طموح وفشل!

أراد أبراهام على أثر انتصاره على دوجلاس أن يخطو خطوة جديدة في مضمار السياسة، فطمع أن ينتخب عضوًا في مجلس الشيوخ، وأمل بذلك أن يعود إلى وشنطون، ولم يك يرى نفسه دون دوجلاس مقدرة ومكانة وهو قاهره على أعين الناس في أمر له عند الناس خطره، وكان قد انتخب في تلك الأثناء عضوًا في مجلس مقاطعة إلينوى، ولكنه ما لبث أن استقال منه، وأخذ يدعو لنفسه ليختار عضوًا في مجلس الشيوخ للولايات.

وفرحت ماري بذلك بعد أن لبثت خمس سنوات طويلة تترقب اليوم الذي يعود فيه زوجها إلى السياسة، ليخطو فيها خطوة أو خطوات نحو الهدف الذي لا ترضى له هدفًا دونه.

وكان منافس أبراهام في الظفر بعضوية الشيوخ شيلدز، ذلك الرجل الذي تحداه إلى مبارزة بالسيف قبيل زواجه من ماري لِما كتبه لنكولن عنه يومئذ في إحدى الصحف وعده إهانة له، وهكذا يعود الرجلان إلى المبارزة ولكن في صورة أخرى ليس يجدي فيها طول الذراع ولا قوتها على حمل السيف.

وكان أعضاء مجلس المقاطعة هم الذين ينتخبون عضو مجلس الشيوخ، وكان مجلس مقاطعة إلينوى يومئذ يجمع أنماطًا من الرجال، فرَّقت بينهم الأهواء وباعدت الآراء؛ ففيهم بقايا حزب الهوجز الذين يمقتون التطرف، وفيهم الديمقراطيون من أنصار مبدأ انتشار الرق ومن معارضي قرار نبراسكا، وفيهم غير هؤلاء وهؤلاء ممن تتذبذب سياستهم وفق ما يقوم في رءوسهم من الآراء في مسألة الرق.

وكاد يظفر أبراهام بما كان يتوق إليه وبما باتت زوجه تمني النفس به، لولا أن دعا الديمقراطيون في اللحظة الأخيرة إلى رجل غير لنكولن ومنافسه، وهو من معارضي قرار نبراسكا ومن الذين يخشون من دعوة التحرير، وعندئذ أشار لنكولن على نصرائه أن يمنحوا هذا الرجل الجديد أصواتهم ليفوت الأمر على منافسه الأول؛ إذ كان من أصحاب دوجلاس ومن مؤيدي قرار نبراسكا، بينما كان المنافس الجديد تتفق سياسته مع سياسة لنكولن، وإن كان ديمقراطيًّا من الوجهة الحزبية، وهكذا يذوق لنكولن طعم الفشل مرة أخرى.

ولكن الفشل هذه المرة لم يبلغ من نفسه ما بلغه في الأيام السابقة، فهو اليوم مطمئن إلى نصيبه من رضاء الناس وإلى حظه من النفوذ والصيت، ولقد قابل الأمر بدون اكتراث لولا ما أظهرته زوجته من حنق وغضب، على أنها ما لبثت أن رضيت وسكنت ثورتها، ذلك أنها كانت تكاد ترى رأي العين ما ينتظر زوجها من مستقبل عظيم.

ولم يصرفه الفشل عن السياسة كما كان عسيًّا أن يفعل في ظروف غير هذه، فلقد عرف أن فشله يومئذ إنما يرجع إلى أسباب لا يستخذى لها، ومن أهم تلك الأسباب ما فعله دعاة التحرير؛ فلقد حشروا اسم لنكولن على غير علم منه في معضديهم وراحوا يباهون به الأحزاب، ولقد أدى هذا إلى انزعاج كثير من الديمقراطيين؛ إذ حسبوا أنه مال إلى الطفرة في مشكلة الرق، كذلك أنكر عليه الهوجز أن ينحرف عن سياسته القائمة على الحذر، ولقد كانوا يحبون منه اكتفاءه بمقاومة انتشار الرق، أما أن يميل إلى التحرير فجأة فيعمل مع المتطرفين على القضاء على الاتحاد، فذلك ما لا يقبلونه منه، وهكذا أُخذ على الرجل ما لم يجْنِه فأصابه من الخذلان ما أصابه.

لا جرم أنه اليوم رجل سياسة أكثر منه رجل محاماة، ولا جرم أن معضلة الرق قد صار لها المكان الأول من همه، فهو لن يرجع حتى ينفس عن صدره بما يفعل في هذه المعضلة التي صارت المحور الذي تدور عليه سياسة الاتحاد، والعقدة التي يتوقف على حلها مصير البلاد. وإنا لنرى فيه الرجل الذي يتطلبه الموقف، شأنه في ذلك شأن غيره من عظماء الرجال الذين يظهرون في فترات الزمن ليتم بهم للتاريخ وسيلة تحركه، إذ يصبح التاريخ ولديه الرجل العظيم والفكرة العظيمة، فما إن يتمثل العظيم الفكرة ويمزجها بنفسه حتى يقدم لا يلويه شيء عن الغاية، فيصل إليها أو يهلك دونها ويذر لمن بعده أن يتم ما بدأ.

على أنه كان في سنه يومئذ قد وصل من المحاماة إلى أوج الشهرة، فكان وهو في السابعة والأربعين الرجل الذي يظفر في مهنته بأطباق الناس على توقيره، وإجماعهم على التسليم له بالنبوغ وطول الباع وسعة الخبرة، هذا إلى ما انفرد به من سجايا جعلته بينهم وكأنه أكثر من أن يكون منهم!

وتوافى له، فيما توافى من أسباب العظمة، تلك الخصلة التي لا تقوم عظمة بدونها، والتي تجعله يظهر بين الناس وفيه شيء يحملهم على إكباره طائعين أو كارهين، شيء يحسونه وإن كانوا يجهلونه، شيء مبعثه ذلك السر العجيب الذي نعبر عنه بقولنا روح الرجل العظيم، والذي يسميه بعض الناس الحماسة، ويسميه بعضهم الإخلاص، ويسميه آخرون الإيمان، والذي هو في الحق مزيج من هذا كله، لا ندري كيف يتم، مزيج ينبض به قلب العظيم ويجري في نفسه جريان الدم في عروق جسده، ومن الناس من وُهبوا الذكاء الحاد والمهارة الفائقة، ولكنهم حرموا تلك الخصلة، فما استطاعوا في أعمالهم أن يرقوا بأنفسهم إلى مستوى أعلى من مستوى غيرهم من عامة الناس، ومنهم من يعظم ذكاؤهم ويمس قلوبهم قبس من ذلك السر العجيب فإذا هم غير الناس، ثم إذا هم فوق الناس، ومن هؤلاء النفر ذلك الرجل الذي درج في الغابة، والذي بنى نفسه فسار في الحياة على نهج من قلبه وعلى دليل من طبعه، ذلك الرجل الذي لا يذكر لأحد عليه يدًا، والذي تنكرت له الأيام وعركته المحن فبقي كما يبقى الجوهر الحر؛ لا تترك فيه النار من أثر إلا البرهان القاطع على أن جوهر لا مظهر.

وتشاء الأقدار أن تقوم عظمة أمريكا على كاهلي رجلين من أبنائها، درجَا في مدرج الشعب وبرزَا من صفوف العامة؛ وهما جورج وشنطون وأبراهام لنكولن؛ أما أولهما فيرفع القواعد ويقيم الصرح، وأما الثاني فيمسكه أن ينهار، وتكون بذلك عظمة أمريكا عظمة ذات أصالة؛ إذ لم تنشأ عن تقليد أو تستند إلى بهرج من سلطان زائف، ويكون صراحها كالجبال التي هي أوتاد الأرض لا كالبناء الذي يجوز أن يجتث من فوق الأرض.

مضت الأيام تسير بابن الغابة سيرًا معجلًا وثيقًا ليؤدي رسالته، ولعله أشرف من حاضره على ما يعده له الغد القريب، أجل لعله أخذ يدرك أن مشكلة الرق مفضية به حتمًا إلى خطوة واسعة يخطوها غدًا، فيترك في تاريخ بلاده ما تذكره به الأجيال، اقرأ كتابه هذا إلى صديقه سبيد تقع فيه على مدى اهتمامه بتلك المشكلة، ونتبين كثيرًا مما كان يجول في نفسه يومئذ، قال: «إنك لتعلم أني أكره الرق، كما أنك توافق أن الرق خطأ في ذاته، فليس ثمة خلاف بيني وبينك إلى هذا الحد، ولكنك تقول إنك تفضل أن ترى الاتحاد وقد انفصمت عراه قبل أن تتنازل للرقيق عن حقوقك المشروعة، وبخاصة إذا كان هذا التنازل إذعانًا لإلحاح مَن لا مصلحة لهم في ذلك، ولست أعلم أن أحدًا يدعوك إلى ذلك التنازل، ولست على اليقين أدعوك إلى هذا، وإني أصارحك يا صديقي أني أكره أن أرى هؤلاء المساكين يُصطادون ويوضعون في الأغلال، ويعاد بهم إلى حيث يجدون النصب والعناء، ولكني أعض على شفتي وألزم الصمت.

في عام ١٨٤١ قمنا معًا برحلة مملة على صفحة ماء منخفض في قارب بخاري من لوسفيل إلى سان لويس، ولعلك تذكر كما أذكر أنه كان على ظهر القارب عشرة أو اثنا عشر عبدًا مقرنين في الحديد، ولقد كان هذا المنظر مبعث عذاب دائم لي، وإني لأحس شيئًا مثله كلما لمست نهر الأهايو أو أية جهة من جهات الرق، وخلاف الجميل منك يا صديقي أن ترى أني لا أهتم بذلك الشيء الذي ينطوي على قوة تكربني، والذي لا يفتأ يسبب لي الكرب. لقد كنت حريًّا أن تتبين إلى أي مدى يخنق سواد الناس في الشمال مشاعرهم لكي يستطيعوا أن يحتفظوا بولائهم للدستور والوحدة. إني أعارض انتشار الرق لأن رأيي وشعوري يؤديان بي إلى ذلك، وليس هناك ما يجبرني على العمل بخلافه، فإذا كان هذا هو مبعث الخلاف بيني وبينك فلنختلف إذن. تقول لو أنك كنت الرئيس لأرسلت جيشًا على المتمسكين باتفاق مسوري في انتخابات كنساس، وتقول إنه إذا انتهت الانتخابات هناك إلى جانب الرق فيجب أن تقبل ولاية وإلا وجب حل الاتحاد، وكذلك تقول إنه لو انتهت الانتخابات إلى جانب الحرية فإنك كمسيحي تفرح لذلك، ويقول مثل هذا الكلام كل ذي دماثة من مالكي الرقيق، ولست أشك في إخلاصهم، ولكنهم لن يسلكوا في الانتخابات مسلكًا وفق ما يقولون. إن اطرادنا نحو الانحطاط يسير فيما أرى سيرًا معجلًا، لقد بدأنا أمة بإعلاننا أن الناس جميعًا خلقوا متساوين، وتجدنا نقول اليوم خلِق الناس جميعًا متساوين إلا الزنوج، وسيكون قولنا في المستقبل خلق الناس جميعًا متساوين إلا الزنوج والأجانب والكاثوليك! ولئن بلغنا هذا المدى فسأفضل الهجرة إلى دولة أخرى لا تدعي حب الحرية، إلى الروسيا مثلًا؛ حيث يتخذ الاستبداد صورة سهلة خالية من النفاق.»

ويقص صديقه هرندن قصة جديرة بأن نثبتها هنا، لنتبين كيف يهتم أبراهام اهتمامًا كبيرًا بالمعنى العظيم وإن جاء في أمر صغير، ولنرى مبلغ حرصه على مقاومة الرق، قال هرندن: «حدث أن ذهب زنجي من سبرنجفيلد إلى نيو أورليانز ولم يصطحب معه أوراقه التي تثبت عتقه، فاستوقف هناك وألقي به في السجن ليباع عما قريب فيكون ثمنه أجر إقامته في السجن، وفزعت أمه إلى لنكولن وإليَّ، فذهبنا إلى حاكم إلينوى وكلمناه في الأمر، فأظهر لنا أسفه ألا يستطيع أن يقدم لنا معونة حسب القانون، فنهض لنكولن قائلًا في لهجة تنم عن التأكيد: أقسم لك بالله أيها الحاكم لأجعلن الأرض في هذا الاتحاد أسخن من أن تطأها قدم زنجي، سواء وجدت من القانون ما يبرر إطلاق هذا الغلام أو لم تجد. واتصل أبراهام بحاكم لويزيانا فلم يك أحسن حظًّا عنده منه عند سالفه، ولم يعدم أبراهام حيلة، فقد افتتح اكتتابًا عامًّا لجمع ثمن هذا الغلام الزنجي، وسرعان ما اجتمع لديه المبلغ فدفعه إلى حاكم لويزيانا وأعيد الغلام إلى أمه في الشمال.» وما قصد أبراهام بالاكتتاب العام إلا التشهير بالرق والتنديد بهذا الظلم العظيم.

وكان يوحي إليه ذهنه المنطقي العجيب وبعد نظره في قياس الأمور ما عسى أن تنتهي إليه مشكلة الرق، وكأنما كان يشرف من حاضره على مستقبله، كان يعتقد أنه بالخروج على اتفاق مسوري لم يعد هناك أمل في الإبقاء على أي اتفاق يقام، وسيتمادى أنصار الرق في غيِّهم حتى يخرجوا على الدستور نفسه، ولكن الوطنيين المتمسكين بالدستور لن يقروهم على ذلك، فيكون ثمة صراع عظيم بين الجانبين، وفي هذا الصراع يجتث الرق من جذوره فما له بعد من قرار، ولسوف تأتي الحوادث مصدقة لما يرى، ولسوف يكون هو بطل الصراع، والذي يقتلع الرق من جذوره.

ولن يضيره اليوم ألا يصل إلى مقعد الشيوخ، بل ربما كان الشر في أن يظفر بهذا المقعد، فلقد كان له بعد فشله هذا جولات سوف يكون لها خطرها في حياته؛ جولات سوف تنتهي به إلى رياسة الاتحاد فلم يبق على الدرب إلا مرحلة.

وكثيرًا ما يبتئس المرء إذا فاتته فرصة كأنما أغلقت بفواتها مسالك الفوز من دونه، ولا يدري أنه ربما كان الخير في فواتها، والحياة مليئة بالأمثال حافلة بالعبر، والعظماء وحدهم هم الذين لا يلويهم فوات الفرص ولن تبتئس لفواتها نفوسهم، بل إنهم ليحمون على الشدائد ويستعرون على الكفاح، ويستشعرون اللذة في النصر كما يستشعرونها في ركوب الصعاب إلى ذلك النصر، ولن ينقص منها ما قد يصيبهم من خذلان.

ولقد كان لنكولن من هؤلاء البواسل الأفذاذ الذين لا يحفلون بالصعاب، والذين لا يحول بينهم وبين وجهتهم خذلان مهما عظم، بقي في سبرنجفيلد بعد فشله ليكون في المدينة زعيم الحزب الجديد الذي كانت تستقبل البلاد يومئذ مولده، وهل كان غيره في المدينة تجتمع عليه القلوب والأهواء؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤