تطور الأدب العربي وموضعه بمصر اليوم١

تعارف حَمَلة الأقلام

سيداتي، سادتي

وأخيرًا فهذا نادي القلم، يَجْمع في مصر أيضًا بين رجال القلم، ولقد يَتَدَاخَلُ بعْضَ الناس العَجَبُ من أن آخر مَنْ يُفَكِّر من أرباب المهن في التعارف والاتصال والتعاون في أسباب المهنة هم أصحاب القلم!

والواقع أن الأمر، لو جَازَ به النظر لا يَبْعَث على كثير ولا قليل من العجب، فإن رجال القلم هم، مِنْ صَدْر الزمان، المتعارفون المتواصلون المتعاونون، وإن تراخت بينهم الديار، يَلْتَقون كل حين في حَلَق الدرس، وعلى متون الصحف، وفي بطون الكتب، يلتقون لا بِصُورهم وأشباحهم، بل بعقولهم وأرواحهم، فإذا كان تَعَارُفُ غَيْرِكُم وتعاونهم أثرًا لاجتماعهم واتصالهم، فإنما يكون اجتماعكم أنتم أثرًا لِتَعَارُفِكُم، وتَعَاوُنِكُم، فاتصالكم اليوم، على تفرُّق أصنافكم وأَلْسِنَتِكُم وأهوائكم، إنما هو من تسجيل الأمر الواقع لا أَكْثَرَ ولا أَقَلَّ.

وهذا هو الاجتماع الذي لا تَقْوَى على تصديعه يَد الزمان!

سيداتي، سادتي

لَمْ تكن ثمار الفكر مِلْكَ أُمَّة ولا خِلْصًا لوطن، ولا حُكْرة لِخَلْق من الناس، أفرأيتم كيف اجتمع لنادي القلم، في كل هذا اليسر، مع المصريين أصنافٌ شتى من الغربيين؟ وكيف استوت السيدات في مجالسهن أثناء الرجال؟ بل كيف تَوَافى له مَن عسى أَلَّا يجمع بينهم من مذاهب الحياة إلا صَنْعَة القلم؟ أفرأيتم إذَنْ صِلَة أَوْثَقَ من هذه الصلة، ورَحِمًا أَبَرَّ من هذه الرحم؟

•••

بعد هذا، لَقَدْ أقبَلْتُ على نفسي أُسَائِلُهَا: لماذا آثرني بعضُ إخواني بالدعوة إلى إلقاء أول كلمة في أول اجتماع لنادي القلم؟ ولماذا كُلَّما زِدْتُهُم اعتذارًا زادوني إلحاحًا حتى لَمْ أَجِدْ لي من المُطَاوَعة، بِظَهْر الغيب، مَفِيضًا؟

لقد أَقْبَلْتُ على نفسي أسائلها، وكلما اسْتَصْعَبَتْ وتَعَذَّرَتْ عليَّ في الجواب زِدْتُها كذلك إلحاحًا حتى طاوعتني هي الأخرى، فإذا الجواب الذي استراح إليه فِكْري أن العادة جَرَتْ بأنه إذا انْتَظَمَتْ مواكبُ الجيش تَقَدَّم الأحدثون، فالذين مِنْ فَوْقِهم درجة، وهكذا حتى يَخْلُص آخر صَفٍّ للقادة العظام، وما لي وللعسكرية وقد سَلَخْتُ في منصب القضاء دهرًا، وآدابُ القضاء تَجْري بأن يُبْدأ باستخراج الرأي من أحدث الجالسين جميعًا.

إلى هذا المعنى استراحت نفسي، وعلى هذا الاعتبار تَقَدَّمْتُ إلى إلقاء أول كلمة في هذا الاجتماع الكريم.

ولسْتُ بالضرورة، أعني بالحداثة الحداثةَ في السن، وإلا لكنت مِنْ آخر من يَتَكَلَّمُ فيكم جميعًا!

الأدب عرض يتلون ويتكيف

سيداتي، سادتي

كان حتمًا عليَّ بَعْد ذلك أن أختار موضوع حديثي إليكم، ففكَّرْتُ ثم فَكَّرْتُ، فلم يهدني تفكيري، على طول الترديد، إلا أن أَلِمَّ إلمامة يسيرة بتطور الأدب العربي وموضعه في مصر اليوم، فلَعَلِّي بهذا أجلو منه صورة واضحة بعضَ الوضوح على من عسى ألَّا يكون قد عُنيَ بمطالعته من إخواننا السادة الغربيين.

وقبل أن أسترسل إلى هذا الغرض، أُبَادِر فأقرر أنني مؤمن كل الإيمان بأن الأدب ما كان في يوم من الأيام — ولعله لا يكون في يوم من الأيام — فنًّا مَحْدُودَ الأطراف، ثابِتَ الأبواب، مُرْسَخَ القضايا، ينتهي من التأصيل والتقعيد إلى كمال مُعَيَّن أو شِبْهِ كمال مُعَيَّن، شأن الفنون الموصولة بالعقل، أو بالطبيعة، أو بالواقع، فلا يَدْخُل على قضاياها التغيير إلا بِحَدَث عظيم من نحو استكشاف مجهول خفي في الزمان على أنظار العلماء، بل إن الأدب لَعَرْض يَتَكَيَّف ويتلون طَوْعًا لعقلية كل قوم، وتاريخهم، وأخلاقهم، وعاداتهم، والجوِّ الذي يعيشون فيه، وأسبابهم الخاصة، ومَبْلَغ شعورهم بالجمال، بل بصُوَر هذا الجمال أيضًا.

فالأدب الحق لكل قوم هو ما يكافئ عقليتهم، ويُرضي أذواقهم، ويواتيهم في سائر أسباب الحياة.

وعلى هذا، لقد يكون من العبث أن نَطْلُب للعامة من سكان الصعيد الأعلى مثلًا، وهم شركاؤنا في الجنس واللغة، الأدبَ الذي يتروَّاه ويُمَتَّع به المتعلمون في كبد الحضر، وأن نَنْعَى عليهم تَخَلُّفَهُم في هذا، وإنَّ عَبَثًا كبيرًا أن يُرَادَ تَنْعِيمُهُمْ وتلذيذهم بمثل أدب الجاحظ والأغاني، وبما انْتَضَحَت به قرائح أئمة البيان وقادة الفكر في الشرق والغرب، ولو تُرْجِمَ إلى لغاتهم، وأُدِّيَ إليهم في لهجاتهم.

عصور الأدب العربي

سيداتي، سادتي

لقد كان لسلفنا العرب في جاهليتهم أدب قويٌّ جدًّا يُكَافِئ بَدَاوتهم وشدة طباعهم، وقوَّة غرائزهم، وصفاءَ نفوسهم، أدبٌ يواتي كل أسبابهم في الحياة من الحَرْب والغَزْو والطَّرْد، والتفاخر بالكرم والإيثار، والتكاثر بالأهل والعشيرة، وقوة الغزل، ودقة الوصف لكل ما يَتَناوله حِسُّهم، والوقوف بالديار، ومساءلة النُّؤْي والأحجار.

فَلَمَّا فَتَحَ الإسلام عليهم من أقطار الأرض، جَعَلَتْ أشعارُهُم وسائرُ آدابهم تَتَلَوَّن بلون الحضارة التي لَابَسوها، والحياةِ التي أَخَذُوا في تَذَوُّقها، حتى إذا بلغوا من العلم حظًّا، واطَّرَدَتْ بهم الحضارة الواسعة في عهد العباسيين، كان الأدب العربي شيئًا آخر، شيئًا يواتي مطالب عقولهم، ويتوافى لأحلامهم وأذواقهم في أسبابهم الحديثة.

ومثل هذا يقال في أدب الأندلس، فإن صُوَره ما برحت تُدَارِج شأنَهم في حضارتهم فتترف بترفهم، وتَلِين بلينِ عيشهم، حتى كان الأدب يصاب فيهم بالتزايل والاسترخاء، وحتى ولَّدوا في الشعر فنونًا لتؤدِّي من الأغراض اللينة الرخوة ما عسى أن تَثْقُل عليه أوزان الشعر!

ومصر أيضًا، لقد كان لها من عهد شيوع العربية أدبٌ يكافئ عيشها في كل عصر، على أنه وإن كان أدبُها في مبتدأ الأمر لا يكاد يَخْتَلف عنه في قاعدة الخلافة؛ لأن الأدبَ العربي إنما كان فيها شِبه عارية، لا يكاد يعالجه إلا مَن انْحَدَرُوا إليها من الأقطار العربية؛ فإنه على تَطَاوُل الزمن جَعَلَ يَتَأَقْلَم، وما برح يَطَّرِد في هذا حتى أصبح يحمل الطابع المصري الخالص، حتى إن العديد الأكبر مِمَّن هَبطوا مصر من العلماء والشعراء والكُتَّاب في أواسط القرن السابع الهجري، عَقِب سقوط بَغداد في أيدي التتار، لَمْ يَسْتَطِيعوا أن يُحِيلُوا لَوْن الأدب المصري؛ بل لَقَدْ طَبَعَهُم وأَنْسَالَهُمْ بِطَبْعه على الزمان!

دخول الصنعة في الشعر

سيداتي، سادتي

لقد امْتُحِن الشعرُ العربي من العصر العباسي الأول بدخول شيء من الصنعة عليه، وكانت هذه الصنعةُ أولَ الأمر تعتريه في رِفق ولين، وكان أكثر ما يَتَغَشَّاه من ألوان البديع الطباقُ والتقسيم والتجنيس، وكيفما كان الأمر فإن الاحتفال للصنعة في الشعر مِمَّا يُفَتِّر في الترجمة عن صادق الحس، وكُلَّمَا أَمْعَنَ الشاعر في الاحتفال للصنعة ازداد — بالضرورة — التراخي بينه وبين نَفْسه.

ثم ما برح يَطَّرِد هذا الصنيع ويَشِيع في الشعر العربي، إلى أن يَطْلُع في العصر العباسي الثاني فيلسوف الأدباء قاطبةً وأعني به أبا العلاء المعري، يَطْلُع بديوان كامل، ديوان تَضَمَّن أجلَّ ما تنزل عليه من الحكمة، يَنْتَظِم جميع أبياته لونٌ واحد من البديع، وهو لَزُوم ما لا يُلْزَم من إجراء القافية على حرفين أو أكثر!

ولقد شاعت هذه المحنةُ وتَغَلْغَلَتْ، لا في الشعر وحدَه، بل في الشعر والنثر جميعًا، وكان لمصر منها حَظُّها العظيم.

وليس يَتَّسع هذا المقام للحديث في أصحاب البديعيات من الشعراء، ولا في القاضي الفاضل وتلاميذه من الكُتَّاب، وكلُّ ما أستطيع أن أَرِدَه الآن في هذا الباب، أن الأدب كله أَصْبَحَ عَبْدًا للصنعة، يَرْتَصِد للنكتة البديعية، ولا يزال يتحرف باللفظ لإصابتها واقعةً ما وَقَعَتْ بَعْدَ هذا مرامي الكلام، حتى لقد تَرَوْنَ الشاعر يَعْقِد في قصيدته القافيةَ على حرف عزيز كالثاء مثلًا، دَلًّا ومكاثرة، فَيَسْتَخْرج القوافي أولًا، ثم ما يزال يَجِدُّ ويَجْهَدُ في تجنيد الألفاظ لها، وقَسْر الكلام عليها، حتى يصيبها عن طواعية أو استكراه!

وعلى الرغم مِنْ أنَّ مصر قد اسْتَوْفَتْ قِسْطَها من هذا اللون من الأدب، فَقَدْ بَقِيَ فيها الشعر والنثر كلاهما يَحْمِلان طابعها الخاص: حلاوة في اللفظ، ورقة في الغزل، ودِقَّة في وصف مشاهد الطبيعة.

الأدب في عهد الترك

سيداتي، سادتي

لقد كَرَثَ الحكم التركي مصر في كل شيء: في العلم، وفي الفن، وفي الأخلاق، وفي الصناعة، وفي التجارة، وفي سائر وسائل العيش، فأصبح من الطبيعي أن يَتَلَوَّن الأدب، على الزمن، بِلَوْن هذه الحياة، ولو قد ظَلَّ مع هذا على شأنه الأول من القوة وسَعَة التصرف لَمَا كان أدبًا مصريًّا، ولا كان مما يَتَّسِق لأذواق المصريين!

ضَعُفَت مَلَكة العربية، وشاعت التركية على الألسُن، بل على بعض الأقلام، واسْتَأْثَرَتْ بجميع الأسباب الديوانيَّة، ودارَ الشعرُ في أضيق الأغراض من المديح والرثاء والغزل المتكلَّف المصنوع، ونحو هذا مما لا غَناء فيه لِمَطَالب العقل القوي، ولا لحاجات النفس الكريمة، وقد هَزَلَت المعاني، وتَزَايَلَت التراكيب، وقَلَّت العنايةُ باصطفاء اللفظ الشريف.

وما بَرِحَ شأن الأدب على هذا حتى كان الفتحُ الفرنسيُ في مؤخرات القرن الثامن عشر، وتَنَظَّرَت بعض أسباب الحضارة الغربية لخاصة المصريين، ثم أَقْبَلَت النهضات في عهد محمد علي دراكًا في العلوم والصناعات، وخاصةً من هذه ومن هذه ما كان بسبب من المطالب العسكرية.

الأدب في عهد محمد علي

سيداتي، سادتي

لسائل أن يَعْتَرِضني بهذا السؤال: لقد زَعَمْتَ أن الأدب عَرَض يَلْحَق حالَ كل أمة في عَقْلِيَّتِها وأسباب حضارتها، فما بالُ الأدب ظَلَّ على شأنه طَوال عهد محمد علي إلى صدْرٍ كبير من عهد إسماعيل، مع أن البلاد قد تَحَوَّلَتْ حالُها بما أصابت من الفن وما حصَّلت من العلم الحديث؟

وإنني لأجيب سائلي بأن عقليَّات الأمم لا تَتَحَوَّل بمثل هذه السرعة، إلى أن المتعلمين من بني مصر يومئذ كانوا في شُغُل دائم بالوسائل المادية التي كان يريد القائم أن يَخُط بها مُلْكه، إلى أن التركية كانت ما تزال شائعةً على الألسُن، مُنْتَضِحَة على الأقلام، إلى أن مثل هذا العَرَض، أعني به الأدب، لا يُوَاتِي مَعْرُوضه من الساعة الأولى، بل لا بد مِنْ مَرِّ الزمن حتى يَثْبُت الطابع الحديث للعقلية العامة في مَوْضِعه.

على أنني أزعم، بعد ذلك، أن الأدب في هذه الفترة إذا لم يَكُنْ دارَج الحضارة الحديثة، فقد لَمَحَهَا وأصاب منها في بعض الحين.

الأدب في عهد إسماعيل

سيداتي، سادتي

أدركَتْ مصرُ في عصر إسماعيل حظًّا محمودًا من الحضارة، فشاعت فيها العلوم، واستوثَقَ الاتصالُ بينها وبين بلاد الغرب التي كثُر رُوَّادها من المصريين، وانْحَدَرَ العديد الأكبر من الغربيين إلى هذه البلاد سُيَّاحًا ومستوطِنِين، كما نَزَحَتْ إليها طائفة من أعيان الأدباء والكُتَّاب السوريين.

بهذا وبهذا وبذلك جَعَلَت الثقافة العامة تَتَلَوَّن بلون جديد، وجعلت الأقلام تستشرف، بِقَدْر ما، إلى أسباب الحضارة الحديثة، ولا يفوتكم أن المطالب العسكرية في ذلك الحين لَمْ تُصْبِح مما يستغرق هَمَّ القائم، بل لقد انْبَسَطَ منه فضل كبير للآداب والفنون، وكان أول مَن انْبَعَثَ في هذين البابين الصحافةُ الشعبية والتمثيل.

ولقد انْبَعَثَ طَوْعًا لهذه الحال، جماعة من مَشْيخة العلماء في طَلَبِ أدبٍ خيرٍ مِمَّا عانَوا من أدب، فكان أول ما طلبوا مَجْفُوَّات كتب الأدب القديم، واسْتَخْرَجُوا دواوين الفحول من مُتَقَدِّمِي الشعراء، وجعلوا يَتَرَوَّوْن هذا الأدب الجَزْل ويُرَوُّونَه تلاميذهم بالدرس والمحاضرة، وبمجلة «روضة المدارس» التي كانت مجالًا لأبرع الأقلام في ذلك العهد، فاستقامت الملكات، وصَفَت الطبائع، ورَهُفَت الأذواق، وجَرَت فُصَحُ العربية ناصحة على بعض الأقلام من أمثال المرحومين إبراهيم المويلحي وإبراهيم اللقاني من الكُتَّاب، وعبد الله فكري ومحمود سامي البارودي من الشعراء.

إذَنْ لقد جاد الشعر وجاد النثر، أو لقد جادا على ألسُن نَفَر من الشعراء ومن الكُتَّاب، وأشرقت ديباجة البيان، وجرى ماء العربية صَفْوًا، على أن النظم والنثر وإن اشْتَرَكَا في هذا المعنى، فإن النثر كان أوْسَعَ في فنون البيان تَصَرُّفًا، كما كان أَسْبَقَ إلى الإصابة من المعاني التي يَقْتَضِيها عَيْشُ الحضارة الحديث.

مذاهب الأدب واتجاهاته

ولَقَد اطَّرَدَتْ هذه النهضة البيانية في مصر؛ ولكنها لَمْ تَجْرِ كُلُّها في مذهب واحد، ولَمْ تَجْتَمِع على الاتجاه في سَمْت مُعَيَّن، بل لقد كان شَأْنُها شَأْن القنبلة تَنْفَجر فَتَتَطَايَر شَظَايَاهَا إلى اليمين وإلى الشمال وإلى وراء وإلى قُدَّام! فخَلْقٌ من أدبائنا لم يُسَلِّموا قَطُّ بأن الأدب شيء يَعْدُو شِعر امرئ القيس، وعَيْش امرئ القيس فإنْ هم تَطَاوَلُوا إلى الفرزدق وجرير فَمِنْ بعض التطول والإحسان: المركب: الناقة، والمأكل: سنام البعير «كهُدَّاب الدمقس المفتل»، والمورد: النَّبْع أو القَلِيب، والأرض: الموماة، والمنزل: الخيش أو الشَّعَر، وملتقى الأحبة: سِقْط اللَّوى، أما اللفظ فالمنتَقَى المنْتَخَل من كل ما ندَّ عن الطباع، ونَشَزَ على الأسماع!

موقف أبناء الثقافة الغربية منه

وقام بإزاء هؤلاء جماعة من شباننا قد استهلكهم الأدب الغربي، فلا يَرَوْن أدبًا إلا ما قال شكسبير وبيرون وأضرابُهما، وأدَّوا إلينا طريفًا من هذا النظم في لغة ليس منها عربي إلا مفردات الألفاظ، ألفاظ يكاد المرء يشهد ما بينها وبين ما قُسِرَت عليه من المعاني من التصافُع بالأيدي والتراكل بالأرجل، ولولا ما يَرْتَبِطُها من مثل قيد الحديد لَطَار كُلٌّ منها إلى عُشِّه، فخرج لنا من ألوان التعابير ما لا يُرْضِي الذوق الشرقي، ولا يَسْتَرِيح إليه الطبع العربي!

وجعل كذلك جماعةٌ ممن تَعَلَّموا في بلاد الغرب، بنوع خاص، يعالجون في العربية إصابةَ المعاني الطريفة التي لَامَسَهَا حِسُّهُم، وَهَدَتْهُم إليها أسبابُ تفكيرهم، فَعَجَزَت اللغة، أو عَجَزَ على الصحيح عِلْمُهم باللغة عن حق أدائها، فَخَرَجَ لهم الكلام إما غامضًا مبهمًا، وإما عاميًّا أو ما يدنو من العامي.

وبَقِيَ كُتَّاب وبقي شعراء على ما تَحَدَّر إليهم عن آبائهم من صُوَر الأدب: ضِيق في الأغراض، وإسفاف في المعاني، وفُسولة في الألفاظ!

وارتَصَد لهؤلاء أولئك أعناقٌ من النَّقَدَة، خَلَصَ بعضهم لوجه اللغة، وبَعْضُهم تَجَرَّدَ في الطريف، وإن شئنا قُلْنَا في الغريب من المعاني، أولئك لا يَرَوْن في شوقي ولا في حافظ شاعرًا، ولا في المويلحي ولا في الشيخ علي يوسف كاتبًا! وكيف ذلك؟ ذلك بأنه قال: أثَّر عليه، إذِ الصواب: أثَّر فيه، وقال: غير مرة، والصواب: أكثر من مرة! وهؤلاء لا يؤمنون بشاعرية البارودي لأنه لَمْ يَقَعْ في كل شعره على الشَّفق الباكي، ولم يَتَحَدَّثْ قَطُّ عن الموت اللازَوَرْدِي!

على أنه من الإنصاف أن نُقَرِّرَ أن النقد كان له أثره في تقويم الألسن وتَحَرِّي الفصيح من جهة، ثم كان له أثره الحي بعد لأْيٍ، في الاحتفال للمعاني وتَعَمُّد الإصابة من جهة أخرى.

تعريف الأدب اليوم

سيداتي، سادتي

كذلك كانت حالنا من ثلاثين سنة خَلَتْ، بعضُنا يريد أن يُرْضِيَ العقل المحض، وبعضُنا لا يَتَجَرَّد إلا في إرضاء اللفظ المحض، وبعضُنا خَلَبَتْهُ آداب الغرب، وفَتَنَتْهُ تشبيهات شعرائه وكُتَّابه، فهو يتصيَّدها واقعة حيث وَقَعَتْ من ذَوْق الشرق ومن لغة العرب!

كنا إذَنْ من أَمْر الأدب في بَلْبَلَة أو في شِبْه بَلْبَلة، وما لنا لا نكون كذلك ونحن حقُّ مختلفين على ماهية الأدب، مُخْتَلِفِين على ما ينبغي أن يؤديه الأدب؟

ولكن الأستاذ الأعظم، وأعني به الزمن، قد أنشأ يُلْقي علينا من دروسه البليغة ما يُقَصِّر كل يوم من مدى الفُرقة، ويُوَثِّق من أسباب الألفة، حتى اتَّفَقْنَا، أو بِتْنَا على شَرَف من الاتفاق على أن الأدب إنما هو أولًا الأداة الجميلة لمواتاة مطالب العقل والحس والعاطفة جميعًا، وتأدية كل شعورنا بما نَلْمِس من أسباب الحضارة القائمة؛ على أن يُتَرْجِم عن هذا كله لسان عربي ناصح، لا وحشة فيه ولا استعجام.

ولا شك في أن مظهر هذا الخير أجمعه هو الصحافة، فللصحافة بهذا الفضل ندين.

كنوز الأدب القديم

ومن الواقع الذي لا تَلْحَقه الرُّيَب أن العربية القديمة زاخرة بكنوز البلاغة في جميع ألوان المعاني: فلقد مَثَّلَتْ فأبْدَعَتْ في التمثيل، وصَوَّرَتْ فأَوْفَتْ على الغاية من دِقَّةِ التصوير، ولكم تَرْجَمَتْ عن أَعْمَق ما تَدَسَّى في النفس، وعبَّرَت عن أَشَفِّ ما يَتَرَقْرَق به الحس، ولكن لا تنسوا أنه ليس من العدل أن نُجَشِّم هذه اللغة أَنْ تَرْتَصِد — بِظَهْر الغيب — لإصابة كل ما عسى أن يَجِدَّ من الأسباب بعد ألف عام!

إنشاء أدب قومي

إذن لقد أصبح مُهِمُّنا الأعظم اليوم هو استثمار تِلْكُم الثروة الواسعة في تجلية شعورنا، والترجمة عن عواطفنا، والتعبير عن كل ما يلامس حِسَّنا نحن فيما جَلَّ ودَقَّ من أسباب هذه الحياة، وبهذا نصل ماضينا بحاضرنا، وبهذا نُدْرِك ما ينبغي لنا، لا من أدب عربي فحسب، بل من أدب قومي يُطْلِق عليه التاريخ: أدب مصر، وهذا هو الجهد الجبار الذي يعانيه رجالات الأدب في مصر اليوم، وكثير منهم ماثلون في هذا المجلس الكريم.

ولكي أكون مُتَّسِقًا مع نفسي أُقَرِّر أننا لا نحاول أن نخلق لنا أدبًا مصنوعًا؛ بل إننا نتقرَّى هذا الأدب الذي يواتي عقليَّتَنا، ويشاكل إحساسنا، ويُرضي أذواقَنا في هذا العصر الذي نعيش فيه، فنحن بهذا إنما نَرُوض الأدب على حكم الطبع، ولا نَرُوض الطبعَ على حكم الآداب!

التجديد، ما هو؟

ولست أختم هذا الكلامَ دون أن أَلُمَّ بمسألة كانت في هذه الأثناء، ولعلها ما بَرِحَتْ، من شُغل الأدباءِ، وهي مسألة «التجديد».

هنالك معركة مستحِرَّة بين التجديد وأنصاره، وبين القديم وأوليائه، وأرجو أن تصدقوني إذا ادَّعَيْتُ بين أيديكم أنني إلى هذه الساعة لم أَتَبَيَّن وجه الخلاف الحق بين المتناضلين، على أنني أرجو أن نتفق في القريب على أن الأدب أيضًا كائن حي يجب أن يَشِبَّ وينمو ويتطاول إلى ما قُدِّرَ له من كمال، على ألا تتنكَّر صُورَتُه، ولا يَخْرُج عن شَخْصه.

مستقبل الأدب

سيداتي، سادتي

قدَّمْتُ لكم أننا أبناءَ العرب قد تَعَارَفْنَا بَعْد تَنَاكُر، وتَلَاقَيْنَا بعْد تَهَاجُر، واجتمعنا بعد فُرْقة، وتآلفنا بعد طول وَحشة، على أننا لم نَقْنَع بهذا، فلقد كان لاستيثاق الصلات بيننا وبين الغرب أَثَرُه في شدة إقبالنا على أدبه وتَرَوِّينَا منه، وطبع كل ما يَسُوغ طبعه على غِرار أدبنا حتى لَيُمْكِن لهذا العصر أن يُسَجِّل ما أَصَبْنَا سواء في وسائل النقد أو في طرائق التفكير، وإنَّ تعاوُن رجال العلم في بلادنا اليوم مع إخوانهم من الغربيين لعلى هذا من بعض الدليل.

وإنني لأرجو، بفضل أدبائنا العظام وقوة جهودهم، أن يَفْسَح الأدب العربي لنفسه المكان الكريم بين سائر الآداب العالية، لا ليَدُلَّ على نفسه فحسب، بل ليُسَاهِم، بحظ كبير في حركة الفكر، وفي تنعيم الذوق الإنساني في العالم المتحضِّر كله.

١  خطاب ألقاه الكاتب في أول اجتماع لنادي القلم (١٦ ديسمبر سنة ١٩٣٣) ونُشِرَ بجريدتي الأهرام والسياسة في صبيحة اليوم التالي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤