نظرة عامة

نشأ العلاج الوجودي بشكل تلقائي في أوروبا في الأربعينيات والخمسينيات، إذ تفتقت عنه أذهان عدد من علماء النفس والأطباء النفسيين وتجلى في كتاباتهم. لقد كان هؤلاء مهمومين بإيجاد طريقة نفهم بها الكائن الإنساني تكون أكثر وثوقًا وجوهرية من تلك التي كانت تطرحها مدارسُ العلاج النفسي المعروفة في ذلك الحين. يقول لودفيج بنسفانجر، أحد المتحدثين بلسان العلاج الوجودي: «لقد نشأ العلاج الوجودي عن عدم ارتياحنا للمدارس السائدة التي تحاول أن تحقق لنفسها نوعًا من التبصر العلمي في مجال الطلب النفسي.» لم يكن هؤلاء المعالجون يجحدون أهمية الكشوف الجذرية لتلك المدارس. إن مرتكزات من مثل الدوافع drives في السيكولوجيا الفرويدية، والإشراط conditioning١ عند السلوكيين، والنماذج البدئية archetypes٢ عند أتباع يونج كلها أشياء لا غبار عليها في ذاتها. ولكن أين هو الشخص الحقيقي المباشر الذي تحدث له هذه الأشياء وتجري فيه هذه المجريات؟ وكيف لنا أن نثق أننا نرى المرضى على ما هم عليه بالفعل، وأن ما نراه ليس — ببساطة — مجرد إسقاط لنظرياتنا الخاصة عن هؤلاء المرضى؟

كان هؤلاء المعالجون على وعي حاد بأننا نعيش مرحلة تاريخية انتقالية، كل إنسان فيها يشعر بأنه مغترب عن إخوانه البشر، تهدده الحرب النووية والضوائق الاقتصادية، ويحيره اهتزازُ القيم وتبدل الأعراف الثقافية كلها تقريبًا تبدلًا جذريًّا سواء تلك المتعلقة بالزواج أو بغيره من التقاليد الراسخة. كل إنسان، باختصار، مكتنَف بالقلق محاصَر بالضغوط.

ليس العلاج النفسي الوجودي مدخلًا تقنيًّا محددًا يقدم مجموعة جديدة من القواعد العلاجية؛ بل هو توجه جديد يطرح تساؤلات عميقة حول طبيعة الكائن البشري، وحول طبيعة الخبرات الأساسية من مثل القلق واليأس والحزن والوحشة والعزلة واللانظامية anomie.٣ ويتناول بشكل محوري إشكالية الإبداع وإشكالية الحب. وباستكناهٍ عميق لمعاني هذه الخبرات البشرية يصوغ المعالجون الوجوديون طرقًا علاجية تتنكب الخطأ الشائع في كل المدارس العلاجية؛ خطأ تشويه الكائنات البشرية بذات الجهد المبذول لمساعدتهم، وتخريبهم بِنِيَّةِ علاجهم!
١  الإشراط هو المبدأ الأساسي للمدرسة السلوكية، ومفاده باختصار شديد أن سلوك الإنسان يتحدد وفقًا لمثيرات محايدة يتواتر ارتباطها بمثيرات طبيعية بحيث يصير مجرد حدوثها كافيًا لإحداث الاستجابة الطبيعية (كارتباط سماع صوت الأواني وسيل اللعاب) ويسمى هذا بالإشراط الكلاسيكي أو البافلوفي. كما يتحدد السلوك وفقًا لمكافآت (أو عقوبات) يتواتر ارتباطها بسلوك معين يأتيه الإنسان فتعزز ميله لتكرار السلوك المجزي (أو تجنب السلوك الوخيم)، ويسمى هذا بالإشراط الإجرائي أو إشراط سكينر. (المترجم)
٢  النماذج البدئية أو الأثرية عند يونج هي صور أو انطباعات مقطورة لدى جميع البشر ومخزونة فيما أسماه اللاشعور الجمعي (كمقابل للاشعور الشخصي). وهي تكافئ مفهوم الغريزة عند الحيوانات وتعبر عن حاجات سيكولوجية عامة تخص الناس جميعًا. ولا تبعد كثيرًا عن مذهب الأفكار الفطرية عند أفلاطون وغيره. ومن أمثلة النماذج الأثرية نموذج البطل، أمنا الكبرى-الأرض، الحكيم العجوز، الشرير، المحتال، الأنوثة، الذكورة … إلخ. ومن براهين وجود هذه النماذج الأثرية ما نجده في دراسة الأساطير والأديان والأحلام وحكايات الجن. (المترجم)
٣  اللانظامية (الأنوميا) anomie كلمة فرنسية نَحَتَها عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم، من العبارة اليونانية التي تعني «لا قانون». وتشير إلى حالة اجتماعية من الفوضى والانحطاط وعدم الأمان، تنجم عن تفسُّخ القيم والأعراف والبنية الاجتماعية، وتَسِمُ فترات غياب السلطة وأعقاب الكوارث الكبرى والحروب والهجرات وغيرها. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤