إسماعيل صبري١

رحم الله إسماعيل، وعَوَّضَنَا في أدبه الحلو حُسْنَ العِوَض.

لقد كان مُوَدِّعُ الأمس قِطْعَةً شعرية نَظَمَتْهَا الطبيعة، فأجادت فيها أيما إجادة، وأبدعت أيما إبداع!

جادت به الطبيعة كما تجود بالزهرة المونقة، والنسمة اللينة، والجدول العذب النمير!

ما حَسِبْتُ قط أن صبري تَكَلَّف الشعر يومًا أو شَمَّرَ له، أو جَلَسَ يَتَصَيَّدُ للقريض فنون المعاني، ويَتَخَيَّر لها مشرقات الألفاظ.

هذه الوردة تنفث العطر، وهذا الغمام يجود بالقطر، وهذا صبري ينطق بالشعر!

هذه القَمَارِيُّ يُطْرِبُكَ تنغيمُها وتغريدُها، وهذه بنات الهديل٢ يُشْجِيكَ سجْعُها وترديدُها، أفرأيت واحدة منها تكلفت الغناء، أو أراغت٣ به التطريبَ والإشجاء، أو عمدت إلى تقليب حَلْقِها في ضروب اللحن وأشكاله من خفيف أَهْزَاجِهِ وثقيل أَرْمَالِهِ؟

•••

كُنْتُ أَصْحَبُهُ، رحمة الله عليه، نتمشى في أقطار الجزيرة، نَنْعَمُ برياضها وجداولها، ونتفرج بين أدواحها وخمائلها، حتى إذا امتلأت عينُه من نضير أنوارها، وأنفُهُ من عبير أزهارها، وأذنُهُ من هدير أطيارها، انطلق هو الآخر يتغنى بالبيتين أو الثلاثة من الشعر، وهنالك تَتَشَابَهُ عَلَيَّ صنعة الطبيعة وصنعة الشاعر، فما أدري أأرى زهرًا من الشِّعْر، أم أسمع شِعْرًا من الزهر؟ وكذلك كان ينظم الشعرَ إسماعيلُ!

ينفض عليك إسماعيلُ هذا الشعر فلا ترى أنه جاءك بجديد عليك، وإنما جاءك بشيء متصل بِحِسِّكَ، قائم في قرارة نفسك، وهو لا يعتريك به من مخارج سَمْعِك، وإنما يعتريك به من مداخل طَبْعِك، حتى لَيُخَيَّلُ إليك أنك أنت صاحب هذا القول دونه، فإذا كان له في الأمر فَضْلٌ ففي أنه عَرَفَ كيف يَتَدَسَّس إلى أطواء قَلْبِكَ، فيجلو عليك ما أعيا تصويرُه على بيانك.

اللهم إن جُهْد شعر الشاعر أن يحرك في الناس ألوانَ العواطف، أما شِعْرُ هذا الرجل فإنه في ذاته عواطف تَعْتَلِجُ في السطور، كما تَعْتَلِجُ العواطفُ في الصدور، وإنه لَيُشْعِرُكَ بما يجول فيه من رقة ورحمة، وبُرْحَة هَوًى، وحُرْقة جَوًى حتى لَيَكَادُ يُرِيكَ دمعة الثاكل، ويُسْمِعُكَ أَنَّةَ المجروح!

فيا لله! ما أروع هذا الذي يقبض بيده على العواطف المترقرقة في الصدور، ثم يَصُوغُهَا شِعرًا يقرؤه الناس!

•••

وبَعْد، فإذا تسلل شِعْر صبري إلى حَبَّة قلبك، ومَلَكَ عليك مَنَازِع نَفْسِك، وأَشْعَرَكَ من صُوَر الجمال ما لا يُشْعِرُكَ كلام الناس، فلا تقل: أجاد صبري، ولكن قل: تبارك الله أحسنُ الخالقين!

١  نُشِرَتْ في جريدة السياسة بعنوان «ليالي رمضان» في مايو سنة ١٩٢٣ عقب وفاة المرحوم إسماعيل باشا صبري، وقد زاد فيها الكاتب في مجموعته بعد ذلك.
٢  بنات الهديل: الحمام.
٣  أراغ الشيءَ: أرادَهُ وطَلَبَهُ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤