منزل الأقنان

في جيكور
خرائبُ فانزعِ الأبواب عنها تغدُ أَطْلالَا،
خوالٍ قد تصكُّ الريحُ نافذةً فتُشرعها إلى الصبحِ،
تُطلُّ عليك منها عينُ بومٍ دائبِ النوحِ
وسلَّمُها المحطَّم، مثل برجٍ داثرٍ، مالا
يئنُّ إذا أتته الريح تُصعده إلى السطحِ،
سفينٌ تَعرُك الأمواجُ ألواحهْ.

•••

وتملأ رُحبةَ الباحهْ
ذوائبُ سِدرةٍ غبراءَ تزحمها العصافيرُ،
تعد خطى الزمان بسقسقات، والمناقيرُ
كأفواهٍ من الديدان تأكل جثة الصمتِ،
وتملأ عالم الموتِ
بهسهسةِ الرثاء، فتفزع الأشباح تحسب أنه النورُ
سيُشرق، فهي تُمسك بالظلال وتهجر الساحهْ
إلى الغرف الدجيَّة وهي توقظ ربة البيت:
«لقد طلع الصباح»، وحين يبكي طفلها الشبحُ
تهدهدُه وتُنْشِدُ: «يا خيول الموت في الواحهْ
تعالي واحمليني، هذه الصحراء لا فرحُ
يرفُّ بها ولا أمنٌ ولا حبٌّ ولا راحهْ!»
ألا يا منزلَ الأقنان، كم من ساعدٍ مفتولِ
رأيتَ، ومن خطًى يهتز منها صخرك الهاري!
وكم أغنيَّة خضراء طارت في الضحى المغسولِ
بالشمس الخريفيَّهْ،
تحدِّث عن هوًى عاري
كماء الجدول الرقراق! كم شوقٍ وأمنيهْ!
وكم ألمٍ طويتَ، وكم سُقيتَ بمدمعٍ جاري؟
وكم مهد تهزهز فيك؟ كم موت وميلادِ
ونار أُوقدت في ليلة القُرِّ الشتائيَّهْ!
يدندنُ حولها القُصَّاص: «يُحكى أنَّ جِنِّيَّه …»
فيرتجف الشيوخ ويصمت الأطفال في دَهَشٍ وإخلاد
كأن زئير آلاف الأُسُود يرنُّ في وادِ
وقد ضلُّوا حيارى فيه، ثم ترن أغنيَّهْ:
«أتى قمرُ الزمان …» ودندن القُصَّاص: «جِنِّيَّه …»
وبؤسهم المرير؛ الجوع والأحزان والسَّقَم،
وطفلٌ مات لما جف درٌّ، ماتت المعزى
وجاعت أمه، فالثدي لا لبنٌ ولا لَحَم،
سمعتُ صراخَها والليلُ ينظر نجمُه غمْزًا،
وولولة الأبِ المفجوع يخنق صوته الألمُ.

•••

ولو خُيِّرتُ أُبْدِلْتُ الذي أَلْقَى بما ذاقوا،
مُمِضٌّ ما أُعاني؛ شُلَّ ظهرٌ وانحنت ساقُ
على العكَّاز أسعى حين أسعى، عاثر الخطوات مرتجفا،
غريبٌ غير نار الليل ما واساه من أحدِ
بلا مالٍ، بلا أملٍ، يقطِّعُ قلبَه أسفا
ألستُ الراكضَ العدَّاء في الأمس الذي سلفا؟!
أأمكث في ديار الثلج ثم أموت من كَمَدِ،
ومن جوعٍ ومن داءٍ وأرزاء؟
أأمكث أم أعود إلى بلادي؟ آهِ يا بلدي!
وما أمل العليل لديك، شحَّ المال، ثم رَمَتْهُ بالداءِ
سهامٌ في يد الأقدار ترمي كلَّ مَن عطفا
على المرضى، وشدَّ ضلوع الجائعين بصدره الواهي،
وكَفْكَفَ أدمع الباكين يغسلها بما وكفا
من العبرات في عينيه؛ إلا رحمةُ الله؟!

•••

ألا يا منزل الأقنان، سَقَّتْكَ الحيا سُحُبُ
تُروِّي قبريَ الظمآن،
تلثمه وتنتحب.
لندن، ٣ / ١ / ١٩٦٣

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤