الفصل الأول

الجزء الأول

شمطاء :
هنا أمراء القصر في اللهو والطرب
وهذي أسارى القوم في الشغل والتعب
هنا رنة الألحان والأنس والصفا
وهذا رنين القيد والظلم والغضب
هنا الجد يأوي بابنهِ وكلاهما
يعدَّان ما قد أسلفاهُ من الحقب
يكران طرف الذكر في نوبٍ مضت
وهيهات يغني الذكر والعمر قد ذهب
أميران قد عزَّا على كل مالكٍ
وعبدٍ فكانا الرأس والعالم الذنب
بحصن سما عن كل حصنٍ ومعقلٍ
فكاد يفوت النسرَ أو يلحق الشهب
ومن حوله أبطال حرب أعزةٌ
يرون عذاب الموت أحلى من الضرب
رجالٌ لهم في كل جسم صحيفة
يخطون فيها بالرماح وبالقُضُب
ويحمون هذا الحصن من كل طارق
عدو فلم يدخل إليهِ سوى الطرب
دخلت إلى هذا المكان ذليلة
عجوزًا تولتني المصائب والنوب
أجر قيود الذل فيهِ وطالما
جررت ذيول العز زينها الذهب
ولكن رويدًا ساكني القصر إنني
رسول البلايا والنوائب والعطب

الجزء الثاني

(هلال – زيدان – فاضل – عمران – فاتك – ثم جندي)
هلال : هذه ساعة الراحة والحمد لله … حقًّا لقد تعبتُ.
زيدان : لقد كنت حرًّا غنيًّا، أما الآن …
فاضل : وا أسفاهُ.
زيدان : أريد أن أعرف ماذا تصنع هذه العجوز هنا.
فاضل : جلُّ ما أعلمه من أمرها أنهم أخذوها مسبية في الشهر الماضي مع بعض التجار، وجاءوا بها إلى هذا الحصن.
عمران : لماذا يقيدوننا نحن، ويتركونها حرة تذهب حيث تشاء.
فاضل : ذلك لأنها شفت حفيد الأمير الكبير من حمَّى قتالة، وقد شفت أيضًا أحد الأمراء من لدغة أفعى.
زيدان : أظن أن هذه العجوز سحارة، فإنها لم تشفِ هذين الأميرين فقط بل شفت الثلاثة البرص؛ الذين كانوا هنا فأصبحوا لها من أطوع الخدم، وظني أنها امرأة خبيثة ذات مقاصد هائلة، فهي لا تأوي إلا الكهوف أو المقابر، وتوقد فيها النار وتصنع عليها أدوية وعقاقير لا أعلم كيفية تركيبها. وقد رأيتها مرة ماشية مع رجالها الثلاثة في جانب الحصن، وإذا بها قد اختفت معهم فجأة كأنها شقت الجدار ودخلت فيه.
فاتك : يا ليتها بدلًا من أن تشفي حمادًا الخبيث وغيره شفت ليلى خطيبة حماد وابنة أخت الشيخ سلمان جده.
زيدان : حقًّا؛ إن هذه الفتاة ملك في صورة إنسان.
فاتك : ولكنها ناحلة ذابلة تخطو كل يوم خطوة في سبيل القبر، ولا شك أن خطبتها لهذا الوحش الضاري حماد هي السبب الأكبر في سقمها وانتحالها.
فاضل : هذه العجوز قد عادت حقًّا، إنَّ منظرها يرعبني، فلعنة الله على هذا الحصن كم فيه من أهوال.
زيدان : اسكت ولا ترفع صوتك لئلَّا يسمعنا أحد.
فاضل : لا تخف، فإن أمراءنا في وليمتهم، وهم بعيدون عنا.
زيدان : ولكن الاثنين هنا.
فاضل : وأي اثنين.
زيدان : الشيخ الأكبر سلمان وابنهُ، فإن هذا الباب لا يدخله غيرهما وغير ليلى والفتى الضابط حسان الذي قدم إلى هذا الحصن في العام الماضي، وخدم بين رجاله ونال محبة سلمان الجد الأكبر بشبابه ومحاسن أخلاقه، أما الجد فيقضي غالب أوقاته في هذه الحجرة العميقة، وإلى جانبه ابنه الأكبر عامر يحمل رمحه، ويقضيان معًا ساعات طويلة لا ينطقان فيها بحرف. ويقال: إن هذا الشيخ العاجز يندب ذنوبًا له سلفت، وقد ثقلت جرائمها عليه، ويبكي ولدًا له صغيرًا خطف منه منذ عشرين عامًا، ولا يدري من كان خاطفه ويبلغني أن أولاده الأدنياء من أشد مصائب الدهر عليه، وأظنه لم يلقب بالشريد عن عبث.
فاضل : وهل تعرف شيئا عن أمر هذا الحصن.
زيدان : جل ما أعرفه من أمره أنه قد جرت فيه جريمة هائلة، ثم أخلاه صاحبه من بعدها وهجره عشرين سنة لا يأوي إليه، ثم عاد إليه بعد ذلك، وهو على ما تراه من الحزن والهم.
فاتك : وهل لاحظت في هذه الغرفة فوق مجرى النهر شباكًا من حديدٍ مكسورًا.
زيدان : نعم، وهذا الذي يسمونه المظلم، ويقال: إنه مكان تسكنه الجن، وإن دم الجريمة قد جرى على جدرانه قديمًا، وأصبح اليوم لا يدخله إنسان غير الذين ذكرتهم لك، وذلك من عشرين سنة تقريبًا إلى حين قُتل الملك الكبير أبو قابوس النعمان بن ماء السماء في حرب العجم.
عمران : أما أنا فالذي أعلمه أن هذا الملك لم يمت، وقيل لي: إنه لا يزال حيًّا وأن منجمًا أخبر الناس بأن هذا الملك سيشيع خبر وفاته، ثم يعود فيظهر مرة أخرى.
فاضل : هذه خرافة لا أصدقها، فقد حضرت الحرب التي قتل فيها ورأيت النهر يحمله بجواده، وقد حالت بيننا وبين إنقاذه كثرة الأعداء.
عمران : صدقت، ولكن ذلك لا يمنع من نجاته، وأن يعود إلى بلاد العرب، فيصلح أمورها بعد هذا الدمار العظيم، فإنهم قد بحثوا عن جثته كثيرًا فلم يجدوا لها أثرًا.
زيدان : ألا تُسمعون لي هذه الحكاية.
عمران : تكلم.
زيدان : أذكر من نحو ثلاثين سنة أنني وجدت رجلًا في بعض أحياء العرب يدعى سليمان، يزعم أنه كان خادمًا عند الأمير غسان والد الملك أبي قابوس المنذر، وقد حكى لنا أن الأمير لما ولد له هذا الولد خاف عليه من كثرة الأحزاب حوله، فأرسله إلى ولد له آخر كان يسكن في حصن حصين على هذه الجبال، وسأله أن يربيه ويعتني بأمره وأنه أخوه فليحرص عليه ما استطاع، فأقام هذا الولد الذي صار ملك العرب إلى أن بلغ العشرين من عمره في ذلك الحصن، فوجدوا الفتى وخادمه جريحين وهما على شفا الموت، فأخذوهما واجتهدوا في علاجهما حتى شفيا فعاد الخادم، وهو الذي حدثني بهذه الحكاية إلى مولاه، ومعه ابنه الذي صار ملكًا بعد ذلك وظني أن أخاه قد مات، ولم يعرف أن أخاه القتيل قد صار ملكًا، ويقال: إنه هو الذي قتله؛ لأنهما كانا يعشقان امرأة واحدة، وأنه بعد أن قتله مع خادمه وطرحهما من نافذة الحصن عمد إلى معشوقته، فقيدها وباعها رقيقة لبعض التجار، ولم يعلم أحد كيف كان مصيرها بعد ذلك.
عمران : وماذا تستنتجه من هذه القصة؟
زيدان : أستنتج منها أن ما شاع من عودة أبي قابوس المنذر صحيح، وأن هذا الرجل لم يمت بعد، وإن خفي أمره على الناس، ويقال أيضًا: إنه كان يدعى زيادًا عندما قتله أخوه، وأن أخاه كان يدعى غصوبًا، وأن تلك المعشوقة كانت عبسية. أما القاتل فقد خرج من الحصن بعد هذه الجريمة كما قلت لك، وأما الفتاة فقد بحث عنها الملك المنذر كثيرًا فلم يجدها، وأعرف من ثقة أنه بحث عنها في جميع هذه الحصون وقدم بجيشه، وقد كنت معه فحاصر هذا الحصن حصارًا شديدًا، وأقام يقاتل حوله قتال الأبطال إلى أن التقى بصاحبه في المعركة، وكان في يد خصمه حديدة محماة، فكوى بها الملك في زنده ومرق من الجيش بسرعة جواده، ولم يقدر أحد على معرفته؛ لأن وجهه كان مقنعًا بالحديد، والله أعلم إذا كان الملك لا يزال حيًّا كما يقولون، أم أحاديثهم عنه خرافات وأساطير.
جندي (يدخل) : انهضوا أيها العبيد إلى أشغالكم، فقد جاء وقت العمل، وإن مولاي حمادًا وضيوفه سيزورون هذا المكان، فلا يحسن أن يروكم هنا.

الجزء الثالث

(حسان – ليلى – هند)
حسان : تعالي استندي عليَّ وسيري برفق … اجلسي على هذا الكرسي قليلًا … كيف حالك اليوم؟
ليلى : على أسوأ حالٍ، فإن البرد يقرصني وأعضائي ترتجف ضعفًا، إن هذه الوليمة قد أزعجتني كثيرًا … (لهند) انظري ألا يأتينا أحد.
حسان : لا تخافي، فإن أصحابنا يشربون إلى الصباح، ولكن لماذا ذهبت إلى تلك الوليمة لتؤثر على جسمك الضعيف تلك الأغاني والكئوس.
ليلى : إن حمادًا قد حكم عليَّ.
حسان : حمادًا …؟
ليلى : اخفض صوتك، فإنه لا يبعد أن يسمعنا ألا تدري أنني خطيبته، وله عليَّ الأمر والنهي.
حسان : نعم، ولكن كان ينبغي أن تشكي أمرك إلى الشيخ الكبير مولانا، فإن حمادًا يخاف منه.
ليلى : وما الفائدة من ذلك، وأنا سائرة في طريق القبر؟
حسان : ليلى، بالله ما هذا الكلام.
ليلى :
حزنٌ وهمٌّ يليهِ الموت عن عجل
هذي حياة النسا في العالم الفاني
حسان :
أما ترين بهاء الشمس غاربةً
… … … … … … …
ليلى :
… … … … … … …
نعم وقد مرَّ عنها شهر نيسانِ
وصارت الأرض في فصل الخريف، وقد
رمت بأوراقها من فوق أغصانِ
وأصبح البرَّ قفرًا لا أنيس به
كأنهُ مقلة من غير إنسانِ
حسان :
لكن سترجع أوراق الغصون كما
كانت وتكسو الروابي حسن ألوانِ
ليلى :
نعم وهذي جماعات الطيور غدت
تسير عنا إلى أهلٍ وأوطانِ
حيث الحرارة تحييها وتنعشها
فتأنس الأرض تغريدًا بألحانِ
حسان :
نعم ولكنها لا بدَّ راجعة
إلى هنا شأنها قبلًا إلى الآنِ
ليلى :
نعم، ولكن أنا هيهات أبصرها
أو أبصر الزهر يزهو بين أفنانِ
فإن عمري قصير لا انتظار به
لعودها وعذاب البين أفناني
حسان :
حبيبة القلب ما هذا الكلام فقد
أجرى الدموع وأذكاني بنيرانِ
ليلى :
ضعني قريبًا من الشباك خذ بيدي
وارمي لهذي الأسارى كل همياني
ما أجمل الشمس ما أبهى أشعتها
كأنها وجه صبٍّ بائسٍ عاني
تلقي أشعتها حمرًا فنحسبها
قد كللت هامة الدنيا بتيجانِ
ويلمع النهر من أنوارها فيرى
كأنه أدمعٌ في خد ولهانِ
ما أحسن الأرض في عيني وأجملها
كل الحياة بها والكل ينساني
يتيمةٌ لا أبٌ يحنو على سقمي
يومًا ولا أمٌّ تسليني وترعاني
وحيدة لستُ ألقى في الورى سندًا
لذاك أصبح صرف الموت يلقاني
حسان :
لا تكفري لا تقولي أنت واحدةٌ
وها أنا في الورى من بعدك الثاني
إني أحبك يا روحي ويا أملي
… … … … … … …
ليلى :
… … … … … … …
هيهات لم تكُ يا حسانُ تهواني
هذا رسول مماتي قد دنا وأنا
أمضي فتسلو غرامي بعد أزمانِ
حسان :
إن مت متُّ بلا شك وأقسم بالـ
ـحب الصحيح وهذا جل إيماني
أتزعمين بأني لا أحبك قد
فطرت قلبي، وقد هيجتِ أحزاني
دخلت ذا الحصن من عام فكنت به
من أهله مؤمنًا ما بين أوثانِ
أرى الجميع لصوصًا لا ذمام لهم
الدين في عرفهم والكفر سيان
كانوا ظلامًا على عيني يخالفهم
طبعي وينفر منهم طيب وجداني
حتى بدت شمس حسن منك مشرقةٌ
شعاعها من جمال فيك فتانِ
وأصبح القلب رهنًا في يديك ولا
تؤاخذيني، فإن الحب ألجاني
إذ قد عشقت فتاة في إمارتها
خطيبةً لأمير باذخ الشانِ
مع أنني رجلٌ لا أصل يرفعني
وليس لي والدٌ في المجد رباني
ولست أعرف من نفسي سوى همم
تسمو بنفسي إلى أطباق كيوانِ
وإن لي صارمًا يغني عن النسب الـ
ـقاصي وأُنشئ منه مجديَ الداني
فقد يكون أبي لا أصل ينسبه
وقد يكون مليكًا رب سلطانِ
لكنني كيف كانت رتبتي فأنا
رهين حبك يا روحي وريحاني
إن كان في القصر من أهوى فأنت به
قبلًا وبعدك ذاك العاجز الفاني
هذا المسن الذي يقضي لياليه
هنا ويبكي عليها بالدم القاني
وكل أبنائه عارٌ ومنقصةٌ
بل كلهم ثعلبٌ في زي ثعبانِ
وليس غيرك يسليه فأنت له
كبارد الماء يروي غل ظمآنِ
أما أنا الجندي التائه المجهول، فإني أشعر أن نفسي صارت كبيرة بقرب ذلك الشيخ الجليل، وصارت نقية طاهرة بقربك، ولكنني مع ذلك غيور تلذعني الغيرة في صميم فؤادي، فأبكي وأسكت، ولقد رأيت خطيبك من ساعةٍ ينظر إليك نظر العاشق المغرم، فكدت أجن من الغيرة، بل كدت أهجم عليه فأحطمه تحطيمًا، ولكنني راعيت الظروف مكرهًا وصبرت، أتزعمين بعد ذلك أنني لا أحبك:
أنت روحي أنت النعيم لقلبي
أنت شمس وأنت بدر سمائي
لك قلبي لك الحشا لك ما تر
جوه نفسي من غبطة وهناء
ولكن عفوًا إذا كلمتك عن نفسي في حين ينبغي أن لا أذكر لك سواك.
ليلى : إن حظي مثل حظك أيها الحبيب كله تعاسة وشقاء، فإنني قد عشت يتيمة وأنت قد عشت كذلك وكنا كلانا على السواء، ولقد كان الدهر يقدر أن يجمع بين شقائي وشقائك، فيكون لنا منهما تمام الهناء، ولكن …
حسان :
ولكن أنا أهواك يا طلعة البدر
وحق الذي في جفن عينيك من سحر
ولكن أنا المضنى أنا العاشق الشجي
أنا المغرم الموصول عمرك في عمري
ولكن أنا أقتل خطيبك إذا أساء إليك، وأنا وحدي أقوم لك مقام أبويك، أما أبوك فأنوب عنه بسيفي وزندي، وأما أمك فأنوب عنها بحنوي ووجدي.
ليلى : شكرًا لك أيها الحبيب فقد أظهرت لي خفايا فؤادك، فعلمت أنك أشد بأسًا من الجبابرة، وأرق فؤادًا من النساء، تلك هي صفاتك الحسنة التي أحببتك لأجلها، ولكن هيهات أن تقدر في سبيلي على شيء.
حسان : نعم أقدر.
ليلى : لا، لا تقدر على شيء، فإن الأمر لا يتعلق بإنقاذي من خطيبي، بل إن لي خطيبًا آخر سيأخذني بلا دفاع ولا امتناع لا تقدر عليه أنت بعزمك، ولا يرق فؤاده لجمالك وغرامك؛ لأن هذا الخطيب قوي قادر، وهو الموت. والآن إذ قد دنت أيامي من الفناء، فأنا أقسم قلبي قسمين قسمًا أقدمه لك وقسمًا أبسطه تحت عرش الله:
فأموت راضية عليك، وقد رضي
عني إلهي فارضَ عني واعذرِ
فليأخذ الله العلي نفسي وخذ
مني فؤادي، فهو جود المقصرِ
هند : إني أسمع وقع أقدام.
ليلى : إذن فهلمي بنا.
أأموت في سن الشبيبة والصبا
ويلاه ما أقسى الممات وأرهبا
أأموت عاشقة وأفقد كلَّ ما
أهوى ولست أنال منه مأربا
إن الممات يخيفني فأشفق على
قلبي فلم يكُ في غرامك مذنبا
أحبيب قلبي خلص القلب الذي
تهوى وكن بخلاص نفسي لي أبًا
أتراك تقدر أن تخلصني …
… … … … … … …
حسان :
… … … … … … نعم
لا بدَّ أن تحيي فعودي للخبا
أتموتين هكذا في صباك
حلوة يفتن الجماد بهاك
وأنا واقفٌ أراك ولا أسـ
ـعى بشيء إذن أخون هواك
لا تموتين، إن كل دمائي
فدية دون نقطة من دماك
سوف تحيين لي وأقسم بالله
… … … … … … …

الجزء الرابع

(حسان – شمطاء)
حسان :
… … … … … … … …
لقد جئتِ في أوان لقاك
أنا في حاجة إلى حسن مسعا
كِ، وفي حاجة إلى أن أراك
شمطاء : ابعد عني وسر في طريقك.
حسان : اسمعي لي كلمتين.
شمطاء : أتريد أن تسألني أيضًا عن بلادك وعن قومك؟ إنني لا أعرف شيئًا، وأن تسألني لماذا ربيتك وحيدًا، وإني وجدتك طفلًا لقيطًا وربيتك عندي؟ إنني لا أعرف أيضًا، ولماذا أتيت بك إلى هذا الحصن، وقلت لك: تظاهر بأنك لا تعرفني؟ إنني لا أعرف أيضًا، ولماذا أنا مقيدة أسيرة ولماذا أبقيت القيد في رجلي؟ إنني لا أعرف أيضًا. أتريد أن تسألني ما هو اسمي، ومن هم قومي، وما هي عشيرتي، وأين بلادي؟ إنني لا أعرف أيضًا، فاكشف أمري إذا شئت، وسلمني لهؤلاء الظالمين، ولكن لا تسألني عن شيء، ولا تؤمل أن أجيبك بشيء.
حسان : قفي لا أسألك عن شيء من ذلك، وليس الأمر متعلقًا بنفسي، فأنا أسألك عن ليلى.
شمطاء : إنها ستموت قريبًا.
حسان : أتقدرين أن تشفيها.
شمطاء : وماذا يهمني من شفائها؟ نعم إن في هذا الصدر لعلمًا عظيمًا وحكمة واسعة، فلقد قضيت أكثر أيامي في الهند والصين، وتعلمت الطب وتركيب الأدوية وصنع السموم، وجميع العلاج حتى صرت أقدر بدواء واحد أن أجعل المائت حيًّا وبدواء واحد أن أجعل على وجه الحي هيئة الأموات.
حسان : أتقدرين أن تشفيها؟ تكلمي بالله.
شمطاء : نعم أقدر.
حسان : إذن استحلفك بالله العلي القادر، وأركع على قدميك ملتمسًا ضارعًا أن تخلصيها وتشفيها.
شمطاء : افرض أنك بينما كنت هنا الآن تغازل ليلى التي تهواها دخل عليك حماد خطيبها، وهو هائج من الغيرة والغضب وطعنها بخنجر في صدرها ورماها في هذا النهر الكبير، ثم أخذك بيدك وباعك في السوق بيع العبيد ليرموك بالخسف والعذاب، ثم تعذبت كثيرًا وعدت إلى هذا المكان ماذا يبقى في قلبك، وأي شيء يجول في فؤادك؟
حسان : الانتقام والقتل وأخذ الثار.
شمطاء : إذن، فأعلم أنني أنا الانتقام والقتل وأخذ الثار، أنا الظامئة إلى شرب الدماء وأخذ نفوس الغادرين، أتطلب مني الآن أن أكون شفيقة، وأن أكون فاضلة، وأن أشفي الأحياء؟ هيهات، إن ذلك أمر قد فات … أتقول: إنك محتاج إليَّ؟ أتقول: إنك تريد إسعافي؟ وإذا أنا أرجفت فؤادك رعبًا، وقلت لك: إنني أيضًا محتاجة إليك، وإنني أريد إسعافك، وإنني قد ربيتك لأنتقم على يدك، فماذا تقول وماذا تصنع …؟ اذهب أيها الصبي، وابعد عني، فإنني كلي غضب وانتقام، إن الذي حكيته لك الآن هو تاريخي بعينه، ولكن الذي قتلوه هو العاشق، والتي باعوها جارية هي المعشوقة، وهي أنا والقاتل لا يزال حيًّا يرزق ولا منتقم منه سواك، أنت الذي تأخذ ثأري وتنتقم لي مما لاقيته من عذاب شديد كل هذه السنين الطوال.
حسان : ويلاهُ، ما هذا الخبر الفظيع.
شمطاء : إنني تعذبت كثيرًا وخدمت ستين عامًا، وزرت مصر والهند والعراق، ودرست الطبيعة والعوالم والأكوان، وتقلبت عليَّ ألوان العذاب والذل والهوان، أما الآن فقد انتهى كل شيء ولم يبقَ في صدري قلب إنسان، بل أنا أضع يدي هنا، فلا أشعر بحركة ولا خفقان؛ ذلك لأنني أصبحت صخرًا قاسيًا لا يحن ولا يلين.
حسان : لله، ما أتعس حظك.
شمطاء : ولقد أتيت إلى هذا الحصن من الشهر الماضي، والانتقام يلتهب في قلبي التهابًا، حتى وصلت إلى عدوي، وجعلته في قبضة يدي وجعلت حياته موقوفة على لفظة من ألفاظي إذا لفظتها سقط قتيلًا، وأنت أنت وحدك تقدر أن تنيلني الانتقام كما أُريد، ولكني مع ذلك أخاف من هذه الجريمة، ومع كل قساوتي وشراستي أشفق عليك، وأخاف على حياتك في مثل هذا الانتقام الشديد. اذهب بالله عني؛ ولا تجربني لأنك إذا طلبت مني شيئًا فيه حياة حبيبتك، فأنا سأطلب منك شيئًا فيه هلاك عدوي، ولكن إذا بقيت على عزمك أفتجرد خنجرك من غمده؟ أترضى أن تكون قاتلًا؟ أتريد أن تكون سيافًا؟ أراك ترتجف منذ الآن، إذن فاذهب عني يا قلبًا ضعيفًا ويدًا ساقطة، اذهب ولا تكلمني ودعني في شأني.
حسان : وأي شيء تطلبين مني إذا شفيت من أحب؟
شمطاء : لا تدنس يدك بالجريمة، واذهب عني.
حسان : اعلمي أني أسفك دمي في سبيل خلاصها، فاطلبي وتكلمي.
شمطاء : اذهب عني.
حسان : أرتكب جريمة إذا شئت أرضيت الآن …؟
شمطاء : ويلاه، لا يزال يجربني، إذن سأقضي مرامي … أتعلم أنك ستصبح ملك يدي، وأنك لا يفيدك تضرع ولا التماس، وأن كل ذلك يضيع في أعماق قلبي المظلم، وإنني تمثال أصم لا رحمة عندي ولا شفقة إلا إذا رأيت حبيبي المقتول قد عاد حيًّا أمامي، وهو الأمير زياد الذي كنت أهواه؟ والآن فاسمع ما أقول لك، فإني أنبهك إلى عاقبة أمرك قبل أن تبدأ بالعمل الذي أريد، إنني أريد منك أن تقتل رجلًا هنا كما يقتل الجلاد الرجل المجرم كائنًا من كان ذلك الشقي في أية ساعة أردت بلا رحمة ولا شفقة، أسمعت؟
حسان : نعم، ثم ماذا؟
شمطاء : اعلم أن كل دقيقة تمر علينا تسوق حبيبتك إلى القبر، وأنا وحدي أشفيها ولا يقدر أحد على إنقاذها غيري، انظر هذه الزجاجة تشرب منها نقطة في كل ساعة، وأنا أضمن لك أنها تعيش.
حسان : يا ربي أحق ما تقولين، أعطيني هذه الزجاجة بالله.
شمطاء : اسمع قبلًا، إذا رأيت حبيبتك غدًا سليمة متعافية، وقد زال عنها كل ألم وعاد لها رونق الشباب بفضل هذا الشراب، فأنت تصبح ملك يدي أتصرف بك كما قلت لك.
حسان : نعم.
شمطاء : اقسم لي.
حسان : أقسم بالله العلي العظيم.
شمطاء : ومع ذلك، فإن حبيبتك ليلى ستكون رهنًا في يدي عنك، وهي التي يقضى عليها إذا أخلفت وعدك لي وأنت تعلم أنه لا يصعب عليَّ شيءٌ، وأنني أعرف كل هذا الحصن بجميع خفاياه، وأدخل منه في كل مكان وفي كل آن.
حسان : أتقولين أنها تشفى؟
شمطاء : نعم، ولكن اذكر أنك حلفت.
حسان : أتنقذينها من الموت؟
شمطاء : نعم، ولكن اعلم أنني عندما أعطيك هذه الزجاجة آخذ منك قلبك، وتكون رهن يدي.
حسان : إذن فهاتي وخذي.
شمطاء : (تعطيه الزجاجة) إلى الغد (تخرج).
حسان : إلى الغد:
هذي حياتك يا حياتي في يدي
وكذاك بين يديك كل حياتي
فخذي حياتك من يدي لكنما
لا ترجفي قلبي ففيه مماتي
إني اشتريت لك الشفاء، ولم أكن
متندمًا والجود من عاداتي
هذا الدواء لنا كلانا بالسوا
فإذا شفيتِ شفيتُ من علاتي
وإذا الحبيب شُفي بشرب دوائه
فأنا سأشرب بالشفا كاساتي

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤