عضو في الكونجرس

سافر أبراهام وزوجته سفرًا طويلًا إلى وشنطون في شهر نوفمبر سنة ١٨٤٧، وكانت ماري راضية عن زوجها متفاخرة به مطمئنة إلى مستقبله، وفي هذه العاصمة شهدت ماري البيت الأبيض، وأطقلت العنان لخيالها وأمانيها، ورأت زوجة الرئيس بولك تقدم إليها السيدات احترامهن إذ تلقاهن في مثل وقار الملكة المتوجة وعظمتها، وإن لم يعل التاج رأسها. وتطلعت ماري إلى المستقبل وهي تطيل النظر إلى مسز بولك في إعجاب وإجلال.

وفي شهر ديسمبر اتخذ أبراهام مقعدة في الكونجرس عضوًا في مجلس النواب عن إلينوى، وهو اليوم غيره حين دخل سبرنجفيلد قبل ذلك بعشرة أعوام على جواده الهزيل؛ هو اليوم مهندم الملابس؛ إذ تعنى زوجه بهذا عناية شديدة، وقد ذهبت عن محياه نظرات السذاجة التي جعلت ذلك الإنجليزي بالأمس يصفه بأنه أشبه بفلاح يشهد البهلوان لأول مرة، وهو اليوم ملمٌّ بالسياسة ومسائلها وبمشكلة العبيد وتاريخها، وهو لا يخشى تهيبًا ولا وجلًا إذا تحدث أو تهيأ للخطابة، وكانت زوجه تراه في مقعده من شرفة الزائرين، وفي وجهها ابتسامة الرضى عنه والزهو بجلوسه حيث يجلس، وإن كانت لتغضب أحيانًا حين تسمع من يتساءل عن ذلك الشخص النحيف الطويل، فيكون الجواب أنه محام من الغرب، وتسأل نفسها متى يذكرونه باسمه، أو متى يعرف كما يعرف غيره من رجال السياسة فلا يتساءل أحد عنه، وإنها لترى دوجلاس وهو في الكونجرس عضو في مجلس الشيوخ أعلى درجة من بعلها، وتجده معروفًا لا يتساءل الناس عنه فتتألم وتعبس، ولكن هاجسًا يهمس في نفسها بمستقبل أبراهام فيسري عنها غضبها.

وسرعان ما أنس الناس بأبراهام، فهم إذا جلسوا إليه يشعرون أن روحًا قوية تسري إليهم منه، وكذلك تطل عليهم نفسه في فيض من قصصه ونوادره، فكثيرًا ما يخرج من صمته مبتدئًا في بشر بهذه العبارة «يذكرني ذلك بحكاية …»، ثم يتلو حكايته أو يحكي نادرته في عذوبة روح وسراوة طبع وجمال أداء، حتى ما يدع أحدًا إلا وهو شديد الإعجاب به عظيم الانجذاب إليه، سواء من كان مثله من الأصقاع الغربية أو من كان من أصقاع الشرق.

وكانت مسألة الحرب المكسيكية تشغل الأذهان يومئذ، وقد أرسل الرئيس بولك رسائل إلى الكونجرس يبرر فيها أسباب إعلان هذه الحرب ويبرر طولها، ويعبر عن أمله في أن تنتهي قريبًا بالنصر.

ونظر رجال الكونجرس، فإذا بذلك المحامي النحيف الطويل القادم من الغرب يخطو خطوة جريئة تلفت إليه جميع الأعضاء كما تلفت إليه الصحافة، ذلك أنه قدم أسئلة إلى الرئيس عن هذه الحرب، ثم أعلن رأيه في خطبة قوية احتفل لها، وفيها وجَّه اللوم في صراحة وجرأة إلى رئيس الاتحاد أن خرج بهذه الحرب على الدستور كما فرط بها في أصول الخلق والعدالة.

تساءل أبراهام: هل كانت الحرب حرب عدوان أم حرب دفاع؟ وهل كانت الولايات المتحدة هي البادئة بها أم المكسيك؟ ثم قال: «ليُجبْ الرئيس بوقائع لا بجدل، وليذكر الرئيس أنه يجلس حيث جلس وشنطون، وإذا ذكر ذلك فليجب كما كان يجيب وشنطون، وكما أنه لا يليق بأمة أن تهرب من الحق والله لا يسمح أن يهرب منه، كذلك فليتجنب الرئيس الهرب والمراوغة، فإذا استطاع أن يقيم الدليل على أن الأرض التي سالت عليها الدماء أول ما سالت هي أرضنا، فإني أوافقه على ما يسوق من مبررات، ولكنه إذا عجز عن ذلك أو أحجم عن البرهان كنت خليقًا أن آخذ على اليقين ما يهجس في نفس مما هو أكبر من الظن، فأرى أنه يشعر بخطيئته، وأن الدم الذي سال في تلك الحرب هو كدم هابيل يستصرخ عليه السماء، فقد ورط الدولتين في حرب ووثق من تجنبه الاستجواب بأن حسر الأبصار في سنا العظمة الحربية، قوس الغمام الجذاب الذي يعلو في رذاذ من الدم أو عين الثعبان التي تسحر لتهلك، ثم أثخن في الأرض وسيق مرحلة بعد مرحلة، حتى إذا فاته التوفيق فيما قدر لإخضاع المكسيك من سهولة، وجد نفسه بحيث لا يعلم أين يكون مما هو بسبيله …»

ولكن الولايات المتحدة كانت ظافرة، فكانت الحرب لذلك أمرًا مستساغًا في نظر أكثر الناس؛ لأنها سوف تضم إلى الولايات أرضًا جديدة، ومن أجل ذلك لم ينل أبراهام بخطابه من الرئيس، ولم يكن هناك ما يجبر الرئيس على أن يرد على تلك الأسئلة، فكان الفشل نصيب هذا الخطاب من الناحية السياسية، ولكن أبراهام قد جعل الأمر في هجومه أمر عدالة وخلق لا أمر سياسة؛ فإنه يندد بالعدوان على المكسيك ويستنكر ذلك الفعل، وبخاصة من دولة تدعو إلى الحرية وتباهى العالم بأنها أرض العدالة، ولئن كان موقفه ضعيفًا إذا أردنا السياسة، فإنه كان عظيم القوة بما أظهر للملأ من اهتمام بروح العدالة في أمرٍ طرب له أكثرهم غافلين عما به من جور.

figure
عضو في الكونجرس.

ومما جاء في ذلك الخطاب قوله: «إن من حق أية أمة في أية جهة إذا أحست في نفسها الميل واستشعرت القوة أن تثور في وجه الحكومة القائمة وتعصف بها، ثم تقيم بعد ذلك من الحكومات ما يكون أكثر ملاءمة لها.» وإنا لنراه بذلك يجعل للثورات صفة شرعية، ثم إنه يقرر مبدأ سلطة الأمة ويجعلها أساس كل سلطة.

تلك هي خطبة لنكولن التي افتتح بها عمله في الكونجرس. تراها — وإن لم تصب موضع العطف من نفوس الأعضاء — قد رفعت ذكر ذلك المحامي في قلوب رجال السياسة في وشنطون، وعلم من لم يكن يعلم منهم مقدار ما أوتي ابن الأحراج من قوة المبادهة ومتانة الحجة وفصاحة اللسان، ومبلغ ما رزق من قوة الجنان ويقظة الوجدان، ورأوا فيه — إلى جانب القصاص الذي لا يبارى — الخطيبَ الذي يعرف كيف يسحر السامعين، وإن كانوا عن آرائه معرضين.

وكم للتاريخ من مواقف تدعو إلى العجب! فهذا لنكولن اليوم في الكونجرس يقرر حق الشعوب في اختيار ما ترضى من الحكومات ويندد بحرب العدوان، ولسوف يتخذ أهل الجنوب في غد من أقواله حجة عليه، يوم يهمون بالانسلاخ من الاتحاد والرئيس لنكولن يأبى عليهم ما يبتغون، ويعمد إلى الحرب فيصليهم نارها، ويكرههم على البقاء في الاتحاد وهم صاغرون!

ولم يقع خطابه موقعًا حسنًا في نفوس الهِوِج من أهل سبرنجفيلد، وإن كانوا يرون فيه ما ألفوه منه من توخي العدالة في كل أمر، كتب إليه صديقه وشريكه هرندن يخبره بذلك، ويعلن إليه أنه كذلك يخالفه فيما فعل. ورد أبراهام على كتابه يوضح وجهة نظره، ويذكر أنه ينكر من الحرب بعدها عن العدالة ومخالفتها روح الدستور، ويؤكد لصاحبه أنه لو كان في مكانه لفعل مثل فعله.

ولقد ساء لنكولن وبلغ من نفسه ما كان من سوءٍ وقْعُ خطابه في سبرنجفيلد على النحو الذي ذكره هرندن، فإنه ما كان يتوقع غير الإعجاب بذلك الخطاب الذي عني به عناية شديدة، وإنه ليجعل للخطابة أهمية كبرى يومئذ ويراها عدة السياسي الطموح، تلمس ذلك في كتاب أرسله إلى هرندن قال فيه: «إنما أمسك قلمي لأقول إن مستر ستيفن المنتمي إلى جورجيا، وهو رجل ضئيل الجرم نحيف شاحب الوجه أنهكه السل له صوت مثل صوت لوجان، قد فرغ لتوه من أحسن خطاب استغرق ساعة سمعته في حياتي، وإن عينيَّ الذابلتين الجافتين لا تزالان مملوءتين بالدمع، ولو أنه كتبه ونشره لرأى الناسُ نسخًا عديدة منه.»

ولم يعف أبراهام من استياء رجال حزبه في سبرنجفيلد أنه وافق على الاعتماد المالي الذي قرره الكونجرس لمتابعة الحرب، وكانت حجة أبراهام في ذلك أنه لا مناص من اعتماد المال وقد تورطت الولايات المتحدة في الحرب فعلًا، أما مشروعية هذه الحرب أو دستوريتها فهذا ما لا يؤمن به وما لا يزال يدافع عن رأيه فيه. جاء في كتاب له إلى هرندن قوله:

إن احتياط الدستور في جعل السلطة في شئون الحرب إلى الكونجرس قد أملته كما أعتقد الأسباب الآتية: اعتاد الملوك أن يجرُّوا دولهم إلى الحرب ويجلبوا إليها الفاقة مدعين في أغلب الأحيان — إن لم يكن دائمًا — أن خير أممهم هو رائدهم، وقد فطن رجال المؤتمر الذي وضع الدستور إلى أن هذا في استبداد الملوك أكثر أعمالهم طغيانًا، وعلى ذلك فقد صمموا أن يجعلوا الدستور بحيث لا يسمح لفرد أن يملك من السلطة ما يفرض به علينا هذا الطغيان، ولكن وجهة نظرك تقضي على هذا كله وتضع رئيسنا في موضع هؤلاء الملوك.

وكتب إليه هرندن بعد أيام كتابًا يصور فيه مبلغ ما وصل إليه استياء أصدقائه في سبرنجفيلد من مسلكه بصدد حرب المكسيك، وكان لنكولن قد اشترك في مؤتمر عقد في فيلادلفيا لترشيح رئيس جديد للاتحاد، وفيه أيد أبراهام ترشيح ذكرى تيلور بطل حرب المكسيك، وانصرف كما انصرف معظم الهِوِج عن تأييد هنري كلِيي.

وكان إعجاب لنكولن بهنري قد ذهب فجأة حين زار أبراهام مدينة لكسنجتن عام ١٨٤٦؛ ليستمع إلى خطاب أعلنت الصحف أن هنري سيلقيه هناك، فلما رآه أبراهام وسمعه — وكان قد سافر هذا السفر الطويل ليسمعه — لم يعجبه كخطيب، لا في سمته ولا في صوته، كما أنه رآه متكبرًا يتعصب لآرائه ويظن أن الناس دونه في الفهم والسياسة، وقد لمس لنكولن فيه هذه الخصال عن قرب؛ إذ دعاه هنري فنزل ضيفًا عليه أيامًا، كان هنري يتسامى فيها على كل شخص معجب به، كأنما يشعر أن من حقه أن يكون موضع الإعجاب وأن يشمخ بأنفه كما يشاء.

وكان أبراهام عائدًا من إحدى جولاته الانتخابية، التي أخذ يدعو فيها لتيلور ضد كاس مرشح الديمقراطيين وهو ممتلئ حماسة وأملًا ونشاطًا، شأنه في كل دعوة يدعو إليها، فوجد كتاب صاحبه هرندن فقرأه ورد عليه قائلًا:

إن الأمل والثقة عظيمان في الميدان الانتخابي كله، وكنت أتوقع أن تصلح إلينوى موقفها وتنشط في هذا المضمار، ولك أن تحكم كيف كان ممزقًا للقلب أن أجيء إلى حجرتي فأجد كتابك المثبط وأقرأه.» على أن اليأس لم يتطرق إلى قلبه الكبير؛ فقد استرسل في كتابه يقول: «والآن فيما يتصل بالشباب ينبغي ألا تنتظروا حتى يدفعكم إلى الأمام من هم أكبر منكم، وهل تظن مثلًا أني كنت أحظى بالاعتبار لو أني لبثت حتى تصيدني ودفعني إلى الأمام الشيوخ، اجتمعوا أيها الشباب وألِّفوا ناديًا حيثما اتفق ورتبوا اجتماعات لكم وخطبًا، اقبلوا في صفوفكم كل من تستطيعون قبوله، اجمعوا الفتيان المتوثبين ذوي الجرأة أينما سرتم سواء من بلغ سن الرشيد منهم ومن كان دونها قليلًا، واجعلوا كلًّا منهم يلعب الدور الذي يحسن لعبه أكثر من سواه؛ فبعضهم يخطب وبعضهم يغني وكلهم يهتفون، واجعلوا اجتماعاتكم في الأماسي، فسيذهب الكبار من الرجال والنساء ليستمعوا إلى ما تقولون، وبذلك لا تكون الفائدة من هذه الاجتماعات مجرد الدعوة لانتخاب «زاك العجوز» فحسب، بل إنها تكون مع ذلك قضاء ممتعًا للوقت وسبيلًا إلى إصلاح مواهب من يشهدونها.

ولكن هرندن كان متشائمًا يحس ضعف حزب الهِوِج ويتوقع قرب فنائه، وقد نشرت بعض الصحف المحلية آراءه هذه فقصَّ منها قصاصات، وأرسلها إلى لنكولن فجاءه منه هذا الكتاب الذي تجد فيه أمثلة واضحة لأخلاق لنكولن وسجاياه قال:

وصلني كتابك المصحوب بقصاصات الصحف ليلة أمس، وإن موضوع هذا الكتاب ليؤلمني أشد الألم، ولا يسعني إلا أن أفكر أن هناك خطأ فيما تذهب إليه من الدوافع التي تحرك الشيوخ، وإني أزعم أني الآن أحد الشيوخ، وإني أعلن معتمدًا على صدقي الذي أثق من حسن رأيك فيه، أنه ما من شيء يرضيني أكثر من أن أعلم أنك ومن معك من أصدقائي الشباب تأخذون قسطكم في الصراع القائم، وتعملون ما يحببكم إلى الناس، ويرفعكم إلى منزلة أسمى مما استطعت أن أناله من إعجابكم، ولن أستطيع أن أتصور أن غيري يرى ما لا أرى، وإن لم أكن قادرًا على أن أبرهن على هذا الزعم الأخير، بيد أني كنت حدثًا مرة وإني لواثق من أنه لم يلق بي أحد إلى الوراء إلقاء غير كريم. إن سبيل الشاب إلى الرفعة هو أن يصلح حاله بكل ما استطاع من وسيلة دون أن يظن الظنون بأحد أنه يريد أن يعوق سبيله. ودعني أؤكد لك أن سوء الظن والحقد لم يعينا امرءًا قط على أمره في أي موقف من المواقف. أجل، ربما وجدت محاولات غير كريمة لتحول بين شاب وبين طموحه ولتبقيه حيث هو، وإن هذه المحاولات لتنتج إذا سمح لعقله أن يتنكب مجراه الحقيقي ليأسَى مفكرًا فيما يراد به من ضرر. انظر، ألم يؤذِ مثل هذا الشعور كل شخص وقع فيه ممن عرفت؟ وبعدُ، فأنا على يقين من أنك لن تظن شيئًا في هذا الذي ذكرت إلا الصداقة الأكيدة … إني أريد أن أنقذك من خطأ قاتل، لقد نشأت شابًّا عاملًا دائبًا، وإنك تعلم عن معظم المسائل أكثر مما كنت أعلم وأنا في سنك، ولا يمكن أن تفشل في أمر تضطلع به إلا إذا وجهت عقلك وجهة غير صحيحة، وإني أفضُلك بعض الفضل في تجارب الحياة؛ لأني أكبر منك فحسب، وإن هذا هو الذي يميل بي إلى أن أنصح لك.

ولعل في هذا الكتاب ما يثير شبهة حول علاقة هرندن بصاحبه، الذي عرفنا قبلًا أنه كان من أكبر المتحمسين له المعجبين به، ولعل هرندن قد ذكر شيئًا في كتابه عن الشيوخ والشباب واختلاف نزعاتهم وميولهم ورغبة الشيوخ في السيطرة والاستبداد بالأمور، ولكن الأمر فيما يظهر لم يعد أنه خلاف في الرأي، وعجيب أن يزعم لنكولن أنه شيخ وهو لم يتجاوز التاسعة والثلاثين إلا قليلًا.

ولم يقتصر الأمر على الخلاف بين أبراهام وصاحبه في شئون السياسة، ولا بينه وبين أصدقائه من الهِوِج بسبب حملته على الرئيس في حرب رحب بها الشعب كله؛ بل لقد شاع عنه أنه يضن بوساطته وشفاعته على ناخبيه، والواقع أنه لم يكن يقبل أن يتوسط أو يتشفع إلا بالحق، وقد فشا في الناس ما أشيع عنه بسبب حادثة، تتلخص في أنه رفض أن يكتب خطابًا طلب منه أحد ناخبيه أن يزكيه به، فأطلق الرجل لسانه فيه بما لا يليق، فكتب إليه لنكولن يقول:

لقد شعرت بأعظم العطف عليك منذ أن تعارفنا، وافترضت أنك تبادلني عطفًا بعطف، وفي الصيف الماضي تحت تأثير ظروف ذكرتها لك تألمت إذ لم أستطع أن أجيبك إلى تزكية أردتها، وعلمت بعد ذلك بقليل، علمًا يحملني على التصديق، أنك أسرفت في الجهر بالطعن علي، ولقد جُرح شعوري بالضرورة بسبب ذلك، وعندما تسلمت كتابك الأخير خطر لي هذا السؤال: أتراك تطلب عوني في الوقت الذي تؤذيني فيه، أم أنه قد أسيء تصوير ما حدث منك؟! فإن كانت الأولى فما كان لي أن أرد عليك، وإن كانت الثانية وجب علي ذلك، ولهذا بقيت زمنًا معلقًا بين الوضعين، وإني الآن أرسل طي هذا الكتابَ الذي يمكنك أن تستخدمه إذا رأيته مناسبًا.

وكان هرندن يتألم مما يشاع عن صاحبه في سبرنجفيلد، ويدافع عنه ما وسعه الدفاع، وإن كان يتمنى لو لم يلق أبراهام ذلك الخطاب، الذي يحار كيف يدافع معه عن صاحبه وإنه ليخالفه مع المخالفين فيما ذهب إليه.

على أن لنكولن لم يكن بالرجل الذي يتقيد بأهواء غيره فيما يأخذ أو يدع، وإنما كان رائده الحق والعدل، لا يهمه أغْضبَ الناس أم أرضاهم. ولقد كان له في هذا الدور الأول لانعقاد الكونجرس خطبتان غير تلك الخطبة، أعلن فيهما لنكولن آراءه مجردة من كل اعتبار إلا العدالة كما يفهمها ويؤمن بها؛ تكلم في الخطبة الأولى بمجلس النواب عما يتصل بتركيز السلطة، وما نجم عنه من عدم المساواة بين الحكومة المركزية وحكومات الولايات في بعض المسائل، فضرب لهم المثل بالأسطول فقال: «إن الأسطول مثلًا هو أعم هذه الأشياء فائدة، ومع ذلك فإن له مزية خاصة لكل من شارلستون وبالتيمور وفيلادلفيا ونيويورك وبوستن أكثر مما له بالنسبة إلى داخلية إلينوى، وعلى ذلك فثمة فوائد محلية في مسائل عامة، وعكس ذلك صحيح أيضًا؛ فلن يكون شيء في محليته بحيث لا ينطوي على بعض الفائدة العامة، والذي يستخرج من هذا كله أنه إذا رفضت الأمة أن تنهض بإصلاحات تتوفر فيها الناحية العامة لأنها تنطوي على بعض الفائدة المحلية، فكذلك تستطيع الولاية للسبب نفسه أن ترفض بعض الإصلاحات المحلية لأنها ربما تؤدي إلى فائدة عامة. تستطيع الولاية أن تقول للأمة: إذا لم تعملي شيئًا من أجلي فلن أعمل من أجلك شيئًا، وهكذا يتضح أنه إذا كان هذا الجدل الدائر حول عدم المساواة كافيًا لوجهة نظر في جانب، فإنه كذلك كاف في كل جانب وفيه القضاء على الإصلاحات نهائيًّا، ولكن لنفرض مع كل هذا أن هناك قدرًا من عدم المساواة، حقًّا إن عدم المساواة لا يمكن أن يقبل في ذاته، ولكن هل يرفض كل أمر صالح لأنه يتصل صلة لا انفصام لها به؟ إذا كان ذلك فيجب أن نلغي الحكومة كلها، إن هذا البناء — أعني مقر الحكم — قد أقيم بنفقة عامة من أجل الصالح العام، ولكن هل يشك أحد أن هناك فائدة محلية تعود من وجوده على أصحاب الأملاك ورجال الأعمال من ساكني وشنطون؟ فهل نزيله من أجل هذا السبب؟

إني لا أريد التعريض بالرئيس الحالي إذا قلت إنها حالات قليلة تلك التي يتمثل فيها الغنم للقلة والغرم للكثرة — أعني عدم المساواة — بشكل أشد مما يتمثل في منصب الرياسة كما يراه البعض. إن عاملًا أمينًا يحفر في مناجم الفحم نظير سبعين سنتيًا في اليوم، بينما يحفر الرئيس العقليات نظير سبعين دولارًا، وواضح أن الفحم أكبر قيمة مما تساويه العقليات، ومع ذلك فما أشنع ما نرى بين الثمنَين من عدم المساواة! فهل يقترح الرئيس لهذا السبب إلغاء الرياسة؟! إنه لن يفعل ذلك وينبغي ألا يفعله، إن القاعدة الصحيحة للبت في قبول أمر أو رفضه ليست أن نتساءل هل ثمت شر في هذا الأمر، ولكن هي أن نتساءل هل فيه من الشر أكثر مما فيه من خير؛ فالأشياء التي هي خير كلها أو شر كلها قليلة، ويكاد كل شيء — وبخاصة سياسة الحكومة — يكون مزيجًا لا ينفصل من الخير والشر؛ وعلى ذلك فإن المفاضلة بينهما — وهي أحسن ما نتبع للحكم على الأشياء — أمر مطلوب أبدًا.»

هذا هو منطق لنكولن القائم على الفهم والإنصاف، تراه لا يتمسك برأي لمجرد المغالبة واللجاج، وترى روح العدالة تسيطر على ما يعرض من الآراء لا يستطيع أن يلتوي أو يداجي أو يتعامى عن الحق، وله مع ذلك حصافة وقوة حجة وقريحة طيعة تواتيه بالأمثلة وتعينه خير عون على المقارنة والقياس والحكم، فما يسع سامعه إلا الاقتناع.

وتجلت في الخطبة الثانية مقدرته العظيمة على التهكم وزلزلة مجادلية بالفكاهة القوية في غير تبذل أو ترخص أو مجانة في القول، وتعد هذه الخطبة من أبلغ وأقوى ما نطق به لنكولن، لا في الكونجرس فحسب، بل في حياته السياسية كلها، وبها برهن أنه قادر أن ينال من خصمه بسلاح السخرية بقدر ما ينال منه بالمنطق القويم والتحليل السليم والسياق البارع.

عاب أحد الديمقراطيين من أنصار كاس مرشح الحزب الديمقراطي على الهِوِج تناقضهم؛ إذ ينكر بعضهم حرب المكسيك ثم يؤيدون ترشيح تيلور بطل هذه الحرب للرياسة، وقال هذا الديمقراطي متهكمًا: إنكم أيها الهِوِج تتخذون مأواكم تحت ذيل حلة حربية. فقال لنكولن: «يقول هذا السيد إننا تركنا مبادئنا جميعًا، واتخذنا مأوانا تحت ذيل حلة الجنرال تيلور الحربية، وإن هذا مشين لنا! وإذا كانت هذه هي عقيدته فله أن يعتقد ما شاء، ولكن ألا يتذكر ذيل حلة حربية غير هذا اتخذ تحته مأواه حزب معين آخر زهاء ربع قرن؟ أليست له معرفة بذلك الذيل القوي؛ ذيل حلة الجنرال جاكسون؟ ألا يعرف أن حزبه قد خاض عمار الانتخابات الخمسة الأخيرة للرياسة تحت ذلك الذيل، وأنهم الآن يخوضون المعركة السادسة تحت الغطاء نفسه؟ أجل يا سيدي إن ذلك الذيل قد استخدم لا في انتخاب الجنرال جاكسون نفسه فحسب، بل إنه منذ ذلك الوقت لا يزال كل مرشح ديمقراطي يستمسك به استمساك الاستماتة، إنكم لم تجرءوا ولن تجرءوا أن تبرزوا من تحته، وإن أوراقكم التي تنشرون في المعركة ظلت دائمًا ملأى بالإشارات إلى هِكُري العجوز،١ وبالرسوم الشوهاء التي تمثل الجنرال الشيخ، كما أنها كانت مفعمة بشارات لا نهاية لها، متخذة من جذوع الهكري وأغصانها، ولقد أطلقتم على مستر بولك نفسه شجرة «الهكري الفتية» أو «الهكري الصغيرة»، وها هي ذي الآن أوراقكم الانتخابية تزعم أن كاس وبتلر من فصيلة الهكري … لا يا سيدي، إنكم لا تجرءون على التحرر من هذا … ولقد لبثتم متعلقين بذيل ذلك الأسد في منعزله حتى نهاية حياته، وها أنتم أولاء ما زلتم تتمسكون به، وتستمدون منه عونًا بطريقة بغيضة بعد موته. زعموا أن رجلًا أعلن ذات مرة أنه أحدث كشفًا به يستطيع أن يصنع رجلًا جديدًا من رجل قديم، وأنه قد بقي لديه فضل من مادة الرجل يكفي لصنع كلب أصفر صغير، وهكذا كانت شهرة الجنرال جاكسون لكم كذلك الكشف المزعوم؛ فإنكم لم تكتفوا بصنع رئيسين منه اعتمادًا على شهرته، بل إنه لا يزال لكم فضل منه يكفي لأن تصنعوا منه رؤساء أصغر قدرًا إذا قيسوا بمن مضوا، وما زال أهم ما تعتمدون عليه الآن هو أن تصنعوا رئيسًا جديدًا …!

والآن أيها السيد رئيس المجلس، إن الخيل العتاق وذيول الحلل الحربية أو الذيول من أي نوع ليست من صور البيان التي أرتضي أن أكون أول من يدخلها فيما يجرى هنا من مناقشات، ولكن بما أن ذلك السيد المنتمي إلى جورجيا قد وجدها لائقة لأنْ يدخلها، فمرحبًا به وبك في كل ما استطعتم أو ما تستطيعون أن تفعلوا بها، وإن كان لديكم مزيد من الخيل العتاق فأطلقوها، أو كان لديكم مزيد من الذيول فارفعوها وأقبلوا علينا. إني أكرر أني ما كنت أحب أن أدخل هنا هذا النوع من الكلام، ولكني أرغب أن يفهم السادة من الجانب الآخر أن استعمال الصور البيانية المشينة لعب قد يجدون أنفسهم فيه بحيث لا يصيبون كل مغنم [صوت … كلا نحن نتخلى عنه] أجل إنكم تتخلون عنه وحسن ما تفعلون. وبهذه المناسبة هل علمت أيها الرئيس أني بطل من أبطال الحرب؟ أجل يا سيدي، في أيام حرب الصقر الأسود، قد حاربت وجرحت، وإن الحديث عن صنيع الجنرال كاس ليذكرني بصنيعي، إني لم أشهد هزيمة ستل مان، ولكني كنت على مقربة منها بقدر ما كان كاس على مقربة من استسلام هَلْ، ولقد شاهدت المكان بعدها كما فعل هو، وإني على وجه اليقين لم أكسر سيفي؛ لأنه لم يكن لدي سيف حتى أكسره، ولكني حرفت بندقيتي عن وجهها بصورة رديئة ذات مرة، وإذا كان كاس قد كسر سيفه، فالمفهوم أنه فعل ذلك يأسًا، أما أنا فقد حرفت بندقيتي بغير قصد، وإذا كان الجنرال كاس قد سبقني في التقاط البرقوق البري فأظن أني ظهرت عليه في هجومي على بريِّ البصل، ولئن كان قد رأى هنودًا مقاتلين فقد فعل ذلك أكثر مما فعلت، على أنني من ناحيتي قد منيت بمثل ما مني به من نضال دموي، ولكن مع البعوض! ولو أنني لم أدخ قط بسبب ما فقدت من دم، إلا أنني كنت أحس جوعًا شديدًا أكثر الوقت …

أيها السيد الرئيس، إذا استطعت أن يكون شأني مع الديمقراطيين بحيث لا يجدون لديهم ما يمنع من ترشيحي لرياسة الولايات، فإني أقرر أنهم لن يسخروا مني كما يسخرون من الجنرال كاس بأن يجعلوا مني بطلًا من أبطال الحرب …

إني أذهب مذهب أحد الأصدقاء، أيها السيد الرئيس، فأرى في الجنرال كاس قائدًا موفقًا في هجماته، فإن له هجمات حقًّا لا على أعداء البلاد ولكن على خزانة البلاد! لقد كان حاكمًا لمتشيجان من اليوم التاسع من أكتوبر سنة ١٨١٣ إلى اليوم الحادي والثلاثين من يوليو سنة ١٨٣١، وهي مدة سبع عشرة سنة وتسعة أشهر واثنين وعشرين يومًا، ولقد استولى أثناء ذلك من خزانة الاتحاد على ثمانية وعشرين وتسعة وستين ألف دولار لخدماته الشخصية ونفقاته الشخصية، فيكون لليوم الواحد أربعة عشر دولارًا وتسعة وسبعون سنتيًا طيلة هذه المدة، ولقد وصل إلى هذا المبلغ من المال بادعائه أنه كان يؤدي عملًا في عدة أماكن مختلفة، يظهر في كل منها عدة مواهب مختلفة، كل ذلك في وقت واحد!

إني لم أشر إلى حساب الجنرال كاس إلا لأبين لكم مقدرته الجسيمة العجيبة؛ فإنه لا يؤدي عمل عدة رجال في وقت واحد فحسب، بل يؤديه في عدة أماكن بينها مئات من الأميال، ويفعل ذلك في نفس الوقت! …

أيها السيد الرئيس، لقد سمعنا جميعًا نبأ ذلك الحيوان الذي ظل حائرًا بين حزمتين من العلف وهو يموت جوعًا، ولكن شيئًا من ذلك لن يحدث للجنرال كاس، فاجعل بين الحزمتين ألف ميل فستجد لديه ما يأكله في سبيله إليهما، ثم إنه يأكلهما غير مبطئ، ولقد يصيب في الطريق بعض الحشائش الخضراء فوق ذلك، ألا فلتجعلوه رئيسًا بكل ما في وسعكم، فإنه سوف يوفر لكم طعامكم إذا … إذا بقي شيء بعد أن يأكل!»

ولقد علت ضحكات أعضاء المجلس، واتجه أبراهام إلى مقعده بعد أن أتم خطابه والأنظار جميعًا تتجه إليه، وما في الرجال من استطاع أن يملك نفسه من فرط الضحك، الخصوم والأنصار في ذلك سواء.

ولما انتهى دور الانعقاد هذا، طوف لنكولن في بعض الجهات الشرقية: مثل نيويورك ونيو إنجلند، والغربية: مثل مقاطعة إلينوى؛ يستأنف الدعوة في حماية لمرشح الهِوِج تيلور. وكان الديمقراطيون كما ذكرنا يحاولون أن ينسبوا إلى مرشحهم كاس من البطولة الحربية مثلما ينسب الهِوِج إلى تيلور، والحق أن الحزبين كانا يتمسحان في المجد الحربي منذ أن رأوا أثره في شهرة الرئيس جاكسون من قبل.

ولكن ثمة حزب ثالث؛ وهو شعبة من الديمقراطيين جعلوا مقاومة انتشار الرق همهم الأول، وسموا أنفسهم حزب «الأرض الحرة»، ومن مبادئهم ألا يسمح بالرق في أرض غير التي وجد فيها الرقيق من قبل، وأن يسمح لكل فرد أن يعبر تعبيرًا حرًّا عن آرائه بصدد الرقيق، وكان بينهم أناس ذوو خطر ومكانة وكانوا يرشحون فان بيرن للرياسة.

وكان على أبراهام أن يدعو لتيلور ضد الفريقين المتنافسين، وكان يستشعر الحرج تلقاء أنصار فان بيرن؛ لأن دعوتهم ضد الرق كانت مما يتصل بنفسه بأقوى الأسباب.

وأخذ لنكولن يجوب البلاد؛ فكان إذا قام في جماعة لم يروه من قبل جذب إليه الأنظار بطول قامته وغرابة ملامحه، فإذا أطلق العنان لكلامه سرت في الجموع منه روح عجيبة لا يدرون كنهها وإن أدركوا فعلها، ورأوا عينيه تلتمعان حتى ما يعرف الناس أنهم رأوا مثلهما قط، وأبصروا في ملامحه معاني أبلغ من كل كلام وأعمق أثرًا من كل حجة، والخطيب ينتقل بهم من مثل إلى مثل، ومن قصة إلى قصة، ثم إذا به يرسل النكتة البارعة بين حين وحين فإذا هم يضحكون ملء نفوسهم، وهو في حماسته يشمر ردنَيْ حلته ويفعل مثل ذلك بقميصه، ولقد يحل رباط عنقه أو ينتزعه من موضعه كأنه مقبل على مبارزة، ولا يكاد يفرغ من خطابه حتى يهرع الناس إليه متدافعين بالمناكب لكي يزدادوا نظرًا إليه من كثب.

ولقد كان انقسام الديمقراطيين على أنفسهم من عوامل نجاح الهِوِج؛ فإن ما ناله فان بيرن من الأصوات كان كفيلًا أن يضمن النجاح للمرشح الديمقراطي كاس لو أضيف إلى ما حصل عليه، ولقد فرح الهِوِج بانتصارهم فرحًا عظيمًا، وفرح لنكولن وارتاح إلى أن جهوده لم تذهب عبثًا كما ذهبت من قبل في الدعوة لهنري كلِيي.

ولكن فرحه بالنجاح لم يصرفه عن هاجس يشبه الندم في قرارة نفسه؛ فإنه يذكر أنه وجه جهوده لنصرة الهِوِج كما ينبغي أن يفعل كل رجل يهتم بنجاح حزبه وأغضى مؤقتًا عن الكلام في مسألة الرق، بل إنه نشط في صرف فريق من متحمسي الهِوِج ضد الرق عن مشايعة أنصار الحزب الجديد في انتخاب فان بيرن، ذاكرًا لهم أن الهِوِج يكرهون الرق كما يكره هؤلاء، ولكن المسألة في ذلك الوقت مسألة المعركة الانتخابية أولًا. على أنه يذكر كذلك أنه حين استمع إلى تلك الخطبة القوية التي ألقاها أحد كبار الداعين إلى التحرير في بوستن ضد الرقيق، وهو سيوارد، لم يخفِ رأيه بل قال للخطيب: «أعلن أنك محق، لقد آن أن نطرق معضلة الرق، وأن نلقي إليها من اهتمامنا بأكثر مما كنا نفعل من قبل.»

وفي أثناء عودته إلى وشنطون ليحضر الانعقاد الثاني للكونجرس، أيد بكل قوته دعوة أخرى شهيرة قام بها داعية آخر من أشد دعاة التحرير؛ هو ولمت الذي أخذ ينادي بوجوب منع انتشار الرق في الأراضي التي تستخلص من المكسيك.

وأيد لنكولن دعوة ثالثة جاءت على يد رجل من ديمقراطيي الشمال في المجلس النيابي؛ إذ تقدم بطلب منع الرق في كليفورنيا ومكسيكو الجديدة، وهي أرض انتزعت من المكسيك، وقد تحمس لنكولن لرأي هذا الداعية الديمقراطي كما تحمس له الهِوِج الشماليون.

وفكر أبراهام فبدا له أنه ينبغي أن يخطو في هذا الانعقاد الثاني للكونجرس خطوة ضد الرق يكون بها داعية لا تابعًا لمن يدعون، وما حمله عليها رغبته في أن يكون داعية، وإنما حمله كرهه للرق؛ ذلك الكره المستعر في أعماق نفسه منذ حداثته.

وأثار ذلك البغض في نفسه ما رآه من اشتداد الدعوة في البلاد لمحاربة هذا المنكر، ثم إن منظرًا أليمًا كريهًا كان يتراءى لأبراهام كلما اتخذ سبيله إلى مقر الكونجرس؛ ذلك منظر حظيرة للزنوج كانت تقع على مقربة من ملتقى رجالات الشعب وصرح حريته، وكان يحشر الزنوج في تلك الحظيرة ريثما يرسلون إلى الأسواق في الجنوب، وأي منظر أدعى إلى اشمئزاز النفوس الكريمة من تقابل هذين الضدين! ولئن كانت مرارة الحزن قد بلغت من نفسه، فإنه آثر الاعتدال والركون إلى الحكمة، وأعد لائحة يرمي بها إلى القضاء على الرق في ذلك الحي؛ حي كولمبيا، فينبغي ألا يكون هناك رق، وإنما يسمح مؤقتًا لرجال الحكومة أن يدخلوا الرقيق فيه ليكونوا لهم خدمًا، وعلى الحكومة أن تدفع تعويضًا لملاك العبيد الذين تطلق اللائحة عبيدهم، وعليها كذلك أن تعلم من يولد من السود منذ اليوم الأول من عام ١٨٥٠ على أن يكونوا أحرارًا، وبذلك ينقرض الرق على مر الأيام، واحتاطت اللائحة لمن يأوي من الرقيق إلى حي كولومبيا فقضت بردهم إلى حيث كانوا.

وكيف قنع لنكولن بالقضاء على الرق في هذا الحي فحسب متوخيًا في ذلك الحذر كله؟ إن مرد ذلك فيما أرى إلى نظرته العملية إلى الأشياء ورغبته ألا يجعل لأحد حجة عليه، ثم لعله كان يريد أن يجعل من نجاحه، إذا نجح، حجة يحتج بها إذا نشط الرأي العام في محاربة الرق ورغب في القضاء عليه.

ولكنه على الرغم من اعتداله وحذره لم يقدر له النجاح، فإن أنصار الرق في الكونجرس قد ماطلوا في عرض لائحته حتى أوشك دور الانعقاد على الانتهاء، فكان لهم من ضيق الوقت عذر اعتذروا به. ومن يدري، فلعل صاحب اللائحة لا يعود إلى الكونجرس مرة أخرى، وهكذا قدر الفشل لهذه المحاولة. على أن أبراهام سوف يعود إلى وشنطون بعد اثنى عشر عامًا، لا عضوًا في الكونجرس، ولكن رئيسًا للولايات المتحدة، ويومئذ يتجه في معضلة الرق الوجهة التي تمليها عليه خبرته وحصافته ومصلحة قومه.

وأخذ أبراهام أهبته للعودة إلى سبرنجفيلد، وما كان يحس شيئًا من ذلك الذي يحسه من يغادر بلدًا طاب له فيها المقام؛ وذلك لأن قلبه لم يتعلق بوشنطون تعلق حب أو استمتاع، فمع أنها موطن العظمة ومنتجع الشهرة والجاه، فإنها لم تستهوِ فؤاده؛ فهي كذلك ميدان الأرستقراطية تعج الحياة فيها بالغرور واللؤم والأنانية والجشع، وهو لا يزال في أعماق نفسه ابن الغابة، أعظم ما يرتاح إليه أن يطلق نفسه على سجيتها، فلا يتصنع ولا يتكلف، ولا يحب أن يلتزم في أمر من أموره بقيد من قيود المدنية وأوضاعها وتقاليدها، وكم عجب الناس في وشنطون من بساطته في كل شيء، ومن قصصه التي كان يسردها عن حياته في الأصقاع البرية وعن نشأته الأولى وفاقته ودَينه الأهلي! ولا يزال بعض زملائه في الكونجرس يذكر مرآه ذات يوم وقد سار في الطريق يحمل على كتفيه كتبًا ضخمة ربطها في منديل أحمر كبير، وقد استعارها من مكتبة المحكمة العليا، فبدا كأنه بائع متجول، أو كأنه لا يزال ذلك العامل في البريد، ولولا أنهم يعرفونه لما صدقوا أنه عضو في الكونجرس!

وكما أنه لم يأسَ على مفارقته وشنطون، فإنه كذلك لم يندم على مقامه فيها مدة عامين؛ فإنه قد أفاد خبرة وعلمًا، وعرف كثيرًا من ذوي الشخصيات الهامة، واستمع إلى كثير من الخطب ينطق بها أولو العلم والثقافة، وخَبَرَ المناورات الحزبية والمجادلات السياسية في مجال أوسع من مجال المقاطعات، ونفذت عينه اليقظة إلى كثير من محاسن الحياة ومساوئها، واختزنت ذاكرته العجيبة الشيء الكثير من الأمثلة والشواهد والمقارنات.

واتخذ لنكولن سبيله إلى سبرنجفيلد، فمر بشلالات نياجرا وشاهد هذا المسقط المائي الهائل، فأثار منظره شاعريته، يدل على ذلك قوله: «كم ذا تبعث نياجرا الماضي السحيق! إنه عندما كان كولمبس يبحث عن هذه القارة، بل عندما كان المسيح يعاني آلام الصلب، وقبل ذلك عندما كان موسى يقود بني إسرائيل على متن البحر، لا، بل عندما كان آدم لا يزال خارجًا من يد بارئه؛ كانت نياجرا تهدر كما تهدر الآن.»

ولقد أشار صديقه هرندن إلى أثر هذا المنظر في نفس لنكولن فقال: «لقد حدث بعد ذلك أن زرت نيويورك وعدت كذلك عن طريق نياجرا، وأخذت بعد عودتي بأيام أقص في المكتب على زميلي ما أردت أن أمتعه به من وصف لرحلتي، وتحدثت فيما تحدثت عن شلالات نياجرا، واسترسلت أثناء وصفي في حميا التصوير، ولما تملكتني حماسة الحديث سايرت ملكة الوصف عندي هذه الحماسة، ووجدت مادة غزيرة لصورة أخاذة في الاندفاع الجنوبي للماء الدفوق وفي هديره وفيضه وانسيابه، وفي قوس الغمام وقتذاك، وأثار تذكري هذا المنظر الهائل المروع قواي الخصبة لتمد أقصى مدها في الوصف والتصوير، ولما كدت أحس الجهد ممَّا حاولت التفتُّ إلى لنكولن أسأله رأيه فقلت: أي شيء أثَّر في نفسك أعمق الأثر ساعة وقوفك لدى تلك العجيبة العظيمة من عجائب الطبيعة؟ ولن أنسى جوابه ما حييت؛ لأنه يرينا بصورة هي من خواصه كيف كان ينظر إلى كل شيء، قال: إن الشيء الذي راعني أكثر من كل شيء غيره، هو هذا العباب الزاخر كيف تجمع ومن أين جاء؟! لم يمد أبراهام عينيه إلى جمال المنظر وعظمته، ولا إلى تدافع الماء واصطخابه وهديره، ولكن عقله اتَّجه الاتجاه الذي تعوَّده فلم يحفل جمالًا أو رهبة، وانساق انسياقًا لا يقاوم يتقصى العلل باحثًا عن العلة الأولى، وهذا هو سبيله في كل أمر … ولئن كان مرد قوته إلى سر ما، فهذا هو السر.»

١  اسم أطلق على الجنرال جاكسون؛ تشبيهًا بشجرة الهكري الضامرة المتينة السامقة الفروع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤