الفصل الثالث

نظرة تاريخية

(١) طلائع وجودية

ثمة تياران أساسيان في تاريخ الفكر البشري. أحدهما هو تيار الماهيات essences ويتجلى في أوضح صورة عند أفلاطون الذي ذهب إلى أن هناك صورًا مكتملة أو نماذجَ مثاليةً لكل الأشياء؛ وأن هذه الأشياء من حولنا، هذا الكرسي المحدد مثلًا، ما هي إلا نسخ ناقصة لها. تتبين هذه الماهيات بوضوح حين نتأمل في الرياضيات؛ فالدائرة الكاملة والمربع الكامل موجودان في السماء. أما ما نرسمه نحن البشر من دوائر ومربعات فهي نسخ غير مكتملة من تلك الدوائر والمربعات المثالية. وتتطلب الرياضيات ملَكةَ التجريد التي تُغضي عن وجود الشيء المفرد. فبمقدورنا مثلًا أن نبرهن ببساطة على أن ثلاث تفاحات مضافة إلى ثلاثٍ أخرياتٍ يكون مجموعها ستًّا. غير أن هذا يظل صحيحًا حتى لو استبدلنا بالتفاحة وحيد القرن. فالرياضيات لا يعنيها ما إذا كان وحيد القرن موجودًا بالفعل. وبوسع قضية ما أن تكون صحيحة دون أن تكون حقيقية. لعل النجاح الباهر الذي تحققه هذه الطريقةُ في بعض مجالات العلم (كالرياضيات) هو بعينه ما يحملنا على أن نغفل الكائن الفرد الحي.
غير أن هناك تيارًا آخر من الفكر آخذًا مجراه عبر التاريخ؛ ألا وهو تيار الوجود existence. وبموجبه فإن الحقيقة تنصبُّ على الشخص الحي الموجود في موقف بذاته (عالَم) في وقت بعينه. ومن ثم أُطلِقَ على هذا التيار: التيار الوجودي existential. هذا ما كان يعنيه سارتر في مقولته الشهيرة: «الوجود يسبق الماهية.» فوعي الإنسان (أي وجوده) سابقٌ على أي شيء عليه أن يقوله عن العالم من حوله.
للتراث الوجودي نماذجُ تاريخيةٌ عديدة من المفكرين. منهم أوغسطين Augustine الذي ذهب إلى أن «الحقيقة تقيم في أعماق الإنسان.» ودانس سكوت Duns Scotus الذي فنَّد فكرة الماهيات العقلية عند توما الأكويني، مؤكدًا أن الإرادة الإنسانية يجب أن تكون أساسًا لأي عبارة. ومنهم بسكال Pascal القائل: «إن للقلب أسبابَه التي لا يدري العقل عنها شيئًا.»

وتبقى الهوة قائمة في زمننا هذا بين الصواب والواقع. ويبقى المشكل المحوري الذي يواجهنا في علم النفس، وفي غيره من جوانب العلم الذي يتناول الإنسان، هو بالتحديد هذا الصدع الفاصل بين ما هو صائبٌ تجريديًّا وبين ما هو حَقٌّ وجوديًّا بالنسبة للشخص الحي المحدد.

(٢) البدايات

تنبأ كيركجارد ونيتشه ومن تلاهما من الوجوديين بهذا الصدع المتنامي في الثقافة الغربية بين الصواب والواقع، وأنكروا الوهم القائل بأننا يمكن أن نفهم الواقع بطريقةٍ تجريدية منفصلة عنه. ورغم مناوأتهم الشديدة للعقلانية الجافة، إلا أننا لا يجوز بحالٍ أن نصنفهم بين أصحاب مذهب الفعالية activism،١ ولا يجوز بحالٍ أن ندرجهم بين أصحاب المذهب المضاد للعقلانية، فمثل هذا المذهب وغيره من الحركات، التي تجعل الفكر خاضعًا للشعور، ليس من الوجودية في شيء. فالحق أن كلا البديلين — النظر إلى الإنسان كذاتٍ بحتة أو كموضوع صِرف — يؤدي بنا إلى أن نخسر الشخص الموجود الحي. لقد كان كيركجارد والمفكرون الوجوديون يَنشُدون حقيقةً تقبع وراء كل من الذاتية والموضوعية، ويرون أننا ينبغي ألا نكتفي بدراسة خبرة الشخص بما هي كذلك، بل علينا أن نشمل بالبحث ذلك الفرد الذي يضطلع بهذه الخبرة.

وليس من قبيل المصادفة أن يكون أكبرُ الفلاسفة الوجوديين في القرن التاسع عشر — كيركجارد ونيتشه — هما أيضًا من بين أبرز السيكولوجيين وأجلِّهم شأنًا في جميع العصور. ولا أن يكتب رائدٌ معاصر للفلسفة الوجودية — كارل ياسبرز — وهو طبيب نفسي سابق؛ كتابًا دراسيًّا فذًّا في علم السيكوباثولوجيا. وحين يقرأ المرءُ تحليلات كيركجارد العميقة للقلق واليأس، أو لمحات نيتشه الباهرة الدقة عن ديناميات التبرم والذنب والعدائية التي تصاحب القوى الانفعالية المكبوتة، يَشُقُّ عليه أن يدرك أنه يقرأ أعمالًا كُتِبَت منذ خمسة وسبعين عامًا أو مائة عام، وليس تحليلًا سيكولوجيًّا معاصرًا.

في القلب من اهتمامات المعالجين الوجوديين أن يعيدوا اكتشاف الشخص الحي بين مظاهر استلاب الإنسانية التي تتسم بها الثقافة الحديثة. وهم من أجل ذلك ينخرطون في تحليل الأعماق. إن اهتمامهم ليس منصبًّا على الاستجابات النفسية المنفصلة في حد ذاتها، بل بالأحرى على الوجود السيكولوجي للشخص الحي الذي يقوم بعملية الخبرة. إنهم يُضْفُون على المصطلحات السيكولوجية معنًى أنطولوجيًّا.

يضم الفلاسفةُ الوجوديون في ألمانيا مارتن هيدجر، وكارل ياسبرز، وفي فرنسا جان بول سارتر وجابرييل مارسيل، ونيقولاس برديائيف N. Berdyaev، ومن إسبانيا أورتيجا Ortega، وأونامونو Unamuno. ويعرض باول تيليش Paul Tillich المدخل الوجودي في أعماله، ويُعَد كتابه «شجاعة أن تكون» (أو أن توجد) The courage to be (١٩٥٢م) من نواحٍ كثيرة أفضل عرضٍ وأقواه للفلسفة الوجودية.
نشأ العلاج الوجودي بشكل تلقائي في أجزاء متفرقة من أوروبا وبين مدارس متباينة. وأصبح له قبيلٌ متنوع من الباحثين ومن المفكرين المبدعين.٢ وقد كان هناك أطباء نفسيون يمثلون المرحلة الفينومينولوجية لهذه الحركة بالدرجة الأساس وهم: يوجين منكوفسكي E. Minkowski في باريس، وإرفين ستراوس E. Straus في ألمانيا وفي أمريكا بعد ذلك، وفون جبساتل Von Gebsattel في ألمانيا. وهناك من يمثلون المرحلة الثانية للحركة أو المرحلة الوجودية؛ وهم: لودفيج بنسفانجر، وستورش Storch، ومدارد بوس، وبالي Bally، ورولاند كون R. Kuhn من سويسرا، وفان دن برج Van Den Berg، وبويتنديجك Buytendijk في هولندا.

(٣) الوضع الحالي

دخل العلاج الوجودي الولايات المتحدة سنة ١٩٥٨م حين نشر رولو ماي Rollo May وإرنست أنجل Ernest Angel كتاب «الوجود، بُعدٌ جديدٌ في الطب النفسي وعلم النفس». وقد تضمن الفصلان الأولان اللذان كتبهما ماي «مصادر الحركة الوجودية في علم النفس» و«إسهامات علم النفس الوجودي» خلاصة العلاج الوجودي. أما بقية الكتاب فتشمل مقالات ودراسةَ حالات قام بها هنري إلينبرجر ويوجين منكوفسكي، وإرفين ستراوس، وفون جبساتل، ولودفيج بنسفانجر، ورونالد كون. أما أول كتاب دراسي شامل في الطب النفسي الوجودي فكان كتاب إرفين يالوم Ervin Yalom (١٩٨١م) بعنوان «العلاج النفسي الوجودي».

لم تكن روح العلاج الوجودي تحبذ يومًا تأسيسَ معاهد متخصصة فيه. ذلك أن العلاج الوجودي يتناول الفروض الأساسية التي تُبطِّن أي صنف من العلاج. إنما تعنيه المفاهيم الخاصة بالإنسان لا الفنياتُ الخاصة بالعلاج. ويُفضي بنا هذا الوضع إلى ما يشبه المعضلة؛ ففي حين كان العلاج الوجودي — وما يزال — ذا نفوذ وتأثير، فليس هناك، رغم ذلك، إلا النزر اليسير من المقررات الدراسية الوافية في هذا النوع من العلاج. ومَرَدُّ ذلك ببساطة إلى أن العلاج الوجودي ليس فنياتٍ محددةً نتدرب عليها. وقد كان مؤسسو الحركة الوجودية دائمًا يقرون أن للطالب أن يتلقى التدريب التقني لأي مدرسة من المدارس العلاجية، وما عليه إلا أن يصوغ فروضه الأساسية في قالبٍ وجودي.

اكتشف رولو ماي — وهو وجوديٌّ من قبل أن يسمع بالكلمة — أن الشخص الموجود هو الاعتبار الأهم، وليس أية نظرية عن الشخص. وقد سعى في أطروحته للدكتوراه عام ١٩٥٠م تحت عنوان «معنى القلق» إلى وضع مفهوم للقلق السوي يكون أساسًا لنظرية عن الإنسان. كان ماي قد فرغ لتوه من تبيُّن عبثية الذهاب إلى التحليل خمس مرات في الأسبوع لمدة عامين، قبل أن يبدأ تدريبه بمعهد وليام ألانسون. وقد تلقى تدريبًا كمحلل نفسي في هذا المعهد وفي معهد الفرويدية الجديدة بنيويورك. وكان يمارس التحليل النفسي بالفعل عندما قرأ عن العلاجات الوجودية في أوائل الخمسينيات، واكتشف أن هذه المفاهيم الجديدة لعلم النفس الوجودي هي ما كان يصبو إليه ويعجز مع ذلك عن صياغته.

ثم انعقد المؤتمر العالمي للعلاج النفسي عام ١٩٥٨م في برشلونة بإسبانيا، وكان موضوعه: «العلاج النفسي الوجودي». شارك في المؤتمر خمسمائة معالج بينهم علماء نفس بارزون؛ مثل ميدارد بوس، وجاك لاكان Jacques Lacan، ومائة معالج من الولايات المتحدة.

كان بعض الحضور من أتباع فرويد، وبعضهم من أتباع يونج، وبعضهم من معهد وليام ألانسون. غير أن الجميع أبدوا تقديرًا كبيرًا لإضاءات العلاج الوجودي ومفاهيمه.

ويعتقد مؤسسو العلاج الوجودي أن إسهاماته سوف تذوب في المدارس الأخرى؛ ففي مقدمة كتابه «العلاج الجشطلتي حرفيًّا» (١٩٦٩م) يصرح فرتز بيرلز Fritz Perls بحق أن العلاج الجشطلتي هو شكل من أشكال العلاج الوجودي.٣ ومن حق أي معالج تدرب في أية مدرسة علاجية أن يسمي نفسه وجوديًّا ما دامت المبادئ والفروض الأساسية التي يستند إليها تُماثل ما نعرضه في هذا العمل؛ فإرفين يالوم على سبيل المثال تلقى تدريبه في مدارس الفرويدية الجديدة. بل إن معالجًا سلوكيًّا سابقًا مثل أرنولد لازاروس A. Lazarus لا يتردد في استخدام بعض الفروض الوجودية في علاجه النفسي المتعدد الأنماط. وما كان هذا ليتأتَّى لو لم يكن العلاج الوجودي طريقةً في فهم الكائن البشري وتصوُّره، طريقةً توغل إلى أعماق أبعدَ من مدارس العلاج الأخرى، لكي تبرز المبادئ والفروض التي تُبطِّن كل الأنساق العلاجية.
تشمل الأعمال الكبرى في العلاج الوجودي كُتب ماي «معنى القلق» (١٩٧٧م)، «العلاج النفسي الوجودي» (١٩٦١م)، «الإنسان يبحث عن نفسه» (١٩٥٣م)، وكتاب جيمس بجنتال J. Bugental «البحث عن الهوية الوجودية»، وكتابَي مدارد بوس «تحليل الأحلام» (١٩٥٧م)، و«التحليل النفسي وتحليل الموجود» (١٩٨٢م)، وكتاب فيكتور فرانكل V. Frankl «الإنسان يبحث عن المعنى» (١٩٦٣م). وقد كتب هلموت كايزر H. Kaiser في العلاج الوجودي شيئًا قيمًا ضمن كتابه «العلاج النفسي الفعال» (١٩٦٥م). كما أسهم كل من ليشلي فاربر L. Farber (١٩٦٦، ١٩٧٦م)، وأفري فايزمان A. Weisman (١٩٦٥م)، وليستر هافنز L. Havens (١٩٧٤م) إسهامات هامة في التراث الوجودي.
١  هو المذهب القائل بوجوب اتخاذ إجراءات عملية ودعاوية عنيفة وفعالة من أجل نصرة حزب سياسي أو مذهب فكري. (المترجم)
٢  لا يفوتنا في هذا الفصل التوجيهي أن نشير إلى الصلة بين الوجودية وبين الفكر الشرقي كما يتمثل في كتابات لاوتسي وبوذية زن. فالحق أن أوجه الشبه لافتة يلمحها المرء لتوه حين ينظر في بعض الشواهد من «طريق الفضيلة» للاوتسي (باينر، ١٩٤٦م):
  • • «الوجود يند عن قدرة الكلمات على الإفصاح؛ قد نستخدم الألفاظ في تعريفه ولكن ليس من بينها لفظ مطلق.»

  • • «الوجود لا ينشئه شيء وينشئ كل شيء … إنه أبو العالم.»

  • • «الوجود لا متناهٍ. الوجود لا وجه لتعريفه. ورغم أنه يبدو كأنه مجردُ كِسرة خشب في يدك لتحفر عليها كما تشاء، فليس لك أن تلعب بها باستخفاف ثم تطرحها أرضًا.»

  • • «طريقة الفعل هي أن نكون.»

  • • «بل تمسك بمركز وجودك … فكلما تخليت عنه قلما تتعلم.»

٣  يتجلى هذا التشابه بين العلاج الجشطلتي والعلاج الوجودي، الذي هو أقرب إلى التطابق والتماهي، في الوصايا الآتية التي أسماها نارانجو (١٩٧٠م): وصفة العلاج الجشطلتي:
  • • عش الآن، عش هنا.

  • • كف عن التفكير الحالم والتفكير العابث.

  • • أفصح عن دخيلة نفسك أكثر مما تتلاعب وتبرر وتُدين.

  • • لا تضيق على ذاتك آفاق الخبرة والوعي.

  • • لا تقبل إلا أوامرك الخاصة.

  • • تحمل مسئولية مشاعرك الشخصية وأفكارك وأفعالك.

  • • وأخيرًا: كن نفسك وارضَ بما هو أنت.

(المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤