الطفل مَلِك صغير

بل هو مَلِك كبير، بل هو أعظم الملوك شأنًا، وأقواهم سُلْطانًا، مملكته منيعة لا تُقْلِقُها جارة، ولا يُزْعِجُها عدوٌّ بغارة، وهو مُطْلَق الأمر في حكمه لا يقيده قيد، ولا يُحِدُّ من سلطانه حد، ولا تَشْرَكُهُ في تصريف الأمر يد، ولا يقوم بإزاء أَيْده قوة ولا أَيْد،١ نافذٌ حُكْمُه كيف حكم، مُتَقَبَّل قضاؤه مهما ظَلَم، لا مُعَقِّب لمراده، ولا مُرَاجِع له في إصداره ولا إيراده، يأمر فلا يَرَى إلا مطيعًا، ما يُجَشَّم في أمره قولًا ولا توقيعًا، ففي إشارته الكفاية، وبالإيماءة يبلغ الغاية، فإذا هو تَكَبَّر على الإشارة، وتعالى على الإيماءة، أسْرَعَت الرعية٢ إلى تَفَقُّد مبتغاه، وتَحَسُّس معناه،٣ ثم بادَرَتْ بالتلبية طيِّبَة النفس، فَرِحَة القلب، قريرة العين!

•••

كل شيء له، وكل ما وقَعَتْ عليه عينه فهو داخل في ملْكه، ما يَحُوز أَحَدٌ دُونَه شيئًا، ولا يملك أَمْرٌ عليه أمرًا، وإذا أَمَرَ فَقَدْ وَجَبَت الطاعة، في التو والساعة، مهما جَلَّ المرام، وتَعَذَّرَ حتى على الرُّؤَى والأحلام، أين منه سليمان في مرامه، وقد تَعَاظَمَهُ انتظار عَرْش بلقيس قبْل أن يَقُوم مِنْ مَقَامِه؟!

ناعم في ملكه غير مُعَنًّى بجهد في تدبير، ولا مكدود بعبء كبير ولا صغير.

•••

هو كَأَهْل الجنة، لا يخاف وناهيكَ بما يورث الخوفُ من الأسقام.

ولا يرجو وناهيك بما يُعْقِبُ فَوْتُ الرجاء من الآلام، ولا يحزن ولا يأسى، ولا يَجْزَع ولا يشقى، وما له يَفْعَلُ وقد كفل الأمان، من صرف الزمان؟!

هو دائمًا في أمان أيِّ أمان، أليست ترعاه العيون، وتحوطه القلوب، ويحْرُسُه «اسم الله»؟ ومَنْ يَحْرُسه اسمُ الله لا يناله بالأذى إنس ولا جانٌّ.

•••

يفعل ما يشاء، فلا يَرْقَى إليه حساب، ولا يتأثَّم من شيء فهل يَلْحَقُه عاب؟ كلا فقد عزَّ على الشك وعلا على الارتياب!

•••

يُسَرُّ فتُسَرُّ الدنيا، ويمرح فتمرح، كل شيء رَهنٌ به، وكل شيء حَبْس عليه، ينام فتَخْفِتُ الأصوات، وتتعلق الأنفاس، ويستيقظ فيَهُبُّ النائم، وينبعث الجاثم، فكل إنسان له عبد وكل شيء له خادم!

•••

وجْهُه ولو شاهَ أَجْمَلُ وجه، وخَلْقُه وإن تَنَكَّر أَحْسَنُ خَلْق، طِلْعَتُهُ أبهى من البدر، ورِيحُهُ أزكى من العطر، وإقبالُهُ أسعد من إقبال الدهر، كأنما صُوِّرَ من نفس مَنْ ينظر إليه، وكأنما صُبَّ من قَلْبِ من يحنو عليه، وأيُّ الناس لا يحنو عليه؟

أما صَوْتُه في لغوه، فأحلى من صوت الهَزَار في زجله وشَدْوِه، إذا تَبَسَّم فكأنما أشرق من الروضة آسُها، وإذا لغا فكأنما تَرَنَّم من الحُلِيِّ وَسْوَاسُهَا.

•••

هو نفسه للرعية، أَعْظَم متاع وأكْبَر أمنيَّة، مُحَبَّب أحْسَنَ أم أساءَ، وهو مَعْقِد الرجاء أنَّى ذَهَبَ وأنى جاء.

هو مَلِك كبير، أما عَرْشُه فأحنى الصدور، وأما سريره فأوْثَرُ الحجور، وأما سِمَاطُه فممدود، على القلوب تارةً وتارةً على الكبود، وأما في مَرَاحه ومَغْدَاه، فأعز المطايا مطاياه، وتلك لَعَمْري كرامة خصَّه بها الله!

وأما غذاؤه فأصفى ما انتضحت به المُهَجُ،٤ ولو كانت النفوس مما يمكن أن يُرْضَع أفاويق، والأرواح مما يُسْتَطَاع أن يجري فراتًا في مساغ الريق، لآثَرَتْهُ بذاك الرعية، طَيِّبَة النفْس صادقة الأريحية!

•••

أسعدك الله أيها الطفل وأصَحَّكَ ورَشَّدَك، حتى تضطلع بنصيبك من الأعباء، كما اضطلع بعبئك أنت الأمهات والآباء، ما سألوك فيه أجرًا، ولا اقتضوك عليه شكرًا، اللهم آمين.

١  الأيد: القوة.
٢  رَعِيَّتُهُ: أُمُّهُ والقائمون على شأنه
٣  معناه: ما يعنيه ويطلبه.
٤  المهجة: دم القلب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤