الفصل السادس

تطبيقات

«هناك وحشٌ أقبح وأخبث وأقذر منها جميعًا،
وإن كان لا يطلق حركاتٍ كبيرةً ولا صيحاتٍ شديدة،
ولو شاء لجعل الأرضَ حطامًا وابتلع العالم في تثاؤبةٍ واحدة.
إنه السأم؛ هذا المسخ الرقيق الذي يحلم بالمقاصل وهو يدخن نارْجيلتَه، وفي عينيه دمعةٌ تمتلئ بها رغمًا عنه.»
بودلير، إلى القارئ، أزهار الشر

في كثير من الأحيان تكون طبيعة الموقف العلاجي هي التي تُملي المدخل العلاجي الأنسب لها. وهي قاعدةٌ تنسحب بدورها على العلاج الوجودي. وعلى المعالج في كل برنامج علاجي أن يحدد أهدافه المرجوة وفق ما يقتضيه الموقف العلاجي. ففي الحالات الحادة، على سبيل المثال، حيث يقيم المريض في المستشفى أسبوعًا أو اثنين، تكون غايةُ المعالج هي التدخل السريع لتخفيف الأعراض وإعادة المريض إلى مستوى أدائه السابق على الأزمة. ومن غير الواقعي وغير المناسب في هذا المقام أن يطمح المعالجُ إلى غاياتٍ أبعد أو أهدافٍ أعمقَ (كأن يزيد وعيَ المريض بالصراعات الوجودية).

أما في المواقف التي لا يقنع فيها المريض بإزالة الأعراض بل يصبو إلى تحقيق مزيدٍ من النمو الشخصي، فإن المدخل الوجودي يكون خيارًا مفيدًا. ويُعد المدخلُ الوجودي الدقيق بأهدافه الطموحة هو أنسب المداخل في العلاج الطويل الأمد. بل إن العلاجات القصيرة الأمد لا تستغني في أغلب الأحيان عن بعض العناصر الوجودية؛ من مثل التأكيد على المسئولية، والقرار، والمواجهة الأصيلة بين المعالج والمريض، وعمل الحزن … وما إلى ذلك.

وتمس الحاجة إلى المدخل الوجودي حين يكون المريض مواجهًا لأحد المواقف الحدية؛ كأن يكون في مواجهةٍ مع الموت، أو في مواجهة قرارٍ مصيري، أو حين تُلقي به الظروف في عزلةٍ مفاجئة، أو حين يمر بمعالم حياتية تمثل نقاط تحولٍ كبرى وانتقالًا من مرحلة حياتية إلى مرحلة جديدة (مثل ترك الأبناء بيت العائلة، ومثل التقاعد، والفشل المهني، والانفصال الزوجي، والطلاق، والمرض الجسيم). غير أن الأمر لا يقتصر على هذه الأزمات الوجودية الصريحة؛ ففي كل برنامج علاجي، كما أشرنا آنفًا، هناك أدلة وافرة على معاناة المرضى من كروب ناجمة عن صراعاتٍ وجودية لا يفطن لها إلا معالجٌ وجوديٌّ اتسعت مداركه وتهيأ توجُّهه الموقفي لالتقاط مثل هذه المعطيات. ولا يصح العمل العلاجي على هذه المستويات الأعمق إلا بقرارٍ يشترك كل من المعالج والمريض في اتخاذه.

(١) التقييم evaluation١

تقييم العلاج النفسي مهمةٌ صعبةٌ دائمًا. وكقاعدةٍ عامة: كلما كان المدخل والأهداف العلاجية أكثر تحددًا واقتصارًا كانت النتائج أسمحَ بالقياس وأيسر في التقييم. فبمقدور المرء أحيانًا أن يقيس زوال الأعراض وتغيرَ السلوك الظاهر بدقةٍ كبيرة. ولكن العلاجات الأكثر طموحًا، والتي تستهدف من الفرد الطبقات الأعمق من نمط وجوده في العالم، هي علاجاتٌ تتأبَّى على القياس وتَنِد عن التكميم quantification. وفيما يلي عرض موجز لحالتين أوردهما يالوم (١٩٨١م) تتمثل فيهما مشاكل التقييم بجلاء ووضوح.

الأولى: امرأة في السادسة والأربعين ترافق أصغر أبنائها الأربعة إلى المطار حيث يرحل عنها إلى الجامعة. لقد قضت هذه المرأةُ أعوامَها الستة والعشرين الأخيرة تربي أبناءها وتتوق إلى هذا اليوم. لا أعباء بعد الآن ولا مكابدة من أجل الآخرين، ولا إلحاح طهي، ولا تجهيز ملابس … أخيرًا أصبحت حرة.

غير أنها لم تكد تودع ولدها حتى بدأت تنشج بِحُرقةٍ على غير توقع. وفي طريقها من المطار إلى البيت غشيتها رِعدةٌ عميقةٌ أخذت بمجامع جسدها. حَدَّثَت نفسها: «هذا أمرٌ طبيعي … إنه جَزَعُ الفراق … فراق واحدٍ من أعز الأحبة». غير أن الأمر كان أكبر من ذلك بكثير. فسرعان ما تحولت الرعدة إلى قلقٍ دائمٍ لا يشفَى ولا يندمل. واستشارت معالجًا شخَّص حالتها تشخيصًا شائعًا: «متلازمة — أو زُملة — العش الخالي» empty nest syndrome. طبيعيٌّ أن تكون قلقة. وكيف لا وقد أسست ثقتها واعتبارها طيلة سنواتٍ على أدائها كأم، وفجأة فقدت هذا الأساس وتغير برنامج يومها المألوف وشكل حياتها المعتاد؟ كان هذا تشخيص المعالج الذي مَدَّ إليها يد العون. وشيئًا فشيئًا، وبمساعدة الفاليوم، والعلاج التدعيمي، وجماعة التدريب على تأكيد الذات، وعددٍ من الدراسات الحرة، ورفيق أو اثنين، وعملٍ تطوعي نصف وقتي … انخفضت الرعدة إلى رعشةٍ خفيفة ما لبثت أن زالت تمامًا. وعادت صاحبتُنا إلى سكينتها الماضية وتكيفها السابق.

وتصادف أن تكون هذه المريضة جزءًا من مشروع بحثٍ علمي عن العلاج النفسي. فطُبِّقَت عليها القياسات النفسية المتعلقة بالنتائج العلاجية. ويمكن أن نصف نتائج علاجها بأنها كانت ممتازة على جميع المقاييس المستخدمة: مقياس قوائم الأعراض، تقييم المشكلة المستهدفة، مقياس اعتبار الذات … واضحٌ أنها حققت تحسنًا عظيمًا.

رغم كل ذلك، يمكننا أن نقول بكل الثقة: إننا نعتبر هذه الحالة واحدةً من الحالات التي فاتتها الفرصة العلاجية الحقيقية، ونعتبر هذا العلاج واحدًا من العلاجات واحدًا من العلاجات التي أخطأت المرمى!

ولنُنعِم النظرَ في حالة مريضةٍ أخرى تمر بنفس الموقف الحياتي ونفس الظروف والملابسات على نحوٍ يكاد يكون صورةً طبق الأصل. في هذه الحالة الثانية عمد المعالج — وكان ذا توجه وجودي — إلى تعزيز الرعدة لا تخديرها. كانت هذه المريضة تمر بما أسماه كيركجارد «القلق الإبداعي». وقد شاء كل من المعالج والمريضة أن يدعا القلق يقودهما إلى أصقاعٍ هامة للبحث والاستقصاء. حقًّا كانت هذه المريضة تعاني من متلازمة (زملة) العش الخالي، ومن مشاكل اعتبار الذات، وكانت تحب ولدها، وإن كانت أيضًا تحسده على الفرص الحياتية التي لم تُتَح لها أبدًا. وبطبيعة الحال كانت تشعر بالذنب إزاء هذه الوجدانات الوضيعة.

لم يكن هذا المعالج يقنع بالحل اليسير فيدبر لها طرقًا تساعدها على ملء وقتها الشاغر. بل انطلق في استكشافٍ لمعنى الخوف من العش الخالي. لقد كانت دائمًا تتوق إلى الحرية، فما بالها الآن فزعة منها؟ ما السبب؟

شاء حسنُ الطالع أن يضع في يد المعالج هذا الحلمَ الذي أضاءَ له معنى الرعدة. رَوَت المريضة أنها رأت في المنام أنها تمسك بشريحة فوتوغرافية مقاس ٣٥ ميلِّيمترًا تُصَوِّر ولدها وهو يتلاعب بالكرات كالحاوي ويتشقلب كالبهلوان. وجعلت تتأمل الشريحة ببساطةٍ وحسن نية. إلا أنها كانت صورةً غير عادية، إذ كانت تُبرِزُ الحركة. لقد شهدت ولدها في أوضاع حركية عديدة في نفس الوقت. وفي تحليل الحلم كانت تداعياتها الذهنية تدور حول تيمة «الوقت» … «الزمن». كانت الصورة تقبض على الزمن والحركة وتؤطرهما. كانت تحفظ كل شيء حيًّا؛ ولكنها توقِف كل شيء أيضًا وتثبِّته. كانت تُجَمِّد الحياة. «الزمن يتحرك»، قالت: «ولا سبيل إلى إيقافه؛ لم أُرِد جون أن يكبر … سواء أردت ذلك أم لم أرد فالوقت يتحرك … يتحرك بالنسبة لجون ويتحرك بالنسبة لي أيضًا.»

التناهي … الفناء … هو موضوع هذا الحلم. لقد وَضَع لها تناهيها في بؤرةٍ واضحة. وبدلًا من أن تُهْرَع إلى شغل الوقت بشتى التلهيات فقد تعلمت أن تعرف للوقت قيمته وتقدره حق قدره كما لم تفعل من قبل. لقد دخلت في النطاق الذي وصفه هيدجر ﺑ «الوجود الأصيل» authentic being وأخذها الدَّهَشُ، لا للطريقة التي توجَد بها الأشياء، بل بالأحرى لوجود الأشياء على الإطلاق … الوجود ذاته.

يستطيع المرء أن يبرهن بالحجة على أن المريضة الثانية قد أفادت من العلاج أكثر مما أفادت المريضة الأولى. ولكن من غير المتاح أن يُثبِتَ هذه النتيجة بأي مقياس معياري للمآل. لعل المريضة الثانية قد بقي لها من القلق أكثر مما بقي للمريضة الأولى. ولكن القلق جزءٌ من الوجود، ولن يتسنى لأي فردٍ آخذٍ في النمو والإبداع أن يتحرر منه أبدًا.

(٢) العلاج

يجدُ العلاجُ الوجودي مجالَه ويصولُ صولتَه في المشهد العلاجي الفردي بالدرجة الأساس. غير أن كثيرًا من التيمات والبصائر الوجودية قد تُطبَّق بنجاحٍ في كافة المواقف العلاجية الأخرى بما فيها العلاج الجمعي والعلاج الأسري وعلاج الأزواج، وغيرها.

ويحظى مفهوم المسئولية على وجه الخصوص بقابلية واسعة للتطبيق، فهو عماد العملية العلاجية الجمعية. يقوم العلاج الجمعي أساسًا على العلاج البينشخصي. فالشكل الجمعي هو المضمار المثالي لاختبار شتى صور السلوك اللاتكيفي وتصحيحها. ولكن تيمة المسئولية تبقى دائمًا أساسًا وطيدًا لكثير من العمل البينشخصي. ولنتفحص على سبيل المثال هذا التتابع الذي يحاول خلاله المعالجون الجمعيون، بشكل صريحٍ أو ضمني، أن يوجهوا مرضاهم:
  • (١)
    يتعرف المرضى كيف ينظر الآخرون إلى سلوكهم (يتعلم المرضى خلال التغذية الراجعة feed-back من باقي أعضاء الجماعة أن يروا أنفسهم بعيون الآخرين).
  • (٢)

    يتعرف المرضى كيف يؤثر سلوكهم على شعور الآخرين (خلال مشاركة الأعضاء بعضهم بعضًا استجاباتهم الوجدانية الشخصية).

  • (٣)

    يتعرف المرضى كيف يشكل سلوكهم آراء الآخرين فيهم (يتعلم الأعضاء عن طريق مشاركة مشاعر «هنا والآن» أن الآخرين يكوِّنون آراءً معينةً عنهم وفقَ سلوكهم).

  • (٤)

    يتعرف المرضى كيف يؤثر سلوكهم في آرائهم عن أنفسهم (فالمعلومات المحصلة من الخطوات الثلاث الأولى تؤدي بالمريض إلى صياغة تقييماتٍ معينةٍ عن نفسه).

تبدأ كل خطوةٍ من هذه الخطوات الأربع — كما نرى — بسلوك المرضى ذاته. ذلك السلوك الذي يؤكد دورهم في تشكيل العلاقات البينشخصية. والنقطة الأخيرة في هذا التتابع هي أن أعضاء الجماعة يبدءون في استيعاب أنهم مسئولون عن الطريقة التي يعاملهم بها الآخرون، بل أيضًا عن الطريقة التي يُقَيِّمون بها أنفسهم.

هذه إحدى الجوانب الرائعة للعلاج الجمعي: كل الأعضاء يولدون معًا … ينطلقون من خط بداية واحد. كل عضو يُفرغ لنفسه مكانًا في الجماعة ويضع لهذا المكان شكله الخاص. بذلك يكون كل عضو مسئولًا عن الوضع البينشخصي الذي أفرغه لنفسه في الجماعة (وبالتالي في الحياة أيضًا).٢ العمل العلاجي الجمعي إذن لا يتيح للأفراد فحسب أن يعيروا أسلوب علاقتهم بعضهم ببعض، بل يكشف لهم أيضًا بقوة ووضوح إلى أي حد كانوا هم أنفسهم مساهمين في خلق مأزقهم الحياتي الخاص، وهو كما نرى ميكانيزم علاجي وجودي واضح.

وكثيرًا ما يستخدم المعالجُ مشاعره الخاصة لكي يستبين مدى إسهام المريض في خلق مأزقه الحياتي الخاص. ولنضرب لذلك المثالَ التالي:

هذه مريضة بالاكتئاب في الثامنة والأربعين من عمرها، كانت تشكو بمرارةٍ سوءَ معاملة الأبناء لها. كان أبناؤها لا يحفلون برأيها، وكانوا يضجرون منها، وحين يحزِب أمرٌ يتوجهون بحديثهم إلى أبيهم. عندما أرهف المعالج انتباهه إلى أحاسيسه تجاه هذه المريضة تبيَّن في صوتها نبرة ناحبة تهيب به ألا يأخذ كلامها مأخذ الجد، وأن ينظر إليها كطفلة بشكلٍ ما. وقد أفضى إليها بهذه المشاعر فعاد عليها ذلك بفائدةٍ عظيمة، وبدأت تفطن إلى طفولية سلوكها في مجالاتٍ كثيرة، وتدرك كيف أن أبناءها كانوا يعاملونها بالضبط كما كانت «تطلب» هي أن تعامَل (تطلب ذلك ضمنًا خلال نحيبِ صوتها وأعذارها القائمة على الضعف واكتئابها ومَسْكَنتِها).

كثيرًا ما يواجه المعالجون حالات مرضى مصابين بهلعٍ بسبب أزمة قرارٍ يمرون بها. يصف يالوم (١٩٨١م) طريقةً علاجيةً لتناول مثل هذا الموقف. تتمثل الخطة الأساسية للمعالج في كشف النقاب عن المتضمنات الوجودية للقرار وتقييمها. كانت مريضة يالوم أرملةً في السادسة والستين من عمرها. جاءت تلتمس العلاج إذ كانت حائرةً مكروبةً بسبب أزمة قرار. كان لديها منزل صيفي تريد بيعه ولكنها عاجزة عن اتخاذ قرار البيع. كان هذا المنزل يبعد مائةً وخمسين ميلًا عن محل إقامتها الدائم. وكان يتطلب عنايةً دائمة وانتباهًا مستمرًّا لرعاية الحديقة والصيانة والحماية، مما يشكل عبئًا كبيرًا على امرأةٍ واهنةٍ مُسِنَّة. وكان للاعتبارات المالية دخلٌ أيضًا في هذا القرار. وقد سألت كثيرًا من الماليين والعقاريين أن يقدموا لها العون في اتخاذ الرأي.

شرع المعالج والمريضة يستكشفان كثيرًا من العوامل الداخلة في القرار. ثم أمعنا في الاستكشاف إلى عمق أكبر. وفي الحال بزغ عددٌ من الأمور المؤلمة: كان زوجها قد توفي قبل عام وكانت لا تزال في حدادٍ عليه. وكان المنزل لا يزال يَغْنَى بحضوره، والأدراج والخزانات تعج بممتلكاته الشخصية. كان قرار بيع المنزل يستلزم قرارًا آخر بأن تستوعب المرأة حقيقة أن زوجها لن يعود أبدًا. وثمة عاملٌ آخر هو القيمة الترفيهية للمنزل. لقد طالما أسمته فندقَها؛ لأنها كانت تستضيف فيه دائمًا أعدادًا كبيرة من الناس. كانت السيدة تعتبر المنزل هو «ورقتها الرابحة»، وقد بدأت تُداخلها شكوكٌ كبيرةٌ فيما إذا كان أحدٌ سوف يظل يزورها دون إغراء عقارها الجميل. كان قرار البيع إذن يطوي داخله امتحانًا لإخلاص أصدقائها وولائهم، ومجازفةً قد تورث الوحدة والعزلة. وكان هناك سببٌ بَعدُ يتمركز على مأساة حياتها الكبرى؛ فقد كانت هذه السيدة بتراءَ لا أبناء لها. وقد طالما تخيلت العقار ينتقل إلى أولادها وأولاد أولادها. إلا أنها كانت الورقةَ الأخيرة ونهاية الخط. بذلك يكون قرار بيع المنزل بمثابة اعترافٍ بفشل مشروعها الأكبر للخلود الرمزي. لقد استخدم المعالج قرار بيع المنزل كنقطة انطلاق إلى هذه المسائل الأعمق، وتمكن في النهاية أن يساعد هذه السيدة على أن تندب زوجها ونفسها وأولادها الذين لم يولدوا.

ما إن يتم التناول الاستيعابي للمعاني الأعمق لقرارٍ ما حتى ينزلق القرار بذاته بتلقائية ويُسر. وفي حالة مريضتنا هذه فقد استطاعت بعد حوالي اثنتي عشرة جلسةً أن تتخذ قرار البيع دون جهد.

(٣) إدارة العلاقة العلاجية

العلاج الوجودي هو نموذج إرشادي paradigm أو إطار مرجعي frame of reference وليس تنظيمًا ذا قواعد محددة المعالم. وهذا ما يجعل ترتيبات الممارسة اليومية الخاصة به شيئًا يصعب تحديده. فهي تتباين تباينًا كبيرًا وتتوقف على انتماء المعالج الأيديولوجي والتنظيمي.

يسعى المعالجون ذوو التوجه الوجودي لتحقيق علاقات مع مرضاهم تتسم بالصدق والمكاشفة المتبادلة. وهم وفق ذلك ينظمون المشهد العلاجي. فلا مناضد تقف بين المريض والمعالج، ولا حوائط مغطاة بشهادات توحي بالسلطة. يتخاطب المعالج والمريض بنِدِّية وبالاسم الأول لكليهما. يحاول المعالج جهدَه أن يخفض الغموض والسرية في العملية العلاجية، ويجيب عن الأسئلة بصراحة وتمام، لا أن يبقى جامدًا في محاولة لإثارة التحريفات الطرحية.

تؤدي العلاقة بين المعالج والمريض وظائف مركزية كثيرة في العلاج. فهي مثلًا تساعد المريض على أن يجلو علاقاته الأخرى ويخلصها من الشوائب. فجميع المرضى تقريبًا يحرفون جانبًا من علاقتهم بمعالجتهم. وبوسع المعالج، إذ يَمْتَحُ من معرفته بنفسه وخبرته برأي الآخرين فيه، أن يساعد المريض على أن يميز بين الواقع والتحريف.

هناك أيضًا فائدة كامنة فيما ينهجه المدخل الوجودي من دفع المريض إلى إقامة علاقة حقيقية مع المعالج (كنقيض لعلاقة الطرح). فما إن يصبح المريض قادرًا على أن يقيم علاقة عميقة بالمعالج حتى يكون ذلك شهادةً على أنه قد تغير. إنه ليتعلم أن إمكانية الحب تكمن داخله، وتَعُودُهُ مشاعرُ كانت هاجعةً فيه. ولا ضير أن تكون صلته بالمعالج عابرةً مؤقتةً؛ فخبرة الألفة هي خبرةٌ باقيةٌ لا يمكن أن تسلب أو تُنتزَع. فهي تبقى في عالمه الداخلي كنقطة مرجعية دائمة وعلامة تُذَكِّرُهُ بقدرته على الاقتراب الحميم، وقابليته للود والألفة.

إن لقاءً حميمًا مع معالج هو خبرةٌ تحمل للمريض ما لا تحمله علاقاته بسائر الناس. فالمعالج أولًا: هو شخصٌ يكِنُّ له المريض احترامًا خاصًّا. والمعالج ثانيًا: وهو الأهم، هو شخص (ربما الوحيد) يعرف المريض معرفةً حقة … يعرفه كما هو بالفعل. فأن تُفضِي إلى شخص بأدق أسرارك وأفحش أفكارك وأخفى أحزانك وتفاهاتك وأهوائك ثم تبقى مقبولًا من جانبه؛ تلك خبرةٌ إيجابيةٌ إلى أقصى حد.

ثمة خلافٌ كبير حول طبيعة العلاقة المثالية التي ينبغي أن تكون عليها علاقة المعالج والمريض. فالمعالج لا يخلو عالمه من غضاضة ليس منها بد؛ إن مفاهيم مثل: جلسات مدتها خمسون دقيقة، كذا جنيهًا في الساعة، الدفع عند طرف ثالث؛ لا شك غير مريحة ولا تتسق مع تصورنا المعتاد للعلاقة الراعية الأصيلة. زد على ذلك أن علاقة «المعالج-المريض» تفتقر تمامًا إلى صفة التبادلية؛ فالمريض هو الذي يذهب إلى المعالج طلبًا للعون، بينما المعالج لا يذهب إلى المريض.

يؤكد جميع المفكرين الوجوديين من أمثال إريك فروم E. Fromm٣ وأبراهام ماسلو A. Maslow ومارتن بيوبر M. Buber أن العناية الحقيقية بشخص آخر تعني أن نهتم بنمو هذا الآخر وأن نُحيي فيه شيئًا ما. إن مبرر وجود المعالج هو أن يكون «قابلة» midwife يولِّد في المريض تلك الحياة التي لم يعشها بعد.
ويستخدم بيوبر مصطلح «البسط» unfolding بوصفه السبيل التي يجب أن يسلكها كل من المعلم والمعالج. ويعني البسط أن يرفع المرء النقاب عما كان هناك طيلةَ الوقت. ويعج مصطلح «البسط» بتضمينات ثرية، ويقف على نقيض تام من أهداف المعالجين من المدارس الأخرى (مثل إعادة البناء، فض الإشراط، التشكيل السلوكي، الوالدية المعادة). يساعد المعالج مريضه على أن ينبسط بواسطة التلاقي … التواصل الوجودي. فالمعالج ليس مُشَكِّلًا ولا موجِّهًا، بل هو على حد قول سكوين Sequin «كاشف إمكانيات» Possibilitator، (١٩٦٥م، ص١٢٣).
ربما يكون أهم المفهومات قاطبةً في وصف علاقة «المعالج-المريض» هو ما أسماه رولو ماي وآخرون (١٩٥٨م) بالمواكبة أو الحضور presence. فالمعالج يجب أن يواكب المريض وأن يسعى نحو علاقة أصيلة به. وحتى لو كان المعالج يقضي معه ساعة واحدة كل أسبوع فإن من الأهمية بمكان أن يكون المعالج «هناك» طيلة هذه الساعة؛ أن يكون حضوره تامًّا مليئًا، ومشاركته مركزة مكثفة. أما إذا أخذه السأم والضجر والغفلة عن مريضه، أو كان يترقب انتهاء الساعة بصبرٍ نافد؛ فإنه يفشل بنفس الدرجة في أن يمد المريض بالعلاقة التي هو في أمس الحاجة إليها.

(٤) مثال من حالة مرضية

(٤-١) حالة طلاق بسيطة

إنها حالة أحد العلماء، وهو في الخمسين من عمره، وسنسميه ديفيد. كان متزوجًا طوال سبعة وعشرين عامًا. وقد قرر حديثًا أن ينفصل عن زوجته. تقدم ديفيد للعلاج بسبب القلق الذي كان يساوره وهو يترقب مواجهة زوجته بهذا القرار.

يُعَد هذا الموقف من أوجهٍ عديدةٍ سيناريو نموذجيًّا لمنتصف العمر. كان للمريض ولدان أتما تعليمهما وتخرج أصغرهما توًّا في الجامعة. كان الأبناء من وجهة نظره هم العنصر الوحيد الذي يربطه بزوجته، وها قد أصبحوا في كامل النضج والاعتماد على النفس، ولم يعد هناك ما يبرر استمرار الزواج. يروي ديفيد أنه لم يكن قَط قانعًا بزواجه طوال هذه السنوات. وقد سبق له أن ترك زوجته ثلاث مرات، ولكنه سرعان ما كان يعود إلى بيته بعد أيام قليلة خزيانَ منكسرًا. وانتهى إلى قناعة أن زواجه على رداءته وسوئه كان أهون على كل حال من حياة الوحدة.

كان السبب الأساسي لتعاسته الزوجية هو الملل. لقد التقى بزوجته وهو في السابعة عشرة من عمره، في وقت كان فيه عديم الثقة بنفسه، خاصة في علاقته بالنساء. كانت زوجته أول امرأةٍ في حياته تُبدي اهتمامًا به. ينحدر ديفيد — وكذلك زوجته — من عائلة من الطبقة الكادحة. كان موهوبًا ذهنيًّا بدرجة غير عادية، وأول فردٍ من عائلته يلتحق بالجامعة. فاز ديفيد بمنحة دراسية بإحدى الكليات النظرية. وحصل على درجتين من الدراسات العليا. وانطلق في سيرة بحثية أكاديمية بارزة. لم تكن زوجةُ ديفيد موهوبةً ذهنيًّا، ولم تشأ أن تلتحق بالجامعة. وكانت تعمل في السنوات الأولى من الزواج لتسانده ماديًّا أثناء دراسته العليا.

كانت الزوجة مُكِبَّةً معظم الوقت على رعاية الأبناء، بينما كان ديفيد يواصل مسيرته المهنية بشدة وعرامة. كان دائم الملل من صحبتها ودائم الإحساس بخواء علاقتهما الزوجية. فهي في رأيه متواضعةُ الذهن للغاية ومحدودة الآفاق؛ بحيث يبرم من الانفراد بها ويتحرج أن يقدمها لأصدقائه. كان يحس أنه يتحول وينمو بلا توقف، بينما هي تزداد على الأيام تصلبًا وجمودًا وعجزًا عن تقبل الأفكار الجديدة.

ويتم السيناريو المعهود لرجلٍ في أزمة منتصف العمر يَنشُد الطلاق، بظهور «المرأة الأخرى»؛ كانت امرأةً ذكيةً جذابة مفعمة بالحيوية، تصغره بخمسة عشر عامًا.

كان علاج ديفيد طويلًا معقدًا برزت أثناءه تيماتٌ وجوديةٌ عديدة.

من هذه التيمات تيمةُ «المسئولية». فقد كانت المسئولية مسألة على جانب كبير من الأهمية في قرارِه ترْكَ زوجته. هناك أولًا المعنى الأخلاقي للمسئولية. إن زوجته، بعد كل شيء، هي التي أولدته أولاده وربتهم، ودعمته ماديًّا خلال دراسته العليا. أما باعتبار السن فهو الآن بالمقارنة بزوجته يُعَدُّ أكثر رواجًا بكثير. فهو أقدر منها كثيرًا على كسب العيش. وهو لا يزال من الوجهة البيولوجية قادرًا على إنجاب أطفالٍ وتنشئتهم. السؤال إذن: ما هي مسئولية ديفيد الأخلاقية تجاه زوجته؟

كان لدى ديفيد حِسٌّ أخلاقيٌّ عالٍ كفيل أن يعذبه بقية عمره بهذا السؤال. وكان لا بد لهذا السؤال أن يُطرح أثناء العلاج ويُمَحَّص. ومن ثم كان لا بد للمعالج أن يواجه ديفيد صراحةً بموضوع المسئولية الأخلاقية أثناء عملية صنع القرار. كانت أفضل طريقة للتعامل مع هذا الكرب التوقعي هي ألا يدخر ديفيد وسعًا في محاولة تحسين أوضاعه الزوجية، وبالتالي إنقاذ زواجه.

التحم المفهوم الوجودي للمسئولية بعملية إنقاذ الزواج هذه. وبدأ المعالج يُمَحِّصُ مدى مسئولية ديفيد عن فشل الزواج. فإلى أي حد كان ديفيد مسئولًا عن حياة زوجته وشكل وجودها معه؟ لم يكن خافيًا على المعالج ما يتمتع به ديفيد من بديهةٍ حاضرة وخاطرٍ سريع رشيق. بل لعل المعالج نفسه كان يحس بشيء من التهيب إزاء عقل ديفيد، وبشيءٍ من الخشية من أن ينتقده ديفيد أو يدينه. فإلى أي حد كان ديفيد انتقاديًّا مدينًا؟ أليس من المحتمل أن هذا الرجل هو الذي سحق زوجته وأخمَدَ جَذْوَتَها؟ وأنه كان بإمكانه أن يساعدها على أن تزيد حصيلتها من المرونة والتلقائية والوعي بالذات؟

قام المعالج أيضًا بمساعدة ديفيد على استقصاء مسألةٍ أخرى على جانب عظيم من الأهمية: هل كان زواج ديفيد مجرد رمز لشيءٍ آخر هو هو مصدر الكرب في حياته؟ هل كان يعلِّق على شماعة الزواج خيباتٍ تنتمي إلى بقاعٍ أخرى من حياته؟ ما إن بدأ ديفيد يبحث هذه المسألة حتى قاده البحث إلى قلب الديناميات الأزلية لأزمة منتصف العمر. فقد روى ديفيد حلمًا مهَّدَ الطريق إلى بعض الديناميات الهامة:

«كان لديَّ مشكلةٌ بخصوص تميُّع الأرض بالقرب من حمام السباحة عندي. جون (صديق كان يشارف الموتَ بالسرطان) يغوص في الأرض. كأنما هي رمالٌ متحركة. أخذتُ أثقب أسفل الرمال المتحركة بحفارٍ ضخم. كنتُ أتوقع أن أجد نوعًا من الفراغ تحت الأرض، ولكن بدلًا من ذلك وجدت لوحًا من الأسمنت على بعد خمسة إلى ستة أقدام إلى أسفل. وجدتُ على اللوح إيصالًا نقديًّا بموجبه دَفع لي أحدُ الأشخاص مبلغ ٥٠١ دولار. كنت في الحلم قلقًا جدًّا من أمر هذا الإيصال، لأن المبلغ كان أكبر بكثيرٍ مما يحق أن يكون.»

من أهم الموضوعات التي يدور حولها هذا الحلم موضوع الموت والشيخوخة. فهناك أولًا مسألة هذا الصديق المصاب بالسرطان. حاول ديفيد أن يعثر على صديقه باستخدام مثقاب ضخم. أحس ديفيد في الحلم شعورًا بالتحكم والقوة أثناء عملية الحفر. بدا واضحًا أن الحفار رمزٌ قضيبي، وأتاح ذلك استقصاءً مفيدًا للجانب الجنسي؛ كان ديفيد دائمًا مدفوعًا جنسيًّا، وقد أوضح الحلم كيف أنه كان يستخدم الجنس (وبخاصة مع امرأة شابة) كوسيلةٍ يتغلب بها على الشيخوخة والموت. وأخيرًا يفاجأ باللوح الأسمنتي (الذي يثير تداعيات المشرحة والقبور وأحجار القبور).

وقد أدهشته الصور الرقمية في الحلم؛ فاللوح كان على عمق خمسة إلى ستة أقدام، والإيصال كان بخمسمائة وواحد دولار بالضبط. وقد قدم ديفيد في تداعياته ملاحظة مثيرة؛ هي أن عمره خمسون عامًا، وأن ليلة الحلم كانت ليلة ميلاده الحادي والخمسين. ورغم أنه لم يكن مشغولًا بعمره على مستوى الشعور، فقد كشف الحلم أنه كان مهمومًا على مستوى اللاشعور بكونه قد تجاوز الخمسين. فإلى جانب اللوح الذي كان على عمق خمسة إلى ستة أقدام، والإيصال الذي تجاوز الخمسمائة دولار توًّا، كان هناك أيضًا قلقُهُ البالغ في الحلم من ضخامة المبلغ الذي يحمله الإيصال. لقد كان ديفيد ينكر عُلُوَّ سِنِّهِ على مستوى الشعور. وكان موقفه الغالب هو أنه ينمو ويتوسع بسرعة كبيرة، وأنه أوفر صحةً من أي وقت مضى، وأنه جعل حديثًا يجري عشرةَ أميالٍ كل يوم. أما عن مسيرته المهنية فقد كان يعتبر نفسه في مرحلة نموٍ سريع، وأنه مشرفٌ على تحقيق كشفٍ علمي اختراقي كبير.

فإذا كانت أزمة ديفيد الكبرى نابعةً من وعيه المتنامي بشيخوخته واضمحلاله، إذن يكون تعجيله بالانفصال عن زوجته بمثابة رميةٍ خاطئةٍ، أو محاولة لحل مشكلةٍ غير المشكلة الحقيقية. هذا ما جعل المعالج يدفع ديفيد إلى استقصاءٍ دقيق لمشاعره تجاه شيخوخته وفنائه. فلم يكن بُدٌّ من الإحاطة التامة بهذه الأمور قبل أن يكون بوسعه تقدير الحجم الفعلي لمصاعبه الزوجية. وقد قام المعالج والمريض باستقصاء هذه المسائل شهورًا عديدة، حاول ديفيد خلالها أن يكون أكثر صدقًا وإخلاصًا من ذي قبل في معاملة زوجته، كما استعان هو وزوجته بمعالجٍ زواجي لعدة أشهر.

بعد أن اتخذ ديفيد هذه الخطوات واستنفد هذه الوسائل، قرر هو وزوجته أن لا سبيل إلى إنقاذ الزواج، فانفصلا بالفعل. كانت الأشهر التي أعقبت الانفصال شديدة الصعوبة. وقد أمده المعالج بالطبع بالمساندة اللازمة خلال هذه المدة، ولكنه لم يحاول أن يحمل ديفيد على إزالة قلقه، بل حاول بالأحرى أن يساعده على أن يوظف القلق بشكل بَنَّاء. كان ديفيد أميل إلى التعجيل بزواجٍ ثانٍ، بينما ظل المعالج مُصِرًّا على أن يتريث ديفيد وينظر بعين الاعتبار إلى مسألة خوفه من العزلة، ذلك الخوف الذي كان يرده إلى زوجته عقب كل انفصالٍ سابق. أصبح يتعيَّن على ديفيد الآن أن يتثبت من أن الخوف ليس هو دافعه إلى التعجيل بزواجٍ ثانٍ.

كان صعبًا على ديفيد أن يأبه بهذه النصيحة. فقد كان يحس بعاطفة حب جارفة تجاه المرأة الجديدة في حياته. إن حالة كون الإنسان «في حب» هي إحدى الخبرات العظيمة في الحياة، غير أنها في الموقف العلاجي تطرح مشكلات كثيرة. فكثيرًا ما يكون الانجذاب للحب الرومانسي من القوة بحيث يكتسح أمامه أشد الجهود العلاجية وأكثرها هَدْيًا وحصافة. لقد وجد ديفيد أن رفيقته الجديدة امرأةٌ مثالية، وأن ليس له امرأة سواها. وكان يحاول جهده أن يقضي معها كل وقته. فقد كان في وجودها يحس بحالةٍ من النعمة الموصولة، تتلاشى فيها كل جوانب «الأنا» المنعزلة ولا تبقى إلا حالة مباركة من «النحن».

أما الشيء الذي حَمَل ديفيد في النهاية على أن يَجِدَّ في العلاج، فهو أن صاحبته الجديدة بدأت تتخوف بعض الشيء من عنف ضَمَّتِه، عندئذٍ فقط بدأ ديفيد يلتفت إلى خوفه البالغ من الوحدة ورغبته الانعكاسية في الاتحاد بامرأة. وشرع في برنامج لخفض الحساسية للوحدة، فكان يراقب مشاعره ويدونها في مفكرة يومية ويتناولها في جلسات العلاج بجد ومثابرة. دَوَّنَ ديفيد مثلًا أن أيام الأحد كانت أصعب الأيام على الإطلاق. كان جدول ديفيد المهني مزدحمًا لأقصى درجة، فلم يكن لديه أية مصاعب طوال الأسبوع. أما عطلة الأحد فكانت يوم الفزع الأكبر. لقد بدأ يعي أن جزءًا من هذا القلق كان مَرَدُّهُ أن عليه يوم الأحد أن يرعى نفسه ويعتني بشئونه. فإذا أراد أن يفعل شيئًا فعليه هو أن يجدول هذا النشاط. فهو لم يعد الآن يتكئ إلى ما كانت تعمله له زوجته. اكتشف ديفيد أن من أهم وظائف الطقوس في الثقافات المختلفة والجدولة المزدحمة في حياته الخاصة هو إخفاء الفراغ والخواء، وانعدام أي بنيةٍ أو نظامٍ أو أرضيةٍ من تحت المرء.٤

أدت هذه الملاحظة بديفيد خلال الجلسات العلاجية إلى أن يرى ويجابه حاجتَهُ، إلى أن يُرْعَى ويُحمَى. وظلت مخاوف العزلة والحرية تتخطفه شهورًا عديدة. ولكنه تعلم شيئًا فشيئًا كيف يكون وحيدًا في العالم، وماذا يعني أن يكون مسئولًا عن وجوده الخاص. باختصار، تعلم ديفيد أن يكون هو أمه وأباه، وهو دائمًا هدفٌ من أهم الأهداف العلاجية في العلاج النفسي.

١  رغم الأصل الواوي لجِذر هذه الكلمة فقد أجازها المجمع لمنع الالتباس الذي يكتنف كلمة «تقويم» المتعددة المعاني، وباعتبارها اشتقاقًا ثانويًّا جائزًا من «القيمة». (المترجم)
٢  حرفيًّا: وبالأنالوجي (أي المماثلة) في الحياة أيضًا. (المترجم)
٣  لا يخلو اتجاه فروم من مسحة وجودية، وإن كان ينتمي بالمعنى الأتم إلى المدرسة البينشخصية أو الفرويدية الجديدة. (المترجم)
٤  هناك لون من العصاب الوجودي يسمى «عصاب يوم الأحد Sunday neurosis» أي عصاب يوم العطلة الأسبوعية. وهو من علامات الفراغ الوجودي وتمثلاته. وهو صنف من الغم والاكتئاب يداهم الأشخاص مع العطلة الأسبوعية، حيث تنحسر مشاغل الأسبوع المزدحمة وتلهيات العمل، وينحسر معها الغطاء عن خوائهم الداخلي، ويصيرون على وعي حادٍّ بما ينقص حياتهم من مضمون. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤