فالق الأشجار!

وثق أبراهام من نباهة شأنه عند الناس واستفاضة شهرته، فحدثته بالأماني نفسه، وحدثته كذلك بالعبء الجسيم إذا قدر لتلك الأماني أن تتحقق.

وكان أبراهام في الحادية والخمسين من عمره في سنة ١٨٦٠، وهي السنة التي كانت تتأهب فيها البلاد — كما سلف القول — لانتخاب رئيس جديد، وكان الانتخاب في هذه السنة أمرًا بالغ الخطورة؛ لصلته بمصير الاتحاد كله، أيبقى كما هو أم ينصدع فإذا به شمال وجنوب!

وكان الحزب الجمهوري، الذي يعد أبراهام اليوم من أبرز رجاله، أقوى الأحزاب نفوذًا وأعزها نفرًا؛ إذ كانت مبادئه أقرب من غيرها إلى جمهرة الناس في الشمال؛ فهو يحول دون انتشار الرق وإن كان يرعى جانب الدستور في كل ما يقول أو يعمل.

وأخذ الجمهوريون يستعدون للمعركة القادمة، فامتلأت صحفهم بفيض أقلامهم، وماجت كبريات البلاد في الشمال بمظاهر نشاطهم ومعالم استعدادهم.

ولبث أبراهام في سبرنجفيلد خائفًا يترقب، وأي شيء أدعى إلى الخوف عنده من تصدع الاتحاد، فلئن فاز أحد الجمهوريين بالرياسة، فماذا يكون موقف أهل الجنوب؟!

وماذا يكون الحال لو فاز هو بالرياسة؟ طفق أبراهام يسأل نفسه هذا السؤال فتجيبه نفسه أو تسأله سؤالًا آخر؛ أواثق هو من ترشيح حزبه إياه حتى يفكر في الرياسة؟

وماذا عسى أن يحول بين الحزب وبين أن يرشحه؟ إن نفسه لا تفتأ توحي إليه أنه مرشح الجمهوريين في الانتخاب القادم، وكلما استبعد ذلك هجس في نفسه هاجس لا يتبينه ولا يجهله، فيملؤه ثقة وأملًا بأنه الرجل الذي سوف تجتمع عليه القلوب.

ولم يقنع أبراهام بانتظار ما عسى أن تأتي به الأيام، فشمر عن ساعديه يدعو لنفسه ولكن بين خاصته ومحبيه؛ وذلك بكتبه إليهم وأحاديثه معهم، أما إذا سأله من لا يطمئن إلى إخلاصه هل يطمح إلى الرياسة، رد عليه في تواضع وكياسة بما لا يدع مجالًا لاتهامه بالتطلع ولا بالإحجام، تجد ذلك في رده هذا: «إنني إذ أتذكر ما يكون عليه حال رجل ليس بالعظيم جدًّا حين يذكر اسمه ليشغل منزلة عظيمة جدًّا، وما يصيب رأسه إذ ذاك من دوار؛ أصارحك أني لست أليَق شخص لإجابتك على ما سألتنيه من سؤال.»

وكان في الحزب الجمهوري رجلان يخشى أبراهام منافستهما إياه: أولهما هو سيوارد حاكم نيويورك السابق، وهو من أقدم رجال الحزب ومن أوسع الناس ثقافة ومن أعظم السياسيين جاهًا، فضلًا عن أن كرهه للرق ونضاله لِيحول دون انتشاره لا يقل عما بذل أبراهام من جهد في هذا السبيل؛ وثانيهما تشيس حاكم أهايو، وهو كصاحبه ثقافة وجاهًا، ولعله أعرق منه في محاربة الرق، وكانا كلاهما عضوين في مجلس الشيوخ ومن أساطين القانون والمحاماة.

وكان أبراهام يرجح أن يُختار أحدُهما لولا ذلك الصوت الذي يهجس في نفسه، فيحس أنه هو المختار، على الرغم مما يبدو له من رجحاتهما. وكان صديقه هرندن يستبعد أن يكون أبراهام هو المرشح، قال في ذلك: «لم يكن أبراهام ذا مال، وكان يعوزه أي تنظيم لأموره مهما يكن نوعه، وكان لسيوارد ذلك كله، ومن ورائه سجل براق في مجلس شيوخ الاتحاد، به يبهر عيون أتباعه.»

وكان يشعر الناس أن مرشح الجمهوريين هو الفائز في المعركة بالرياسة؛ لذلك كان اتفاقهم على رجل هو كل شيء بالنسبة إلى هذا الرجل؛ إذ لا يبقى بينه وبين الرياسة بعدَ ذلك إلا خطوة.

وفي ربيع ذلك العام الفذ عقد الجمهوريون في ولاية إلينوى مؤتمرًا؛ لينظروا في نشر الدعوة لأبراهام فيما يصل إليه سعيهم من الولايات؛ ليحظى بترشيح الحزب إياه في مؤتمره العام الذي سوف ينعقد عما قريب ليختار رجله لمعركة الرياسة.

وعقد المؤتمر التمهيدي في مدينة ديكاتور، وهناك اشتدت حماسة المؤتمرين لأبراهام، فما تهتف الألسن إلا به، وما تحنو الجوانح إلا عليه، والخطباء يتسابقون على المنصة متنافسين في الثناء عليه والدعوة له.

ولم يكد يلمح المؤتمرون، أبراهام يدخل الباب ويطلع عليهم بقامته الطويلة، حتى وثبوا واقفين مصفقين وما منهم إلا من ينافس جاره في الهتاف، وما سكنت ريحهم حتى عاودوا الهتاف والتصفيق وهم أكثر حماسة وأروع مظهرًا مما كانوا، وظلوا على تلك الحال لا يسكتون إلا ليعودوا إلى هتافهم وتصفيقهم، حتى لَيظن من يراهم أنهم لن يسكتوا أبدًا.

figure
مرشح الحزب الجمهوري سنة ١٨٦٠.

وبينما هم في جلبتهم وضوضائهم إذ سمعوا خارج المكان ما زاد على ضوضائهم جلبة وضوضاء، فأطلوا يستطلعون، فإذا بموكب كبير يذهب فيه البصر من ها هنا ومن ها هنا إلى آخر ما يمتد، تختلط فيه أصوات الهاتفين بألحان الموسيقى، ونظروا فإذا في مقدمة هذا الموكب علم منشور على قطعتين شَوْهَاوَيْن من الخشب، شد إليهما بأشرطة ما بين حمراء وزرقاء وبيضاء، وكان يحمل العلم جون هانكس ابن عم أبراهام وهو يهتف من أعماق نفسه لأبراهام فالق الأشجار وشاقِّ الأخشاب، ووقف يخطب الناس، فقال إن هاتين القطعتين شقهما أبراهام بنفسه بين ثلاثة آلاف غيرها، قطعتها فأسه في الغابة أيام كان صبيًّا يعين أباه، وكان أبوه أحد الطلائع الذين افتتحوا الغرب وتعرضوا للمهالك من أجل وطنهم، وطلب إلى الجمع أن يهتف باسم أبراهام شاق الأخشاب، وسرعان ما ذهبت هذه الكلمة في الناس، فصار لا يذكر أبراهام بألقابه السالفة وأصبح عند الجموع شاق الأخشاب.

ووقف أبراهام مأخوذًا بما يرى من حماسة الناس لهذا الاسم الجديد، وفي وجهه دلائل الشكر والرضاء عن ابن عمه، ولكن فيه كذلك ما يشبه الإنكار. وتجمع الناس حوله فأطل عليهم قائلًا: «أظن أنه يجب علي أن أقول شيئًا حول هاتين الخشبتين؛ لقد كان ذلك منذ زمن بعيد، ومن الممكن أن أكون أنا الذي شققتهما بيدي بَيْدَ أني لا أستطيع أن أتعرفهما … وكل ما أستطيع قوله هو أني شققت من الأخشاب كثيرًا غيرها أحسن منها مظهرًا.»

واشتد تصفيق الجموع لهذه الكلمة، فما تخذل الأمانة أبراهام في موقف مهما هان، فها هو ذا لا يشايع ابن عمه؛ لأنه لا يستطيع أن يقطع بصحة دعواه، كما أنه لا يحب أن يخزيه؛ ولذلك يجعل الأمر في حكم الممكن فحسب ويؤكده بأنه شق عددًا عظيمًا من هاتيك الأخشاب، ويعجب الناس بمثل جديد لصدقه وأمانته واستقامة طبعه، وهو عندهم منذ عرفوه أيب الأمين، ولكن لقبه الجديد أشهى إلى نفوسهم وأجمل وقعًا في قلوبهم، فما هو إلا أن سمعه الناس حتى ألفوه كأنهم عرفوه من قديم، وما كاد ينقضي أسبوع على النطق به حتى ذاع في البلاد أمره، فما يذكر الناس أبراهام إلا بقولهم شاق الأخشاب.

وأثر هذا الاسم أثرًا بعيدًا في نفوس الناس، وازداد وضوحًا في نفوسهم ما كان يحمله اسم أبراهام من معنى إلى تلك النفوس؛ فهو من الشعب بل ومن أعماق طبقاته، وبذلك فهو رمز لإرادة الأمة، وفي اختياره للرياسة تأكيد لرغبة محببة إلى النفوس؛ ألا وهي أن الناس جميعًا سواسية، فلا يصح أن يتفاضلوا إلا بالمكارم.

وما كان يدور بخلد أبراهام وهو يشق تلك الخشبات في الغابة منذ نحو ثلاثين سنة ليشتري بثمن الآلاف منها سروالًا؛ أنها سوف تجدي عليه مثل هذه الجدوى، وما كان يدري أن ابن عمه يملك له هذا الصنيع الذي يصغر حياله كل صنيع.

كان الجمهوريون يتخذون الأهبة لمؤتمرهم العام في مدينة شيكاغو، فلندعهم حتى ننظر ماذا كان من أمر الديمقراطيين في هذه السنة المشهودة.

كان الحزب الديمقراطي قد هان على الناس أمره؛ وذلك بانقسامه وتنازع رجاله؛ ففريق من أهل الجنوب يكرهون اليوم دوجلاس لما كان منه أيام مجادلته لنكولن، أوَلم يصرح بأن لكل ولاية الحق كل الحق أن تقضي على الرق فيها متى شاءت ذلك، فوقع بتصريحه هذا في حبائل خصمه؟ ثم إن فريقًا من الديمقراطيين في الشمال قد كرهوا منه معارضته الرئيس بوكانون في دستور كنساس، حتى لقد فكر بعض الجمهوريين في ضمه إلى حزبهم، وإنه ليجني اليوم ثمار غرسه، وهل كان له أن يجني من الشوك العنب؟! لذلك فشل الديمقراطيون إذ حاولوا أن يجمعوا أمرهم على رجل، وانفض مؤتمرهم الذي عقد في شهر أبريل في مدينة تشارلستون والخلاف بين الشماليين من رجال الحزب على أشده؛ إذ كان يريد أهل الشمال من الديمقراطيين أن ينعقد الإجماع على دوجلاس، وتعددت بعد ذلك مؤترات الديمقراطيين، ولكن ظلت قلوبهم شتى، وانتهى الأمر أخيرًا بأن انقسموا فريقين؛ اتفق أحدهما على دوجلاس، واتفق الآخر على بِركنرِدْج، وكان هذا الانقسام في صفوف الديمقراطيين من أكبر أسباب ضعفهم وفشلهم.

ونعود إلى الجمهوريين فنقول إنهم كانوا يعدون العدة لمؤتمرهم العام، وقد اختاروا له مدينة شيكاغو، وكان الرأي السائد أن سيوارد هو الفائز بتشريح الحزب إياه، وكانت أكثر الصحف في الشرق تكاد تجزم بهذا، وكان سيوارد واثقًا من ذلك؛ ولهذا لم يكترث لما يشاع عن شهرة لنكولن ومحبة الناس إياه؛ لأنه كان يعتقد أنه مهما يكن من أمره فلن يصل إلى مطاولته؛ فهو رجل الحزب وزعيمه الحقيقي.

وفي شهر مايو احتشد في شيكاغو أربعون ألفًا من الجمهوريين ليشهدوا هذا المؤتمر العظيم، وجاء من نيويورك عدد كبير من أنصار سيوارد من خاصة الناس ومن عامتهم، وجاء من إلينوى عدد مثله من أصحاب لنكولن ومحبيه.

وانعقد المؤتمر من رجالات الحزب وزعمائه من كل ولاية، ولم يحضره لنكولن بل ظل في سبرنجفيلد ينتظر أنباءه، وضاق مكان الاجتماع بشهود المؤتمر وضاق بهم الطريق أمامه.

وتدارس المؤتمرون طويلًا في المبادئ أولًا فلم تخرج عما أوضحه أبراهام في خطبه وأحاديثه، فالمؤتمرون لا يقرون انتشار الرق بعد اليوم، ويحبون أن ينقرض فيذهب إلى غير عودة، وتقدم مندوب من أهايو يدعى جِدِنْج فاقترح أن يضيف المؤتمر إلى قراره تلك المادة من مواد إعلان استقلال أمريكا، التي تشير إلى أن الناس ولدوا أحرارًا، وخاف بعض رجال المؤتمر أن تحمل هذه العبارة على التطرف في مسألة الرق، فيظن بعض الناس أن الجمهوريين قد باتوا من حزب التحرير بالقوة؛ ولذلك أوشكوا أن يرفضوا الاقتراح، حتى نهض من المؤتمرين رجل فصيح هو جورج كيرْتِس فحمل بفصاحته المؤتمر على قبوله، ودوت جنبات المكان بالتصفيق الشديد، وجاوبه الناس خارج المؤتمر بتصفيق مثله.

وجاء بعد ذلك دور الترشيح فنهض أحد مندوبي نيويورك وقدم اسم وليم سيوارد، ونهض على إثره أحد مندوبي إلينوى وقدم اسم أبراهام لنكولن، ثم ذكرت أسماء خمسة أشخاص غيرهما قدم كلًّا منهم مندوب، ولكن الحماسة والتصفيق كانا لسيوارد ولنكولن فحسب.

وتأهب مندوبو الصحف ليدونوا ما يريدون تدوينه أثناء الانتخاب، وكثر عددهم في القاعة ونشط أصحاب سيوارد جيئة وذهابًا كما نشط أصحاب لنكولن، وجلس على سطح القائمة رجلٌ ظَلَّ يرقب مِن نافذة فيها ليعلن النتيجة للمجتمعين خارجها متى أعلنت، وتأهب المكلفون بالرسائل البرقية من جانب الصحف في طول البلاد وعرضها ليسرعوا إلى مكاتب البريد ليبرقوا لجرائدهم، وبدأ الانتخاب والناس عالقة أنفاسهم وكأن عليهم الطير مما سكنوا.

والقوم خارج القاعة يموج بعضهم في بعض وهم يتساءلون لمن يكون النصر؛ فيؤكد هذا أن النصر لسيوارد في إشارة حازمة ولهجة جازة فيقبل عليه جماعة منهم فرحين، ويصيح ذاك بل النصر لفالق الأخشاب فيتهافت عليه كثيرون.

وكان أبراهام أثناء ذلك جالسًا في قاعة أحد أصحابه من رجال الصحافة في سبرنجفيلد، وكان القلق يساوره أحيانًا، فهو يقول لصاحبه: «إني أعتقد يا صديقي أني سأعود ثانية إلى المحاماة وأعمل عملي في القانون.» ثم يعاوده الأمل حينًا ويخالجه الشك حينًا، كما يحدث عادة في مثل هذه الأحوال إذ ينتظر المرء عاقبة أمر يهمه، وأي أمر أهم من ذلك الذي كان يتوقع أبراهام عاقبته؟ إنه اليوم في مفترق الطرق من حياته، فإما إلى رسالته وإما إلى حرفته!

وطال به الانتظار حتى كاد أن يسأم فلينصرف إلى القراءة، وكان ديوان شعر لبيرنز هذا الذي يقلب صفحاته، وكان يقرأ كما يقرأ المرء في مثل تلك اللحظات بعينيه أكثر منه بعقله، ثم يدع الكتاب حينًا ليفكر وليتنازع فؤاده الشك واليقين.

والمؤتمر منصرف إلى عمله في شيكاغو يفتتح في تاريخ البلاد فصلًا جديدًا سوف يترتب عليه كل ما يليه من فصول.

وتعلن نتيجة الدفعة الأولى للولايات، فإذا سيوارد يزيد على أبراهام بسبعين صوتًا وصوت، فيهتف أنصار سيوارد ويتصايحون، ويكتئب أصحاب أبراهام، ثم تعلن الدفعة الثانية فإذا أبراهام لم يبق بينه وبين سيوارد سوى ثلاثة أصوات، ويسود الصمت في جنبات المؤتمر، وشخصت الأبصار، وخفقت القلوب، وتأهب رجال الصحافة لتلقي النبأ الأخير؛ ففي الدفعة القادمة القول الفصل، وما هي إلا لحظة ثم يرتفع صوت باسم لنكولن، فتهب في القاعة عاصفة هائلة من الهتاف والتصفيق تجاوبها خارجها عاصفة أشد منها قوة وأطول أمدًا؛ إذ يظل الناس يتعانقون ويتصايحون ويقذفون بقبعاتهم في الهواء، ويتواثبون ويرقصون زهاء ربع الساعة كأنما مسهم طائف من الجنون.

وأبراهام في غرفة صاحبه في سبرنجفيلد يوجس خيفة في نفسه طورًا ويثق في النصر طورًا، وحوله جماعة من أنصاره ينتظرون كما ينتظر. وبينما هم كذلك إذ أقبل شاب من مكتب البرق يحمل رسالة، يطفر بها كما يطفر العصفور من شدة فرحه وهو يهتف باسم أبراهام ويقْبل عليه بالنبأ السار، ثم يهيب بالحاضرين أن يهتفوا ثلاث مرات لأيب الأمين رئيس الولايات المقبل.

ويقبل على أبراهام صحابته وفي مآقيهم دموع الفرح وعلى ألسنتهم ما لا يفي بالتعبير عما في قلوبهم من معان، وهو منشرح الصدر مثلج الفؤاد، ولكنه واقف بينهم معقود اللسان لا يدري ماذا يقول؛ لأنه لا يجد من الكلام ما يفصح عما في نفسه، وبعد لحظة يقول لهم: «إن امرأة صغيرة قصيرة هنالك في بيتنا يسرها أن تعلم هذا النبأ!» يقول ذلك ويمضي مسرعًا إلى ماري فيفضي إليها بأجمل وأبهج ما انفرجت عنه أمامها شفتاه.

وجاء وفد من قبل الحزب ينبئه رسميًّا بظفره بترشيح الحزب إياه، وتلقى أبراهام وزوجته الوفد في دارهما، وقد أعدت ماري العدة لهذا اللقاء؛ فعنيت قبل كل شيء بما ينبغي أن يحرص عليه زوجها فيما يتصل بملابسه وفيما يتصل بقواعد المائدة، وما إلى ذلك مما يليق بمن سوف يكون في غده رئيس الولايات المتحدة. وقطع أبراهام على نفسه العهد ضاحكًا أن يكون كما تحب، ثم أعدت ماري من ألوان الطعام ما تكرم به الضيوف، وأرسل بعض أصحاب أبراهام إليه وإلى زوجته زجاجات خمر كي يشرب منها رجال الوفد، ولكن أبراهام ردها إليهم جميعًا معتذرًا بأنه لا يشرب الخمر ولا تدخل الخمر بيته، فلا محل لأن يقدمها لضيوفه.

وأعجب رجال الوفد بالرئيس المنتظر، فما برحوا داره إلا وقد ارتبطت قلوبهم بقلب ذلك الرجل العظيم، فهُم وإن رأوه بسيطًا في كل شيء حتى لا يختلف في شيء عن عامة الناس، يحسون أن فيه ما يرفعه درجات فوق الناس ويستبشرون به وينقلبون إلى حزبهم فرحين.

ويكتب أبراهام رده ولكن قبل أن يرسله إلى الحزب يذهب إلى معلم من معلمي المدينة، فيرجو منه أن يقرأ كتابه ليرى إن كان خاليًا من الخطأ النحوي؛ فإنه كما يقول للمعلم غير متمكن من النحو، فيقع المعلم على غلطة فيصلحها، ويذكر القاعدة لرئيس الغد فينصت كما ينصت التلميذ، وينطلق أبراهام بكتابه، وإنه ليسأل نفسه لمَ لمْ يتعلم النحو ويتقنه كما تعلم القراءة وأتقنها أيام كان يشق بفأسه الأخشاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤