في البيت الأبيض

ما كان للرئيس أن يركن إلى الراحة ولو شيئًا قليلًا حتى يؤدي رسالته؛ لذلك فهو يجعل للعمل وقته جميعًا لا يكاد يدعه لحظة، وكان له في جهاده الأكبر خير عون من عافيته وقوة بدنه؛ فلقد بَنَته الغابة كما تبني دوحاتها العظيمة، كأنما كانت تهيئه لهذه العظائم.

وكثيرًا ما كان يستعين على همه بالضحك وبما يأخذه الجاهلون بحقيقة أمره على أنه ضرب من اللهو وعدم المبالاة، وما كان إلا تعلة يمسك بها نفسه أن تذهب حسرات. كان مرحه وضحكه وما يسرد في أحلك الساعات من نكاته وأقاصيصه تجلُّد القوي يستكبر أن يذعن للهمِّ، ويحب أن يوحي القوة والأمل إلى كل من يرونه!

ولم تكن الحرب وحدها هي كل ما يحمل الرئيس من عبء؛ فلقد كان له ممن يعملون معه من الرجال، كما كان له من اختلاف الأحزاب وتبلبل الرأي العام؛ أثقال فوق أثقاله.

وهناك فوق ذلك موقف الولايات الوسطى التي عرفت باسم المحايدة، فكان يخشى الرئيس أن تنضم إلى الاتحاد الجنوبي فتزيدهم قوة وعزمًا، ولن تكون تلك القوة في الوقت نفسه إلا خسرانًا لأهل الشمال.

ثم هناك موقف أوروبا من هذا النزاع، وهو أمر له خطره، يحسب الرئيس له ألف حساب، وإن كان سيوارد لا يرى له أول الأمر ما يراه الرئيس من خطر.

•••

لم يترك الناس رئيسهم كي يتفرغ لقضيتهم الكبرى، فقد راح الكثيرون منهم يطرقون بابه يرجونه ويسألونه إلحافًا؛ فهذا ممن ساعدوا الحزب الجمهوري يطلب من طريق خفي أن يكافأ على خدماته، وذاك يطلب وظيفة يأكل من راتبه فيها، أو يدفع إليه ظلامة، أو يوصيه بقريب له، أو يشتكي إليه حاكمًا من الحكام!

figure
جانب من حجرة الرئيس في البيت الأبيض.
figure
الرئيس أبراهام لنكولن.

والموظفون في البيت الأبيض يعجبون من هذا الرئيس الجديد الذي لا يجعل كبير فرق بين قاعة الحكم هناك وبين حجرة مكتبه في سبرنجفيلد!

وقد جعل الرئيس للناس يومين كل أسبوع يلقاهم فيهما، لا يوصد بابه في وجه أحد، وإنه ليستمع إلى كل ذي حاجة، فإن استطاع أن يعينه على أمره دون أن يجور على القانون، فعل ذلك في غير تردد أو تكرُّه، وكثيرًا ما كان يجعل الرحمة فوق العدل، إذا رأى نفسه بين أن يعدل فيقسوا أو يرحم فيميل بعض الميل، ولكنه في ذلك لا يسيء إلى الخلق أو يتهاون في قاعدة جوهرية، وحاشاه أن يفعل ذلك أو ما هو دونه.

ولن يضيق صدره أبدًا بذوي الحاجات لديه، مع أنهم كانوا يلقونه على السلم، أو يقفون أمام غرفته صفوفًا خلف صفوف، بل كثيرًا ما كانوا يستوقفونه في الطريق ويزحمونه! وهو من الكاظمين الغيظ، ولن يستطيع قلبه الإنساني الكبير أن ينهر السائل فيزيده بؤسًا على بؤسه وهو الذي عرف اليتم منذ حداثته، وذاق الشقاء ألوانًا.

على أنه مهما بلغ من رحمته وبره بالمساكين، يعرف أساليب الماكرين إذا مكروا، فلا ينخدع بما يقولون وإنما يصرفهم بالحسنى، وإلا فبشيء من الشدة يشبه التأنيب ويراد به الزجر. دخل عليه رجل كسرت ساقه يسأله معاشًا إذ قد كسرت في الحرب رجله، فسأله الرئيس أيحمل أية شهادة أو دليلًا على صدق دعواه؟ ولكن الرجل لم يكن يحمل شيئًا! فصاح به الرئيس قائلًا: «ماذا؟ ليس لديك أية أوراق، أو أية شهادات، أو أي شيء يرينا كيف فقدت رجلك! … فليت شعري … كيف أتبين أنك لم تفقدها في فخ وقعت فيه وقد سطوت على بستان جارك؟!»

ويعجب القائمون على أمر الحكومة كيف يطيق الرئيس — وقد ملأت وقته الأحداث الجسام — أن يلقى هؤلاء الناس، ويستمع إلى مثل هذه الأمور الصغيرة، وكان جديرًا به أن يكِلها إلى غيره؟ ولكن، أليس هو من الناس؟ أليس خادم الجميع قبل أن يكون رئيس الجميع؟ وهل يغير المنصب ما فطرت عليه نفسه الكريمة من كريم الخصال؟!

ها هو ذا النجار الذي خرج من الغابة، تراه في البيت الأبيض ولم يزل هو هو؛ وداعة في قوة، وتواضع في عزة، ورقة في وقار … ومن وراء ذلك قلب تسع رحمته شكوى الناس جميعًا، قلب لا يتهنأ ولا يفرح إلا إذا صنع المعروف وأولى الجميل، فأفرح القلوب وأدخل عليها الهناءة.

وما كان أعظم الرئيس إذ ينزل إلى الشارع في الصباح الباكر فيستوقف أحد المارة قائلًا: «نعم صباحك يا صاحبي … ألم يصادفك أحد باعة الصحف؟ إن صادفك أحدهم فأرجو منك أن ترسله إلي.» وقد يعرف هذا أن الذي يرجوه هو الرئيس أبراهام لنكولن … فيرد تحيته بقوله: «سعد صباحك يا أبانا أبراهام»، أو «طاب يومك يا أبا الناس!» وينطلق الرجل وفي نفسه كل معاني الإجلال للرئيس العظيم.

أما الرئيس فيعود لا إلى جناح إقامته وأسرته في البيت الأبيض، ولكن إلى جناح عمله في الناحية الجنوبية والصحيفة في يده، فما يفرغ من قراءتها حتى يشمر عن ساعديه قبل أن يحضر الموظفون، فيقرأ كثيرًا من الأوراق، ويقطع برأي في بعض المسائل.

وما كان أعظم الرئيس وأجمل تواضعه حين كان يلقى في الطريق إلى حجرة الرياسة، أو إلى مقر أسرته، أحدَ معارفه ممن لاقاهم في مضطرب الحياة، فيصافحه في حماسة، ويناديه باسمه، ثم يضع يده على كتفه ويقف وإياه، ويضحك من فرط سروره إذ يسأله عن حاله وحال أسرته. ولقد يأخذه معه إلى قاعة الرياسة، فيذكر له الأيام الماضية، حتى ما يشعر الرجل أنه بين يدي رئيس الولايات المتحدة، فهذا الرئيس يقول له: «أتذكر إذ كنا ببلدة كيت وأنا أطوف بالبريد حين وقع لنا كيت وكيت؟» أو يقول: «أتذكر حين كنت أسحب الأبقار في الغابة ولقيتني ففعلنا كيت وكيت؟» أو يقول: «أتذكر حين كنت أترافع في كيت وكيت من القضايا، وحين كنت ترشدني وتعينني على أمري وتنصح لي؟»

وما كان أعظم الرئيس وأنبله حين كان الفقراء يستوقفونه في الطريق، فيقف ليستمع إليهم وليكلمهم كأنه أحدهم، فلا ترفع ولا كبرياء ولا غلظة.

ولن يستنكف الرئيس أن يطيل الحديث أحيانًا عله يستطيع أن يكفكف بكلامه شيئًا من دموعهم، ويخفف بالعطف عليهم بعض آلامهم. ولئن كانت له حيلة إلى إجابتهم إلى ما سألوا، فما هو عن ذلك بضنين.

ولقد كان ينكر عليه مسلكه هذا بعض موظفي البيت الأبيض، ولكنهم حين كانوا يزعمون أنه لا يليق بمن كان في مثل مركزه كان يغيب عنهم أنه لا مسلك غيره لمن كان له مثل قلبه، على أنهم لم يلبثوا أن أكبروا الرئيس وأعجبوا بخلاله، وأصبحوا لا يرون أي مأخذ عليه، وأصبح من المناظر المألوفة عندهم أن يدخل أحدهم ببطاقة للرئيس، فيراه ينهض بنفسه إلى خارج الحجرة يلقى مرسلها مرحِّبًا ضاحكًا، أو أن يروه يأتي بنفسه إلى الحاجب فينهره حين يسمعه يمنع طالبي الدخول عليه.

أما الوزراء وكبار الموظفين وقواد الجيش، فقد تعودوا أن يروا الرئيس يسعى إليهم أحيانًا بدل أن يدعوهم إليه، وكثيرًا ما كان يلتفت الواحد منهم، فإذا حاجبه مقبل يعلن إليه أن الرئيس على السلم، أو في الردهة في طريقه إليه.

ويدخل الرئيس فيجلس إلى مرءوسه يستفهمه عما يريد وينصت إليه، فإن كلمه مرءوسه في أمر فني كلام الأخصائي، لا يستنكف الرئيس أن يستوضحه وكأنه منه التلميذ حيال أستاذه، ويعجب المرءوسون من هذا الرجل الذي لا يدعي أبدًا العلم في أمر يجهله، والذي يفهم ما يبين له في فطنة وسرعة.

•••

أما أبهة المنصب والتمتع فيه بالحياة الدنيا وزينتها، فقد ترك الرئيس ذلك كله لزوجه، لعزوفه عن ذلك بطبعه أولًا، ثم لانشغاله بما هو فيه من عظائمَ ما عَرف تاريخُ قومه مثلها قط.

وكانت ماري تضيق منه بانصرافه عنها إلى ما كان يشغل البلاد كلها، ولا تزال تعنف عليه وتغلظ له وهما في البيت الأبيض كما كانت تفعل ذلك وهما في سبرنجفيلد، وإنه لأهون عليه أن يقابل ما يقابل من عواصف هذه الحرب الأهلية، من أن يقابل عاصفة من حربها الأهلية الداخلية.

وكانت ماري تضيق أكبر الضيق بهذه الحرب التي تعصف بالبلاد؛ لأنها حرمتها كثيرًا مما كانت تتمنى إقامته من الحفلات والولائم، فما يجدر كما يقول الرئيس أن تنصب معالم الفرح والموت يتخطف أبناء الأمة في الحرب الدائرة.

لهذا كانت تتطلع ماري إلى اليوم الذي تضع فيه الحرب أوزارها لتنصرف إلى ما منَّت به نفسها أعوامًا طويلة من الولائم والحفلات، فلقد أصبح حلمها القديم بالبيت الأبيض حقيقة واقعة، ولكن أف لهذه الحرب التي تكدر عليها صفوها كثيرًا، وأخوف ما تخافه أن تنقضي السنوات الأربع والحرب قائمة تحول بينها وبين ما تشتهي.

وتجد ماري نفسها وسط مظاهر الجاه والأبهة، وتحس أنها ملكة ينقصها التاج إذ تنتقل في ردهات القصر وأفنائه وحجراته، وإذ تنظر إلى أثاثه ورياشه وما فيه من خدم وحراس وحجَّاب ووصيفات لها يتبعنها ويتقدمنها أينما سارت، وتكره ماري ألا يعبأ زوجها بهذا كلما وجهت الحديث إليه، ولقد يغيظها معابثًا فيذكر الغابة وحياة الغابة، حتى لتهتاج وتوشك أن تصرخ، فيدعها لتوه فيما هي فيه من أبهة وزينة ويذهب ليلقى القواد والوزراء.

ويدع لها زوجها أحيانًا أن تمتع نفسها بشيء من الولائم والحفلات في بعض المناسبات القومية، فإنها تستتر وراء هذه المناسبات وتأخذ ما تحب من متع الحياة، ويقرأ بعلها ما تلغط به صحف خصومه، فيخفي في نفسه ما لا يحب أو ما لا يجرؤ أن يبديه لها من العتب والملامة.

وكان يؤلم الرئيس ويكاد يفقده صبره أن يعلم أن ماري تتدخل فيما ليس من شئونها؛ فتتصل بالوزراء تشفع لفلان، أو تطلب تعيين فلان في أحد المناصب أو ترقيته، وبخاصة ذوي قرباها الذين أغدقت عليهم النعمة ومدت لهم أسباب الجاه.

كانت ماري تحب الملق وتطرب لعبارات الإطراء والثناء يزجيها إليها في غير خجل أو اقتصاد طلاب الحاجات، وسرعان ما كانت تعنى بأمرهم وتيسر لهم ما صعب عليهم من المسائل في دواوين الحكومة، وكان يندس بين هؤلاء بعض المتجسسين الذين اتخذوا الملق وسيلة إلى جمع الأنباء.

ولم يكن يعلم لنكولن إلا بالقليل مما تصنع، فلا يفعل في أكثر الأحيان أكثر من أن يبسط أمامها الصحف التي تعيب عليه ضعفه، وتعيب على زوجته تدخلها في شئون الدولة، ولقد يغلظ لها في القول أحيانًا، فما كاد يفعل حتى يجن جنونها فيغادرها حتى يذهب عنها الغضب.

figure
الرئيس وأسرته في البيت الأبيض.

بهذا وبغيره مما تفعل ماري حرم لنكولن من أسباب الراحة والعزاء ما كان حريًّا أن يجده بين يدي زوجته.

وكان لنكولن يطلب العزاء بعض الوقت في الجلوس إلى ابنيه ومداعبتهما، وكان لأبراهام عند مجيئه إلى البيت الأبيض ثلاثة بنين: روبرت وكان في الثامنة عشرة، وكان أبوه لا يلقاه إلا قليلًا لوجوده في جامعة هارفارد؛ حيث كان يدرس القانون؛ ووِلي وكان فوق العاشرة بقليل؛ وتوماس أو تاد كما كان يسمى في البيت، وكان في نحو الثامنة.

وكان يتسلل لنكولن أحيانًا إلى حيث يشهد بعض المسرحيات، وكان يحرص أن يذهب بصفته الشخصية في بساطة ودعة فليس معه إلا بعض الخلان.

ولقد يكون له في الموسيقى بعض ما يخفف همه، وفي الكتب مسلاة له أحيانًا إذا خاف من وساوس النفس وأوهامها في ساعات الفراغ، إن كان ثمة له من فراغ!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤