الشهيد!

جعل الرئيس ينتظر أخبار الميادين، وكثيرًا ما كان يقضي الوقت الطويل في غرف البرق يترقب ويتوقع، وكثيرًا ما كان يشخص بنفسه إلى مراكز الجند فيزورها واحدًا بعد الآخر، ففي الحادي والعشرين من ديسمبر سنة ١٨٦٤ أخذ شيرمان مدينة سفانا عنوة، فأبرق إلى الرئيس يقول: «أرجو أن تسمح لي أن أقدم إليك مدينة سفانا هدية عيد الميلاد.» واستمر شيرمان في زحفه فاستولى على كولومبيا وشارلستون، وما زال حتى دخل ولاية كارولينا الشمالية وأصبح على اتصال بجنود جرانت، وبذلك أوشكت جنودهما أن تحيط بجيش الجنوبيين.

وكان جرانت يثخن في أرض الجنوبيين لا يألوهم نزالًا كأهول ما يكون النزال، وكانت ضحاياه كثيرة يدمى لها قلب الرئيس، ولكنه كان لا يلين، وما لبث هو وأعوانه أن هزموا الجنوبيين في كل مكان حتى لم يبق في الميدان غير لي.

وحاصر جرانت مدينة رتشنمد، ودام حصاره طوال أشهر الصيف من سنة ١٨٦٤ وأشهر الشتاء من سنة ١٨٦٥. وفي السابع والعشرين من شهر مارس التقى لنكولن وجرانت وشيرمان على زورق في نهر جيمس على مقربة من مركز القيادة، وتداول ثلاثتهم في الأمر، ولشد ما تألم الرئيس أن علم أنه لا يزال دون النصر معركة حامية، وراح يتساءل في جزع: «ألا يمكن تجنب تلك المعركة؟ ألا يمكن تجنب تلك المعركة؟»

وأمكن تجنب تلك المعركة كما تمنى الرئيس؛ فلقد تمكن شريدان — وكان إلى ميسرة جرانت — أن يقطع على لي آخر منفذ للهرب فتم لهما تطويقه، وبات تسليمه أمرًا لا بد منه.

وفي اليوم الثالث من شهر أبريل سنة ١٨٦٥ سقطت رتشمند طراودة هذا الصراع المتصل الطويل، وهيهات أن يصف الكلام مبلغ ما كان بالعاصمة من شعور الفرح والحبور. لقد بات الناس وأفاقوا على مثل مظاهر العيد، وأي عيد أجمل من هذا الذي يبشر الناس فيه بقرب انفراج الغمة واتحاد الأمة؟

وغادر جفرسون دافز والقائد لي مدينة رتشمند، وأحرق الجيش المنسحب المستودعات وكل ما يمكن أن ينتفع به الفاتحون، وشاعت الفوضى في المدينة على صورة خيلت للناس أن جهنم فتحت أبوابها.

وأرهف الناس آذانهم على صوت بعيد سمعوه، صوت لا يكون مثله في الجحيم، فإذا هو لحن الجيش الجمهوري تعزف به موسيقاه، وتقدم هذا الجيش وكان في طليعته عدد ممن كانوا يسمون بالأمس الرقيق، فدخل المدينة وأعاد فيها الأمن، وعني بالجرحى وأطفأ الحريق.

وجاء القواد يدعون الرئيس لنكولن لتسلم المدينة التي حاربتها جيوشه خمسة أعوام، وأنصت الرئيس إلى برنامج الاحتفال، وكيف يتألف الموكب الرسمي، وماذا يختار من الفرق لتسير في طليعته وفي مؤخرته، ومن هم القواد الذين يصحبون الرئيس، وماذا يفعل الرئيس بالمدينة المفتوحة، إلى آخر ما أعد القواد من مظاهر الزهو والأبهة. وكان يخيل إليهم أن الرئيس يقرهم على ما يقولون.

وقبل أن يحل اليوم الموعود قصد الرئيس المدينة وحده يمسك بيده يد ابنه الصغير تاد، وعبر إليها النهر في قارب حربي كان يرسو على مقربة منها ولم يُعْلم أحدًا، فلا موكب ولا فيالق ولا شرطة يفسحون الطريق.

ودخل الرئيس العظيم المدينة في الصباح وفي يده تاد الصغير وهو يمشي على الأرض هونًا وليس في وجهه زهو ولا تطاول!

ورآه بعض السود وكانوا يكنسون الشوارع، فعرفه أحدهم؛ إذ كان يرى صورته في إحدى الصحف، فأشار إليه وإلى الصورة وأطلع زملاءه على الصورة قائلًا هذا هو الرئيس! وضحك الرئيس فأقبلوا عليه ومنهم من يضحك ومنهم من يبكي، فمد إليهم يده مصافحًا في تواضع ورفق وهم يلثمون يديه وأطراف ثوبه، ويمسحون بأكفهم حلته كما لو كان أحد القسيسين.

وما إن شاع النبأ حتى هرع الناس من كل مكان يشهدون الرجل الذي دوت باسمه البلاد، وتزاحموا حوله وهو بينهم رابط الجأش يبدو للأعين قوامه الطويل، وأسرع بعض الشرطة والجند فحفوا به.

وتلفت الرئيس فإذا جموع السود تتقاطر من كل صوب وهم يملَئون الجو بهتافاهم باسم مخلِّصهم ومحطم أغلالهم أبراهام لنكولن، وكانوا مِن حوله يرقصون ويثبون في الهواء لا يدرون ماذا يفعلون للتعبير عما في نفوسهم نحو هذا المحرر الأعظم، ثم تقدموا متزاحمين فتلاقوا على الأرض أمامه يقبلون قدميه، وهو يرفعهم بيديه ويمسح بها على جباههم وأكتافهم والدموع تتساقط كبيرة ساخنة من عينيه الواسعتين، فتجري على محياه الكريم وتقطر بها لحيته.

وحار الرئيس لحظة فلم يدر ماذا يقول، وهو الذي ما عَرف قبلُ عيًّا ولا حصرًا، ثم ناداهم قائلًا: «أي أصدقائي المساكين، أنتم أحرار … أحرار كهذا الهواء … وإنكم لتستطيعون أن تطرحوا اسم العبودية وتطَئوه بأقدامكم، فإنكم لن تسمعوه بعد اليوم … إن الحرية حقكم الذي منحكم إياه ربكم كما منح غيركم.» وتألم الرئيس من أن يخروا سجدًا على قدميه، فقال: «لا تسجدوا لي، هذا ليس بصواب؛ إنما أنا رجل مثلكم ولا فرق بيني وبينكم إلا هذا المنصب، وعما قريب أعود فأكون واحدًا منكم، يجب أن تسجدوا لله وحده وأن تشكروه على الحرية التي سوف تتمتعون بها منذ اليوم.»

وعاد الرئيس إلى وشنطون وفي وجهه مثل ما يكون في وجوه الأبرار الصالحين، والناس حول ركابه جموع خلف، وهم يهتفون باسم الأب أبراهام بطل الحرية ومحطم الأصفاد، ومعيد الوحدة إلى البلاد وحامي دستورها ورسول حاضرها إلى غدها.

وفي اليوم التاسع من هذا الشهر المشهود وضعت الحرب الأهلية أوزارها؛ فقد سلم لي سيفه للقائد جرانت علامة الهزيمة، ولكَم كان جرانت عظيمًا إذ أبى أن يتسلم السيف من خصمه قائلًا: أبقِهِ في يمينك أو في منطقتك فهذا أجدر موضع به.

وتلقت العاصمة النبأ وتلقاه الرئيس، وأحس الناس أول الأمر كأنما أفاقوا من حلم مخيف لا تزال في نفوسهم مخاوفه.

وتنفس أبراهام الصعداء، وتنفس معه الناس، وأحس ابن الأحراج بعد هذا الكفاح الطويل الشاق أن قد آن له أن يستريح بضعة أيام. وتزاحم الناس حول البيت الأبيض وهم من فرط سرورهم يبدون كأنما طاف بهم طائف من الجنون، وأطل عليهم الرئيس وهم يتصايحون ويتواثبون ويقذفون بقبعاتهم في الهواء، وعظمت حماسة هذا البحر الزاخر من الخلق زمنًا طويلًا، وهم تحت شرفة الرئيس يموج بعضهم في بعض.

figure
الرئيس وابنه تاد.

لم يدر الرئيس ماذا يقول وهو الخطيب الذي لم يعرف تاريخ بلاده ندًّا له، وما زاد على أن مسح بيده الدموع المنحدرة من عينيه، ثم طلب إلى الناس أن يهتفوا ثلاثًا بحياة القائد جرانت وجنوده وحياة القواد البحريين ورجالهم، وأحنى للجموع رأسه الأشم ثم عاد إلى حجرته.

وظلت العاصمة منذ هذا اليوم التاسع من أبريل ومظاهر الفرح تملأ جوانبها وتشيع في البلاد. وفي اليوم الرابع عشر كان على مجلس الوزراء أن ينعقد ظهرًا، وكان جرانت ممن سوف يشهدون الاجتماع، وفي صباح هذا اليوم ظل الرئيس معتكفًا وقد اعتذر عن لقاء من طلبوا لقاءه، وجلس يتحدث إلى ابنه الكبير روبرت وقد عاد من الميدان صحبة جرانت، وظل أبوه يخبُر مدى استعداده بأسئلة ألقاها عليه، وهو لم يجلس إليه منذ زمن طويل؛ لتغيبه في الجامعة، ثم لذهابه من الجامعة إلى الميدان.

ولاحظ بعض المقربين إلى الرئيس أن التفاؤل في المستقبل أخذ يملأ جوانب نفسه، وأنه كان منشرح الصدر ضحوكًا، يقص عليهم أنه رأى حلمًا لا يراه إلا قُبيل العظيمِ السارِّ من الأحداث، ولقد رآه قبيل جتسبرج وفكسبرج وأنتيتام، وهو حلم عجيب، قوامه ركوب الماء في قارب غريب لا يوصف ينطلق بالرئيس في سرعة شديدة إلى شاطئ مظلم مجهول، ولكن الرئيس يصحو قبل أن يبلغ الشاطئ. ألا ليته يصحو قبل أن يصل به القارب مساء هذا اليوم إلى ذلك الشاطئ المخيف، فلقد أعد المجرمون الآثمون عدتهم وبيتوا كيدهم.

واجتمع مجلس الوزراء ليرى ماذا تفعل الحكومة لإصلاح ما أفسدته الحرب، وعارض الرئيس أشد المعارضة القائلين بالانتقام من الجنوب، وصاح بهم: «كفانا ما ضحينا من الأنفس، يجب أن نعمل على شفاء الجراح كما يجب أن نطفئ في قلوبنا السخائم إذا أردنا أن نقيم الوحدة والوفاق.» ألا ليت المؤتمرين به سمعوه إذ يقول ذلك! ألا ليتهم سمعوه!

figure
يجب أن تسجدوا لله.

وركب الرئيس وزوجته في نزهة عصر ذلك اليوم، وكانت ماري فرحة بانتهاء الحرب، تحدث نفسها بما تقيم غدًا من ولائم، وكانت تقول لزوجها إنها تعتزم بعد انتهاء مدة هذه الرياسة الثانية أن تزور أوروبا فتقضي هناك سنة، ويضحك لنكولن قائلًا: «أما أنا فسأزور كليفورنيا الجديدة والأصقاغ الغربية.»

ولما عادا لمح أبراهام وهو ينزل من العربة قومًا خارجين من البيت الأبيض، فعرف بعضهم وهم من أصحابه القدماء من أهل إلينوي، فناداهم من بُعد وأشار إليهم بيده كما كان يفعل في سبرنجفيلد قائلًا: «هالو … ارجعوا إلي أيها الرفاق … مرحبًا يا أصحابي …» وفتح لهم ذراعيه وبسط كفه، وإنهم ليعجبون أشد العجب أنه لا يزال على عهدهم به، ومشى الرئيس معهم إلى إحدى الحجرات وهو يضحك بينهم ويمزح كما كان يفعل بالأمس، وسألهم عن أشخاص ممن يعرف، ثم جلس بينهم يقص عليهم قصصًا مضحكة ويضحك ضحكات مدوية، وقد رفع بينه وبينهم الكلفة كأنما يجلسون أمام دكان من دكاكين سبرنجفيلد، وظل الرئيس يتلو نكاته ويضحك ملء نفسه، ويضحك سامعوه، وكلما جاء الخادم يدعوه إلى الطعام صرفه بإشارة من يده وأخذ في حديثه، إلى أن جاءه ما يشبه الأمر من ماري، فنهض ومد إليهم يده مودعًا.

وفي المساء ذهب الرئيس وزوجته ليشهدا رواية تمثيلية في المسرح، وكانت الصحف قد نشرت اعتزامه الحضور ومعه القائد جرانت، وتخلف القائد لأنه أراد السفر، فذهب مع الرئيس وزوجته ضابط وخطيبته وجلسا معهما في المقصورة الخاصة.

وما أطل الرئيس من مقصورته على الجمهور حتى دوت جنبات القاعة بالتصفيق والهتاف، وأحنى الرئيس رأسه للجميع وجلس يشهد التمثيل.

وانقضت ساعتان، وتسلل إلى المقصورة في منتصف الساعة الحادية عشرة الممثل وِلِكس بوث رأس المؤامرة ليغتال الرئيس، وكان على اتصال بنجار المسرح، وكان هذا النجار عضوًا في المؤامرة، فصنع له أثناء النهار ثقبًا في باب المقصورة لينظر منه، وأعد له رتاجًا خشبيًّا لباب الردهة المؤدية إلى المقصورة من الداخل.

وحمل الحارس الواقف بباب الردهة الخارجي بطاقة من المجرم إلى الرئيس، تظاهر بها أنه رسول يحمل إليه نبأ، وسمح له الرئيس بالدخول، فأغلق من الداخل باب الردهة بذلك الرتاج الخشبي، ونظر من الثقب، ثم فتح الباب وأطلق رصاصة إلى رأس أبراهام، وطعن الضابط بخنجره حين هم أن يمسكه، وقفز إلى المسرح الذي طالما مثل أدوارًا عليه، ولكن ثوبه علق بخشبة العلم، فهوى وانكسرت ساقه، ووثب على الرغم من ذلك وخرج يعدو، وكان شركاؤه قد أعدوا له حصانًا فهرب على ظهره عدْوًا.

وحاول أبراهام أن ينهض فلم يستطع، وخر على مقعده، وهوت السنديانة من هذه الضربة، وطالما استعصت من قبل على الضربات!

وحمل الرئيس إلى بيت قريب من المسرح، واجتمع حول سريره الوزراء ورجال الدولة وخاصة أصدقائه، وهو لا يسمع ولا يعي شيئًا مما حوله، وفي الساعة السابعة والدقيقة الثانية والعشرين من صباح اليوم التالي، وهو الخامس عشر من شهر يوليو مات أبراهام لنكولن!

وساد في الحجرة صمت رهيب كان يقطعه بكاء ماري، ووقف ابنه روبرت مصفار الوجه على رأس سريره، ثم قال الوزير ستانتون: «الآن أصبح أبراهام لنكولن ملكًا للزمان ودخل في التاريخ!»

وروعت العاصمة بالنبأ الفاجع، وتلاقت أمة بيضها وسودها تحمل شهيدها الأكبر ومحررها العظيم إلى حيث يستريح راحته الأبدية، وذهبوا بجثمان البطل إلى سبرنجفيلد في قطار كبير مجلل بالسواد يقل مرافقي جثمانه من رجال الدولة، وسار في نفس الطريق الذي جاء منه إلى العاصمة قبل ذلك بأربع سنوات، والناس اليوم على جانبيه يجهشون ويشهقون، ولا يملكون غير الدمع في هذا الخطب الفادح، وكان السود أكثر الناس بكاء عليه وأشدهم خشوعًا وهم يطوفون بنعشه في البيت الأبيض قبل نقله إلى سبرنجفيلد!

ودفن الرئيس إلى جانب ابنه الصغير، ولما هموا بوضع تابوته في التراب، ارتفعت أصوات الناس جميعًا بضجة عظيمة من البكاء، الكبراء والعامة في ذلك سواء، وانصرف السود وهم يرددون قولهم: «لقد رفع مسيحنا الجديد إلى السماء!»

ألا ليتهم حملوا ابن الغابة إلى الغابة ليدفن حيث نشأ وحيث شب!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤