إلى أين؟ إلى أين؟١ ألا من قرار؟! …

لست أدري لعمري: فيم أنا الآن؟ تالله ما أراني في شيء أبدًا لأنني لا أشعر بأنني مُجْتَمِع الشمل بهذا «الآن»! ولا أراني شعرْتُ بهذا قَطُّ في طول الحياة!

ما اطَّلَعْتُ على ساعة من ساع الزمن إلا رأيْتُنِي مشغولًا عنها بالانحدار إلى التي تليها، ولا صِرْتُ إلى يوم من الأيام إلا أحْسَسْتُ أن همِّي إلى ما وراءه، ولا أَفضَيْتُ إلى سَنَة من السنين إلَّا كان بالي إلى ما بعدَها وشغلي كان به، فأنا من يوم طالَعْتُ هذه الدنيا لا أجدني إلا على سفر دائم لا لُبْثَة فيه ولا هوادة، ولا مُنَاخ لراحة ولا لِزادٍ، سير في النهار مغذ، وسرى في الليل حَثِيث!

اللهم إني لأبتغي القرار في هذه الدنيا ولو ساعة واحدة أستريح فيها إلى نفسي وأشعر بالسكون معها والاطمئنان!

اللهم إني لأبغي أن أجدَني في مساحة من الزمن، ولو ضاق ما بين حدَّيها، فأستشعر السكون، وأُفَرِّق بين ما كان وبين ما يكون، وأستطيع في كل أثناء هذا الزمان، أن أعرف: فيم أنا الآن!

ولكن كيف لي بهذا ومن ورائي ذلك السائق الخَفِي المرير،٢ ما يلوح لي مَجْثَم٣ إلا بعثني منه، ولا يتراءى لي مَثْوًى إلا أزعجني بسوطه عنه، فأنا بين يديه دائم الجري لا أَحُطُّ رحلًا من سِفار، ولا أَطْمَئِن على طول المدى إلى قرار.

وإني لأرى أنني أنا الذي يَمُرُّ بالأيام وليست الأيام هي التي تَمُرُّ بي، وأنني أنا الذي يطوي السنين وليست السنون هي التي تطويني، وإني لأجد أن شأني مع الزمن لكشأن المسافر في القطار، يخيل إليه أنه ثابت في موضعه وأن ما يجوز به من الأعلام والشخوص إنما هو الذي يجري على خلاف، وعلى هذا لو أُذِنَ لي في الوقوف ولو لحظة واحدة لاستشْعَرْتُ القرار في الدنيا وأحسَسْتُ هذا الذي يَدَّعُونَه «الآن»، ولكني برغمي السائر المغْذِ لا يُنِيخُ راحلة ولا يحط رحلًا، فإذا لم أَنْعَمْ بالاطمئنان إلى الزمان فلا مَلامَة على الزمان!

تُرَى ما حاجتي، أو ما حاجة هذا السائق الخفي الذي لا يني عن دفعي دائمًا إلى الأمام — ترى ما حاجَتُه إلى أن أَحْسُو العمرَ حَسْوًا، فما كُنْتُ في ساعة من الدهر إلا اسْتَشْرَفْتُ لما بعدها، ولا طَلَعَ عَلَيَّ يَوْمٌ من أيام العمر إلا تَشَوَّفْتُ إلى غده، ولا دَخَلَتْ عَلَيَّ سَنَةٌ إلا تَعَجَّلْتُ السَّنَة التي من ورائها، حتى لو تهيأ لي أن تُجْمَع أيامُ عمري في سِجِلٍّ واحد، لَأَسْرَعْتُ إلى تقليب صفحاته حتى آتيَ من فوري على آخرها، وفي آخرها — لو عَلِمْتُ — آخرُ العهد بالحياة!

تُرَى ما خيري أو ما خيرُ هذا السائق المرير في ألَّا يدعني أطمئن في هذه الدنيا لشيء، أو أستريح فيها إلى حال، وما إن اشتَقْتُ إلى شيء فطالَعَتْنِي منه البداية، إلا شَغَلَنِي عنها الاستشراف إلى النهاية، وما إن هَفَتْ نفسي إلى أمر فَهَمَمْتُ بالإصابة من بواكيره، إلا صَرَفَنِي عنها التشوق إلى غاياته ومآخيره، وما حَصَلَ في يدي شيء ما تَقَدَّمَتْ به المُنَى، وجد في طلبه المسعى، إلا أَسْرَعَ إلى نفسي الزُّهْد فيه، والتطاول بالمنى إلى سواه! فأنا من الدنيا ومن ساعاتها كالكُرَة بين مهرة اللُّعَباء، تَظَلُّ تتقاذفها الأيدي ولا تستقر في مَوْضِع أبدًا!

تُرى ما حاجتي إلى تَعَجُّل الساعات في الأيام، وإلى تَعَجُّل الأيام في السنين؟ وترى أية غاية أُرِيدُ أن أَبْلُغَهَا بهذا السفر السريع؟

تالله إني لفي حاجة إلى من يَهْدِيني إلى ما أبغي بهذا وما أريد!

أتُراني أَطْلُب طَيَّ الحياة وأنا كسائر الناس حقُّ حريص على هذه الحياة؟ والله إن «هذا محال في القياس بديع».٤

إذن فما هذه الشهوة المُلِحَّة إلى فناء الأيام، وهذه الشهوة المُلِحَّة إلى بقاء الأيام؟

•••

وبَعْد، فما أُرَاني في هذه الحياة غيرَ قِصَّة خيالية أنا ممثلها، وأنا في الوقت نفسه شاهِدُهَا، فما إن جَدَّ لي منها منظر إلا تَاقَتْ نفسي لِمَا بَعْدَه، ولا حَلَّ منها فَصْلٌ إلا تَعَجَّلْتُ غايَتَهُ والتحول إلى ما وراءه!

وكذلك أفتأ أطلب النهاية حثيثًا حتى تُخْتَم «الرواية»، ولن تُخْتَمَ إلا بتلك المأساة التي تنتهي بها جميع أقاصيص الحياة، غَيْرَ «أن الرواية لم تَتِمَّ فصولًا».٥
١  هذه الكلمة من مذكرات الكاتب الذي أثبتها في سنة ١٩٢٣.
٢  المرير: القوي الشديد.
٣  مَجْثَم الطائر: مَبْرَكه.
٤  هذا عجز بيت لمحمود الوراق الشاعر المتصوف، وصدره: «تعصي الإله وأنت تُظْهِرُ حُبَّهُ».
٥  هذا عجز بيت لأحمد شوقي بك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤