يوم.
لم لا يسقط
هو في قبري؟

•••

وقال لي:
أنت الذي تبحث فيه عنك،
وهو الذي يبحث عنه فيك.
أنت تبقى أنت،
وهو يبقى هو،
بجناحين مضمومين كقبضتين،
يقرع النوافذ المغلقة
غراب البَيْن.

•••

وقال لي:
صِرْ كما كنت،
حين لم تكن،
إلا في الآخر
ذاتًا.

•••

وقال لي:
كالراقصِ على الحبل،
يقف المهاجر
على حدِّ السكين،
ظمآن
بين مطرٍ
ومطر.

•••

وقال:
حتى فوق العشب الناضر
يتيبَّس
الفرع المبتور.

•••

وقال لي:
إن من تحتقره في صمت
يصرخ في وجهك
باحتقار.

•••

وقال لي:
لم يبقَ شيء يمكنه أن يوقف الرحيل
نحو شمس تضيء كل شيء.
الوهج المعتم للجوع
يخفر بميْسَم النار، فوق جبهة الجائع العالية،
وشمَ نفاد الصبر.

الضوء الساطع

وهكذا تكلم عبد الله قائلًا لي:
في السنبلة أسكنتك الشمس ذات يوم،
فطلعت كحبة حنطة،
كجسرٍ ممدودٍ بالمودة.
وقال:
لكن في يومٍ من الأيام،
ناداك الضوء الساطع،
بصوتٍ مرتفع،
فخلعت قميص الحنطة،
ولبست قميص الختم.
وتحت زحفِ حذائك العسكري،
تهدَّم الجسْر
صار ترابًا.

•••

وقال لي:
أشرق في سنبلة،
وستشرق فيك
الشمس.

•••

أما أنا فقلت:
كيف لي أن أشرق في سنبلة
دفنتها بنفسي
في صدري؟

•••

وقال لي:
لا،
ليستِ الشمس.
إنَّ الصورة الأولى لكل عالم
واكتمال،
كل جمال مرئي
هو أنت.

الإنسان الفراشة١

وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي:
لا تدق بقبضتك على جدرانٍ مقدسة.
لا تصرخ!
أنت الدودة داخل شرنقة.
وقال لي:
فراشةً تريد أن تكون،
والفراشات تحب النور.
وفي النور يتربص الموت؛
لكنك هنا في أمان،
ما دمت مستقرًّا في شرنَقَتِك.

•••

لكني قلت:
في الشَّرنَقَة ظلام،
ومظلم هو الموت.
دعني أرفرف في الحياة،
ولو مرة واحدة،
نحو النور الساطع،
والزهر النديِّ.

•••

وقال لي:
أو لم تبقَ فينا نَخْلة؟
أو لم تبقَ عاصفة تهزُّنا
بالشفقة أو بالحب،
بحيث تسقط بلحةٌ
حلوة الطعم؟

كَرْم الأرض٢

وهكذا تكلم عبد الله قائلًا لي:
كالثور في الحلبة،
هذه البشرية
التي تتقدم دائمًا
نحو الموت.
وقال:
المدن المقدسة تتدنَّس بالعمى،
بخناجر بشعة.
يلاحق البشر على الدوام
حبالُ أوردتهم،
وسوف يصرخ الجرح في ذهول
ذاتَ يومٍ أعمَى.
وقال لي:
ثم تزحف البرودة الثلجية على العالم،
ولن تبقى شجرة،
لا رفَّة جناح ولا صيحة فرح أو ألم.
وقال:
لكن الكَرْم قد تمَّ حرثه،
أزيلت منه الحجارة وبُني فيه برج،
وحُفرت معصرة.
لمَ إذن هذه الأعناب الفاسدة؟
ومن ذا الذي لا يزال يجدل تاج الشوك؟
أما أنا فقلت:
أنا عطشان،
آه يا شجرة الزيتون!
خذيني تحت ظلك الرطب.

ر

وقال لي:
لكنك لا تعرف الشيء؛
لأنه لديك مجرد اسم.

المخالب

وهكذا تكلَّم عبد الله قائلًا لي:
أنت عطشان وينابيعك جافة؛
لأن عالمك مرٌّ كالعلقم،
وصوتك واهن كالتنهيدة.
وقال:
لا ينبثق النبع من الصخر.
رملًا يُبقي الأفق المترامي وقيظًا.
وفي القيظ يكمن العطش،
وفي العطش يكمن السراب،
وفي السراب يكمن الموت.
وقال:
لتنزع من عالمك السراب.
تحتاج مخالب؛
لتشق الصخر،
تحتاج مخالب.
ولتروي في الرمل البذر بماء النبع،
تحتاج مخالب.
لكنك لا تملك من المخالب إلا صوتك،
وصوتك واهنٌ كالتنهيدة،
وكالعلقم مرٌّ عالمك.

•••

وقال:
كأمواج البحر،
ومَن لا نهاية إلى لا نهاية،
(تتردد) صيحات العشاق بالنشوة،
حين تتمايل الجدران الشاحبة،
في غبش الضوء
على الإيقاعِ وترتجُّ.

السؤال

هكذا تكلم عبد الله قائلًا لي:
العالم يضيق على مقاس نظرتك،
لكنه لا يضيق إلا في عينَيْك.
وقال:
إذا انغلقت على نفسك دون العالم؛
فلن تجد أيَّ مفتاح
لأي قفل.
غير أن من يفقد السؤال
يفقد الجواب.
ومن يفقد الجواب
يفقد نفسه،
وتنسى عيناه السَّير،
وتلتحم شَفَتاه
بالعدم.

•••

لكنني قلت:
أريد أن أجدَ الراحة
في جلدي النحيل،
وأجد مخدَّة بالليل في سريري.
بَيْد أن كل إجابة تحاول
أن تداعب شَعْري بِيَد ناعمة
تبادرني على الفور بسؤال.

•••

وقال لي:
لا تُسلم كلمتك للكذَب،
ولا تعتبر كل ما تفكر فيه،
وكل ما تقوله
عبثًا وهراء.

•••

وقال لي:
اليد التي تضربك على الخدِّ الأيمن
لا تُعطِها الخدَّ الأيسر.
كما نسيتَ المطر الذي سقط
في الخريف الماضي،
انسَ التي تستحق النسيان.

•••

وقال لي:
العشب تنامَى
فوق قبور مهجورة،
على مدى حاضر بأكمله.
الأفعى تخلع جلدها
وتوهمك بالهُروب،
محتمية بتضخُّم الذِّكرى.

العناق٣

وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي:
تحت قباء القهر،
يمكن في بعض الأحيان لتنهيدة
أن تمحو القهر دون عنف.
لكن من حملوا للشارع التنهيدة،
سرعان ما يرقُدون كالحصى،
فوق الشَّوارعِ المسفلتة حديثًا.
وقال لي:
من محطَّات الأحلام المفروضة بقرار،
ينطلق القطار نصف فارغ
إلى المستقبل الوردي.
الأذرع الممدودة للعناق تسدُّ كل أفق.
قضمة واحدة في التفاحة الحلوة
تطرد الفردوس.
حتى الخطوة نفسها تتقهقر في الخطوة.

•••

وقال:
حتى الطغاة
بعد أن يطهرهم التاريخ،
ويغسلهم غسلًا
يصنعون تراثًا
من حينٍ إلى حين.

•••

وقال لي:
خطواتك تسبقك بسرعتها،
نفاد الصبر يطاردك
من لحظة إلى لحظة.
الفخ ينتظر
بصبرٍ شديد.

•••

وقال لي:
الأحجار (البشرية) الصلعاء،
العاشقة لروعتها
تتعامل مع أحلامك الخضراء،
كما تتعامل كل الأحجار العارية
مع الأحلام الخضراء.

الإنسان الجديد

وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي:
في وجدانك تنمو لك أسنان.
الحيوان الوحشي يمسكك من كتفيك،
ويهزُّك؛
ليوقظك من نومٍ عميق.
لكنك بعيد عن الأسرار
التي يثقلونك بها،
مستغرق في إيقاع رقصك،
الذي يهبط بك إلى الجحيم.
أنت لا تشدو بالأغاني
التي يضعونها في فمك.
أنت نفسُك الحيوان الوحشي
الذي يمسكك من كتفيك،
ويهزك ويهزك ويهزك.

الإشاعة

وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي:
غير مرئية كالهواء،
تنساب الإشاعة في كل المسام.
وكالظلمة العصيَّة على الفهم،
تلف قبل طلوع الفجر
كل الأضواء بحجابٍ مخيف.
النظرات العابرة
تخترق الجرح كرصاصات الكلمات.
وقال لي:
ابتر ذراعك بنفسك؛
فالوشم الأسْوَدُ للإشاعة
لا تمحوه دمعة.

•••

وقال لي:
الحجر قاس.
الفولاذ صلب.
القطرة الهاربة من الصنبور
حكيمة.٤

الأشياء وأسماؤها

وهكذا تكلم عبد الله فقال لي:
لكل شيء اسم، ولكل اسم شيء،
لكنك لا تعرف الشيء؛
لأنه لديك مجرد اسم.
وقال:
ليس الشيء هو اسمه،
وليس الاسم هو الشيء؛
فأنت إذ تسمي الشيء باسمٍ
يتغير الشيء،
ويثبت الاسم.
وقال لي:
سمِّ الاسم بالشيء،
لا الشيء بالاسم؛
إذ لو قلت ما قاله الآخرون من قبلك،
لما قلت غير القشرة.٥
وإن قلت القشرة
قلت الخدعة،
وإن قلت الخدعة
قتلت الشيء باسمها.

•••

لكنني قلت:
الماضي يحمل الأبديَّة
إلى لحظتي.
وبغير الأبدية
تكون اللحظة
شاطئًا بلا بحر.

•••

وقال لي،
وهو يغادر المحطة الأخيرة:
للصمت
يحتضن الغريب نفسه
ومسبحة صلواته.
كلمة شحيحة
بجوار كلمة شحيحة،٦

•••

وقال لي:
تنفَّسْ بكل مسامك
هذه اللحظة بالذات.
لا تمسك بالهواء
أزفره للتوِّ،
وعد بعالم
في الطيش المقدس
لكلماتك.٧

وقال:
الموت
كالحب،
كمال.

الشمس والثلج

وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي:
المطر يذوب في النهر،
وفي العصارة المثمرة للشجرة.
كن نهرًا أو شجرة.
وقال لي:
لن يعود المطر مطرًا،
ولن تصبح العصارة ثمرة
بغير شمسٍ أو وهج.
لكني قلت:
من أين الشمس؟
ومن أين الوهج،
وما زال الثلج يحاصرني؟

•••

وقال لي:
استحم في النبع الأقدم لوهجها.
اجمع الأصداف من الشواطئ اللانهائية.
انشر اللآلئ في القرار الأعمق للبحر.
ادخل أنت وصرخة لذاتك الخرساء،
شاهقًا نفسًا بعد نفس،٨
في الماوراء الأرضي.٩

•••

وقال لي:
في الغابة الأزليَّة
تُجتَثُّ أشجار الحياة،
شجرة بعد شجرة.
وعشبة بعد عشبة،
تنمو الطحالب البرية
وتنمو.

•••

أما أنا فقلت:
اصمدي يا أمنا الأرض،
يا امرأةً من أنفاسي،
يا جزيرة
لقوارب متوحدة
في الكون.

قِسْمة

وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي:
دع العالم يسقط،
إن شاءت له البشرية أن يسقط.
وقال لي:
حين تستنفد الحياة نفسها؛
لن تكون على قَيْد الحياة.
ولن يتسنَّى لك أن تعلم
أنه لم تعد ثمةَ حياة.
لكن في الكون تسبح الكواكب،
والكائنات الجوهرية لا تسأل.
وقال لي:
عندما يكون للحياة أن تحيا؛
فلن يمنعها شيء من الحياة.

•••

وقال لي:
لا تتدخَلْ
في مجرى الحياة،
اكتفِ بتجربة
ما تقدمه لك الحياة؛
لتجربه.

•••

وقال لي:
ليس بوسعك أن تحرك شيئًا؛
أنت تُحرَّك.
إن نهر الحياة الوحشي يسيل،
وأنت تسبح،
مثل قطعة خشب
فوق ظهره المحنيِّ.

•••

لكني قلت:
ترى على أي شاطئ
سيقذف النهر الوحشي
ذلك البدن؟
وأي عفن
سيحلل الروح ببطء؟!

•••

وقال لي:
نظام الطبيعة
هو التوازن،
هو بقاء الشجرة والبلبل.
وإلا لما بقي
سوى العدم.

•••

وقال لي:
القرود التي لم تعد تجد
جوزة واحدة.
أضحتْ تنتظر اليوم
أن تغدو من جديد بشرًا.١٠

•••

وقال لي:
صرختك الأولى
تشدُّ القوس،
ترسل إلى صدرك
سهم الموت المؤكد.
لكن مسافة البعد
بين الصرخة
والصمت
اسمها الحياة.

•••

وقال لي:
تقبل ما يأتيك،
لا تنتظره.
رحِّب بالموت،
وعِشْ.

•••

وقال لي:
بين الأزل الأقدم،
والأبد اللامتناهي:
أنت الجسْر؛
فلا تَنْأ بنفسك،
لا تَنْأَ عن الطرفين.

•••

لكني قلت:
القبر هو المحطة الأخيرة
للحيرة،
لكن الكمال بلا لغة،
والموت لا يعرف
غير كلماتٍ قليلة.

الموت

وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي:
طوبى لمنْ لا يقترب منه الموت!
لكن على الأمل في الحياة،
يضمك جدار الموت حريصًا عليك.
وقال:
الموتى وحدهم يعلمونك
ألا تكون ميتًا في الحياة.
في الموت وحده تكون بكليتك؛
لأن الموت، كالحب، كمال.
ولحظة الموت، كالجماع.
ليست إلا الكمال،
ليست إلا شهقة متصلة.

•••

لكني قلت:
من أعماق لا تُسْبَر
تطلع جنيَّة،
شعاعًا
بعد شعاع.
وتضيق عيوني عاجزة
عن أن تتملَّاها.
دويُّ النور لهذا الفجر
على (شط) البحر.

الألم

وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي:
خناجر تشقُّ وجدانَك؛
لأنك تشتاق إلى الشوق،
حين يغيب الشوق.
وقال:
الألم يعضُّك،
والأرق،
حتى ينام فيك الشوق.
لكني قلت:
لو نام الشوق بقلبي؛
لخشيت
أن يطعنني الخنجر أثناء النوم،
فلا أشعر
بالألم.

مساء ومرح

وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي:
صاحِبِ الأسماكَ
بعيونها المستديرة.
اسأل الماء: لماذا يسيل؟
اسأل الموجة: إلى أين تسير؟
اسأل الزيتونة: لماذا تسمى زيتونة؟
اسأل البلد البعيد:
لماذا يبقى قريبًا كل القرب؟
وقال:
غنِّ مع البلبل
للأشجار المستغرقة في التفكير.
كن للمطر سحابةَ صيف.
وبرفق،
أطرق بالأحلام الخضراء
نوافذ هذا العالم.

ب

والجسر يمتدُّ
من خط طول،
إلى خط طول.

قطار الضباب

وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي:
خنجر الجوع يطاردك
من غرفة تعذيب إلى غرفة تعذيب،
حتى تستقر في الغربة
على أرصفة حزينة.
وقال:
كأن يديك شبَحَا يدَيْن،
كأن عينيك حصاتان
في خرابة الوجه.
وكأن جسدك تحويلة
لقطار التاريخ الضبابي،
الذي تسوقه الغربة
من شوق
إلى شوق.

تغير الأثر

وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي:
لا تحفر الغربة في جلدك،
تقبل وقاوم.
عَنْوِن الفرح بالألم،
والألم بالفرح؛
لأنَّ الحجر وحده هو الذي يحفظ الأثر الأبديَّ للمطرقة.
أما الماء فيصقل برشاقة كل الشقوق.
وقال لي:
لا تكن حجرًا ولا ماء.
انظر هناك لزهرة عباد الشمس؛
كيف ترتفع مزدهرة
متحدِّية الهواء الخانق،
غريبة عن الحقل في زهرية غريبة؟!
وقال لي:
اكسِرْ شرنقتك العمياء،
ابحث في وهج الشمس عن ظلال
رطيبة،
وبالثلج أدفئ نظرتك.

وصول

اطرُق بابها
بلا خوف،
ادخل وأفرغ حقيبتك،
دُقَّ المسمار في الحائط،
استيقظ في عينيها،
ثم نَمْ فيهما (مساء).
جفَّت شفتاك من التجوال،
كرمل الصحراء،
وندًى أخضر شفتاها.

•••

وقال لي:
أنت وحدك هو بيتك.
أدخل الضيوف،
واقتسم حلمك معهم.

•••

وقال لي:
قل لها،
لمن تحبها:
إنها جميلة،
وستصبح جميلة،
بقدر حبك لها.

البدن

وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي:
في (حضن) العالم مكنونٌ
لا متناهٍ هذا البدن،
ومترام كالبحر،
كالزغرودة،
كالأفق،
كوطن تلجأ له
أطراف أصابع منفية.
وإذا يتمدد
فوق فراش ضيق،
يبدو أشبه بالحدقة،
في عين ضيقة (الننِّ).

المطاردة

وهكذا تكلم عبد الله قائلًا لي:
لا تطارد الزمن.
هذا الحيوان الخرافي الأعمى،
لا تهرب منه؛
وإلا طاردك بلا رحمة.
تنشق بكل حواسك
روائحُ العالم،
وكأن كل لحظة
بلا زمن.

•••

وقال لي:
خذ الوردة في يدك،
قبِّلها قبلة عاشق،
وكعاشقة لدى القبلة الأولى،
سيحمرُّ وجهها،
تحت الندى،
الوردة.

•••

وقال لي:
الوحيد الذي لا يهجُرك أبدًا
هو أنت وحدك،
لكن لو هجرك العالم؛
فلن تصل إلى أي أنا.

•••

وقال لي:
كن مرة أنا،
وكن مرة أنت؛
لأنك لو اقتصرتَ على أن تكون أنا؛
لأصبحت أنا وحيدًا مع نفسي.
ولو اكتفيْتَ بأن تبقى أنت وحسب؛
صرتَ حبة رمل في الريح.

استشعار الطقس

وهكذا تكلم عبد الله قائلًا لي:
في صبح يوم مبكر،
وفجأة،
عندما تتلبد السحب،
وتحضن الحرارة المطر،
قبل أن (يومض) البرق،
(ويدوِّي) الرعد،
سيتوقف القلب المتعب.
عندئذٍ يسقط المطر،
عندئذٍ تصبح السماء زرقاء،
عندئذٍ تتغنى الطيور،
ثم ترتفع الشمس
متجددةَ الفرح.

•••

وقال لي:
عندما ترحل ذات يوم،
ستأخذ وجهها معك،
بين جفونك،
ولكن أعضاءَكما الواهنة ما زالت
تتساند،
كالمحبين.
وتشيخان ما زلتما معًا كالمحبين.
وما زال الصباح يتدفَّق من عينيك،
وينساب في الصباح،
شعاعًا غائمًا بعد شعاع
في عينيها.

•••

وقال:
في ضبابِ
الحبِّ اللانهائي،
لا تصلُ نظرتك الكَدِرَة
إلى روحها.

•••

لكني قلت:
أغمض عينيَّ،
وفمها مضموم
على شَفتيَّ.
بين الجفون
تستكنُّ
كلمات
عينيها.

الجسر

وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي:
على النعناعة يتحرك،
فوق الصخرة يتحرك،
تحت الجسر يتحرك،
نور الحب المتألق.
وقال:
النعناعة تزهر في النعناعة،
الصخرة تستقر في الصخرة،
الجسر يمتدُّ في الجسر،
وفي الطفولة يتجذر الجذر.
لكني قلت:
النور يُلقيني في النعناعة؛
النعناعة تجعلني أزهر في الصخر.
الصخر يجذِّرني في الجسر،
والجسر يمتد
من خط طول،
إلى خط طول.
١  في الأصل باللاتينية.
٢  في القصيدة إشارات إلى سفْر أشعياء في الكتاب المقدس، وخاصةً الإصحاح الخامس. أما المقطع الأخير فيشير إلى قول السيد المسيح وهو على الصليب: «أنا عطشان»، كما جاء في إنجيل يوحنا.
٣  تشير القصيدة — من بعيدٍ وبشكلٍ غير مباشر — إلى الكيفية التي تحقَّقت بها الوحدة الألمانية، وخيبات الأمل التي نجمت عن ذلك، وكيف أن العناق يكاد أحيانًا يخنق المعانق.
٤  يقول المثل الصيني القديم (عن كتاب تاو-تي-كنج أي الطريق والفضيلة): إن قطرة الماء تلين الحجر الصلب. والمثل الألماني يقول: إن القطرة المستديمة تثقب الحجر، وبهذا المعنى تكون قطرة الصنبور حكيمة.
٥  أي لما نطقت بغير الظاهر، وإن نطقت بالظاهر، نطقت بالباطل، وإن نطقت بالباطل، قتلت الشيء باسمه.
٦  أو فقدان اللغة.
٧  إشارة إلى ضرورة التعبير عن اللحظة دون إبطاء؛ كي تكون الكلمة كالنفس، ودعوة إلى ضرورة التعبير عن «اليوتوبيا» — أي الحلم الأزلي الأبدي بعالم ومجتمع أفضل وأعدل — بالكلمة الشعرية، رغم معرفتِنا بأن هذا التعبير ما هو إلا نوع من الطَّيش، ولكنه على حدِّ تعبير الشاعر طيشٌ مقدس؛ لأنه في نهاية المطاف جوهر الشعر.
٨  إشارة إلى لحظة المضاجعة عندما تمثلُ كمال الحب.
٩  لاحظ تعبيره الماوراء الأرضي الذي هو صنوٌ للموت في قصيدةٍ أخرى، راجع الفصل الرابع.
١٠  ربما كان المعنى أن مشاكلَ البيئة المتفاقمة ستعيدنا إلى العصور الداروينية، حيث ننتظر مجددًا أن تتحول القرودُ ثانيةً إلى بشر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤