تقديم الكتاب

بقلم  خليل مطران

رغَّب إليَّ صديقي الكريم الأستاذ الكبير الشيخ عبد العزيز البشري في تقديم كتابه هذا، فتَفَرَّسْت فيه فإذا هو لا يهزل، هَلَّا فعل أيام كنت أُنْشِئ المجلة المصرية، ولي من قُرْب عهدي برياسة تحرير الأهرام بضع سنين، ومما يُنْشَر لي من الفصول في المؤيد واللواء وغيرهما شهرة وذيوع صيت، فأُقَدِّم آنئذ للناس بواكير فتًى فارَقَ حلقات الدرس حديثًا، ودَلَّت الأُوَل من ثمرات بيانه، على ما سيجنيه العالَمُ العربي من قُطُوف أدبه وافتنانه؟

أما وهو اليومَ أَعْرَفُ من كل معرَّف بين الناطقين بالضاد في مشارق الأرض ومغاربها، فلقد سامني من هذا التقديم ما ليس بيسير، على أنني سأطلُعُ من ثنايا مباحثه إلى ذُرْوةٍ أَرْفع عليها عَلَمَ أدبه، وسأقتبس من آيات نبوغه ما أَجْلُو به للمطالعين أَمْثِلَة من صُوَر فَضْله.

لقد أَلْهَمَ الله الأستاذ خيرًا، فَوَاتَى أُمْنِية تَجِيش في صدور مُحِبِّيه والمعجبين به بأنْ جَمَعَ من خُطَبِه البارعة، ومقالاته الرائعة، ما تَفَرَّقَ في الصحف والمجلات، فاستوت كِتابًا هو في وَقْتِه كَنْز لأولي الألباب، وسيظل فيما يلي من الزمن ذخرًا للأعقاب.

وبَعْد، فَلِمَ لا أَقِفُ من هذا الكتاب مَوْقِف الدليل من المتحف، فهو في الحق مُتْحَف حافل بالمفاخر، وكل طُرْفة من طُرَفه جديرة بأن تُطَالَعَ في تَدَبُّر وروِيَّة، على أنني سأكتفي بالإشارة المجملة إلى ما يَتَضَمَّنُه كل قسم، وأتفادى من سماجة الدليل الذي يُعَطِّل بثرثرته مآخذ الذهن من التأمل الصامت فيما تَقَعُ عليه العين من روائع الفن، وأَحَبُّ إليه بل أجدى عليه أن يَتَمَلَّاها نظرًا، مِنْ أن يَتَرَوَّاها خبرًا.

الباب الأول: في الأدب

ها هنا يَمُرُّ المُطالع بقلائد وفرائد من خطب وفصول في الأدب لا يُخْرِج يتِيمَها، ولا يُحْكِم صَوْغَها وتنظيمَها إلا قَلَم البِشْري ولسان البِشْري، تُحَرِّكُهُما نَفْس كبيرة الهم، بعيدة المرامي، قَلِقَة في مهابِّ الأهواء ومثارات المنازع، فيَّاضة بحب مصر، وإيثار العربية الفصحى لها لغة، تتجنب التحقيقات العلمية، والتعاريف المنطقية، وإن تبتغي إلا اقتناع المتأدبين من طريق الباعث الغريزي فيهم، ومن طريق إخبارهم بما يجري عند الأمم الغربية الراقية من مثل ما عندهم، بأن البيان يجب أصلًا أن يكون عربيًّا سليمًا في اللفظ والأسلوب والاصطلاح، وأن يَتَكَيَّف مع سلامته ومراعاته لتلك الأصول، فينطبع بطابع الفطرة المصرية التي لها ما تتخيره خاصة من تلك اللغة وتلك الأصول، فإذا أُحِيط البيان بهذا النطاق، وصِين مِن تَسَرُّب العجمة إليه، فلا مانع يَمْنَعُ من كل ابتكار وتجديد، على ألَّا يَعْدُوَ حدوده، ولا يَمَسَّ الخصيصة القومية في جوهرها.

يقول في الأدب بَعْد أن أَمْسَك عن تعريفه، وبعد أن أهاب مرارًا بأعلام البيان وأئمة المتأدبين أن يُعَرِّفوه أو يدلُّوا على مواضع التعريفات الصحيحة له، فلم تَتَدَلَّ أقلامهم بجواب:

وعلى كل حال، فإن الأدب إذا لم يَضْبِطْه تعريف جامع مانع، فإن موضوعه واضح في مظاهره، وفي الغايات التي يَطْلُبها ويَتَطَاوَل إليها، فما من أحد إلا يرى أنَّ أبْلَغَ مظاهر الأدب في نفض الأحساس الكامنة، والعواطف الجائشة، وتصوير ما يَعْتَلِج في أطواء النفس من ألوان الانفعالات بعبارات موسيقية تتدسس إلى نفس السامع، فتُثِير منها كل ما يثُور في نفس الشاعر أو الكاتب، ولا شك عندي في أن هذا أبْلَغ مظاهر الأدب وأجلُّ غاياته.

كذلك لقد ضَبَطْتُ بالشكل كل ما المصري القائم:

وعلى الجملة إنك لو تَصَفَّحْتَ هذا الأدب المصري القائم، لرأيته مُوَزَّعًا بين حياة في الجزيرة لعصر الجاهلية وصدر الإسلام، وبين حياة في بغداد أو الأندلس، فيما يلي ذلك العصر، وبين حياة في لندن أو برلين أو باريس أو روما أو موسكو، ولكن أين هذا الأديب الذي يعيش في مصر ويُصَوِّر عواطفه المصرية التي يُلْهِمها ما ينبغي أن يُلْهَم المصري من عواطف وإحساس؟

ثم يعود فيُفَصِّل بعض الشيء ما أراده بالأدب العربي القومي، وما أبلغ الكلام الذي أُوحِيَ إليه في هذا الغرض، ومنه قوله:

إذن لا مَفَرَّ لنا من أن نلتمس أدبنا القومي، ولا يكون هذا الأدب إلا عربيَّ الشكل والصورة، مِصْريَّ الجوهر والموضوع، وإذَنْ فقد حَقَّ علينا أن نَبْعَث الأدب العربي القديم، وننثِل دواوينه، ونستظهر روائعه، ونتروَّى منها بالقدر الذي يُفْسِح في ملكاتنا، ويقوِّم ألسنتنا، ويطبعنا على صحيح البيان، فإذا أرسلنا الأقلام في موضوع يَتَّصِل بالآداب، بوجه خاص، أَطْلَقْنا القول في صيغة عربية لا شك فيها، على ألَّا نَطْلُب بها إلا الترجمة عما يَخْتَلِج في نفوسنا، ويَتصل بإحساسنا، ونُصَور بها ما نَجِدُ مما يلهمه كل ما يُحيط بنا، وما يَعْتَرِينا في مُخْتَلِف أسبابنا من فِكْر ومن شعور ومن خيال.

ولقد قدَّمْت لك أننا قد نكون في حاجة شديدة جدًّا إلى مطالعة آداب الغرب وإطالة النظر فيها، واستظهار الكثير من روائعها، ونقْل ما يتهيأ نَقْلُه إلينا منها في لسان العرب، وهذا أَمْر لا شك فيه، ولا غَنَاء لنا عنه، فإن ذلك مما يُهَذِّب من ثقافتنا، ويَفْسَح في ملكاتنا، ويُرْهِف من حِسِّنا، ويَهْدِينا إلى كثير من الأغراض التي تَشْتَعِبها آداب الغرب في هذا العصر، والواقع أننا تَهَدَّيْنا من آداب الغرب إلى فنون لم يَكُنْ لنا بها عهد من قبل، أو أنها مما عالجه سَلَفُنا ولم يَكُن حَظُّهم منه جليلًا، ومِن أَظْهَرِ هذه الفنون القصص بالمعنى القائم، ومذاهب النقد الحديث.

على أن شيئًا من ذلك الأدب الأجنبي لا يُجْدِي علينا، ولا يُؤَدِّي الغرض المقسوم بمطالعته والإصابة منه إلا إذا هذَّبناه وسوينا من خَلْقِه ولوَّنَّا من صُورَتِه حتى يَتَّسِقَ لطباعنا، ويوائم مألوف عاداتنا، ويستقيم لأذواقنا، كما ينبغي أن نجهد الجهد كله في تجلِيَتِهِ في نظام من البلاغة العربية مُحْكَم التنضيد، فلا نُحِسُّ فيه شيئًا من نُبُوٍّ ولا نشوز، وبهذا نزيد في ثروة الأدب العربي، ونَرْفع من شأنه درجات على درجات.

هذا هو الهدف الأكبر فيما رمى إليه الأستاذ بمختلف مباحثه القيمة في الأدب: ما تَنَاوَلَ منها الموضوع في لبابه أو جَالَ به جولاته في النقد والشعر، ومَنْ مَرَّ بالقلائد التي نَظَمَهَا في هذه الفصول كلها والفرائد التي رَصعَهَا بها، لم يُفَارِقْها إلا بقلب مشتاق، ولُبٍّ يستظهر بالذكرى على أَلَم الفراق.

الباب الثاني: في الوصف

هذا الجناح من المتحف فيه العجب العجاب: أتَنْظُر بعين البدوي إلى تلك الآلة العجيبة «الراديو» فترى هيئتها كما يراها وتَدْهَش من مفاعيلها مثل ما دَهِشَ منه؟ أتَشْهَد المؤلف قبل أن يَرْكَب الطيارة وحين رَكِبَها، وبعد أن تَدَلَّى منها وصار إلى مأمن، وأعاد ذِكْراها في نَفْسه مُرَوَّعًا حين رآها في السماء قافلة، وهو يجالس بعض صحبه على شاطئ البحر بالإسكندرية؟

أتتفرس في رسم المؤلف حين يَهْتِف هاتف من أصدقائه بِسِنِّه وقد تَشَرَّف على الخمسين، وتقرأ في ذلك الرسم كل ما تراءى عليه من الأحساس المتلونة التي تُكِنُّ أمثالها جوانح كل حي؟ ولكن من فيهم يستطيع جلاءها كما جلا؟

أيَرُوعُك شَكْله وهو صحيح معافًى؟ غير أنه لا يَشْعُر بأنه مجتمع الشمل، ولا يسكن إلى ما هو فيه، وكلما اطَّلَع على ساعة من ساع الزمان رآه مشغولًا بالانحدار إلى التي تليها، فعلى محياه يَرْتَسم سؤال: «إلى أين؟ إلى أين؟» وسؤال آخر: «ألا مِن قرار؟» على أن إجابته عن هذا السؤال هي إجابة الإنسانية كلها، أجل، ولكنها إجابتها بأفصح ما يتسنى لنفس أن تُعَبِّر به تعبيرًا خَلَّابًا بديعًا عن أسرار حيرتها الدائمة!

أتنظر إليه في رسم آخر وهو يُنَمِّق ما يوحيه إليه الجمال، فتَمُر بك الألواح العجيبة من بزوغ شمس واستوائها على عرش مُلكها تُصْدِر توقيعاتها في حياة هذا العالَم، ومشبهًا بعد ذلك مُتَثَاقِلَة إلى خِدْرها، لِتَتَوارى عن العيون خَلْفَ سِتْرِها؟

ثم من طلوع القمر «يبدو لك أول الشهر خيطًا دقيقًا، ويبدو في ثانيه كحاجب الأشيب، ويَسْتَوي بعده قوسًا، ولا يزال ينمو ويُدْرِكُ حتى يَسْتَوي بدرًا كاملًا»، فهو في كل حالاته أولئك «ما حضر إلا أهنأ وهَدَى، وما غاب إلا أضلَّ وأَشْقَى».

ثم مِنْ رَوْض أَرِيض «قد انْسَرَحَ بانُه، وفَرَعَتْ فُرُوعُه وبَسَقَتْ أغصانُه، وزَكَتْ أوراقُه، ورَفَّ بِوَحْي النسيم نَبْتُه وجَلْجَلَ اصطفاقُه» إلخ، فأنت مُفْتَتَن بما يُطَالِعُك به، أَبْدَع وَشْي في أَبْرَع ديباجة.

هذه أمثلة من طرف هذا الجناح، ولكن أَبَت العبقرية إلا أن نَخْتِمَ سلسلتها بقصة جعل الأستاذ عنوانها لفظة «حياء» وماذا أَذْهَب به وأَغْرَب في سرد ما سرد من وقائعها، وفي صِدْق تصويره لصاحبها بحسه ومعناه، وفي مختلف أطواره وفي إحكام السياق إلى أن أطفى من الرسوب، في أبعد قرارة من النفس، معنًى من أَدَقِّ معاني الحياء، ولقد قال في استهلالِ تلك القصة:

وحين أُتَرْجِم لموضوع اليوم بكلمة «قصة» لا أعني الرواية ولا ما يشبه الرواية، فإنني لا أشيع فيها خيالًا، ولا أَخْتَرِع لها أبطالًا، ولا أَخْلُق مفاجآت، ولا أَبْتَكر مواقف، ولا أمُدُّ لها مغزًى يصيب غرضًا، ولا أعالج تحليل نفس أو فكرة، لأنني لا أجيد هذا الضرب من البيان ولا أَحْذِقه، بل إنني لَمْ أحاوله قَطُّ طُولَ حياتي الكتابية، وإنما أَقُصُّ حادثة وَقَعَتْ بسمعي وبصري، فإن هي أصابت غَرَضًا أو اتصل بها مغزًى، فذلك من صُنْعها نفسها، لا فَضْل لي من ذلك في كثير ولا قليل.

وها هنا لي استدراك على الأستاذ أُبْدِيه لزائر المتحف أو مُطَالِع هذا الكتاب! لو أن شيخنا — بالفضل لا بالسن — الأستاذ البشري ابْتَدَعَ هذه القصة استخلاصًا من الوقائع التي تجري كل يوم بأسماعنا وأبصارنا كما يَفْعَل منشئو الروايات، ولم تكن مما شَهِدَه على حَدِّ ما ذَكَرَ، لكان من أبرع القصاصين الذين عرفناهم، الله الله في دقة الوصف، واستشفاف أَلْطَفِ ما يتحرك به الحس في أطواء النفس، الله الله في روعة الأسلوب وصفاء العبارة، وبلاغة تمهيد الفواتيح للخواتيم.

على أنه لا يزيدك بيانًا على مقدرة الأستاذ في قصصه مِثْل وقوفك على تراجمه وهي ضرب آخر منه، وقد جلا بعض مأثوراتها في كلامه على المرحوم شوقي، وفي تراجمه التي أَفْرَدَ لها الباب الثالث.

الباب الثالث: في التراجم

هذا القسم لا يَعْرِض لك فيه المؤلِّفُ إلا ثلاث صور: رشدي باشا، الشيخ علي يوسف، محمد المويلحي، ولكنها ثلاث لا تقوم بها محتويات مَتْحَف مهما كَثُرَتْ وغَلَتْ، على أنك تَسْتَشِعر من البدء إلى النهاية في هذه التراجم أن مُحَرِّك العبقرية فيها إنما كان الوفاء، وفي مثل هذا يتجلى بأبهج الصور جلال التآزر بَيْن القلب والعقل.

في هذه التراجم الثلاث حدَّثَ الأستاذ واستفاض في الحديث، عن ثلاثةٍ من أكابر رجالات مصر، عَرَفَهُم حَقَّ المعرفة، وتَرَوَّى حوادثهم شاهدًا أو آخذًا عن ثقات، وعلَّق من نوادرهم أعلاقًا، فيها من النفائس ما يَضْمَن الخلود.

خُذْ مِنْ بعض ذلك إحدى الصور التي صَوَّرَ بها رشدي باشا، قال: «ولقد حَدَثَتْ أحداث الإسكندرية في مايو سنة ١٩٢١، ورشدي مع عدلي في لندن يُفَاوِضَان كيرزن في المسألة المصرية، وكانت السلطة العسكرية قد مَلَكَت الأمر كُلَّه عن الحكومة المصرية، وتَوَلَّتْ هي التحقيق بقوة الأحكام العرفية التي كانت مبسوطةً يومئذ على البلاد، فَلَمَّا انتهت المفاوضات إلى الكلام في حماية الأجانب وعَارَضَ المفاوضون المصريون في أن يكون هذا إلى إنجلترا، دَفَعَ اللورد كيرزن إليهم بتحقيق السلطة العسكرية في حوادث الإسكندرية، وما دَمَغَ المصريين ظلمًا بألوان الوحشية، وما أضاف إليهم من أمورٍ تَقْشَعِرُّ منها الجلود، فَتَنَاوَل رشدي باشا هذا التحقيق ويداه صِفْر من كل شيء، لأن التحقيق كما قلْتُ لَكَ، اسْتَقَلَّتْ به السلطة العسكرية، فَأَبَتْ على رشدي عزيمتُه، وأَبَتْ عليه وطنيتُه، وأَبَتْ عليه عبقريتُه إلا أن يُكِبَّ ليلته كلها على هذا التحقيق، واللهُ يعلم ماذا بَذَلَ من مخه، والله يعلم ماذا هَرَاقَ من ذكائه حتى اتَّسَقَ له في الصباح تقرير يَعْصِفُ بهذا التحقيق عصفًا، ويُشْهِده على نفسه بالبُطل، وشدة الحَمْل على المصريين، ثم مضى به إلى لورد كيرزن فألقاه إليه، وما إن قرأه حتى سأل أن يَتَقَاصَّ الطرفان، وكذلك أَخْلَتْ حوادث الإسكندرية وجْهَ الطريق.»

ثم خذ صورة للمرحوم الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد، تجده بها حيًّا ناطقًا، وتَسْتَطْلع طِلْع الحقيقة فيه محلَّلة تحليلًا يَعْرِف مكانه من الدقة مَنْ عَرَفَ ذلك الكاتب القدير الذي تَصَرَّفَ في اليسير من مادة اللغة بأحسن مما يَتَصَرَّفُ غيره في الكثير، فَأَحْدَثَ مِنْ بَالِغِ الأثر في نفوس قارئيه ما تَنْطِقُ به هذه الشهادة له من أديب لا يُشَقُّ له غبار في معرفة اللغة كالأستاذ صاحب هذا الكتاب، قال:

وفي هذا المقام يَجْدُر بي أن أُنَبِّه إلى شيء جدير بالانتباه: ذلك أنَّ حُسْن البيان وجَوْدة المقال لا تَرْجِع في جميع الأحوال إلى تَمَكُّن الكاتب من ناصية اللغة وتَفَقُّهِهِ في أساليبها، وبَصَرِه بمواقع اللفظ منها، واستظهارِهِ لصَدْرٍ صالح من بلاغات بُلَغَائها، إلى حُسْن ذوق ورهافة حِسٍّ، بحيث يَتَهَيَّأ له أن يَصُوغ فِكْرَته أَنْوَرَ صياغة، ويُصَوِّرها أَبْدَع تصوير، بل إن ذلك لَيَرْجِع في بعض الأحوال، وهي أحوال نادرة جدًّا، إلى شدة نفس الكاتب وقوة رُوحِه، فقد لا يكون الرجل وافِرَ المحصول من مَتْن اللغة، ولا هو على حظ كبير من استظهار عيون الكلام، ولا هو بالمعنِيِّ بتقصي مَنَازِع البلاغات، ومع هذا لقد يَرْتَفع بالبيان إلى ما تَتَقَطَّع دونه علائق الأقلام، ذلك لأن شدة نفْسه، وجبروت فِكْره، تأبى إلا أن تَسْطُو بالكلام فَتَنْتَزِع البيان انتزاعًا، ولعل في بيان السيد جمال الدين الأفغاني وهو غريب عن العربية، وقاسم بك أمين وهو شِبْه غريب عنها، أَبْيَن مثال على هذا الذي نقول، ولقد يَعْجَب القارئ أَشَدَّ العجب إذا زَعَمْتُ له أن المرحوم حسين رشدي «باشا»، وكان رجلًا قَلَّ أن تَطَّرِدَ على لسانه ثَلَاثُ كلمات عربية متواليات، قد كان أحيانًا يَرْتَفِع بالعبارة إلى ما يَتخاذل من دونه جَهْد أعيان البيان!

والآن أستطيع أن أَزْعُم أن الشيخ علي يوسف، على أنه تَعَلَّم في الأزهر وقَرَأَ طرفًا من كتب الأدب، واستظهر صدرًا من مظاهر البلاغة في منظوم العربية ومنثورها — إلا أنه لم يكن مدينًا في بيانه لشيء من هذا بِقَدْر ما كان مدينًا لشدة روحه وسطوة نفسه، وإنك لتقرأ له المقال يَخْلُبك ويروعك، وتَشْعُر أن أحدًا لَمْ يَنْتَهِ في البيان منتهاه، ثم تُقْبل على صِيَغِه تفتشها وتَفِرُّها، فلا تَكَاد تَقَع على شيء من هذا النظم الذي يتكلفه صدور الكتاب، وبهذا أنشأ الرجل لِنَفْسه أسلوبًا، أو على الصحيح لقد خَطَّ قَلَمَهُ القَوِيَّ نهجًا من البلاغة غير ما تَعَاهَدَ عليه الناس من منازع البلاغات.

ثم إليك صورة للمرحوم محمد المويلحي، أَعْجَب ما فيها إبانتها عن سِرِّ فلسفته الخاصة في حَمْلِه على نَفْسه وصَبْرِه على مَضَض الأيام، مُوَفِّقًا في ذلك بين مَذْهَبِه الفكري وسِيرَته العقلية في الحياة، قال الأستاذ:

ومِنْ أَهَمِّ ما يَلْفِت النظر في خِلَالِه أنه كان أَقَلَّ خَلْق الله تأثُّرًا بما يَغْمُر المرءَ من مُتَعَارَف الناس ومُصْطَلَحهم في عاداتهم وتقاليدهم وسائر أسبابهم، بل لقد كان له نظره الخاص في الأشياء، وكان له حُكْمُه الخاص عليها، وهو إنما يأخذ نفسه بما يَصِحُّ عنده من هذه الأحكام، لا يبالي أحدًا، ولا يَتَأَثَّر، كما قُلْتُ، بِأَثَر خارجيٍّ ولو كان مما انْعَقَدَ عليه إجماع الناس، وإذا كُنْتُ قد نَعَتُّهُ «بالفيلسوف» فإنما أعني هذه الصفة فيه؛ فإنني لَمْ أكد أرى رجلًا لَاءَمَ كل الملاءمة بين رأيه في أسباب الحياة، وشِدَّة تَحَرِّيه أَخْذَ النفس بأحكام هذا الرأي، كما بان لي مِنْ خَلَّة هذا الرجل بِحُكْم ملابستي له السنين الطوال.

إلى هنا انْتَهَيْتُ بك أيها القارئ الكريم من الطواف عاجلًا بأقسام المتحف، وليس يذهب عني أنني لَمْ أَزِدْكَ شيئًا على ما يعطيك عامَّةُ الأدِلَّاء في المتاحف من الإرشاد الساذج الناقص، إلى مواضع مختلفة من مواقع الجمال والجلال.

فانصرف الآن مُوَفَّقًا إلى تروية نَفْسِك من اللذائذ الذهنية التي توحيها إليك — بلا وساطة — مطالَعَةُ ما في هذا الكتاب من الآيات الفنية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤