الربان

بدأ العام الجديد؛ أي عام ١٨٦٢، وقد مضى على قيام الحرب نحو ثمانية أشهر ولا يزال ماكليلان حيث هو لا يعمل أكثر من تدريب جنده، ولا ينفك يطلب فرقًا جديدة، وقد بلغ السأم بالرئيس وبالناس كل مبلغ من تردده وتلكؤه، ولكن الناس لا يزالون يعلقون عليه أكبر الآمال.

وحق لأهل الولايات الشمالية أن يضيقوا بهذا الركود، ولولا أن جاءتهم أنباء بشيء من التوفيق صادفه أحد قوادهم، وهو القائد جرانت في جنوبي كنطكي، لأوبق أرواحهم هذا الركود؛ فقد استطاع هذا القائد — الذي سوف يلتمع اسمه شيئًا فشيئًا حتى يصبح بطل هذه الحرب — أن يأخذ عنوة حصنين من حصون الجنوبيين، وأن يرغمهم على التراجع في شهر فبراير.

ولما أن يئس الرئيس من ماكليلان، رأى أن الموقف يقضي عليه أن يدرس فنون الحرب والتعبئة! أليس هو بحكم مركزه القائد الأعلى للقوات البرية والبحرية؟ وإذن فعليه أن يتعلم فن الحرب اليوم كما تعلم مسح الأرض من قبل وتخطيطها، وكما تعلم القانون حتى حذقه، بل كما تعلم القراءة والكتابة قبل ذلك جميعًا وهو يشق الأخشاب في مطارح الغابة.

شمر الرئيس عن ساعده وراح يدرس ويتعلم لا يني ولا يكل ساعات طويلة من النهار وساعات من الليل. الخريطة مبسوطة أمامه، ومعلموه الحربيون يتناوبون تعليمه الواحد بعد الآخر حتى فهم بعض الفهم وأصبح له شيء من الرأي! يا عجبًا لهذا العبقري الجبار الذي يحمل فوق كتفيه ما كان ينوء بحمله أطلس أو آخيل.

واستطاع الرئيس بعد زمن أن يدلي للقواد برأي في فنهم، ولكنه كان حذرًا يعرض الفكرة ويترك القطع للقائد الذي أرسلت إليه. ولقد كتب ذات مرة إلى أحدهم برأيه ثم شدد عليه ألا يتقيد به، قائلًا إنه يلومه أكبر اللوم إن تحيز له أو تردد في العمل بما تمليه عليه خبرته إذا كان ذلك الرأي لا يتفق وهذه الخبرة.

على أنه يكتب لماكليلان نفسه ذات مرة يشير عليه بما يجب أن يعمل في خطة رسمها على أساس من الفن، ولما رد ماكليلان عليه برفض تلك الخطة لم يقره الرئيس، وعاد فكتب إليه يسأله أسئلة تدل على فهم دقيق وإلمام شامل، ودعاه إلى أن يجيب على تلك الأسئلة الفنية إجابة صريحة نزيهة، وهو مستعد بعدها أن يقره، ثم تحاكما إلى أخصائيين، فما زال الرئيس يدلي لهم بحججه ويريهم أن خطته أضمن وأسلم من خطة القائد ماكليلان، ولكنهم آخر الأمر أقروا خطة القائد، ولم يسع الرئيس إلا أن يذعن وإن كان لا يزال يرى وجاهة آرائه.

وتعجب ماكليلان وتعجب الناس معه من هذا المحامي الذي يدلي برأي في الخطط الحربية، كأنه من أصحاب الحرب وممن لهم بفنونها خبرة، وما عرف عنه أنه شهد حربًا من قبل، اللهم خلا تلك المعركة الصغيرة التي اشترك فيها وهو في صدر شبابه ضد الصقر الأسود.

ولكن الذين يؤمنون بسر العبقرية لم يروا في الأمر عجبًا، وكذلك كان الذين تربطهم بالرئيس صلة من كثب، والذين رأوا رجاحة عقله وسلامة منطقه وقوة لقانته. ومن ذا الذي يقول إن الكتب هي التي أوحت إلى نوابغ العالم في شتى مناحي الحياة ما أتوا به من المعجزات؟ إنما يسير هؤلاء على نهج من فطرتهم وعلى هدي من نور عبقريتهم.

وهل الْتَوَت الأمور على ذلك الرجل في السياسة ولم تكن له بأسبابها من قبل صلة؟ أوَلم يحمل الذين أشفقوا أول الأمر من رياسته على الإعجاب به ثم على محبته والإجلال له؟ وإذا كان هذا شأنه في السياسة ولم يتعلمها، فلم لا يكون كذلك في أمور الحرب، وقد استعان بالأخصائيين في تعرف مداخلها بادئ الرأي؟

أخذت الأزمة تشتد في الميادين، وذلك بتوالي الهزائم على أهل الشمال؛ إذ كان هؤلاء ينقصهم القادة القادرون، ولولا أن كان لهم لنكولن في كرسي الرياسة يومئذ لحاق بهم الفناء، ولقد شهد الذين تتبعوا أطوار هذه الحرب حتى نهايتها أن النصر فيها كان مرده إلى شخص الرئيس وقوة يقينه، فلقد كان وحده جيشًا مغالبًا، وكان وهو رجل أمته وحده أمة في رجل!

وظل ماكليلان على حاله يدرب جنده ويطلب المزيد من الفرق، والرئيس صابر لا ينفد صبره وإن أوشك أن ينفد صبر الناس، فلقد باتوا جميعًا يستعجلونه بالزحف على رتشمند عاصمة الجنوبيين.

ومع أن الرئيس أمره بهذا الزحف في نهاية شهر يناير سنة ١٨٦٢؛ أي بعد نحو تسعة أشهر منذ بدأت الحرب، فإنه لبث في مكانه حتى شهر مارس، ثم أخذ يتحرك ولكن في حذر وبطء؛ مما دعا الرئيس أن يطلب إلى وزير الحرب أن يستحثه؛ لأنه أوشك أن ينفد صبره عليه، ولكن ما كان أعظم دهشتهما إذ كتب إليهما ذلك القائد يطلب المزيد من الرجال؛ لأن العدو متكاثر أمامه!

•••

وفي مثل هاتيك الظروف التي كانت تتطلب من الرئيس ما أشرنا إليه من صبر وجهد، يأبى القدر إلا أن يصوب إليه سهمًا يصمي مهجته، ويوشك أن يذهب بلبِّه ويزعزع فؤاده؛ فلقد غالت المنية ابنه وِلِي، ولقد كان مع أخيه يواسيان الجند في مستشفى من مستشفيات الحرب، فسَرت إليهما العدوى ولم يقوَ الصغير على المرض فذوى كما تذوي الريحانة الغضة.

figure
الرئيس الحزين.

لقد ارتاع الرئيس ووهى جَلَده أمام هذه المصيبة، ورأى الناس ذلك الجبل الشامخ يتمايل ويتخاذل من الوهن ولا يستطيع أن يخفي عن الناس جزعه وحزنه، وإنه ليجهش كما يجهش الصبي وفي عينيه حزن وحسرة وفي وجهه كدرة وصفرة. قال لمن حوله ذات مرة: «لقد أذهلتني هذه الضربة، ولقد أطلعتني على ضعفي في صورة لم أر مثلها من قبل.» وقال لصديق له بعد ذلك: «ألم تر في منامك ذات مرة صديقًا عزيزًا عليك، وشعرت أنك تنعم بلقاء حلو مع هذا الصديق، في حين أنه كان يمازج شعورك هذا شعور آخر حزين بأن ذلك اللقاء لم يكن حقيقة؟ … هذا يا صاحبي هو حالي، فعلى هذه الصورة أحلم بلقاء ولدي وِلِي.» وعلم من الممرضة أنها فقدت زوجها وولديها، فسألها هذا الطود الذي يحمل أعباء قومه كيف تحملت هاتيك المصائب؟ فأجابته أنها تحملت ضربات الدهر ضربة ضربة، وأنها تثق في رحمة الله، فمنه تستمد العزاء والسلوان … وهنا يجيبها الرجل العظيم الشديد البأس إنه سيحاول أن يتعلم منها الصبر، وأنه لم ييأس من رحمة الله، وأن الله سوف يهبه العزاء، ثم يردف قائلًا: «أتمنى لو كان لي مثل إيمان الأطفال، هذا الإيمان الذي تتحدثين عنه، وسوف يمدني الله به.» ويعود فيعبر عن مبلغ حزنه بقوله: «إنها أعظم محنة لاقيتها في حياتي. لم كان هذا؟! … لم كان هذا …؟!»

•••

أجاب الرئيس ماكليلان إلى ما طلب وأمده بالرجال؛ لكيلا يكون للقائد حجة عليه، فلقد كان يَشيع في الناس من أول الأمر أن عدم تحرك القائد إنما يرجع إلى أن الحكومة تضن عليه بالمال والرجال. ولقد كتب إليه الرئيس كتابًا كان مما جاء فيه قوله: «أحسب أن القوات التي سيرت إليك قد بلغتك، وإذا كان الأمر كذلك فإنك الآن في الوقت الذي ينبغي أن تضرب فيه ضربة، إن العدو يكسب بتأخرك.»

ولم يسع القائد إلا أن يصرح في رسالة له أنه واثق بعد ذلك من النتيجة، وأنه آخذ من فوره في الزحف، ولكنه في الوقت نفسه راح يشتكي من المطر الهطال والمسالك الوعرة، فكان هذا جهد ما فعل.

ولم ير الرئيس بدًّا من أن يبرق إليه في الخامس والعشرين من مايو يقول: «أظن أنه قد أزف الوقت لكي تهاجم رتشمند، أو تدع هذا العمل جانبًا وتأتي للدفاع عن وشنطون نفسها.»

وكأنما أراد ماكليلان في ذلك الوقت أن يكيد للرئيس، أو كأنما أراد أن يخلق مشاكل جديدة يتخذ منها علة لهذا الجمود، فكتب إليه ينتقد الموقف الحربي كله في جميع الميادين، بل إنه لم يقتصر على شئون الحرب فراح ينتقد الحكومة في جميع شئونها.

وتقدم القائد بعد ذلك إلى رتشمند تقدمًا بطيئًا وذلك في شهر يونيو، وكان معه من الرجال والعتاد ما كان حريًّا أن يكسب به معركة كبرى كما أجمع النقدة فيما بعد، ولكن نابليون الجديد ما كاد يتصل بطلائع الجنوبيين حتى أزمع الارتداد بعد سبعة أيام في قتال غير شديد، ولقد هيأ بهذا التردد للجنوبيين أن يرسلوا المدد إلى جيش لهم كان في طريقه إلى وشنطون يريد تهديدها.

وتلقى وزير الحرب من ماكليلان رسالة فيها دليل يأسه وحيرته، قال: «لو أتيح لي عشرة آلاف أخرى لاستطعت أن أكسب معركة كبيرة في غد. ينبغي ألا تعدَّني الحكومة مسئولًا، وإنها لن تستطيع ذلك. إذا أنا نجيت هذا الجيش فإني أقول لك في بساطة إني في ذلك لن أدين لك بشيء من الشكر، لا ولا لأي شخص في وشنطون، فلقد بذلتم قصارى جهدكم في تضحيته.»

وكان قائد الثوار الكبير، لي، في ذلك الوقت يزحف على وشنطون، وكان على الدفاع عنها بوب أحد قواد الشمال ومعه ثمانية وثلاثون ألفًا من الرجال، ولكن جيش لي كان أكثر عددًا وأشد بأسًا، وتبين أن خير وسيلة لرد لي عن وجهته أن يبادر ماكليلان بالزحف على رتشمند، لا أن يتباطأ ويتراجع كما فعل.

ولما يئس الرئيس منه في هذا السبيل عاد فأرسل إليه يدعوه لحماية العاصمة، وهو لا يدعوه في لهجة الأمر كما كان عسيًّا أن يفعل غيره من الرؤساء، مخافة أن يغضب القائد في هذا الوقت العصيب، والناس يعجبون من تردد ماكليلان بقدر ما يعجبون من ضبط الرئيس نفسه على هذه الصورة، وطول صبره في موقف لو طاش فيه حلم الحليم لكان له عن طيشه العذر كل العذر، ولن يفوت الرئيس أن يضحك ليهون الأمر على نفسه وعلى الناس، فيقول ذات مرة لمن حوله: «إذا لم يكن القائد ماكليلان في حاجة إلى جيش بوتوماك، فإني أرجو منه أن يعيرني إياه فترة من الزمن.»

ورد ماكليلان على الرئيس بقوله إنه سوف يجيبه إلى ما طلب «إذا رأى الظروف تسمح به»، وكان ذلك في شهر أغسطس.

وعاد الرئيس فكتب يطلب إليه القدوم بكل ما في وسعه من سرعة. وأوفد إليه القائد هاليك يستحثه، ولكنه لم يأبه لذلك كله، ولم يصل إلا بعد قرابة شهر من هذه الدعوة.

وكان أمرًا طبيعيًّا أن تنزل الهزيمة بالقائد بوب، وأن تبيت وشنطون معرضة للسقوط، ولقد عاود الذعر هذه المدينة على نحو ما حدث غداة الهزيمة في معركة بول رن، بل لقد كان الموقف يومئذ أشد هولًا؛ إذ اختلفت وجهات النظر في مجلس الوزراء، واحتدم الجدل في المجلس التشريعي، وارتفعت الأصوات بطلب عقد الصلح مع الجنوبيين، الأمر الذي خيف منه أن يؤدي إلى انحلال العزائم.

ولكن لنكولن وحده بقي على عزمه وثباته، يعالج الموقف بالصبر والحزم، ويهيب بالرجال ألا يتخاذلوا وينكصوا على أعقابهم.

ولقد كان للناس من هذا الصبر وهذا الثبات مثل ما يكون من النصر في معركة، وبذلك قل فزعهم وعادت الثقة إلى نفوسهم ووقفوا إلى جانب رجلهم.

ثم إن الرئيس ضم عددًا من الجيوش بعضها إلى بعض، وجعل منها جيشًا جديدًا وضعه تحت قيادة ماكليلان، وطلب إليه أن يقابل لي بهذا العدد الهائل الذي زاد عن مائتي ألف، ولكن ماكليلان لم يفعل، فأصاب أهل الشمال هزائم أخرى في أكثر من جهة.

ولقد كانت هذه السنة الثانية للحرب أسوأ الأيام التي مرت بالرئيس في حياته كلها، وأي شيء أكثر سوءًا من الهزيمة والخذلان؟ وإن الرئيس ليخشى أن تنحل العزائم وتخور القوى، وبخاصة حين أحس الناس أن الحرب لا بد أن يطول أمدها ويشتد سعيرها، وها هو ذا تهامس الأمهات بدأ يصل إلى مسمعيه، وليته كان تهامس الأمهات فحسب، فإن كثيرًا من الرجال قد أخذوا يبدون تململهم وتذمرهم، ويعلنون عن رغبتهم في وضع حد لهذه المحنة القومية.

وكان مما يكرب الرئيس ويوجع نفسه أن كثيرًا من الناس كانوا يلومونه ويردون سبب الهزائم إليه، ويغفلون عما كان يفعل قواده وبخاصة ماكليلان، ذلك الذي كانت محبته والثقة به من أخطاء الجماعات وأوهامها.

رجحت كفة الجنوبيين في البر ولكنهم في البحر كانوا أذلة، وذلك أنهم لم يكن لهم مثل ما كان للشماليين من الجاريات المواخر فيه، ولقد استطاع أحد القواد البحريين، وهو فراجت، أن يسير في أبريل بسفنه إلى نيو أورليانز فيصليها من ناره ويأخذها عنوة، وكان انتصاره هذا وإذلاله أهل الجنوب على هذا النحو، مما خفف على الشماليين بعض ما راحوا يلاقونه في البر من هوان وذلة. ولسوف تكون هذه القوة البحرية في النهاية عاملًا من أهم عوامل النصر، الأمر الذي لم يفطن إليه أهل الجنوب إلا بعد فوات الفرصة.

وظل الرئيس لنكولن في محنة قومه ثبت الجنان حتى لتتزعزع الجبال ولا يتزعزع، ولكنه كان مع ذلك رءوفًا عطوفًا يكره الحرب ويتألم منها أكثر مما يتألم الناس جميعًا، ويتمنى أكثر مما يتمنى غيره أن تضع أوزارها في أقرب وقت؛ ولذلك كان ينكر على المتشددين تشددهم ولا يقر أحدًا على قسوة أو يطاوعه في صرامة، فإذا أنس الرئيس من محدثه غلظة على العدو تجهم وأشاح عنه، في حين أنه كان يقبل على من يطلب إليه اللين والمغفرة، وهو يقول له وللناس جميعًا إنه يمقت تلك الحرب من أعماق قلبه، وإنه ما دخلها إلا وهو موقن أنه شر لا بد منه، وما أراد بها إلا أن تكون علاجًا لمعضلة باتت تهدد كيان بلاده، أما أن تكون انتقامًا وعلوًّا في الأرض واستكبارًا، فليس هو من ذلك في شيء.

وكثيرًا ما كان يصدر من الأوامر ما يتعجب منه القواد ولا يشايعونه فيه وإن نفذوا ما يأمر به. قدموا إليه في تلك الأيام ورقة بشأن شاب كانت عليه الحراسة ووجد نائمًا في الخطوط، ليوقع عليها بإعدامه حسب قوانين الحرب، فنظر الرئيس في الورقة مليًّا ثم أمر فأحضر ذلك الشاب، وكان اسمه وليم سكُت، ونظر إليه الرئيس وقال له: «لن ينجيك إلا الصدق فقل الحق، هل نمت في الخطوط؟ وما سبب نومك؟» فقال الفتى: «أجل نمت أيها الرئيس، فلم تكن على النوبة تلك الليلة، ولكني وجدت صاحب النوبة ينتفض من الحمى، وهو من بلد قريب إلى بلدي، فحملت السلاح عنه لأحرس الخطوط، فغلبني النوم، وقد كانت علي النوبة الليلة السالفة فقضيتها ساهرًا، وعلى ذلك فلم أستطع السهر ليلتين متتاليتين.» وسأله الرئيس عن بلده وعن بلد صاحبه، فعرف البلدين وذكر طوافه بهما أيام كان يعمل في البريد، ثم سأل الرئيس القواد عن بعض ما جاء في كلام وليم، وأمسك القلم فصاح به الفتى: «من فضلك … من فضلك أيها الرئيس لا تقتلني … لا تقلتني.» فنظر إليه الرئيس وقال: «لن أقتلك وإنما أرسلك إلى الخطوط لتجاهد مع المجاهدين.» ونظر الفتى إلى الرئيس والدموع في مقلتيه، فقال له لنكولن: «ولكني أتقاضاك دَينًا على هذا، فماذا تصنع لسداد هذا الدين؟» فاضطرب الفتى ولم يفطن إلى ما يريد الرئيس، ثم قال في تلعثم وارتباك: «لست أدري ما إذا كان لدينا ما يكفي من المال لأداء هذا الدين، فنحن فقراء، على أن لدينا قليلًا منه اقتصدناه، ويستطيع أبي أن يبيع مزرعته، وربما مد إلينا الأصدقاء يد العون، فنجمع بذلك ألفين أو ثلاثة آلاف من الفرنكات، فإذا انتظرت …» وضحك الرئيس، وزاد عطفه على هذا الفتى، ولم يتكره له لجهله أو ينهره على غباوته، وقال له في رفق: «كلا يا بني، فإن ديني عظيم وليس أداؤه في طوق أسرتك ولا مزرعتك ولا أصحابك، وإنما هناك شخص واحد يملك أن يؤدي هذا الدين، وذلك هو وليم سكت، فإذا أدى وليم واجبه على خير ما يؤدي الجندي واجبه، واستطاع عند موته أن يقول «لقد وفيت بوعدي للرئيس لنكولن»، فعند ذاك يؤدي ما عليه من دين.» وأدى الفتى التحية ومضى إلى الخطوط، واحتج القواد، فقال الرئيس مغضبًا: «أيكون جزاء مروءته الإعدام؟ إني لا جلد لي أن أفكر أنني ألقى الله ودم هذا الشاب المسكين على يدي.» وهكذا يأبى الرئيس أن يتقيد بقوانين الحرب، وما يستمد قوانينه إلا من قواعد الإنسانية.

figure
لنكولن وماكليلان.

ونظر الرئيس بعد ذلك بأيام في أسماء القتلى فوقعت عيناه على اسم وليم سكت، فاكفهر وجهه وسأل كيف مات، فأخبر أنه كان يهجم هجومًا شديدًا على العدو بهر القواد جميعًا، وما زال في هجومه حتى صرعته رصاصة، ووجد أصحابه ورقة علقها على صدره، وقد كتب عليها «ليحمي الله الرئيس أبراهام لنكولن»، وما سمع الرئيس حتى ذلك أسرع إلى حجرة قريبة، ودخل عليه بعض قواده بعد حين فوجدوه يبكي!

وعفا الرئيس مرة أخرى عن ضابط تأخر عن المعركة لأنه ذهب للقاء خطيبته، ولما احتج القواد قال لهم الرئيس ضاحكًا، عفوت عنه لأني أفعل فعله لو كنت في مثل سنه!

وحمل إليه البريد فيما حمل من الكتب كتابًا من سيدة تقول إنها أرسلت إلى ابنها كتبًا كثيرة فلم يرد عليها، فإن يكن مات ففي سبيل وطنه، وإن كان لا يزال حيًّا فإنها تحب أن يكتب إليها، وإنها لتلجأ إلى الرئيس؛ إذ لم تبق لديها حيلة، وشكت الأم من غلظة ابنها إن كان حيًّا، وشرحت للرئيس كيف ربته بعد موت أبيه حتى تخرج ضابطًا في المدرسة الحربية.

والرئيس خير من يدرك بقلبه الإنساني الكبير كيف تكون حال أم في هذا الموقف، فأرسل إلى قائد الفرقة التي حددتها الأم في كتابها يأمر بإرسال هذا الضابط إلى البيت الأبيض في غير إبطاء، ولما حضر الفتى أدخلوه على الرئيس فحيَّا ووقف أمام مكتبه دهشًا، فقال له الرئيس في شيء من العنف: «قص علي يا فتى كيف تعلمت بعد وفاة أبيك ولا تخفِ عني شيئًا إن كنت من الصادقين.» فقص الفتى عليه قصته كما جاءت في كتاب أمه، وقاطعه الرئيس يصحح له واقعة فقال: «وماذا بعتم أيضًا غير متاع البيت، وكان بيعه شديدًا على نفس أمك؟» وتَفكَّر الفتى وقال في شيء من الخجل: «بعنا ساعة أبي.» ونظر الرئيس إليه بعد أن فرغ من قصته، ثم قال: «هل جاءتك في الصفوف كتب من أمك؟» وقال الفتى: «أجل جاءتني.» وتكرَّه له الرئيس وعبس ووضع يديه على جانبي صدره تحت ياقة حلته — وهي عادته حين يغضب — وقال: «أيكون جزاء أمك على ما فعلتْ هذا العقوق فلا ترد على كتبها؟» وأراد الفتى أن يعتذر فقاطعه الرئيس قائلًا: «اجلس على هذا الكرسي.» وناوله بيده ورقة لمح الفتى في زاويتها العليا كلمة البيت الأبيض، مكتب الرئيس، وأعطاه الرئيس ريشته ومحبرته وقال له: «اكتب كتابًا لأمك.» ومشى الرئيس إلى النافذة فأطل منها وهو يردد شعرًا لشكسبير أوله: «اعصفي يا ريح الغرب الهوجاء فلست أقسى من قلبٍ منكر …» وتناول الرئيس الكتاب فأعطاه إلى من يلقيه بالبريد، وقال للضابط: «كن بارًا بأمك لتكون بارًا بوطنك.» ولم يشأ أن يظل عنيفًا عليه وهو يحارب من أجل قضية البلاد، فربَّت على كتفه في رفق وهو يصرفه.

ولقد كان أبراهام يتلقى الأنباء عن عدد القتلى والجرحى وهو أكثر الناس إشفاقًا وجزعًا، ولقد كان يسأل عن عدد من صرع من الفريقين المتحاربين لا من أهل الشمال فحسب، فيحزن لهؤلاء وهؤلاء جميعًا كأبناء أمة واحدة.

وكثيرًا ما كان يذرف الرئيس الدمع على ما يصيب رجاله في تلك الحرب الهائلة. ذهب ذات مرة إلى مقر أحد الجيوش فعلم بموت صديق له كان من جلسائه في سبرنجفيلد، فأسرع إلى العودة مضطربًا ويداه على صدره كأنما يمسكه أن يتصدع، وعيناه تفيضان، وعلى وجهه شحوب وكدرة، وإنه ليسير بين الجنود لا يلتفت إلى تحياتهم فلا يردها من شدة الغم، وتكاد لا تقوى على حمله رجلاه.

وكان لا يفتأ يقرأ شكسبير، ففي مآسيه صدى لنفسه الحزينة وعزاء لها، على أن عينيه تقعان ذات مرة على تساؤلِ أمٍّ ولهَى في إحدى هذه المآسي تقول: «لقد سمعتك أيها الأب الكاردينال تذكر أننا سنرى أصدقاءنا في السماء ونعرفهم، ولئن كان هذا حقًّا فلسوف أرى ابني ثانية …» فانظر إلى هذا الرجل القوي يضع الكتاب ويكب بوجهه على كفيه فيملؤهما من روافد دمعه.

ذلك هو الربان الذي قدر أن يكتوي فؤاده بنار هذه الحرب الطاحنة، وإنه ليحس كل ضربة أو طعنة فيها موجهة إليه قبل غيره، ولكن من كان يقوى غيره على حمل هذه الأهوال والصبر على مكاره هذا النضال؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤