الولايات المتحدة

ما هذه الولايات المتحدة التي نتحدث عن غاباتها وأصقاعها البرية؟ وما فصلها في تاريخ هذا الوجود؟

برزت الولايات المتحدة دولة من دول العالم على حين غرة؛ فكان بروزها السياسي شبيهًا بما يزعمه بعض الجغرافيين عن وجودها المادي؛ إذ يقولون إن أمريكا أو الدنيا الجديدة قد برزت من تحت الماء في حركة من حركات هذا الكوكب الذي نعيش فيه! وما كان بروزها السياسي في الحق إلا حركة من حركات الشعوب في هذا المضطرب الواسع الذي نسميه العالم، حركة لم يكن يظن أحد يوم بدأت أنها بالغة بعدُ ما بلغته.

سمع الناس في أوروبا قبل أن ترجف الراجفة في فرنسا بسنوات قليلة عن أنباء عجيبة تأتيهم من وراء المحيط؛ سمعوا عن الحرية يرف جناحاها الجميلان، ويتهلل وجهها الأبلج في تلك الربوع الفسيحة التي وجه كولومبس أنظار الدنيا القديمة إليها قبل ذلك بنحو ثلاثة قرون، وسمعوا عن أختها الديمقراطية ترفع علمها، وتشهر سلاح الإيمان واليقين؛ سلاح جان دارك الخالد في وجه الطغيان العبوس المربد؛ وسمعوا عن مراكب من الشاي تقذف حمولتها في البحر وتلتهمها النيران، وسمعوا عن جموع ثائرة تلتقي هنا وهناك هاتفة صاخبة، وعن جنود تحشد خفافًا وثقالًا، ثم ما لبث الناس في الدنيا القديمة أن علموا أن الحرب دارت رحاها بين إنجلترة وأبناء هاتيك الولايات، وأيقنوا أنها باتت من جانب أبناء الولايات حرب نصر أو فناء.

•••

وكانت هذه الولايات قبل حرب الاستقلال مستعمرات جعلت منها العوامل الاقتصادية والاجتماعية قسمين: المستعمرات الشمالية والمستعمرات الجنوبية؛ فكان الاختلاف بين القسمين مردُّه إلى الفوارق في التربة والمناخ بين الشمال والجنوب ولا دخل هنا للفوارق الجنسية، إذ كان أثرها في هذا التقسيم ضئيلًا لا يكاد يكون له وزن؛ لأنها كانت في ذاتها فوارق طفيفة، أو أصبحت بفعل الزمن طفيفة.

وكانت مستعمرة ماري لاند من الوجهة الجغرافية هي الفاصل بين الشمال والجنوب؛ فهي والمستعمرات الواقعة جنوبيها تكون القسم الجنوبي، وما وقع شماليها فهو القسم الشمالي.

كانت الأرض في الشمال على العموم أقل خصبًا منها في الجنوب، وكان الناس وهم من النازحين الأوروبيين، وبخاصة الأنجليز، يزرعون مساحات منها تكفي لسد حاجاتهم مما يؤكل، فكان الرجل يعتمد على معونة بَنِيه فحسب؛ ومن ثم كان هؤلاء الزارعون في الشمال فقراء، ولم تنشأ هناك الملكيات الواسعة إلا في حالات نادرة.

على أن ذلك لم يَحُلْ دون ظهور الطبقات والفوارق الاجتماعية؛ فهناك فريق التجار من ساكني المدن القريبة من المحيط، وكان هؤلاء يصدِّرون إلى إنجلترة حاصلات المستعمرات ويستوردون المصنوعات ليبيعوها لساكني المدن ولمن يطلبها من الزارعين. ولقد انحصرت الثروة في أيدي هؤلاء التجار، فكانوا هم الطبقة الأرستقراطية في الشمال، وكان الزارعون ينظرون إليهم نظرة الحقد والكراهية، وفي هؤلاء التجار وأبنائهم انحصرت الوظائف الإدارية ووظائف الجندية؛ إذ كان لهم قسط من التعليم يضاف إلى حظهم من الجاه، وإن كان تعليمهم يومئذ محدودًا على قدر مستوى مدارسهم ومستوى معلميها.

أما في الجنوب فكان الحال على خلاف ذلك؛ إذ كانت الثروة في أيدي الزارعين؛ وسبب ذلك أن التربة أكثر خصبًا، وأن المناخ يساعد على زراعة الطباق، وهو محصول كان يغري تصديره إلى أوروبا بالإكثار من زراعته وكسب المال الموفور من هذه الزراعة، ولقد كان ذلك سببًا في حاجة الزراعين إلى عدد عظيم من الأيدي العاملة، فماذا يصنع أهل الجنوب؟ لقد لجئوا إلى أمر أدى إلى خلق مشكلة من أعقد المشاكل؛ وذلك أنهم أخذوا يستخدمون السود من العبيد ويستجلبونهم بكثرة من أفريقيا، ولقد أخذ يزداد عدد هؤلاء السود منذ بداية القرن الثامن عشر.

وظهرت الفوارق الاجتماعية في الجنوب أيضًا؛ فهناك كبار الملاك وصغار الزراعين، وكان صغار الزراعين في الجنوب أشبه حالًا بأمثالهم في الشمال، وكانوا كذلك ينظرون نظرة الحقد والكراهية إلى كبار الملاك الذين حصلوا على الأراضي بالزلفى إلى الحكام والتقرب إليهم بشتى الوسائل، والذين استمتعوا هم أيضًا بالنفوذ والمناصب الهامة، وأتيح لهم في مدارسهم حظ من التعليم، أما العبيد فكان شأنهم شأن الماشية يحشرون في حظائر كما تحشر الدواب، ويساقون إلى العمل كما تساق الأنعام، ومن كان هذا شأنهم فلن يكون لهم موضع في المجتمع، وحسبهم أن يذكر سادتهم أنهم آدميون، وقليلًا ما كان هؤلاء السادة يلتفتون إلى هذا المعنى!

وكان صغار الزراعين في الشمال، وبخاصة النازحون منهم إلى الغرب على حدود الولايات، أكثر الناس بؤسًا وشقاء؛ فكان عليهم أن يشقوا الأحراج، ويقطعوا الأشجار، ويزرعوا ما نتج عن ذلك من الأرض الفضاء، وكان على الرجل منهم أن يفي بكل مطالب أسرته؛ فعليه بناء الكوخ من الكتل الخشبية يسويها بفأسه، وعليه زرع الأرض وتعهد الماشية، وعليه إطعام الأسرة بما يصيب من صيد؛ ومن أجل ذلك كانت الفأس والبندقية أغلى عنده من كل شيء، وكان فرحه بالبنين عظيمًا؛ إذ يكونون عدته في هذا الكفاح المتواصل.

وكانت أكواخ هؤلاء الكادحين السذَّج تتناثر هنا وهناك على مدى البصر، وكانوا يتعرضون لهجمات الوحوش وهجمات السكان الأصليين من الهنود الحمر في تلك الأصقاع الغربية البرية، التي كانوا يعيشون فيها على نحو أشبه بعيشة آباء الإنسانية الأولين.

على أن حياة هؤلاء لم تخلُ من بعض المزايا؛ فقد خلصت طباعهم من أوضار المدنية ورذائلها، وغرس في نفوسهم حب الاستقلال والاعتماد على النفس، ودرجوا على الفطرة ينظرون إلى معاني الخير والشر نظرة خالية من أوضاع الفلسفة وفوضى المبررات والملابسات، فجاءت لذلك نظرتهم هذه نظرة إنسانية تتمثل فيها الرجولة الحقة لم تفسدها النظرات والتأويلات.

وغرس فيهم الخوف المتواصل على مدى الزمن ألا يبالوا بمخوف، وأن يلاقوا الشدائد والمحن صابرين أشداء، فهم لكثرة ما يلاقون من شظف المعيشة لا يجدون كبير فرق بين أوقات خوفهم وأوقات أمنهم، وقد اكتسبوا كذلك من بيئتهم كما اكتسب أهل الصحراء الإيمان بالقدر والإذعان لأحكامه.

هذه هي الحال الداخلية للمستعمرات قبل حرب الاستقلال، فأما أهل المدن فكانوا مترفين في الشمال والجنوب كما رأينا؛ التجار منهم وكبار الملاك في رغد العيش سواء، وأما الزارعون من ساكني الأكواخ فكانوا يلاقون بؤس العيش راضين صابرين، وإن كانوا يمقتون هؤلاء الأغنياء مقتًا شديدًا.

أما علاقة هذه المستعمرات بإنجلترة، فكانت حتى قبيل الثورة علاقة هادئة، بل لقد كان السكان في جملتهم، الأغنياء منهم والفقراء، ينظرون إلى إنجلترة نظرتهم إلى الأم، وكثيرًا ما كانوا يسمونها «الوطن»؛ إذ كان معظمهم قد هاجروا إلى أمريكا من هناك؛ أما الأغنياء فكانوا يحرصون على العلاقات التجارية بينهم وبين إنجلترة، ويعتمدون على أسطولها في حماية متاجرهم ونقلها، فهم لذلك موالون للتاج البريطاني، وأما الفقراء فلم يكن لهم صلة بالسياسة واتجاهاتها، اللهمَّ إلا فئة قليلة ممن كانت لهم بالمدن علاقة، وكان الأغنياء والفقراء جميعًا يحرصون على أن تحميهم إنجلترة من الفرنسيين في كندا والإسبانِ في فلوريدا.

•••

وإذا كانت الحال كما ذكرنا، فجدير بالمرء أن يتساءل، ما الذي جر أهل هاتيك المستعمرات إلى الثورة على إنجلترة، وما الذي جمعهم على غرض واحد وكان بينهم من عوامل التفرقة في الداخل ما أشرنا إليه.

لقد كان مرد تلك الثورة في الجملة إلى نزعة من نزعات الحماقة منيت بها السياسة الإنجليزية في فترة من الزمن، فكان في تلك السياسة من الحمق يومذاك بقدر ما يكون فيها من رشد في بعض أوقاتها.

لقد رضي سكان المستعمرات بالكثير لتبقى لهم حماية إنجلترة؛ رضوا بقوانين الملاحة والتجارة التي فرضتها عليهم إنجلترة، فلا تنقل متاجرهم إلا سفن إنجليزية، ولا تصل إليهم من سلع غير إنجليزية إلا عن طريق إنجلترة؛ ليظل لإنجلترة أجر النقل وربح التجارة.

وخرجت إنجلترة منتصرة من حرب السنين السبع (١٧٥٦–١٧٦٣)، وكانت ميادينها في أوروبا وآسيا وأمريكا، وظفرت من هذه الحرب بتوطيد نفوذها في الهند وطرد الفرنسيين من كندا، ولكنها وجدت نفسها وقد أثقلت الديون كاهلها.

ورأت أن جانبًا من هذه الديون قد أنفق على الدفاع عن سكان تلك المستعمرات الأمريكية، ورأى أهل المستعمرات أن إنجلترة أنفقت ما أنفقت من أجل مصلحتها هي فحسب، وأبت إنجلترة إلا أن تحمِّل أهل المستعمرات جانبًا من ديون الحرب؛ فعمدت إلى فرض ضريبة «الدمغة» على كل المكاتبات الرسمية، فكانت هذه الخطوة أولى حماقاتها تجاه المستعمرات.

وشددت إنجلترة في تنفيذ قانون الملاحة والتجارة، وكان الأمريكيون أثناء حرب السنين السبع قد لجئوا إلى تهريب بعض المتاجر، وأخذت إنجلترة أهل المستعمرات بالشدة في وقت زال فيه خطر الفرنسيين من كندا، وقلت الحاجة تبعًا لذلك إلى حمايتها، فكانت فعلتها هذه في تلك الظروف ثانية الحماقات.

وباتت الأنباء تنذر بعاصفة من عواصف السياسة، فأهل المستعمرات يرفضون الإذعان لضريبة الدمغة، فلا يجوز لبرلمان لا يمثلون فيه أن يفرض عليهم ضريبة، وجرت على ألسنتهم كلمة قصيرة حاسمة «لا ضرائب بغير تمثيل»، ولكن الإنجليز من ناحية أخرى يتمسكون بأن الدفاع الإمبراطوري عن سلالة البريطانيين أينما وجدوا جعلهم يدافعون عن بعض تلك السلالة في أمريكا، فعلى هؤلاء قسط من نفقات هذا الدفاع.

وانتقلت المسألة بهذا من مظهرها الاقتصادي إلى مظهر سياسي خطير، وأصر كل من الجانبين على أنه صاحب حق.

وألغى البرلمان قانون الدمغة، ولكنه شفع هذا العلاج بطعنة ليته لم يقْدم عليها وقتئذ؛ وذلك أنه أعلن حقه في فرض أية ضريبة تقتضيها المصلحة في المستقبل ليحتفظ بحقه تجاه المستعمرات.

ولكن المسألة باتت عند الأمريكيين مسألة مبدأ سياسي لا مسألة نقود تدفع؛ ولذلك نراهم يلجئون إلى العصيان والمقاومة، عندما لجأ الإنجليز بعد إبطال قانون الدمغة إلى فرض ضرائب على بعض المتاجر الخارجية.

فرض الإنجليز عام ١٧٦٧ ضرائب على ما يردُ إلى المستعمرات من الزجاج والشاي والورق والرصاص وألوان التصوير وأشباهها، وعارض الأمريكيون أشد المعارضة، ولجأ الإنجليز إلى اللين، فألغوا كل هذه الضرائب إلا ضريبة الشاي؛ تقريرًا لحقهم أيضًا وتثبيتًا لمبدأ سياسي لا يتزحزحون عنه.

ولكن الأمريكيين لا يتزحزحون هم أيضًا، فبدءوا المقاومة بالإضراب عن شرب الشاي، ثم وقع حادث كان بمثابة الثقاب المشتعل يلقى على الحطب؛ وذلك أن بعض الأمريكان تنكروا في زي الهنود الحمر، ودخلوا ميناء بوسطن، وألقوا بما كانت تحمله ثلاث سفن من الشاي في البحر.

وثار الإنجليز وهم أهل صبر وتؤدة، فكانت ثورتهم حينذاك كبرى حماقاتهم، فقررت الحكومة البريطانية إقفال ميناء بوسطن ومحاكمة الثائرين أمام محاكم إنجليزية، وألغت دستور ولاية مساشوست؛ عقابًا لها على تمردها.

وائتمر الأمريكيون في فيلادلفيا عام ١٧٧٤ لينظروا ماذا يفعلون، وكان مؤتمرهم هذا أولى خطواتهم نحو الاستقلال.

أعلن المؤتمرون حقوقهم وقرروا قطع العلاقات التجارية مع الإنجليز حتى تزول أسباب الخلاف، ولكنهم قرروا في صراحة أنهم ظلوا على ولائهم للتاج.

ولكن المشاجرات ما لبثت أن وقعت بين الجند البريطانيين وبعض الأمريكيين، وعمدت إنجلترة إلى القوة لتثبيت وجهة نظرها؛ فلم ير الفريقان بدًّا من الاحتكام إلى السيف بعد أن فشل الاحتكام إلى المنطق.

واشتعلت نار الحرب، وجعلت القيادة لرجل أصبح من مفاخر أمريكا وذلك هو جورج وشنطون، وجمعت الجند من مختلف الولايات، وشاعت في الأمريكيين حماسة أنستهم ما بينهم من أسباب الخلاف، وائتمر زعماؤهم مرة ثانية في «فيلادلفيا» عام ١٧٧٦، وفي هذه المرة أعلنوا استقلالهم عن إنجلترة كاملًا، وبات السيف هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق هذا الغرض القومي العام.

وانتقل الأمريكيون تحت راية وشنطون من نصر إلى نصر، وتقدم المتطوعون من الفرنسيين يشدون أزر الثائرين المجاهدين؛ انتقامًا من إنجلترة. وما زال الكفاح متصلًا والجهاد مريرًا، حتى تم للأحرار المجاهدين النصر يوم أرغم القائد الإنجليزي كورنوالس على التسليم لوشنطون في مدينة بوركتون في التاسع عشر من أكتوبر عام ١٧٨١، بعد صراع اتصل سبع سنوات.

وفي سبتمبر عام ١٧٨٣ لم تر إنجلترة بدًّا من قبول معاهدة فرساي التي نص فيها على اعترافها باستقلال مستعمراتها الأمريكية استقلالًا لا قيود فيه، وأصبحت كل مستعمرة ولاية حرة لا تربطها بتاج الإمبراطورية أية تبعية، فماذا عسى أن تكون علاقة هذه الولايات الحرة كل منها بالأخرى؟ أتنفرد كل ولاية عن أخواتها، أم ترتبط الولايات بعضها ببعض برباط يجمع شملها؟ وأي ضروب الارتباط هو خير لها؟ أتظل كما كانت في ظل كفاحها من أجل الحرية؟ ذلك ما كان يدور بخلد الساسة غداة الاستقلال.

لقد كسب الأمريكان استقلالهم تحت رايةٍ الْتمعتْ على صفحتها ثلاث عشرة نجمة وثلاثة عشر خطًّا تمثل الولايات الثائرة وعددها ثلاث عشرة، وكان الأمريكان قبيل ظفرهم قد أقاموا لأنفسهم اتحادًا سنة ١٧٨١، كما كان يشرف منهم على الحرب منذ اشتعلت نارها مؤتمر عام، ولكن هذين لم ينص على استمرارهما إذا تم النصر.

والحق أن نفوذ ذلك المؤتمر العام قد تضاءل بعد الصلح حتى كاد ينعدم، وذهب ذلك الاتحاد بذهاب الغرض من إقامته وهو المفاوضة، كسلطة لها حق البتِّ فيما يهم الجميع.

وصارت كل ولاية حرة فيما تأخذ أو تدع من الشئون، ولكن الحال ما لبثت أن أوجبت الاتحاد؛ فلقد أخذ يدب الخلاف بين بعض الولايات وبعضٍ في مسائل كثيرة؛ كالدين العام ونظام الاسترقاق، وإعانة الجند الذين سرحوا حسب شروط الصلح، والالتزام بما يخص إنجلترة من حقوق وفق المعاهدة، حتى لقد باتت إنجلترة تخشى من سوء الحال، وتندد بعدم وجود سلطة مسئولة عن تنفيذ ما تم التعاهد عليه.

وكان كثيرون من بعيدي النظر يرون أن لا صلاح للولايات إلا أن يشملها نظام تسهر عليه سلطة مركزية، ومن هؤلاء وشنطون بكل الاستقلال؛ لذلك دعوا إلى عقد مؤتمر للنظر في هذه المسألة، وشهدت مدينة فيلادلفيا اجتماعًا كبيرًا كتلك الاجتماعات التي رأتها قبل الاستقلال، وكان زعيم المؤتمرين هذه المرة كذلك وشنطون.

وكان عمل المؤتمرين شاقًّا؛ إذ كان هناك من يغالون فيما سمَّوه حقوق الولاية، فأخافهم التفكير في إقامة اتحاد عام ظنوا أنه يسلب الولايات حريتها في العمل.

وبلغ من صعوبة العمل أن حار المؤتمر بين أمرين: أيمضي إلى إقامة نوع من التعاهد بين الولايات على أساس أن كلًّا منها سلطة مستقلة، كما يكون التعاهد بين الدول، تجاورت أو تباعدت، أم يضم الولايات كلها في نطاق واحد ويجعل منها أمة واحدة؟

ورأى بعد طول حيرته أن كِلَا الأمرين مردود؛ فأولهما لا يفي بالغرض في الظروف القائمة، وثانيهما في عداد المستحيلات.

وانتهى الرأي أخيرًا إلى إقامة سلطة مركزية في شكل دولة تعاهدية، ونص الدستور الذي وضعه المؤتمِرون على أن تبقى كل ولاية حرة في شئونها الداخلية، ولا تتدخل السلطة المركزية إلا في مسائل الضرائب العامة، وفيما يتطلبه الدفاع الحربي عن الجميع، وفي مسائل المواصلات والبريد وأشباهها من الشئون التي تمس الولايات جميعًا.

واختير وشنطون سنة ١٧٨٩ رئيسًا لهذه السلطة المركزية، وهي حكومة الولايات المتحدة وفق هذا الدستور. ونص الدستور على أن تكون مدة الرياسة أربع سنوات، يجوز بعدها إعادة نفس الرئيس الذي خلت مدته إذا شاء الناخبون، ويقوم إلى جانب الرئيس نائب الرئيس، وهو كذلك ينتخب لمدة أربع سنوات، ويتولى سلطة الرئيس في حال وفاته أو اعتزاله لأي سبب حتى ينتخب الرئيس الجديد.

وتنحصر السلطة التشريعية للاتحاد في مجلسين: مجلس النواب ومجلس الشيوخ، ويُختار أعضاء كل منهما من الولايات بطريق الانتخاب، ويتألَّف منهما مجتمِعَين مجمعٌ عام يسمى الكونجرس، وينبغي أن ينعقد مرة في السنة على الأقل، ويدعى إلى الانعقاد بعد ذلك إذا دعت الضرورة.

ويتولى الرئيس السلطة التنفيذية بعد أن يقسِم أمام الكونجرس على الولاء للدستور، ويصبح الرئيس الأعلى للقوات البرية والبحرية للاتحاد وكذلك لقوات الولايات المختلفة إذا اشتركت فعلًا في حرب من أجل الاتحاد، وله بمشورة مجلس الشيوخ وموافقته سلطةُ تعيين الوزراء والسفراء والقناصل والقضاة في المحاكم العليا وغيرهم من كبار الموظفين، كما أن له حق الإشراف على أعمال الوزراء أو غيرهم من كبار رجال السلطة التنفيذية، فيراجع أعمالهم ويطلب إليهم تقديم التقارير الشفوية أو الكتابية عما يرى من الشئون.

وبهذا الدستور استطاع المؤتمرون أن يوفقوا بين المتمسكين بحق الولاية في الحرية والراغبين في الاتحاد، ولما صار هذا الاتحاد حقيقة قائمة أصبح همُّ كل رئيس المحافظة عليه وتدعيمه ومقاومة كل ما من شأنه إضعافه أو فصم عروته؛ وذلك لأنه لم تتم له حقيقته إلا بعد عواصف هوج كادت تأتي عليه؛ ففي بعض المدن ألفت مظاهرات وحدثت اضطرابات بسبب العداء لدستور الاتحاد، ورفضت بعض الولايات الاعتراف به، وتمهلت بعض الولايات حتى ترى مدى نجاحه، وظل هذا الحال حتى تغلبت الحكمة، وانتصر القائلون بالاتحاد، وكان لشخصية وشنطون بطل الاستقلال أثر بعيد في إدراك النجاح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤