كلمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله تعالى وسلم على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اهتدى بِهُداهم إلى يوم الدين.

وبَعْد، فما كُنْتُ أُقَدِّر في يوم من الأيام أن يَسْتَوِيَ من بعض هذا الذي أُرْسِله في الصحف الدائرة الحينَ بَعْد الحينِ كِتابٌ مجموع، وإنَّ عادةً لي لَزِمَتْني من يوم ضَبَطْتُ القلم ألَّا أَحْرِصَ على حفظ شيء من آثاره المنشورة في هذه الصحف، فإذا وَقَعَ لي شيء من ذلك أَسْرَعْتُ إلى إتلافه تمزيقًا أو تحريقًا.

وسبيل هذه العادة إليَّ أنني أولَ ما عَالَجْتُ الكتابة وتَعَلَّقْتُ بصنعة القلم، كُنْتُ أُدْرِك تمامَ الإدراك أنني ناشئٌ لا أجيد البيان، فإذا كانت لي طبيعة فلن تَتَهَيَّأ لي الإجادةُ إلَّا بعد شدة معاناة وطول تمرين، وظَلَلْتُ على هذا دهرًا وأنا في ارتقاب الأحسن مِمَّا يَثْبُت للأنظار لِأَحْفَظه وأَدَّخِره للجمع ثم للطبع، فلا أراه قد تَهَيَّأ لي، فلا أبرح أُهْمِل كُلَّ ما يَنْتَضِح به القلم، ولا أُبْقِي منه على كثير ولا قليل.

وظَلَلْتُ كُلَّمَا اطَّرَدَ بي الزمن أشعر بأن المدى بيني وبين الكمال الذي أَنْشُدُ يَطُول ولا يَقْصُر، وأن الغاية التي أَطْلُب تَبْعُد على الأيام ولا تَقْرُب، حتى لقد جَعَلَتْ نفسي تَبْرَم وتَضِيق كُلَّما وَقَعَ لي عفوًا شيء من تلك الآثار، ثم لقد أَصْبَحَتْ تعفينها وإتلاف ما يَقَعُ ليدي منها عادة من تلك العاد التي تَتَّصِل بالفِطَر والطِّباع، حتى لو خرج المقال فأزهاني به شيطان الفتنة بالنفس، وهَتَفَ به الصحاب وغير الصحاب، فإنه لا يَتَعَذَّر مني على ذلك المصير.

وكثيرًا ما استحَثَّني صُدْقَاني على أن أسوِّيَ من تلك الرسائل مجموعاتٍ أطبعها وأنشرها للناس، فإذا اعْتَلُّوا على عُذْرِي بأن هذا الذي أَصْنَع مما لا أراه يَرْتَقي إلى هذا المكان، رُحْتُ أجاريهم بظاهر من القول، وفي التعليق على مشيئة الله تعالى عن الكذب مُنْتَدَح.

ولقد ظَلَّ هذا شأني إلى أن لَحِقَتْنِي في صدر هذا العام شَكَاةٌ أَلْزَمَتْ جَنْبي الفراشَ ثلاثة أشهر تَعَلَّقْتُ فيها بين الموت والحياة، ولعل جَانِبَ الموت عندي كان أَرْجَح، وحُجَّتَه كانت بحالي أَسْطَى، وهنا بان لي أنني كُنْتُ حَقَّ مخدوع في ذلك التأميل، شأن المرء في جميع أماني الحياة.

إذَنْ لَمْ أَبْلُغ ذلك الكمال، ولَسْتُ بدانٍ منه ولو وُصِلَتْ بالأجل آجال، وما أنا بِظَافرٍ بغير ما كان لي بحال، فالطمع فيما وراءَه من بعض المُحال.

وإذَنْ فهذا قَسْمي من صنعة القلم، وما بات للتأميل من بعد ذاك مآب، وهيهات أن يُدْرِك المشيب ما انقطع دونه جهْد الشباب!

وكذلك أَلَحَّتْ علي الرغبة في أن أَسْتَعْرِض آثار هذا القلم، ففي استعراضها استعراض لما يَصِحُّ أن يُدْعَى بالحياة، ولعله قد وَقَعَ لسمعك ذلك المثل الشائع: «إن التاجر إذا أَفْلَسَ رَجَعَ إلى دفاتره القديمة»، على أنني إذا شَارَكْتُ ذلك التاجر، في هذا الحظ العاثر، فقد زاد حظي عليه فِقْدان تلك الدفاتر.

لَمْ يَبْقَ بُدٌّ من أن أذكي النُّسَّاخ في المكتبات العامة، فرجعوا إليَّ بكثير جَمَعْتُ منه هذا الجزء يَنْتَظِمُ أبوابًا ثلاثة: الأدب، والوصف، والتراجم.١ وسيتلوه إن شاء الله آخر في الفن والمفْتَنِّين، والأفاكيه، والمراثي.

على أنني وإن لم أُحَرِّف رأيًا سَلَفَ لي أو أُعَدِّل في فكرة، وإن عَدَلْتُ في الواقع عنها، حفظًا لِحَقِّ التاريخ علَيَّ؛ فإنني قد عُدْت بشيء من الصقل والتسوية في بعض العبارات، واستدراك ما عسى أن تكون قد فَوَّتَت العَجَلَةُ مما يستقيم به نَظْمُ الكلام.

كذلك لقد ضَبَطْتُ بالشكل كل ما يَشيع الخطأ في النطق به على ألسنة الكثير من الناس، وشَرَحْتُ ما عسى أن يُخْطِئهم من مفردات اللغة عِلْمُهُ، تيسيرًا للناشئين من المتأدبين.

•••

وبَعْدُ، فوالذي نفسي بيده لو كُنْتُ أَعْلَمُ بظهر الغيب أن أستاذي إمامَ البيان وشاعرَ القطرين سَيَصِفُنِي بما وَصَفَ، ما سَأَلْتُهُ ما سَأَلْتُ، ولكنه أبى إلا أن يَنْظُرَ إليَّ نَظَرَ الأستاذ إلى تلميذه الخاصِّ فلا يرى إلا حسنًا، وحبذا لو كان قد جَمَعَ عَزْمَه، وحَمَلَ على نَفْسه، وخرج قليلًا عن عَطْفه، فَبَصَّرَني مَسَاقِطَ عيوبي، فما أَحْوَجَني إلى أديب عالِم نزيه يُبَصِّرني هذه العيوب، ومَنْ أولى بهذا من أستاذي مُطران؟

وإذا كان قد أَخَذَني بأني لم أَتَقَدَّم إليه بما تَقَدَّمْت وأنا فتًى ناشئ وهو يُخرج «المجلة المصرية» ويَجُول قَلَمُه في كُبْريات الصحف كلَّ مجال، فَلْيَعْلَم — وَصَلَ الله في حياته النافعة — أنني ما بَرِحْت أنظر إليه اليومَ بتلك العين التي كُنْتُ أَنْظُر إليه بها في تلك الأيام.

عبد العزيز البشري
١  ألحق بباب التراجم في هذه الطبعة كثير مما جرى به قلم المؤلف في التأبين والتعزية والرثاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤