بائع في دكان

لم يلبث أبراهام في كوخ أبيه بعد عودته إلا أيامًا، ثم خرج منه ومن الغابة ليضرب في الأرض، ولتلقي به الأقدار في مجاهل الغيب، فلن يعود إلى الغابة نجارًا، ولن تمسك قبضته الفأس بعد اليوم.

كان أول ما ساقته الأقدار إليه من عمل أن فتح له ذلك الرجل الذي استأجره في رحلته الثانية إلى نيو أورليانز، دكانًا في مدينة نيو سالم ليبيع الناس ما يطلبون نائبًا عنه، فقد وثق من أمانته ومهارته.

ولقد قطع أبراهام المسافة إلى تلك المدينة ماشيًا؛ فما يملك قاربًا أو حصانًا، وهناك أعد الدكان بنفسه، فصنع الرفوف اللازمة والمناضد وغيرها بيده، ورتب البضائع في أمكنتها، ثم جلس ينتظر القادمين من طالبي تجارته.

وسرعان ما اجتذب الناس بشمائله، فتوثقت الألفة بينه وبين جميع من خالطوه، وعلى الأخص من شهده منهم في حادث النهر يوم تعلَّق به قاربه على الحاجز الصخري.

وأذاع في الناس صيتَه حادثٌ آخر غير حادث القارب؛ وذلك أن صاحب الحانوت ما فتئ يذكر للناس قوة أبراهام وشدة عريكته، وكانت المصارعة في تلك الأصقاع البرية مما يتنافس فيه الشبان، وبخاصة ذوي الفتوة منهم، وسرعان ما نمى أمر ذلك الشاب الذي يبيع في الحانوت إلى جماعة من الفتيان في البلدة كانوا يجعلون العربدة هويتهم والشغب مسلاتهم، وكان على رأسهم فتى مفتول الساعدين شديد المراس يقال له آرمسترنج، فجاءوا عصبة إلى أبراهام يسخرون منه ويتحدونه أن ينازل زعيمهم وهو يعرض عنهم وتأبى عليه نفسه أن يحفل بهم، ولكنهم يسرفون في التحدي والقحة، فيخرج إليهم ويسير إلى قائدهم في هدوء وثبات، وتحمي المصارعة بين الفَتَيَيْن، ويجد أبراهام من خصمه أنه يريد أن يعمد إلى الحيلة حتى تتم له الغلبة في غير تحرج من مخالفة أصول المصارعة، ولكن أبراهام يستجمع قوته ويرفع خصمه ويلقي به بعيدًا، فيتدحرج على الأرض كما تتدحرج الكتلة من الخشب، والفتية لا يصدقون أعينهم من الدهش، ولكنهم يتهمون أبراهام بأنه خالف أصول الصراع، ويتأهبون لمهاجمته عصبة، فيسند ظهره إلى الحائط، ويتأهب للِقائهم في صمت، وإذ ذاك ينهض زعيمهم فيصافحه معلنًا أنه تغلب عليه حقًّا، وأنه لا يملك إلا الإذعان له، وتوطدت بين الفتيين المحبة، وتوثقت بينهما أواصر صداقة سوف تستمر زمنًا طويلًا حتى يموت آرمسترنج، فيبقى أبراهام على مودته لابنه، ويقف ذات يوم وهو محام فيدافع عنه في حماسة واهتمام حتى ينقذه.

figure
الدكان حيث كان يبيع لنكولن وترى الدكة الخشبية التي كان ينام عليها.

وكان أبراهام في الحانوت موضع محبة كل من جاءه، كان واسع الصدر فَكِهَ الحديث لطيف المعاشرة، خفيفًا في إجابة كل قادم إلى مبتغاه، حريصًا على رضاه لا يضيق ولا يتململ من ثرثرة بعض زبائنه أو ترددهم بين الأصناف أو مساوماتهم في الأثمان، فيقنع هذا بالحجة ويرد على ذاك بنكتة؛ جاءته عجوز تشتري شيئًا فضجرت من دقته في الميزان وقالت: «لِمَ لَمْ يضعوا غيرك في هذا الدكان فكُنَّا نستريح من وجهك القبيح؟» فنظر إليها باسمًا وقال: «ولدني أبواي يا سيدتي جميلًا، ولكن أناسًا سرقوني وأنا في المهد، ووضعوا مكاني صاحب ذلك الوجه القبيح الذي ترين، فما ذنبي إذن في هذا القبح؟»

وحبب أبراهام إلى صاحب الحانوت أن الناس كانوا يجيئونه ليكتب لهم الخطابات أو ليقرأها أو ليستمعوا إلى قصصه ونوادره، كما كان الآباء والأمهات يحمدون له حدبه على الأطفال وعنايته بإرضائهم وإدخال السرور على نفوسهم، وكثيرًا ما رأوه يضاحكهم ويلاعبهم ويعطيهم الحلوى ويصنع لهم اللعب.

على أن الأمانة كانت أحب صفاته إلى الناس جميعًا، حتى لقد صار يعرف بينهم باسم «أيب الأمين»، فما يذكره الناس باسمه مجردًا من هذه الصفة إلا نادرًا؛ حدث أنه أعطى امرأة ذات مرة مقدارًا من الشاي أقل من حقها، فلما أدرك ذلك سار إليها آخر النهار مسافة ثلاثة أميال يحمل باقي الشاي، وحدث أن أخذ خطأً بعض دريهمات من رجل، فلما راجع حسابه سأل عنه حتى اهتدى إليه ودفع له دريهماته، وتروى عنه من هذا القبيل أحاديث كثيرة جعلت الناس يقبلون عليه معجبين.

وعرف الناس أبراهام فوق ذلك باستقامته، فما عهدوا عليه من سوء قط، كان لا يعرف الخمر ولا الميسر ولا يقرب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وكان يشغل فراغه بالقراءة كعادته منذ تعلم القراءة، وكثيرًا ما رآه المارة وقد استلقى على ظهره في الحانوت ورفع أمام عينيه كتابًا فما يضعه إلا حين يقصد إليه مشترٍ ثم يعود إليه متى انصرف، ويظل يقرأ في غير ملل، ولَكَمْ كان يتعجب بعض من يراه إذ يسمعونه يجهر أحيانًا بقراءته ثم يقفز واقفًا إذا أعجبته عبارة فيرددها مرات ثم يثبتها في قرطاس.

وكانت كتبه — إلا قليلًا — مستعارة، يسمع عن كتاب فيسعى إلى صاحبه فيستعيره إلى أجل ثم يقرؤه ويرده إليه في ميعاده، ومن ذلك أنه سمع عن كتاب في قواعد اللغة، وكان قوي الرغبة في تعرف تلك القواعد؛ ليستعين بها على ضبط عبارته، فمشى نحو ستة أميال حتى جاء صاحب الكتاب، فاستعاره وأكب عليه حتى أتقن فهمه في أيام قليلة.

ومما قرأه أيب في تلك الأيام صحيفة كانت تكتب في السياسة اشترك فيها على إملاقه، وكان يقبل على قراءتها في استمتاع ولذة، قراءة تعمق ودراسة.

وكان ينام أيب في الحانوت على دكة من الخشب؛ فما له مأوًى غيره، على أنه ما تبرم من ذلك أبدًا؛ فقد ألف ما هو أخشن من ذلك من مهاد، وحسبه أن يذكر مهده في تلك الأكواخ التي كان ينفذ البرد من خلال ثقوبها إلى بدنه ليحس أنه ينعم بالراحة على هذه الدكة الخشبية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤