نظرات وخواطر

كان أبراهام قد بلغ أشده واستوى، وأخذت نظرته إلى الحياة والناس تزداد عمقًا في أول العقد الخامس من عمره، ولكنه ما برح يحس كأن شيئًا يقلقه، شيئًا خفيًّا لا يجهله ولا يدريه يشغل باله وينقبض له صدره، فهل أخذت السياسة توسوس له من جديد فهو يتأهل لها ويتحفز؟

ويلاحظ أصحابه أن أمارات الحزن التي ارتسمت على وجهه منذ حداثته تزداد وضوحًا كلما تقدم به العمر، وقد ازداد ما يخطط ذلك الوجه من تجاعيد هي من أثر الهم لا من أثر السنين، وهو على الرغم من عذوبة روحه في أحاديثه وطلاقة بشره في قصصه، تنطوي نفسه على كثير من الهم لا يتبين مبعثه، وهو إذا خلا إلى نفسه فكر وأمعن في التفكير، وتربد وجهه وانعقدت عليه كآبة مخيفة ينزعج لها خاطر من يراه، وكثيرًا ما وافاه صديقه هرندن وهو على هذه الحال، وكثيرًا ما سمعه يغمغم بمثل أنين المحزون.

سمعه أحد رفقائه في السفر أثناء تجواله إلى المحاكم، وقد نهض ذات صباح مبكرًا، يحدث نفسه، واستمر يفعل ذلك بضع دقائق وهو يلبس ملابسه، حتى لقد ظن صاحبه به الظنون، وحسب أنه قد مسه الخبل بغتة، ثم رآه صاحبه يضع كفيه على وجهه وقد أطرق مليًّا حتى نبهه جرس الطعام في فناء الفندق، فوثب واقفًا وفي وجهه حزن عميق!

وكان إذا سمع أبراهام مغنيًا يغني قطعة حزينة، يسأله أن يكتبها له فيترنم بها ويرددها، كأنما يجد فيها عزاء لنفسه أو شفاء لهمه.

وكثيرًا ما يتأمل في الكون تأمل الشاعر تارة وتأمل الفيلسوف تارة أخرى، حدث عنه مضيف له في شيكاغو مرة أنه جلس ذات ليلة موزع البصر بين البحيرة العظيمة والسماء، ثم نظر نظرة طويلة في النجوم، وراح يحدث من حوله عما بينها من مسافات هائلة وعما توحيه إلى النفس من شعر وسحر، وعن العلم وما كشف من أبعادها وأحجامها، وعن المناظر المكبرة وما يرجى من فوائدها وما يتوقع من تقدمها، كل ذلك في حسن سياق ودقة وصف وصحة فهم.

وكان يبدو شديد المرح أحيانًا فيرسل طائفة من النكات واحدة تلو الأخرى، ويقص بعض نوادره وحكاياته، فما يشك سامعه أنه من ذوي النفوس الراضية التي لا تعرف الهم، ولكن واعيته الباطنة في الواقع هي التي كانت تميل به إلى هذا تخلصًا مما يساوره من هم، وكثيرًا ما كان يتلمس السلوة في مثل هذه الأحاديث، وما كان ميله إلى الفكاهة إلا نوعًا من الهرب مما يوسوس به الهم في صدره.

وكان يخيل إلى محدثه أنه مصيخ إليه مقبل عليه، إذ هو في الواقع في شغل عنه بما يهجس في خاطره من قلق أو يعتلج في نفسه من ضيق، فلا يلبث أن يقطع الكلام على محدثه في صوت عال مندفعًا في كلام لا يمت إلى ما يقول بصلة! وكثيرًا ما كان يبعث الضحكة العالية تصحبها هزات من رأسه وقد ساد الصمت بعد الصخب في مجلس من المجالس التي تحتويه، وليس الموضع موضح ضحك، فيعجب الجالسون من فعله إلا من يعرفه منهم، وقد يخرج دفترًا صغيرًا من جيبه فيدون فيه بعض كلمات أو يقلب صفحاته، ثم يسترسل في سرد قصة أو يبعث فكاهة في إثر فكاهة.

وهو منذ حداثته يأبى إلا أن يرسل نفسه على سجيتها لا يقيد نفسه بشيء، وما تزيده الأيام إلا حرصًا على رغبته في التخلص من القيود، لا يعنى بمظهر، ولا يلتزم وضعًا من الأوضاع في ملبس أو مأكل، وكان قوي البنية نشيط الحركة لا يركن إلى قعود، وذلك دأبه منذ كان في الغابة، وهو في جميع أفعاله تتكشف جوانب نفسه عن طبيعة صادقة كأنما تتحرك عن إلهام أو تعمل بوحي، وتتمثل فيه البشرية في سذاجتها وكمالها وفي ضعفها وقوتها، ويلمح الناس في سجاياه براءة الطفل، وتوقد عاطفته إلى جانب نزعات الفيلسوف ورجاحة عقله.

وكأنك تقرأ سجاياه في أسارير وجهه، وتحس فيها ما تعوده في حياته من البأساء والضراء، فإذا نظرت إلى صورته رأيت شبح حياته الأولى في رأسه الأشعث، ولمحت زكانة نفسه في جبهته العالية العريضة، وأحسست طيب قلبه وصفاء طويته ورقة عاطفته ونفاذ بصيرته في عينيه الوديعتين المتسائلتين، وتبينت صرامته ومَضاء عزيمته في أنفه الغليظ الأشم، ثم أبصرت قوة صبره وشدة تحمله وروعة استسلامه تختلج كلها على شفتيه المضمومتين المعبرتين عن مض الحوادث، وطالعتك من هاتيك الملامح في جملتها سذاجة الأطفال وهيبة الرجال، ثم تهلل من وراء ذلك كله سر العبقرية الذي يدق عن كل وصف ويسمو على كل تحليل.

وكان يلوذ بالكتب إذا فرغ من قضاياه وخاف وساوس همه. وإن له في الكتب لغنية ومتعة، وقد ازداد شغفًا بشكسبير؛ إذ يرى ومض عبقريته يمس النفس البشرية فينير أكثر نواحيها، وهو مولع منذ حداثته بدراسة النفس البشرية والغور إلى أعماقها، ومن غير شكسبير يهديه السبيل؟ لذلك كان إذا تناول كتابًا من كتب القانون ساعة أو بعض ساعة ثم ألقاه، عمد إلى مأساة أو ملهاة من آثار شكسبير فأكب عليها ونسي كل شيء سواها، فإذا أتى عليها فكر وفكر وظل شاخصًا ببصره في ثرى الأرض أو في لازورد السماء، كأنما أخذته عن نفسه حال.

وكانت له في بعض آثار بيرون متعة، ومن بينها قصته العظيمة دون جوان، وهو بين هذا وذاك يقلب صفحات التاريخ العام وصفحات تاريخ بلاده، ويقرأ الفلسفة فيدرس كانْت ولوك وفخت وإمرسون وغيرهم.

ومن عجيب أمر هذا العصامي أنه تناول فيما تناول كتب العلوم وأخذ يدرسها، وقد جعل لها ساعات من فراغه؛ فهذا علم النبات له نصيب من جهده، وذاك علم الحيوان له نصيب، ثم هذه الكهربة تصيب من عنايته حظًّا ليس باليسير!

ولكن ما العجب؟ وهل تضيق العبقرية عن شيء؟ هذا لنكولن ابن الغابة الذي علم نفسه، لو لم يكن المحامي أو رجل السياسة ما قعد به شيء عن أن يكون الشاعر الفحل! أو لو أنه أفرغ إلى العلم جهده وجعل للدراسة والتحصيل وقته، لكان لنا منه العالم الفذ أو الفيلسوف المبتدع. وهو في ذلك أكثر الناس شبهًا بجوت شاعر ألمانيا الأكبر، الذي يجمع بين اللمعة الخيالية والنظرة العلمية والحكمة العملية.

وفكر أبراهام في المسيحية وقلب الرأي على وجوهه في تلك العقيدة، وكان شأنه إذ يفكر فيها كشأنه في كل ما يعرض له من أمر، فاستقلال الفكر قوامه والمنطق سبيله، والإحاطة بالموضوع من جميع أقطاره غايته، ثم إنه يقابل بين الآراء ويتقصى تفاصيل كل رأي في غير تحيز، حتى يتبين ما لهذا الرأي وما عليه، ويخلص من هذا إلى النتيجة التي يراها فتكون في ذهنه واضحة كل الوضوح.

وكان في صدر شبابه لا يتحرج من إعلان رأيه في هذه المسألة، وهي ما يتحرج منها معظم الناس، ولقد أشيع عنه وهو في نيو سالم أنه كافر ينكر الله على الرغم من تمثله في أحاديثه وخطبه بالإنجيل ومواعظ الإنجيل، ولكنه أخذ يتحفظ في رأيه بعد ذلك فلا يفضي بما يعتقد إلا إلى خواصه، على أنه لم يظهر مرة غير ما يبطن، فما يتكلم إلا بما يعلم، على قدر ما يتفق له من فهم.

حدث هرندن عن صديق لأبراهام كتب عنه وهو في الثلاثين من عمره، فقال: «لقد كان يركن أحيانًا إلى مبدأ إنكار الله، ولقد ذهب في هذه الناحية إلى مدى بعيد روعني، وكنت وقتها حدثًا أعتقد فيما تقوله لي أمي الطيبة، وكان يأتي إلى مكان الكتاب حيث كنت أجلس وبعض الفتيان، وقد أحضر معه الإنجيل فيفتحه ويقرأ فصلًا منه ثم يأخذ في تفنيده.»

وحدث ستيوارت أول شريك لأبراهام فقال: «لقد ذهب في معارضة العقائد المسيحية وقواعدها ومبادئها إلى أبعد مما ذهب إليه أي رجل سمعت عنه … وقد أنكر لنكولن دائمًا أن المسيح ابن الله كما تفهم وتدين الكنيسة المسيحية، وبعد ذلك بعشرة أعوام علمت من القاضي دافسن أن أبراهام لا يؤمن بالمسيحية كما تأخذ بها الكنيسة، وليس يؤمن إلا بالقوانين والمبادئ والعلل والنتائج.»

وحدث آخر عنه فقال: «كان يصدق بخالق خلق كل شيء لا أول له ولا نهاية، وله القدرة كلها والحكمة، وقد وضع ذلك الخالق مبدأ تتحرك العوالم طوعًا له وتقوم به، ويعيش الحيوان والنبات على مقتضاه. ويورد لعقيدته هذه سببًا هو أنه بالنظر إلى ما في الطبيعة من نظام واتساق، نجد أن مجيئها على هذه الصورة المحكَمة بطريق المصادفة أدعى إلى العجب مما لو كانت من خلق قوة عظيمة مدبرة أحكمتها … إن ما جاءنا من بينة على ما في المسيح من الله قد أتى على صورةٍ ما، يحيط بها الشك، ولكن نظام المسيحية كان نظامًا جيدًا على الأقل.»

ومما ذكره كذلك عنه، هذا الرأي: «إن ما عبر به لنكولن عما يرى في هذا الأمر وما يتصل به يخرجه من دائرة المسيحية، ومع هذا فإن مبادئه وما يجري عليه من أمور حياته والروح المسيطرة على حياته كلها، لا تخرج عما يتفق الكافة على عدِّه من المسيحية.»

وقالت زوجه بعد موته: «لم يكن لمستر لنكولن عقيدة ولا أمل فيما يصدق عادة من تلك الكلمات، ولم يتصل بكنيسة قط، بيد أنه مع هذا كان كما أعتقد رجلًا دينًا بفطرته … وكان الدين نوعًا من الشعر في طبيعته، ولم يكن مسيحيًّا بالمعنى المتعارف عليه.»

وقال أبراهام مرة إن مذهبه كمذهب رجل شيخ سمعه مرة يقول عقب اجتماع من اجتماعات الكنيسة: «إني إذا فعلت الخير أحسست بالخير، وإذا فعلت الشر أحسست بالشر، وهذا هو ديني.» وذكر هرندن رأيه فيه فقال: «ما من رجل يؤمن بالله في قوة وثبات أكثر مما يؤمن لنكولن، ولكن ينبغي ألا نأخذ تكراره لفظ الله في آخر حياته على أنه يعني إلهًا مجسدًا. وفي سنة ١٨٥٤ طلب إلي أن أحذف كلمة الله من خطاب كتبه وقرأته عليه لينقده؛ وذلك لأن عبارتي كانت تشعر بأني أقصد إلهًا في شخص، وإنه ليصر على أن مثل هذه الشخصية لم يكن لها وجود قط.»

وما يعنينا من أمره هذا إلا مبلغ ما فيه من دلالة على استقلال رأيه، وإصراره على تبين ما يأخذ مما يدع من أمور الحياة كلها، ولو كان ذلك الأمر هو الدين، ثم حرصه في كل شيء على الاقتناع والفهم، ثم تصريحه بما يعتقد في غير التواء أو مواربة، وما ذلك إلا لأن الرجل قد جبل على أن يسير على سجيته، وأن يعمل بوحي من فطرته، وفي هذا جانب من جوانب عظمته وناحية من دعائم قوته.

وعجيب بعد ذلك ألا يخلو هذا الرجل الذي يتفلسف في دينه هذا التفلسف، ويتدبر فيه هذا التدبر، من صفة تحملنا على العجب منه أعظم العجب، وتجعلنا من أمره حيال تناقض ليس من الدهشة منه بد؛ وذلك أن لنكولن يؤمن، أو على الأقل يذعن، لتلك الناحية الخرافية من أوهام الناس؛ فيصدق في فائدة حجر من الأحجار مثلًا، ويرى في بعض الظواهر أمارات خير أو شر مقبل، كما يفعل بسطاء الناس إذ يرون مثل ذلك في رفيف العين مثلًا، ويعلن أهمية كبيرة على الأحلام، ويجتهد في استنباط ما عسى أن تنبئ عنه أو تدل عليه، وتحدثه نفسه أحيانًا وتوسوس له فيترقب في اطمئنان أو في خوف.

عض ابنه كلب مجنون فحمل أبراهام الطفل مسافة طويلة إلى إنديانا ليلمس هناك حجرًا مشهورًا يؤمن الناس أن لمسه يصنع العجائب، وأي فرق بينه في هذا العمل وبين فلاح ساذج محتطب ممن اختلط بهم أمس في الغابة؟! بل أي فرق بينه اليوم وبينه أيام كان ينصت وهو في كوخ أبيه في الغابة إلى صفير الرياح في ثقوب ذلك الكوخ، أو إلى خشخشة الأغصان على بعد في الظلام كأنها صوت ينبعث من البحر؟! وإذا كانت هاتيك الأوهام قد انبثت في نفسه في ذلك العهد، فكيف لم تقض عليها قراءاته وخبرته وصلته بدنيا العلم والحضارة؟ ترى هل فعل ما فعل من فرط محبته ابنه، فهو ينتقل به إلى ذلك الحجر كما يصنع الغريق إذ يحاول أن يمسك شعاع الشمس؟ أم ترى أنه كان يؤمن أن في الحجر سرًّا يشفي كما يصدق بسطاء الناس؟ ذلك ما يحار عنده المرء فلا يرى وجه الصواب فيه.

صدق أبراهام بالعلامات والأحلام والعجائب، فذلك أمر يحسه في نفسه، وليس مرده إلى العقل والمنطق، وظل مصدقًا بها عمره كله، يرتقب ما توحي به من خير أو شر، ولكنه لم يصدق أنها تلوي القدر عن وجهه؛ لأنه يؤمن أن كل شيء مقدر على المرء من قبل أن يُبرأ، فلا تجدي وسيلة من صلاة أو دعاء في تغيير ما تجري به المقادير. يقول في ذلك: «إن كل أثر له سببه؛ فالماضي سبب الحاضر، والحاضر سوف يكون سبب المستقبل، ليس في فلسفتي أن شيئًا يأتي عفوًا …»

ولذلك فإنه وإن نظر في الأحلام وما عسى أن توحيه، وفي بعض العلامات وما عسى أن يكون ما تنذر أو تبشر به؛ لا يأخذ بها فيما هو فاعل من شيء؛ فلن يغير خطة رسمها أو يقبل على عمل ما لأن حلمًا من الأحلام يوحي بذلك، أو نذيرًا من النذر يوسوس به، أو بشيرًا يومئ إليه؛ فكل أولئك لا يقره عقله. ولكنه على الرغم من ذلك يحس ويتوقع ويخاف ويستبشر، كما حدث في آخر يوم من حياته؛ إذ أفضى إلى صاحب له أن فؤاده يحدثه بمكروه، وكما حدَث إذ تحدث إلى هرندن ذات يوم قبل ذلك بأعوام قائلًا: «بلى … إني لأخشى أن سوف تأتي نهايتي على صورة مرعبة!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤