خطيب

ما التمع اسم سياسي ولا طارد ذكره إلا إذا رزق موهبة الخطابة، وبقدر ما يتوافى له منها يكون ذيوع صيته ونباهة شأنه. ذلك ما كان يُحدِّث أبراهام به نفسه في أواخر مدة عضويته الثانية في مجلس الولاية.

وهو منذ حداثته لهج بالخطابة شغوف بالمثول أمام جمهور يستمع، والخطابة بعدُ عدةُ المحامي كما هي عدة السياسي، أوليس قوامها الفصاحة والإقناع؟! إنه ليحس أنه قد أخذ يحسن الإفصاح عما في نفسه ويجيد وسائل إقناع سامعيه، وهو لم ينس ما كان من سالف مواقفه حين كان يحدث الناس في الغابة فيظفر من رضائهم بقدر ما يلقى من غضب أبيه. بيد أن الناس هنا ليسوا كأهل الغابة، وليس ما يصلح هناك من الكلام بصالح في مدينة كهذه المدينة، ولكنْ ألمْ يحزْ هنا في المدينة قسطًا من رضاء الناس في قاعة المجلس وفي ساحة القضاء؟! إذن فليس الذي يداخله من ثقة في نفسه ضربًا من الغرور، وحسبه أن تطمئن اليوم إلى ذلك نفسه.

وسنحت لخطيب الغابة فرصة للخطابة؛ فقد دعي ليلقي في ناد من أندية الشباب في سبرنجفيلد خطبة موضوعها: أنظمتنا السياسية وحفظها.

ووقف الخطيب وفي هندامه ووجهه وشعره الأشعث طيف الغابة، والأنظار متجهة إلى قامته الطويلة ووجهه الذي تلوح عليه علامات التحمس لموضوعه، والارتياح إلى ما أتيح له من فرصة.

وتكلم أول الأمر لم يجهر بصوته ولم يخافت به، ثم علا صوته حتى كان له رنين قوي في جوانب القاعة، وأخذ الخطيب يومئ برأسه يؤكد بعض المعاني ويشير بقبضته أو بكفيه مبسوطتين، وكانت تتشكل أسارير وجهه بما يلقي من قول؛ فيعبس ويشرق وتفعل كلماته وإشاراته فعل السحر في نفوس سامعيه.

بدأ فوصف وطنه وثروته الطبيعية أحسن وصف، ثم أشار إلى ما أتيح لهذا الوطن من نظم سياسية لا يطمع فيما هو خير منها، وامتدح من أتاحوا له هذه النظم الغالية من الزعماء. ثم ساق الكلام بعد هذا الاستهلال الرائع إلى ما عساه أن يتهدد هذا النظام من خطر، فتساءل قائلًا: «من أي ناحية تنتظر أن يدهمنا الخطر؟ وما وسائلنا في دفعه إن هو حل بنا؟ أنتوقع الخطر على يد مارد عتيٍّ من مردة الحرب وراء المحيط يعبر هذا الخضم المترامي فيمحقنا بضربة منه؟ كلا!» ثم يتحمس الخطيب ويرفع صوته بقوله: «إن جيوش أوروبا وآسيا وأفريقيا مجتمعة، وفي أيديها خزائن الأرض، وعلى رأسها مثل بونابرت؛ لا تستطيع أن تنال جرعة من الأهايو ولو جاهدت ألف سنة … فمن أي جهة يمكن أن يتهددنا الخطر؟ إني أجيب على ذلك بأنه إن كان ثمة خطر، فإنه ينجم هنا بين أيدينا، إذا كان الهلاك نصيبنا فنحن منشئوه، ونحن إن أردنا مانعوه، إننا يجب أن نعيش أبدًا أمَّة حرة أو نقتل أنفسنا منتحرين … وإني لألمس اليوم نذير سوء بين ظهرانَيْنا؛ ذلك هو ما يتزايد من مظاهر عدم مبالاتنا بالقانون في هذا البلد … إن مثل هذه الظاهرة مخيفة كل الخوف في أي مجتمع، ولئن كان يؤذي شعورَنا أن نسلم بوجودها في مجتمعنا هذا، فإن إنكار وجودها زلزلة للحق واتهام لذكائنا …

إني لأعلم أن الأمريكيين شديدو التعلق بحكومتهم، وأعلم أنهم يرضون أن يعانوا الكثير من أجلها، كما أني على علم بأنهم يتحملون المساوئ، ويصبرون عليها طويلًا قبل أن يفكروا في استبدال حكومة أخرى بها، ولكن على الرغم من ذلك، فنحن إذا دأبنا على احتقار القوانين وعلى عدم اتباعها، وإذا رأى الناس أن حقوقهم في ضمان أنفسهم وأملاكهم ليس ما يمسكها إلا أهواء الغوغاء؛ فإن نفورهم من الحكومة هو النتيجة الحتمية عاجلًا تم ذلك أو آجلًا …

هنا إذن موطن من مواطن الخطر، وإني لأعود فأسأل: كيف نتوقى هذا الخطر؟ والإجابة على ذلك يسيرة: ليقْسم كل أمريكي، كل عاشق للحرية، كل ذي نية طيبة نحو أعقابنا، ليقْسم كلٌّ بما جرى في الثورة من دماء ألا يتعدى قوانين البلاد في أية جزئية منها، وألا يسمح للغير بتعديها، وليفعل اليوم كل أمريكي في حرصه على القانون والدستور ما فعله رجال سنة ١٧٧٦ في تعضيدهم حملة الاستقلال، وليضحِّ كل في سبيل ذلك بحياته وشرفه الذي يقدس وجميع ما ملكت يداه، وليذكر كل فرد أنه إن اعتدى على القانون فإنما يطأ بقدميه دماء آبائه، ويمزق عهد حريته وحرية أبنائه، لتتحدثْ كل أم في أمريكا إلى ابنها الذي يلثغ لاعبًا في حجرها حديث احترام القوانين، وليُعَلَّمْ ذلك في المدارس والمعابد والكليات، وليكتَبْ ذلك في كتب الهجاء وفي كتب الابتداء وفي صفحات التقويمات، وليوعَظْ به من منصات الوعظ، وليعلَنْ في ساحات المجالس التشريعية، وليُحمَلْ بالقوة على احترامه في دور العدالة، وفي الجملة يجب أن يكون ذلك للدولة دينها السياسي.»

وعاد الخطيب يذكر زعماء الحرية الأولين، ويمجد ذكراهم، ويشير إلى بطولتهم إلى أن قال: «لقد كانت العواطف قبلُ عونًا لنا، ولكنا لن نركن إليها اليوم، ولسوف تكون في المستقبل عدوًّا لنا، أَلَا لِتَكُنْ الحكمة الباردة الحاسبة التي لا تعرف العواطف هي التي تمدنا بما يلزم لنا في مستقبلنا من أسباب القوة والدفاع. إن في النابهين الطيبين من الناس ممن تتوفر فيهم الكفاية لأن يحسنوا أي عمل يوكل إليهم؛ كثيرين لا تمتد أطماعهم إلى ما هو أبعد من مقعد في المؤتمر، أو منصب في الحكومة، أو بلوغ كرسي الرياسة، ولكن هؤلاء لا ينتمون إلى أسرة الضراغم ولا إلى جماعة النسور. واهًا! أتظنون أن مثل هذه المناصب تملأ عين إسكندر آخر أو قيصر ثان أو نابليون جديد؟! كلا! إن العبقرية الشامخة لتحتقر الطريق التي وطئتها الأقدام من قبل … إنها تبحث عن مواطن لم تكشف بعد، إنها تظمأ وتتحرق إلى ما يميزها عن غيرها، وإذا أمكنها أن تصل إلى ذلك فعلتْ ما يميزها؛ إما بتحرير العبيد من الناس، أو باستعباد الأحرار. أليس من المعقول إذن أن نتوقع ظهور رجال من هذا الطراز بين ظهرانينا؟ رجال توافى لهم من العبقرية في أكمل صورها بقدر ما توافى لهم من الطموح الذي يدفعون به هذه العبقرية لتمد مدها؟ وإذا قدر لرجل من هؤلاء أن يظهر فسوف يحتاج الأمر إلى ترابط الناس بعضهم ببعض، وتعلقهم بالحكومة وبالقوانين، وأن يكونوا على قسط من الذكاء ليحُولوا بينه وبين أطماعه الشخصية إذا اتجه هذا المتجه …»

أني لابن الغابة ربيب الفقر والعسر هذا كله؟ ألا إنها العبقرية تستعلن في الخطابة، وإن خفيت في الحديث الهادئ أو القصة الوادعة، وماذا يريد لنكولن بإشارته إلى العبقرية الشامخة وما تتطلع إليه؟ هل كان يرسم لنفسه ما يحب أن يفعله في غده؟ أكان يبحث عما يميزه؟ أكان يدرك أو يحس يومئذ أن له من عمله في غد ما هو حريٌّ أن يملأ عين إسكندر آخر أو قيصر ثان أو نابليون جديد؟

وذاعت في المدينة هذه الخطبة فأضافت إلى شهرته شهرة، وها هو ذا ينتخب للمرة الثالثة عضوًا في المجلس التشريعي وهو في التاسعة والعشرين، وإنه ليطول باعه في المحاماة، وترسخ قدمه في السياسة، ويعلو كعبه في الخطابة.

وفي مدة عضويته الثالثة كان الخلاف في المجلس صدًى للخلاف في الولايات جميعًا بين الديمقراطيين والهِوِج، وكان زعيم الديمقراطيين في مجلس إلينوى ذلك القزم الماكر دوجلاس، وكان ينهض للدفاع عن سياسة فان بيرن الرئيس الديمقراطي الذي خلف جاكسون فيبدي نشاطًا ومهارة ولباقة، وكان الديمقراطيون هم الحزب الغالب في المجلس، وكان لنكولن زعيم أنصار هنري كلِيي من الهِوِج، ولكن أصحابه كانوا في المجلس أقلية.

ودأب دوجلاس على مناوأة لنكولن في كل أمر، وكانت له مواقف يظهر فيها عليه بسرعة خاطره ومهارة انتقاله من فكرة إلى فكرة ومن قضية إلى قضية، ولكن أبراهام كان المتفوق الظافر إذا كان الأمر أمر إخلاص أو أمانة أو بعد نظر أو دقة تحليل.

وأظهرت هذه المساجلات السياسية جانبًا من جوانب موهبته الخطابية، جانب الشجاعة الأدبية التي تنطقه بما يريد أن يقول في غير تهيب ولا التواء في لهجة حماسته، وفي بلاغةِ عبارة وحُسن أداء.

عير أحد الديمقراطيين حزبه بقلة عددهم وبضياع أملهم، فالتفت إليه أبراهام قائلًا: «وَجِّهْ هذا الجدل إلى الجبناء والعبيد، أما أن توجهه إلى الأحرار البواسل فليس يجديك ذلك فتيلًا، لقد فقدتْ دول حرة كثيرة ما كان لها من حرية، وربما فقدت دولتنا كذلك حريتها، وإذا قدر لها ذلك وكان ما يتفاخر به غيري أنه كان آخر من ترك نصرتها، فليكن أعظم ما أفاخر به أني لم أترك تلك النصرة أبدًا.»

وقال في موقف آخر، وقد اشتمَّ تهديدًا موجهًا إلى خصوم فان بيرن على لسان أنصاره من الديمقراطيين، كما علم بأنباء اضطهادهم بغير حق: «أمَّا أن أنحني لمثل هذا، فذلك ما لن أفعله أبدًا … وإني هنا أمام الله وفي وجه العالم كله أقسِم يمين الولاء لقضية الحق، قضية البلاد التي فيها حياتي وفيها حريتي ولها محبتي، وإن هذه القضية التي اعتنقناها بعقولنا وقلوبنا لن تجد منا الهوينا في الدفاع عنها؛ في المحنة أو في الأغلال أو بين براثن الموت.»

وفي سنة ١٨٤٠ بدأت المعركة الانتخابية للرياسة بين الديمقراطيين والهِوِج، وكان مرشح الديمقراطيين فان بيرن إذ أرادوا تجديد انتخابه، أما الهِوِج فكان المفهوم من أمرهم أنهم يرشحون هنري كلِيي؛ جريًا على سياستهم القائلة بأنه يستحسن أن ينتخب للرياسة سياسي مارَس السياسة في المجالس التشريعية، وعلى الأخص الكونجرس، وأن يكون أمر الانتخاب والقيام عليه بأيدي رجال السياسة، ولكنهم عدلوا عن هذا، وقد علموا ما كان من أثر جاكسون وديمقراطية جاكسون في البلاد؛ إذ جعلت كلمة الشعب هي العليا، وبحث الهِوِج عن رجل من صميم الشعب، له ماض في الحرب يكون شبيهًا بجاكسون؛ ليكسبوا بترشيحه الرأي العام؛ فوقع اختيارهم على هارسون، وكان من الطلائع الذين سكنوا الأصقاع البرية، وكانت لهم في محاربة الهنود بطولة، وكان لا يزال يعيش في بيت أُقيمَ من الكتل الخشبية على نمط الأكواخ الساذجة الأولى، وكان يشرب عصير التفاح الشراب الوطني المحبوب لساكني الأكواخ … وهو بهذا شبيه بجاكسون، وقد سميت معركته الانتخابية معركة الكوخ وعصير التفاح.

واستعرت المنافسة بين الحزبين، وشمر لنكولن، وقد سنحت مثل هذه الفرصة ليتمرن على مثل هذه المعارك الانتخابية الكبرى، فضلًا عما يتسع أمامه من مجال للمجادلة والخطابة.

وأبرزت هذه المعركة كثيرًا من جوانب موهبته كخطيب، وفي مقدمتها تهكمه الذي يزلزل به أقدام خصومه، ومقدرته على إثارة إعجاب سامعيه وامتلاك قلوبهم بما يسوق من أمثال ويسرد من قصص يصور بها ما يريد من المعاني أو يسخر بها من آراء معارضيه وأفعالهم، هذا إلى عذوبة روحه وحلاوة فكاهته ورونق عبارته وسحر أدائه.

نشط الهِوِج في هذه المعركة نشاطًا عظيمًا، وكانت جموعهم تطوف في البلاد تحمل الأعلام وعليها اسم هارسون، ومنهم من كانوا يحملون مثالًا مصغرًا للكوخ وأمثلة لأواني عصير التفاح، فإذا ازدحم الناس للتفرج قام خطباؤهم يدعون لحزب الهِوِج ويحملون على الديمقراطيين، وانبرى خطباء الديمقراطيين لهم في جموع مثل جموعهم وخطباء كخطبائهم.

وشهد أبراهام كثيرًا من هذه الاجتماعات، فوقف ذات مرة يخطب رادًّا على مزاعم الديمقراطيين فيما اتهموا به الهِوِج من أرستقراطية وثروة، تلك النغمة التي طالما سمعها من قبل أثناء انتخابات مجلس الوصاية، قال لنكولن: «لقد كنت غلامًا فقيرًا، استؤجرت للعمل في قارب بنحو ثمانية دولارات في الشهر، ولقد كنت ألبس الملابس من الجلد، وإذا علمتم ما يطرأ على الملابس الجلدية إذا جففتها الشمس وجدتم أنها تنكمش وتتداخل بعضها في بعض، ولقد قصر سروالي بسبب هذا حتى ترك جزءًا من ساقيَّ عاريًا، وكنت كلما ازددت في الطول ازداد سروالي قصرًا وضيقًا، وقد بلغ من ضيقه أنه ترك أثرًا حول ساقيَّ لا يزال يرى حتى اليوم، فإذا كنتم ترون في هذا أرستقراطية فإني أعترف أن التهمة لاصقة بي.»

وشهدت سبرنجفيلد من هذه المظاهرات مظاهرة كبيرة حمل فيها المتظاهرون أكواخًا صغيرة من الخشب، واستعاض أهل شيكاغو عن الأكواخ بمثال لمركب حملوها على عربة، وقد وصف أحد الذين شاهدوا لنكولن يخطب الناس ذلك اليوم فقال: «وقف لنكولن في عربة فخطب جمهور الناس الذين أحاطوا بها، وكان للاجتماع يومها أهمية تفوق ما لغيره من الاجتماعات؛ ومرد هذا إلى من كان يلقي الخطاب الرئيسي؛ كان يومئذ قد بلغ غاية قوته البدنية، كان طويلًا يبدو أنحف مما صار إليه في أيامه بعد ذلك، وكان بنحافته أكثر ألفة في أعين الناس منه حين اكتسب فيما بعد شيئًا من السمن، وكان في الحادية والثلاثين من عمره، ومع هذا فقد كان يعدُّ من أقوى خطباء الهِوِج في هذه المعركة، وكان له يومئذ ذلك السر الذي يلفت انتباه الناس إليه ويجذبهم نحوه، ورأى نفسه حتى في ذلك الوقت موضع اهتمام عام؛ بسبب ما اتصف به من لمس المسائل السياسية وشرحها وتصويرها في يسر … وكان يتناول مسائل تلك الأيام تناولًا منطقيًّا أحيانًا، ولكنه كان يجعل كثيرًا من وقته لقصصه التي يشرح بها بعض ما يتناول من المسائل، ولو أن كثيرًا من هاتيك القصص كان يراد به وضع خصومِه في وضع مضحك.»

وكان يعنى أبراهام عناية شديدة بخطبه؛ فيدير المعاني في رأسه قبل أن ينهض للخطابة، ويختار من اللفظ ما يؤدي المعني المراد بيانه في غير نقص أو تزيُّد، فإذا تكلم كان بارع السياق مطمئن النفس فصيح العبارة، فإذا جد أثناء الكلام أمر لم يحتشد له واتَتْه قريحته الطيِّعة ووافاه بيانه المشرق، فأتى بأحسن مما أعد وما اصطنع.

وكان يعنيه أن يقرأ كلامه منشورًا في الصحف ليرى إن كان ثمة خلل أو ضعف، فيعمل على أن يَبْرَأ كلامه منه بعد ذلك، ولم تكن ترتاح نفسه لشيء ارتياحها إلى حسن موقع كلامه في نفوس سامعيه أو قارئيه.

ولم تقتصر نصرته للهِوِج على مقدرته كخطيب، وإنما أفاد أصحابه كثيرًا مما اشتهر به من بأس وقوة، وقلما خلت المعارك الانتخابية من عنف في بلد من أقطار الأرض.

وقف أحد أصدقائه يخطب الناس في حجرة متسعة كانت تقع تحت الحجرات التي يشغل إحداها مكتب لنكولن المحامي وزميله، وكان في سقف تلك الحجرة السُّفْلى باب يستطيع فتحه مَن كان في حجرة لنكولن، فرفعه أبراهام قليلًا ذات مرة، وقد اشتد ضجيج المجتمِعين، فشاهد صديقه الخطيب وقد أحاط به جماعة من الديمقراطيين يتوعدونه ويطلبون إنزاله بالقوة من فوق المنصة؛ لما صدر منه من غليظ القول، وبينما كان السامعون في هرجهم إذ راعهم قَدَمَان كبيرتان تتدليان بنعليهما من السقف، عرفتا لأول وهلة أنهما قدما لنكولن، ثم رأوا الساقين فالجسمَ كله، وإذا بهم يبصرون أبراهام وقد انقض من السقف فوقف إلى جانب صاحبه، ثم رفع ابن الغابة يده يريد الكلام، فما من أحد في الحجرة إلا وكأن على رأسه الطير، وانفرجت شفتاه بعد لحظة فقال: «أيها السادة لا تسيئوا إلى وطنكم وإلى العصر الذي تعيشون فيه … إن هذه هي الأرض التي أخيطت فيها حرية القول بما يحفظها من ضمان، وإن لصاحبي الحق أن يتكلم، وإن له الحق أن يُسمح له بالكلام، وإني الآن بجانبه لأحميه، وما من رجل هنا يستطيع أن ينتزعه من مكانه ما دمت قادرًا على أن أذود عنه.»

وأنصت السامعون إلى الخطيب وقد عاد يخطب في حماية لنكولن، فما استطاع الديمقراطيون أن يقاطعوه، وما استطاعوا له دفعًا.

وانتهت المعركة الانتخابية بفوز الهِوِج، وفرح أبراهام وأنصار الهِوِج بذلك النصر فرحًا شديدًا. وفي نفس تلك السنة، سنة ١٨٤٠، انتخب أبراهام عضوًا في مجلس إلينوى للمرة الرابعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤