صديق صدوق

وما حيلة الطب في نَوَازٍ تُوبِقُ الروح وهواجس تعمي القلب، وإن بدت آثار هذه وتلك في نواحي البدن؟ عجز الطبيب ولا عجب أن يعجز، وجاء الصديق ليفعل ما لم يستطع الطبيب أن يفعل وهو خبير بالعلة عليم بموضعها من نفس صاحبه.

باع سبيد حانوته، وعول على الرحيل إلى كنطكي، فعرض على صاحبه لنكولن أن يذهب معه إلى هناك علَّه يشفى مما به في تلك الأحراج التي درج منها أول ما درج. دعاه سبيد أن ينزع نفسه وجسمه من ذلك البلد الذي يكربه العيش فيه، بعد أن كان مهوى خواطره ومنتجع آماله، ورحل أبراهام مع صديقه، وقد اخترم الهمُّ جسدَه فزاده نحولًا على نحول، وزين له الشيطان أن يطلب النجاة من الحياة.

ولبث في كنطكي أيامًا لقي فيها من كرم صاحبه وكرم أمه وأخته ما هون عليه أمره شيئًا قليلًا، وصاحبه لا يفتأ ينصح له ويسرِّي عنه، وهو يشكو إليه اضطراب أعصابه، ويظهره على هواجس نفسه ويذكر له، والألم يبرح به فعلته التي فعل، فكان غير كريم، بل كان من الضالين!

على أنه كتب وهو في كنطكي رسالة في الانتحار ترينَا أن اليأس كان قد أوشك أن يذهب عنه. خذ لذلك مثلًا قوله: «إني لم أصنع في حياتي شيئًا يذكِّر أي إنسان أني عشت، ومع هذا فإن ما أود أن أعيش من أجله هو أن أربط اسمي بحوادث يومي وجيلي، وأن أقرن ذلك الاسم بصنيعٍ يكون لمن حولي من الناس فيه جدوى.»

بيد أنه لم يلبث وقد كان يلتمس العون من صديقه أن رأى ذلك الصديق في حاجة إلى من يعينه، فلقد طاف به على حين غفلة طائفٌ من الحب مَلَكَ عليه قلبه وعقله.

وانقلب الأمر، فغدا لنكولن هو الناصح، وراح يجتهد أن يهدئ صاحبه، وقد وسوست إليه نفسه معاني كتلك التي كانت تجول في خاطره هو؛ معاني الحيرة والتردد والشك، وأصبح سبيد يحار في أمر حبه كما أصبح ينتابه الخور كلما اتجه فكره إلى الزواج، شأنه في ذلك شأن صاحبه.

وكان فيما يسديه أبراهام من نصح لصاحبه مسلاةٌ له أو شاغل يشغله عن وجْده، ولما عاد إلى سبرنجفيلد ظلت كتبه أكثر من عام تترى على صاحبه، وفيها من حسن النصيحة وقوة الإقناع ما لا يصدر مثله إلا عن عالم نفسي أو شاعر رقيق العاطفة عميق الحس، خذ مثلًا لذلك كتابه هذا قال: «إن مرد ذلك في جملته إلى أنك عصبي المزاج، وأنا أقول ذلك لما شهدته منك شخصيًّا، ثم لما قصصت عليَّ من حال أمك في أوقات، ومن حال أخيك حين ماتت زوجه، وإن أول سبب خاص هو تعرضك للجو الرديء أثناء رحلتك؛ فإن تجاربي تثبت لي في وضوح أن ذلك بالغ الضرر بمن كان ضعيف الأعصاب، ثم يأتي بعد ذلك بعدك عن مجالس الصحاب وأحاديثهم؛ فإنها كانت خليقة أن تشغل عقلك، وأن تهيئ له قسطًا من الراحة من عناء التفكير العميق، الذي يبدأ حلوًا ثم ينقلب إلى مثل مرارة الموت، وأخيرًا سرعة اقترابك من هذه الأزمة التي يتركز فيها كل شعورك وفكرك.»

ومن العجيب حقًّا أن يتلمس لنكولن العلل لما يكرب صاحبه، ثم يظل على ما هو عليه من حيرة وغم، وأعجب منه أن نراه يحدد الوضع الذي باتت عليه علاقة سبيد بصاحبته تحديد الخبير الرشيد فيقول: «كيف اتفق لك مغازلتها؟ أكان ذلك لأنك رأيتها جديرة بها منك، وأنك وضعت بين يديها ما يبرر أن تتوقع حدوثها على يديك؟ لا! لم يكن للعقل مجال يومئذ. قل لي بحق، ألم تكن هاتيك المقلتان الدعجاوان السماويتان هما أساس حججك الأولى جميعًا فيما يتصل بهذا الموضوع؟»

وجاء في كتاب آخر إلى صديقه قوله: «إنك تعلم حق العلم أن حدة شعوري بآلامك لا تقل كثيرًا عن حدة شعوري بآلامي، ومع ذلك فإني أؤكد لك أنه لم يسؤني كثيرًا ما ذكرت عن شعورك الذي بلغ حدًّا عظيمًا من السوء وقت كتابتك، وليس ذلك لأني اليوم غير خليق بالعطف عليك، ولا لأني أقل مودة لك، ولكن لأني آمل مصدقًا أن لهفتك على صحتها وحياتها، وحزنك بسبب ذلك؛ سيؤديان إلى القضاء أبدًا على تلك الشكوك المخيفة التي ساورتك أحيانًا عن صدق حبك لها … وإذا قدر لهذه الشكوك أن تمحى إلى الأبد — وكأني أشعر بوحي يوحى إلي أن الله قد أرسل إليك غمك الحالي وهو مرضها، لهذا الغرض — فليس من شيء يحلُّ محل تلك الشكوك ليحدث ما أحدثت من تعس عظيم … ويك يا سبيد! إن لم تكن تحبها وقدر عليها الموت، فمع أنك لا تتمنى موتها فأنت مستسلم للأمر لا محالة، ولقد تكون الآن هذه المسألة — أعني مسألة حبك إياها — بحيث لم تعد موضع إشكال لَدَيك؛ وعلى هذا فإن إلحاحي في الإشارة إليها تهجم جاف على شعورك، وإذا كان هذا هو الحال فإني واثق منك بالصفح؛ فإنك لتعلم الجحيم التي عانيت منها وتعلم ما أكنُّ من شفقة منها عليك. أنا الآن أحسن حالًا مما كنت قبل، ولقد رأيت سارا مرة واحدة وبدت لي شديدة المرح، ولهذا فإني لم أفاتحها في شيء مما تحدثنا به …»

وتزوج سبيد فكتب إليه أبراهام يقول: «غداة وصول هذا إليك ستكون قد أصبحت زوجًا لِفِني منذ أيام، وإنك لتعلم أن رغبتي في مودتك أبدية، وأني لن أقف إذا استطعت عمل شيء، بيد أنك منذ الآن ستكون في موضع لم أجرب مثله من قبل، وعلى ذلك فإذا طلبت نصحي فإني أخشى أن يصحب الخطأ ما أنصح به، وإني لأرجو مخلصًا أن لا تجد نفسك بعد اليوم محتاجًا إلى راحة تأتيك من خارج نطاقك الحالي، ولكن إذا أخطأ ظني وخاب رجائي وصحب سرورَك العظيم شيءٌ من الألم أحيانًا، فدعني أستحثك — كما فعلت دائمًا — أن تذكر وأنت في قلب الغاشية، بل وأنت في عذاب منها، أنك سوف تخرج منها بعد قليل. إني مقتنع الآن أنك تحبها في حماسة كأعظم ما في طاقتك من الحب؛ ولذلك أميل إلى التفكير أنه يحتمل أن تخونك أعصابك لحظة في بعض الأحيان، ولكنك إذا نجحت مرة واحدة في ضبطها الآن، فإن هذا العناء سيذهب إلى غير رجعة، وإذا كنت قد أثبت هدوءك أثناء الاحتفال أو ملكت نفسك فلم تزعج أحدًا من الحاضرين، فقد كتبت لك النجاة بلا ريب، وبعد شهرين أو ثلاثة على أقصى تقدير ستجد نفسك أسعد الرجال.»

وجاءت كتب صاحبه إليه ولا يزال فيها ذكر الوساوس والأوهام، فرد عليه أبراهام يقول: «ليس لدي شك الآن أن سوء حظنا الخاص بنا إنما هو أننا نحلم أحلام الجنة، تلك الأحلام التي تفوق إلى حد بعيد كل ما عسى أن تحققه هذه الأرض، ومهما بلغ من بعدك عما تحلم به، فليس ثمة امرأة تفعل ما يحققه لك إلا ذات العينين الدعجاوين زوجك فني. ولو أنك نظرت إليها بخيالي لكان من السخف عندك أن يفكر امرؤ لحظة في عدم هنائه معها.»

وذكره زواج صاحبه وما يسمع من هناءته بما هو فيه من وحدة وشقاء، ترى ذلك واضحًا في قوله: «إن لم يكن لنا أصدقاء فلن يكون لنا سرور، وإذا اتفق لنا بعض الأصدقاء فإنَّا لا نأمن أن نفقدهم ونذوق الألم مضاعفًا بهذا الفقد. لقد كان أملي أنك وزوجك تقيمان هنا وليس لي حق في أن ألح بهذا عليك …»

وردَّ على كتاب سعيد جاءه من صاحبه فقال: «إنك تعلم أني مخلص إذ أقول لك إن ما بعثه كتابك في نفسي من سرور كان ولا يزال فوق كل تعبير، فأما ما يتصل بشئون ضيعتك فلن تجدني أسايرك في فهمه، فلست أملك ضيعة ولا أتوقع أن أمتلك يومًا ما؛ وعلى هذا فلم أدرس هذا الموضوع دراسة تجعل لي فيه لذة، وحسبي أن أقول إني فرحٌ برضائك عنه وسرورك به … ولكن فيما يتصل بذلك الموضوع الآخر الذي أوليه أعظم اهتمام في السراء والضراء على سواء، فاعلم أني لم أستطع قط أن أنتزع فيه من نفسي عطفي عليك، ولست أستطيع التعبير عن مبلغ ما يهزني من سرور إذ أسمعك تقول إنك أكثر سعادة مما توقعت في أي وقت، ولست أزعم — وأنا بك عليم — أن ما توقعت لم يكن فيه غلو في بعض الأحيان على الأقل، فإذا كانت الحقيقة تفوق ذلك جميعًا فإني أقول كفاني ذلك يا إلهي … شكرًا لك. ولست أعدو الحقيقة إذا قلت لك إن اللحظة التي قرأت فيها كتابك الأخير قد أورثتني من السرور أكثر مما أورثني كل ما استمتعت به منذ ذلك اليوم الذي جرى فيه القدر، وهو أول شهر يناير سنة ١٩٤١؛ فمنذ ذلك اليوم وأنا يخيل إلي أنه ينبغي أن أكون جد سعيد لولا تلك الفكرة التي تلازمني؛ وهي أن هناك نفسًا غير سعيدة عملتُ أنا على أن تكون كذلك. إن تلك الفكرة ما تزال توبق روحي، ولا معدى لي عن أن ألوم نفسي حتى على مجرد الأمل في السعادة في حين أنها على ما هي عليه. لقد صحبت جماعة كبيرة في عربات سكة الحديد إلى جاكسونفيل يوم الإثنين الماضي، وسمعت أنها ذكرت أنها استمتعت بنزهتها غاية الاستمتاع، وإني أحمد الله على ذلك …»

وإن المرء ليحسُّ في هذه الكتب شبهًا عظيمًا بما ذكر جوت شاعر الألمان على لسان فرتر في كتابه الخالد آلام فرتر، تلمس في هذه الكتب عظيم الوفاء من صاحب لصاحبه، كما نجد نفسًا حائرة مضطربة وقلبًا يأكله الهم ويشرف به على اليأس، كما نقع بين آونة وآونة على أدلة الوجدان الحي والعاطفة النبيلة، تجد مثالًا قويًّا لذلك في قوله هذا: «وصلت إلى سالمة البنفسجة الحلوة التي أرسلتَها طي كتابك، ولكنها بلغت من الجفاف والهصر بحيث استحالت رمادًا عند أول محاولة مني لأن ألمسها، بيْد أن ما اعتصره الهصر منها من عصير قد ترك أثرًا في ورقة الكتاب؛ ولذلك سأحتفظ بهذه الورقة وأعزها من أجل التي أُرسلت البنفسجة بإشارة منها.»

figure
ماري أوين زوجة لنكولن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤