السنديانة!

اضطر لي أن يعبر نهر بوتوماك متراجعًا، فكان على ماكليلان ألا يضيع هذه الفرصة، فيتعقب الجيش المتراجع ويعركه في تراجعه ويوقع به هزيمة تفت في عضده، ولكنه قعد دون ذلك على الرغم من إلحاح الرئيس عليه أن يفعل، وراح يطلب المدد من جديد!

وعادت شئون الحرب تكرب نفس الرئيس؛ فقد كان عليه وعلى رجال حكومته بعد قرار التحرير أن يبذلوا قصارى جهدهم ليضعوا حدًّا لتلك الحرب، فإنه لو أتيح النصر لأهل الجنوب كان معنى ذلك القضاء على كل شيء؛ إذ تصبح الحرية مجرد أمنية، وتصير الوحدة ضربًا من الوهم.

وبات يكرب نفس الرئيس شيء آخر؛ فإن الحزب الديمقراطي في الشمال بعد أن فرغ الناس من حماستهم لقرار التحرير، أخذ يندد بسياسة الرئيس، وأخذت صحف الديمقراطيين تكرر القول أن الجند يبذلون دماءهم من أجل شيء واحد؛ هو حرمان الجنوبيين من مِلْك يبيحه لهم الدستور.

أما الجنوبيون فما برحت صحفهم تتهكم على قرار التحرير، وتعلن أن البيض لم ينصرف منهم واحد عن القتال، فإن السود يعملون في الحقول هادئين، وفي هذا أكبر دليل على أنهم ما كانوا في حاجة إلى أحد يحررهم.

على أن لنكولن لا يعبأ بقول الجنوبيين؛ فما يسكت العبيد إلا من الخوف، فها هم أولاء يفرون ألوفًا من جيوش الجنوبيين حيث يلوذون بجيش الشمال ليعملوا تحت راية مسيحهم، كما كانوا يسمون الرئيس لنكولن الذي منحهم الحرية والذي جعلهم ناسًا من الناس. ولكَم كان من أقبح الظلم أن يساق هؤلاء العبيد إلى القتال ليقتلوا قومًا يحاربون ليحرروهم، وكثيرًا ما كان يوضع هؤلاء السود بحيث تحصدهم المدافع، فيكونون بذلك دريئة لسادتهم الجنوبيين!

وأخذ يتبين السر فيما يبدو من مسلك ماكليلان؛ فقد جاءه رسول من الديمقراطيين قبيل معركة أنتيتام يعرض عليه ترشيح الحزب إياه للرياسة في انتخاب سنة ١٨٦٤! وكتب ماكليلان عقب المعركة يقبل هذا الترشيح.

وراح الجمهوريون يذيعون أن ماكليلان يسلك في الحرب مسلك الهوادة ليرضي الجنوبيين، وقالوا إن ذلك لا يبعد كثيرًا عن تهمة الخيانة العظمى!

وتدبر الرئيس في الأمر، ولم يعد يطيق صبرًا على تلكؤ ماكليلان، وأخذت تصدر منه عبارات تعبر عما في نفسه نحو القائد، ومن ذلك قوله: «حقًّا إن ماكليلان لا يريد أن يحطم جيش العدو.» ومن ذلك أيضًا ما كان منه ذات مرة وقد كان يبيت في المعسكر؛ إذ سأل ذات صباح وهو يستقبل الشمس المشرقة قائلًا: ما هذا كله؟ فلما أجابه أحد القواد: إن هذا هو جيش بوتوماك. صاح قائلًا: كلا إنه الحرب الخاص للجنرال ماكليلان.

جمع الرئيس عزمه على أمر، وظل نحو خمسة أسابيع يستحث ماكليلان على العمل، ولما لم يُجدِ ذلك أصدر الرئيس في شهر نوفمبر أمره بعزل ماكليلان من قيادة جيش بوتوماك ووضع مكانه القائد بيرْنِسَيد!

•••

راح أهل الشمال يعلقون الآمال على تغيير القيادة، ففي أنفسهم أن ما حل بهم من الهزائم فيما سلف إنما يرجع إلى سوء تدبير ماكليلان.

ولكن في الجيش عددًا كبيرًا من الجند قد آلمهم أن يفارقهم قائدهم، أو أن يحال بينهم وبينه على هذه الصورة؛ لذلك لم يحسنوا لقاء القائد الجديد، أو لم يشعروا تحت رايته بما كانوا يشعرون تحت راية ماكليلان من حماسة.

وزحف القائد الجديد على رأس جيش ليحتل فردريك سبرج على الضفة الأخرى للنهر، حيث كان يرابط لي قائد الجنوبيين العظيم، ووقف القائد الشمالي تجاه خصمه يفصل بينهما نهر بوتوماك، وقف ينتظر أن توافيه إليه هناك تلك المعابر المتنقلة التي لا بد له منها ليعبر النهر، ولكن المعابر وصلته متأخرة فاستطاع خصمه القوي أن يحصن المرتفعات حول المكان، فلما أخذ يعبر النهر هو وجنوده انصبت عليهم النيران الحامية من كل صوب، ونظر القائد فإذا كثير من جنده حوله صرعى، لا يقلُّ قتلاهم عن الجرحى، فكان لا بد أن يتراجع، وكانت هزيمة جديدة تضاف إلى سلسلة الهزائم في هذا العام المشئوم.

وحمل الجرحى إلى وشنطون فضاقت بهم المستشفيات، حتى لقد حول عدد كبير من الكنائس وغيرها من الأبنية إلى أمكنة للجرحى، وطافت النذر بالمدينة وانعقدت فيها سحب الهم مركومة سوداء، وأخذت الناس غاشية من الحزن ورجفة من الذعر، زاغت لهما الأبصار وبلغت القلوب الحناجر!

وأخذت الأنظار تتجه إلى البيت الأبيض وليس فيها من معاني الأمل بقدر ما فيها من معاني اللوم والغيظ، وكأنما كانت ترف حوله أرواح القتلى فتلبسه كآبة وتشيع فيه ما يكرب النفوس ويؤلم الصدور. وأخذ يظهر في العاصمة حزب جديد يرمي إلى وضع حد لهذه الحرب بأية وسيلة، وألفى الرئيس نفسه بين تصايح المتصايحين؛ فهنا من ينادون بوضع حد لهذه المحنة، وهنا من يطلبون إعادة ماكليلان إلى القيادة والسير في الحرب، ولكن في سرعة وحمية وإقدام، وغير هؤلاء وهؤلاء قوم يطالبون بتغيير القواد والبحث عما يكفل النجاح من وسائل جديدة، وقوم آخرون خيل إليهم أن الفرصة قد سنحت لهم لإعلان رأيهم في مسألة تحرير العبيد، وكانوا يرون ألا يمس ذلك النظام بما يغير من أصوله، وعلى الرئيس أن يراجع نفسه قبل حلول اليوم الأول من العام الجديد؛ وهو يوم التحرير.

وترامى إلى الناس فضلًا عن مزعجات الحرب وشائعاتها أن المجلس التشريعي منقسم بعضه على بعض، وأن مجلس الوزراء نفسه قد فشا الخلاف في أعضائه، ورأى الناس مما يشاع ويذاع أنهم على حافة الكارثة!

ولكن السنديانة ثابتة وقد جن جنون العاصفة، لا تنال الريح العاتية شيئًا من ثبوت أصلها وسموق فرعها، أوَلم يك في الغابة منبتها وكان فيها غذاؤها وريها؟

أجل إن رجلًا واحدًا هو الذي بقي أمام هذه الشدة رابط الجأش، فقد وقف أبراهام عزيزًا لا يهون، صلبًا لا يلين، بصيرًا لا يطيش حلمه، أمينًا لا يخون العهد الذي قطعه على نفسه، مؤمنًا لن يقعد حتى يتم رسالته أو يموت في سبيلها، وكان موقف الرئيس هذا كل ما بقي للقضية من عناصر القوة، وأية قوة أعظم وأبقى من هذه القوة؟ وليت شعري ماذا كان يحدث لو لم يكن على رأس البلاد هذا الذي درج من بين أدغالها؟ أجل ماذا كان يحدث في هذه الظروف لولا هذا الصبر العظيم من جانب الرئيس، وأي صبر أعظم وأجمل من صبر هذا الطود الراسخ الأشم؟

وكان من قواد الحرب يومئذ قائد يدعى هوكر، وقد كان بِلِي بيرنسيد في المرتبة، وكانت بينه وبين هالك المستشار الحربي للرئيس بغضاء وشحناء، فراح يذيع في الجند أن البلاد أشد ما تكون حاجة إلى ديكتاتور يقضي على المنازعات، ويرغم الأحزاب على أن تحبس هذرها وتدفن خلافها، وأن الجيش لن يقوده إلى النصر إلا مثل ذلك الرجل الذي يقبض بيد قوية على أزمَّة الأمور في الدولة وفي الميادين جميعًا!

ولقد ذاعت أفكار هوكر حتى لقد اجترأ ضابط كبير أن يعلن «أن الجيش وعلى رأسه ماك الصغير يستطيع أن يطهر الكونجرس والبيت الأبيض»، قالها في غير تحرج وإن كان قد قبض عليه من أجلها.

وكتب لنكولن إلى هوكر يعاتبه ويحذره العاقبة، وقد عينه في الوقت نفسه قائدًا لجيش فرجينيا، ونجد في كتابه إليه شيئًا من تهكمه قال: «لقد علمت علمًا يحملني على أن أصدق ما قلته حديثًا؛ ألا وهو أن الجيش والحكومة في حاجة إلى ديكتاتور، ولقد عينتك لا بسبب هذا القول بالضرورة، وإنما على الرغم منه، إن القواد الذي يكسبون نجاحًا هم وحدهم الذين يقيمون الديكتاتوريين، وغاية ما أرجوه منك الآن هو النجاح الحربي، أما الديكتاتورية فدعني أنا أجازف في هذا السبيل. إنك لن تستطيع، لا ولن يستيطع نابليون نفسه أن يرجع بخير من جيش هذه هي روحه، ألا حذار من التعجل … ولكن أقدم في نشاط وحمية لا تخبو، واكسب لنا النصر.»

•••

انقضى العام الثاني لهذه الحرب الهائلة، وقد لاقى الشماليون ما لاقوا من الهزائم، ولقي الرئيس من عنت الظروف والرجال ما لاقى.

وحل العام الثالث فلقي الرئيس وفود المهنئين بالعام الجديد وباليوم الذي حل فيه موعد التحرير، ويجد الناس على وجه الرئيس من أمارات الجهد ما تأخذهم به من أجله الرأفة كل الرأفة، ففي هذا الوجه كآبة وكدرة، وفي صفحته سمرة عجيبة تخالطها صفرة، حتى لكأنهم منه حيال رجل غيره، وما يرون وجهه الذي ألفوه إلا حين يشرق بنكتة أو بنادرة مما يسري به عن نفسه.

والرئيس مشغول أكثر وقته بالحرب، يتفكر ويطيل التفكير، ويسأل نفسه ماذا عسى أن يفعل هوكر، وما نصيب القضية في عامها الثالث.

وكان يزور الرئيس ميدان القتال على نهر بوتوماك، فيقضي بين الجند أسبوعًا أو أسبوعين في خيمة، لعل في قربه من الجند ما يذهب عنه شيئًا مما يساوره من قلق.

وفي شهر أبريل تحرك جيش بوتوماك، ولكنه ما لبث في شهر مايو أن هُزم هزيمة منكرة في شانزلو رزفيل، بعد أن أبلى في المعركة بلاء حسنًا أول الأمر.

ثم انقطعت أنباء الجيش عن العاصمة بعد هذه الهزيمة حتى بات الناس في حيرة شديدة، ورضى لنكولن من الغنيمة بأوبة الجيش، وتمنى لو عاد إلى موضعه الأول ليمنع الطريق إلى العاصمة. ووصلت إليه بعد حين رسالة من القيادة أن الجيش قد عاد إلى موضعه، وقرأ الرئيس الرسالة فتندت جفونه، وهو يقول لمن حوله ماذا عسى أن يقول الشعب؟ ماذا عسى أن يقول الشعب؟ واشتد به الغم حتى ما يفلح كلام في الترفيه عنه.

وركب الرئيس وجماعة من صحبه زورقًا بخاريًّا إلى حيث يرابط الجيش، فاستطلع القائد واستفهمه عن سبب الهزيمة، ثم رجع إلى المدينة وقد عقد النية على أمر.

أعلن الرئيس ما يشبه الأحكام العرفية، فحد من حرية الصحافة ومن حرية القول، وأنذر من يعمل على عرقلة قضية الاتحاد بتقديمه إلى المحاكم العسكرية لتنظر في أمره، ولم يعبأ الرئيس بالانتقاد الشديد يوجه إليه من كل جانب، فلقد كان مستندًا إلى أحكام الدستور الذي يخول له أن يتخذ عند الخطر ما تتطلبه مصالح البلاد من أحكام.

وحلَّ الورق محل الذهب والفضة في المعاملة؛ إذ كانت الحكومة في حاجة إلى المال لتنفق منه على هذه الحرب الضروس، ولقد التجأت من أجلها إلى القرض.

وعمت الضائقة حتى شملت الناس جميعًا، وهكذا ظهر للناس أن العام الجديد أشد هولًا مما سبقه.

ولكن هذه السياسة العنيفة لم تأت بالغرض منها، فلقد وجد أعداء الحرب وأعداء القضية فيها فرصة لنشر آرائهم، وسرعان ما تألفت في نواحٍ كثيرة من البلاد جمعيات سرية تعمل على مقاومة الرئيس وحكومته بكل ما يمكن من الوسائل.

وجهر فريق من ذوي الرأي والمكانة بمقاومتهم هذه السياسة، ومن هؤلاء ولندنجهام، وهو نائب عن أوهايو في الكونجرس، ولقد أخذ هذا الرجل يعمل في نشاط وقوة على معارضة كل مشروع في المجلس يراد به نصرة قضية الحرب، وفي خارج المجلس راح يسخر ويطلق لسانه في الرئيس بكل فاحش من القول؛ فتارة يسميه الملك لنكولن، وتارة يضحك من «ذلك الرجل الذي يريد أن يخلق الحب بالقوة، وأن ينمي شعور الإخاء بالحرب»، وتطرف ذات مرة فهتف بسقوطه في مجتمع احتشد فيه عدد ممن أعجبوا به من الديمقراطيين.

وكان بيرنسيد يقود الجيش في الجهات التي تقع فيها أوهايو، مدينة ذلك النائب العائب، وأعلن القائد هناك أن كل شخص يعرقل قضية الحرب وقضية الاتحاد، فجزاؤه أن يقدم إلى محكمة عسكرية لينال عقابه. ورد ولندنجهام على هذا بخطبة حماسية احتشد الناس في تلك الولاية لسماعها، ودعا الناس إلى رفض هذا القرار وعصيانه، ولم يسع القائد إلا أن يقبض عليه ويسوقه إلى المحكمة العسكرية، فقضت بحبسه في أحد الحصون هناك.

وارتفعت الأصوات بالاحتجاج على هذا الفعل الذي يتجلى فيه — كما زعموا — خفق الحرية، فغير لنكولن حكم الحبس بالنفي إلى خارج مناطق النفوذ الشمالي، وأرسل ذلك النائب المتمرد إلى الولايات الجنوبية في حراسة نفر من الجند.

تكاتفت السحب واكفهر الجو، ولم يعد يرى الناس بصيصًا من نور الأمل، فيئسوا من النصر، وتحرجت الأمور حتى ما يعرف لنكولن نفسه ماذا يفعل! ألا هل من قائد يكسب معركة واحدة فيعيد الرجاء إلى النفوس والأمن إلى الخواطر، والعزم إلى القلوب؟

إن هزيمة الشماليين في شانزلو رزفيل، كانت أقسى ما لاقوا من محن، حتى لقد عد مايو — وهو الشهر الذي وقعت فيه الهزيمة — أشد الأيام هولًا في تاريخ هذه الحرب الأهلية الكبرى. ولقد كانت خسائر الشماليين في تلك المعركة بعد ما ذاقوا من الهزائم قبلُ مما يثبط الهمم ويحل العزائم، بينما خرج منها الجنوبيون ولم يخسروا كثيرًا، اللهم إلا ما لحقهم من خسارة فادحة بموت قائدهم الكبير جاكسون، الذي أودته رصاصة طائشة في ظلمة الليل من يد أحد جنوده.

ها هو ذا الرئيس يفكر ويدور بعينيه يتلمس القائد الذي يرجى على يديه النصر. ألا من له بهذا القائد؟ من له بهذا القائد؟ ولكن أين جرانت؟ إنه ذلك الرجل! إن قلب الرئيس ليلتفت إليه كأنما يلتفت عن إلهام.

لقد برهن جرانت على كفايته في بعض المواقع وإن لم تكن مواقع ذات بال، ولكن حسبه النصر فيها على أي حال، ولعله لا يتخلف عنه النصر إذا ألقيت على عاتقه القيادة في المعارك الكبيرة. إن الرئيس لا ينسى أنه استطاع أن يستولي على حصنَي هنري ودونلسن في فبراير سنة ١٨٦٢، وهي سنة الكروب والهزائم، واستطاع كذلك أن يحمل الجنوبيين على التراجع في معركة حامية خاضها في أبريل من تلك السنة.

وكان الرئيس لا يعرف جرانت معرفة شخصية، ولكن هاتيك الانتصارات في أوقاتٍ عز فيها النصر تنم عن كفاية، وتدل على بطولة، ألا إن قلب الرئيس ليحس أنه الرجل المرجو، وإنه ليتحدث عنه حديث الواثق من كفايته كلما جاء ذكره، وإن القواد ليلمسون أن الرئيس شديد الإقبال عليه، وأنه ليبدو لهم أنه مرسل إليه عما قريب فمعطيه الراية؛ ولذلك أخذ يدب الحسد في بعض القلوب، فبينما كان الرئيس يثني عليه ذات مرة إذ قال بعض جلسائه إنه لا يكاد يفيق من السكر، فاستمع إلى الرئيس الذي لا تفارقه النكتة أبدًا، قال لنكولن: «أرجو أن تدلوني أي نوع من أنواع الويسكي يحب ذلك الرجل؛ لأرسل منه برميلًا كبيرًا إلى كل قائد آخر!»

وأيقن لنكولن وقد اتجه قلبه إلى جرانت أنه اهتدى إلى القائد الذي يكون في ميدان القتال مثل هذا الرئيس في البيت الأبيض؛ رشيدًا لا يزوغ بصره، قويًّا لا يكل عزمه، ثابتًا لا يخف حلمه، حكيمًا يعرف ما يأخذ مما يدع، جريئًا مؤمنًا يرى الحياة الحق أن يموت في سبيل مبدئه.

هكذا يفكر الرئيس أن يعطي جرانت لواء القيادة، ولكنه يؤْثر أن يتريث قليلًا، كشأنه في كل ما يفكر فيه من أمر.

•••

أراد الجنوبيون أن يهجموا هجومًا قويًّا على العاصمة الشمالية فيضربوا الاتحاد الضربة القاسمة، فزحف قائدهم الكبير لي بجيشه وعبر نهر بوتوماك، وسار حتى أصبح على خمسين ميلًا أو نحوها من وشنطون في مكان يدعى جتسبرج، وهناك التقى به جيش الشماليين، وكان على رأسه القائد ميد وقد جعله لنكولن قائدًا لجيش بوتوماك لعله يصيب النجاح.

ودارت في هذا المكان معركة عنيفة دامت ثلاثة أيام، وقد استبسل الفريقان فيها واستقتلوا وتوالى بينهما الجزر والمد، وكأنما طلب لهم الموت فتسابقوا إليه جماعات، وانتهى الصراع بانسحاب لي ولكن في ثبات واطمئنان، وكان ذلك في اليوم الثالث من يوليو سنة ١٨٦٣.

وعدت هذه المعركة التي سقط فيها أكثر من عشرين ألفًا من الضحايا فاتحة الانتصارات الكبيرة لأهل الشمال؛ فقد يئس لي من الزحف على عاصمتهم وأيقن أنهم قوة لا تغلب، وسوف ينصرف بعدها عن الهجوم إلى الدفاع.

وما إن وصل إلى وشنطون نبأ ارتداد لي مكرهًا حتى تدفق الناس إلى حيث يجلس الرئيس، وهم من فرط ما قد سرهم من النبأ لا يدرون ماذا يفعلون للتعبير عما في نفوسهم نحو هذا الحصن الحصين وهذا العتاد المتين؟

ونام الرئيس ليلته ملء جفونه لأول مرة منذ قامت الحرب، وفي اليوم التالي حمل إليه البرق رسالة من جرانت، وكانت له القيادة على ضفاف المسيسبي، وفض الرئيس البرقية وقلبُه يخفق؛ فإن له في جرانت أملًا، وقرأ الرئيس فإذا جرانت ينبئه نبأ عظيمًا؛ فقد سقطت في يده فكسبرج. وكانت هذه المدينة لمناعتها ولأهمية موقعها تسمى جبل طارق المغرب؛ إذ كانت مفتاح النهر إلى الجنوب، ولقد جمع فيها أهل الجنوب ما استطاعوا من قوة وعدة، وكان جرانت قد اتجه إليها منذ فاتحة ذلك العام، وكان هو وجنوده يلقون النار الحامية من المدافعين عنها، ولكنه لم يعبأ بما كان يلقى، ولبث يعمل في هدوء حتى أحكم الخطة فأحاط بالمدينة، ثم أتى حاميتها من فوقهم ومن أسفل منهم، وما زال بهم حتى أجبروا على التسليم تاركين في يده ثلاثين ألفًا من الأسرى، وعددًا هائلًا من البنادق والأسلحة، ومقدارًا كبيرًا من المئونة والزاد.

ولا تسل عما فاض في العاصمة الشمالية من مظاهر الجذل والحبور، فلقد شعر الناس بقرب انكشاف الغمة، والتمعت في سمائهم بوارق الأمل في النصر النهائي بعد هذا العذاب الشديد.

واشتدت العزائم الخائرة، ورأى المستضعفون كما رأى الذين استكبروا ما كانوا قبل في عمى عنه؛ رأوا فضل الثبات والصبر، فراحوا يتوبون إلى رئيسهم ويهنئونه بما صبر.

والرئيس يشارك القوم جذلهم، ولكن نشوة النصر لا تصرف عينيه عما هو فيه، كالربان الماهر الحاذق لن يدير عينيه عن البحر إذا هو اجتاز جنادله، ولن يزال محدقًا متيقظًا حتى تلقي السفينة مراسيها.

وكان في نفس الرئيس شيء يكاد ينسيه فرحة النصر؛ وذلك أن ميد وقف فلم يتعقب لي عند انسحابه، فسهل عليه بذلك عبور النهر إلى فرجينيا كما فعل ماكليلان في موقف مشابه من قبل، ولكن ميد كان يرى الجيش في حال من الإعياء يستحيل معها أي زحف مهما هان، فلقد جاء نصره بشق الأنفس، وأحس القائد المنتصر الحرج من موقف الرئيس حياله، فطلب إليه أن يعفيه من القيادة، فرد عليه الرئيس ملاطفًا في صفح يشبه الاعتذار.

وكأنما جاء انتصار الشماليين في المعركتين على قدر من الظروف، فلقد كانت تأتي الأنباء من خارج أمريكا بسوء موقف الحكومة الإنجليزية من قضية أهل الشمال! تلك الحكومة التي كان يعتقد لنكولن أنها سوف تحمد له قضاءه على العبودية، فأعلن قرار التحرير وفي نفسه هذا الرجاء، ولشد ما آلمه بعدها أن يرى الحكومة تتذبذب وتلتوي، ولا تخطو إلا على هدي من مصالحها المادية.

على أنه كان مما يخفف وقع الجحود في نفس الرئيس ما كانت تأتي به الأنباء من موقف فريق من أحرار الشمائل من الشعب الإنجليزي حياله؛ فلقد علم أن اجتماعات عقدت في مانشستر ولندن هتف فيها باسم الرئيس هتافًا عاليًا، حتى لقد وقف الناس في أحدها دقائق يلوحون بقبعاتهم في الهواء عند ذكر اسمه، وظل هذا شأن أحرار الإنجليز حتى بلغ إنجلترة نبأ انتصاره، فاستخزى الطامعون وذوو الأغراض من رجال الحكومة والبرلمان، هؤلاء الذين كانوا يريدون أن يتخذوا من انتصار الجنوبيين ذريعة لإعلان اعترافهم بهم أمة مستقلة، والذين بلغ بهم الحقد على لنكولن وحكومته أن جهزوا سفنًا لمناوءة تجارة الشماليين في المحيط، وأرسلوا بعضها فعلًا لهذا الغرض.

تلك هي نتائج الانتصار في المعركتين وما كان له من أثر في الداخل والخارج. قال لنكولن حين قرأ رسالة جرانت: «الآن يستطيع أبو المياه أن يذهب من جديد إلى البحر وليس في سبيله عائق.»

واجتمع الناس في حفل كبير عند موضع جتسبرج ليمجدوا ذكرى ضحاياها، وطلبوا إلى الرئيس أن يخطبهم في هذا الحفل المشهود، فكان مما قاله: «منذ سبعة وثمانين عامًا أقام آباؤنا في هذه القارة أمة جديدة، نشأت على الحرية وعلى ما نودي به من أن الناس خلقوا جميعًا متساوين، ونحن الآن في حرب أهلية هي بمثابة اختبار لنا، لنرى هل تستطيع هذه الأمة أو أية أمة نشأت نشأتها أن تعيش طويلًا … ونحن نجتمع هنا لنمجد موضعًا منها نجعله مقرًّا أخيرًا لهؤلاء الذين بذلوا أرواحهم كي تستطيع أمتهم أن تعيش، وهذا عمل خليق بنا أن نعمله، ولكنا لن نستطيع في معنى أوسع من هذا أن نخلد أو نقدس هذه البقعة مهما فعلنا … ذلك أن البواسل من الرجال سواء في ذلك الأحياء والأموات الذين ناضلوا هنا، قد خلدوها بما لا نستطيع أن نزيد عليه أو ننقص منه، وإن العالم لن يهتم كثيرًا بما نقول ولن يذكره طويلًا، ولكنه لن ينسى ما فعل هؤلاء …» ثم زاد الرئيس على ذلك فقال: «يجب أن نعقد العزم على ألا ندع هؤلاء يذهبون عبثًا، وعلى أن تمنح هذه الأمة في عناية الله مولدًا جديدًا؛ هو مولد الحرية، وعلى أن تكون حكومة الشعب التي قامت بإرادة الشعب لتعمل للشعب، بحيث لا تزول أبدًا من فوق هذه الأرض.»

هذا خطاب الرئيس الذي سمعه الناس في تلك البقعة التي صبغتها دماء المجاهدين، وقد وصلت كلماته إلى أعماق نفوسهم فهزتها هزًّا، ولم يتمالك الكثيرون أن يحبسوا دموعهم من فرط ما أحسوا.

ولاحظ المتصلون بالرئيس أن الشدائد قد نالت من جسده وإن لم تنل من عزمه، ورأوا السنديانة يمشي إليها الذبول شيئًا فشيئًا حتى ليخافوا أن تذوي فتسقط. أجل، فزع الناس أن يروا أبراهام تتجمع وتتزايد في وجهه الغضون والخطوط، وأن يلمحوا في صفحة هذا الوجه المحبوب أمارات الجهد، وفي نظرات تلكما العينين البريئتين أثر السهر وطول العناء، ولكن روحه أعظم من أن يتطرق إليها الوهن. ذهب إليه أحد كبار السياسة في أمر من أهم الأمور، فأخذ الرئيس يقص عليه من قصصه ويضحك ضحكات عالية، فلم يطق الرجل صبرًا ووثب من مكانه قائلًا وفي لهجته شدة وفي عبارته حدة: «أيها الرئيس، إني ما جئت هذا الصباح لأسمع قصصًا … إن الوقت عصيب.» ونظر إليه الرئيس نظرة عتب وقال له في رزانة وأدب: «أجلس يا أشلي … إني أحترمك كرجل مخلص ذي حمية … وإنه لن يبلغ اهتمامك بما نحن فيه أكثر مما بلغ اهتمامي الذي ما فارقني منذ أن بدأت هذه الحرب، وإني لأقول لك الآن إنه لولا هذا الذي أنفس به أحيانًا عن نفسي لحاق بي الموت.»

وسار العام الثالث إلى نهايته والبلاد يزداد أملها في النجاح، بعد أن كاد اليأس يعصف بالقضية كلها فيأتي عليها؛ ولذلك كانت جتسبرج وفكسبرج صخرتي النجاة، فها هي ذي نيويورك تنبعث منها بوادر فتنة، لولا هذا النصر لجرف تيارها كل شيء، وبيان هذه الفتنة أن حاكم ولاية نيويورك — وكان من أكبر المنادين بوضع حد لهذه الحرب — ما فتئ يحرض الناس حتى هبت ثورة عنيفة في مدينة نيويورك، اقترف فيها المشاغبون ودعاة الفوضى أفعالًا منكرة، وبالغوا في تمردهم وعصيانهم حتى اضطرت الحكومة أن ترسل عليهم فريقًا من الجند فقضوا على الفتنة. ومن غريب أمر هؤلاء العصاة أن قامت حركتهم التي دبروها من قبل عقب الانتصار في جتسبرج وفكسبرج. ولقد كانت تلك الحركة من مآسي هذا العام، ولولا أن جاء النصر كما ذكرنا وأشرق نور الأمل في ظلمات اليأس، لجاز أن تمتد الفتنة فتأتي على كل شيء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤