في الطيارة بين ألماظة والدخيلة١

لقد كان بيني وبين صديقي وأستاذي المرحوم محمد بك المويلحي اتفاق وثيق على أنَّ السيارة لَمْ تُصْبِح بَعْدُ مَرْكبًا عاديًا سائغًا يجوز للناس أن يتخذوه في سراح ورواح٢ آمنين، فإذا كُنْتَ ترى في ملاعب «البهلوان» من يمشي على السلك الأرفع، ومن يصارع الوَعْل، ومن يعفر الليثَ الخادر بالسوط، فَصِلْ ركوب السيارة بهذا، فإن كُنْتَ بطلًا فَتَقَدَّمْ إليها في غير حاجة، وإلا تكن فلا يَضْطَرك إليها إلا الضرورة المُلِحَّة من طُول مدًى وضِيق وَقْت، وخَوْف فَوْت ونحو هذا، والضرورات — كما قالوا — تُبِيح المحظورات، وقضى المويلحي رحمه الله على هذا؛ وبَقِيتُ بَعْدَه هذه السنوات الثلاثَ حافظًا لِعَهدِه، قائمًا على ميثاقه، ولَسْتُ أدري بَعد إذ تَرَقْرَقَ في عالم الأرواح: ألَا يزال ثابتًا على رأيه؟ أم تَكَشَّفَ له من مكنون الحقائق ما حرَفَه عنه؟ ومهما يَكُنْ من شيء فَسَنَلْتَقِي في يوم قريب أو بعيد، وحينئذ يتهيأ لنا أن نُعِيد النظر في ذلك الاتفاق!

هذا رأيي، إلى أن أموت على الأقل، في اتخاذ السيارة؛ على أنني لا أفتأ أتخذها على علمي بأن جَانِبَ التلف فيها يَغْلب جَانِبَ السلامة، ولكنها كما زَعَمْتُ الضرورة، وإنني لَأُخَاطِر من شاء على ما يشاء، مِمَّا يدخل في طوقي، إن كان أحدٌ رآني قَطُّ أقرأ في السيارة جريدة، أو أنْقُدُ دراهم، أو أُلْقِي بالًا إلى حديثِ رَدِيف؛ بل إنَّ شأني معه إذا هو أَقْبَل بالحديث عليَّ لَكَشَأن القائل:

وأطيلُ لَحْظَ مُحَدِّثِي ليرى
أنْ قَدْ فَهِمْتُ، وعِنْدَكُمْ عَقْلِي

وكيف لي بهذا وأنا في أعظم شُغْل من رَجَفان القلب وضربانه، ومن عينٍ شائعة بين يدي السائق والترام المقبل من هنا، والسيارة المنطلقة كالسهم من هنا، وهذا الغلام الذي يحجل بين يدي العَجَل من هنا، وهذا الحافي راكب الدراجة يعترض السيارة في تمام سُرْعَتِها، فيُلَوِّح لسائقها بيُسراه ليتلبث حتى يقطع هو (بسلامته) الطريق، وغير هذا من ألوان العذاب الأليم والبلاء المحيق!

أما الساقة فوالله ما أدري ما حَظُّ أكثرهم الكثير في أن يطيروا بك على أديم الأرض طيرًا، وإني لأسأل الرجلَ منهم أن يَتَرَيَّثَ فلا يسمع، وإذا فعل طَوْعًا لرجائي أو لزجري فلثانية أو اثنتين، ثم عاد أَجْرَى وأَسْرَعَ مما كان، وإني لأقول له: يا سَيِّدِي لسْتُ مستعجلًا أمرًا، والله ما أنا ذاهب لإطفاء حريق، ولا لإنقاذ غريق، صدِّقْنِي والله ما أنا ماض لقيادة الجيش في المعركة الحاسمة، ولا أنا مدعوٌّ لتأليف الوزارة، ولا لشراء «النِّمْرة» الرابحة في سباق الدِّرْبي، كل هذا ولا حياة لمن تنادي!

ولقد قُلْتُ لسوَّاقٍ مرَّةً، وقد عنَّاني في هذا الباب أمرُه: أَتَعْلَم يا سيدي أنك بإسراعك هذا ستفقدني مائة جنيه كاملة! فقال لي: وكيف هذا؟ قلْتُ: إني خاطَرْتُ صديقًا على أنَّ مَنْ يَسْبِق مِنَّا إلى الموعد يَدْفَع لصاحبه مائة! فأَشْفَقَ عَلَى مالي، وليت الخنزير لَمْ يَفْعَل، فلقد أقبل علَيَّ ووَلَّى الطريق قفاه، وجَعَلَ يُلْقِي علي محاضرات شائقة في مضَارِّ المراهنات!

وآخر، لقد أسرع بي وأنفي راغم إسراعًا مرعبًا، فسَكَتُّ وأسْلَمْتُ أمري لله، وبَعْد لَأْي، إذ افتَرَقَتْ مَسَالِكُ السبل، الْتَفَتَ إليَّ وقال: أين البيت؟ قلْتُ: أَفَجَادٌّ أَنْتَ في أنك ذاهِبٌ بي إلى البيت؟ قال: طبعًا! قُلْتُ: والله يا أخي لَحَسِبْتُ أنك عَدَلْتَ بي إلى قرافة المجاورين!

•••

هذا حديثي مع السيارة، وهذه علاقتي بها، لعنة الله عليها، أما الطيارة، كان الله لراكبيها، فلم يَلْحَقْنِي ولن يَلْحَقَنِي منها بعون الله أيُّ أذًى، وكيف لها بذاك؟ ولو قد دُعِيتُ إلى رُكُوبِها على أن تُحَلِّق بي إلى موطن إجابة الدعوة، أو تَتَقَرَّى بي مسقط الغُنْم من ليلة القَدْر، فيكون لي ما شاء الله من العافية في النفس والولد، وطول العمر، وسَعة الرزق، ونفوذ الكلمة، وبسطة السلطان؛ لآثرت ما أنا فيه من الجهد على كل تلك العافية!

إذَنْ فأَمْر هذه الطيارة مفروغ منه عندي إلى غاية الزمان إن شاء الله، فإن بدا لولدي أو لِحَفَدَتِي، إن كان يكون لي حفدة، فليفعلوا فلهم زمانهم!

ولكنَّ هناك قَدَرًا يُرْغِمنا ولا نُرْغمه، ويُلْجِمنا ولا نُحْكمه،٣ وإنه لَيدَعُنا نُصَوِّر ونُفَكِّر، ونُدَبِّر ونُقَدِّر، وهو منا ضاحك وبنا مستهزئ! وإنا لنريد اليمين، فإذا هو يطرحنا إلى الشمال، وإنا لنطلب قُدَّام، فإذا هو يَرْكُلُنا٤ إلى وَراء، وكيف لنا بالفرار؛ والهاربُ إنما يتقلب في يد الطالب؟!
صدقني يا سيدي إذا أَكَّدْتُ لك أن العِلْم كُلَّه لَيَضِيق بشأني، وأن مَرْكُوني والمرحوم إديسون، والعالِم أينشتين، وأضرابهم من فحول العلماء والمستكشفين، لأعجز جميعًا عن أن يهتدوا إلى «نظرية» تطيير هذا الكاتب، ألا فليبذلوا الجهد فيما هو أجدى: من إحالة الحصى ذَهَبًا، والهواء حَطَبًا، ومن إطالة العمر إن استطاعوا، ومدافعة الموت إن أطاقوا، والاصطلاء بالثلج، والابتراد بالنار، والمشي على أديم الطيف، واستخراج القُرِّ من وَقْدَة الصيف٥ ليعالجوا ما طاب لهم من هذا، ولِيَعْدلوا عن ذاك، فَقَدْ جَفَّت عنه الأقلام، وطُوِيَتْ من دونه الصحف!

ولقد حَدَّثْتُكَ عن القَدَر، فانظر بعد هذا كيف يَصْنَعُ القَدَر:

لي صديق من شياطين الإنس لا تُعْجِزُه وسيلة، ولا تُعْيى عليه حيلة، لا أدري أي رصفائه من شياطين الجن زَيَّنَ له أن يُطَيِّرَني أنا! والعياذ بالله تعالى، سلام قولًا من رب رحيم، وإليك الحديث:

مِن بِضْع ليالٍ غَشيتُ سامر الأصدقاء، وما إن كِدْتُ أستوي في مجلسي حتى ابْتَدَرَنِي صديقي الأديب الظريف الأستاذ حسني نجيب بهذا الكلام: يا فلان! نسافر معًا في الطيارة إلى الإسكندرية! فلم يَعْدُ الأمرُ عندي أن يكون من إحدى مُزْحَاته، على أنه كَرَّرَ هذا وأعاده، وأعاده وكَرَّرَهُ، حتى لم يَبْقَ فيه فضل لنكتة، فقلْتُ له: ويلك! أجادٌّ أنت؟ فقال: إي والله لا أقول إلا جدًّا، وستكون نزهة جميلة تَظَلُّ تَذْكُرها على الأيام، وجعل يُبْدئ ويُعيد في هذا ودَمِي يَغْلي في عروقي، والغيظ يذهب بي كُلَّ مَذْهَبٍ، حتى كِدْتُ أخرج من جِلْدي، فقلت له: ما الذي أصابك؟ وَيْحَكَ! أسافر في طيارة؟! لَعَمْري لو أَمْكَنْتَنِي من خزائن ركفلر ومن سلطان موسوليني ما فَعَلْتُ! فقال في جد وتصميم: بل تسافر!

ولما رأيته قد أطال في هذا وأفرط، قلْتُ: لن أسافر ألبتة، فإن كان لك من الحول والسلطان ما تستكرهني به على هذا السفر، فاصنع ما أنت صانع! وأمسَكْتُ بعد ذلك عن مراجعته، فلم يسْكُتْ، بل جعل يدخُلُ بنا في تفاصيل السفر، ويقترح ألوان الثياب التي آخذ والتي أَدَعُ! والفندق الذي نتدلى فيه عند مهبطنا الإسكندرية! و… و… و، حتى أضْجَرَني وأَبْرَمَني وطَيَّرَ لُبِّي كُلَّ مُطَيَّر، فَقُمْتُ عن المجلس وأنا لا أكاد أرى ما بَيْنَ يَدَيَّ، غيظًا وحنقًا، ولم يَفُتْهُ أن يشيعني بالتعجل في إعداد العدة واتخاذ الأهبة لأن الوقت قد أزف! فعُدْتُ إلى بيتي وقد جَعَلْتُ على نفسي ألا أَغْشَى سَامِرَ القوم إلا بعد أن يسافر حسني «على الطائر الميمون»!

لم يَرُعْني في ضُحَى اليوم الثاني إلا أن يسألني حسني في «التليفون» عما إذا كُنْتُ قد فَرَغْتُ من إعداد العدة للرحلة الجوية «يا فتاح يا عليم»! وأسأله أن يَكُفَّ عني فلا يَكُفُّ، وأستحلفه أن يَدَعَنِي فلا يَعْطِف ولا يَرِقُّ، وفي المساء عاود المسألةَ في «التليفون» أيضًا، وجَعَلْتُ أُجَادِلُه جِدَال المَغِيظ المهتاج، فلا يَكْرُثُه ذلك ولا يَلْوِيه.

وهنا تكلم القدَر فسكت المقدور، وتزايل الحذَر فوقع المحذور.

تَقِفُون والفَلَك المُحَرَّك دائرٌ
وتُقَدِّرُون فتَضْحَكُ الأقدارُ

فَلَقَدْ أَطْلَقَ عليَّ القدر من كِنانة الغيب ما قَصَفَ عزمي قَصْفًا، ونَسَفَ كل تصميمي نَسْفًا، فلقد كان ولداي الأكبران بنَجْوَةٍ مني يستمعان هذا الحوارَ ولا أراهما، فما إن أطبقْتُ فَمَ «التليفون» حتى تَقَدَّمَا وهَتَفَا معًا:

إذا كُنْتَ يا أبتاه تخاف الطيارة فنحن نركبها بدلًا منها! فَقُلْتُ: لقد قَتَلْتُماني أيها الشقيان كما قَتَلَ خادمُ المتنبي مولاه، سامحكما الله وعفا عنكما، وطلبْتُ الأستاذ حسني من فوري وسألتُه عن ساعة قيام الطائرة وغير هذا من بعض التفصيل، وسرعان ما دعا إلى «التليفون» صديقي المفضال الأستاذ لطفي محمود السكرتير العام لبنك مصر، وهذا أقبَلَ عَلَيَّ بالهناء، فقد كان بين السفر الكرام، وتبين لي بعدُ أنه كان أبْلَغَ المؤتمرين بي أَثَرًا! وهكذا يكون رجال المال، صَنَعَ الله لهم!

كان ذلك عَشِيَّةَ الأربعاء، والسفرُ مَصْبَح الجمعة؛ فيا لها من سِتٍّ وثلاثين ساعة في انتظار البلاء!

جَعَلَ الرُّعبُ يشيع في نفسي، والفَزَعُ يَغْمِزُ على قلبي، وأتلفت بالخاطر في كل مَطْرَح فلا يقع إلا على وَيل، أما الرجاء في السلامة فقد سَكَنَ صياحُه، وانطفأ مصباحُه.

يا رَبَّاه! كل يوم وفي كل ساعة تُحَلِّق الطيارات حتى تكاد تَحُكُّ قَرْنَ الشمس وتصُكُّ وجْه القمر، فتغدو سالمة، وتعود غانمة، فلماذا لا يجري القدَرُ إلا على طيارتي أنا؟! لَمْ تُسْعِدْنِي كل هذه الأمثال ولو بمزقة من ظل الرجاء، وأخيرًا تَهَدَّيْتُ إلى حَلٍّ ظَهَرَ لي بادئَ الرأي مُحْكمًا بديعًا، ذلك بأنه إذا كان ولا بُدَّ من سقطة، فأقصى جهدها أَلْفُ متر، فماذا عليَّ لو أدَّيْتُها مُقَدَّمًا، فأتسلف السلامة في تلك الرحلة «العزيزة»! وما عليَّ إلا أن أَثِبَ من سريري إلى الأرض أَلْفًا وخمسمائة مرة زيادة في الاحتياط، وبذلك نُبرئ الذمة من الآن.

وفيما أنا أتهيأ لهذا تنبهت فُجاءة إلى أن «بنك» الطيران لم يُدْخِل بَعْدُ في أعماله نظام المعاملة بالتقسيط! فسُقِطَ في يدي، وتركْتُ الوهم يسري بين حنايا الضلوع مسراه، وفَوَّضْتُ أمري كله إلى الله، فبيده البسْطُ والقبض، وعن أَمْرِهِ الرفع والخفض؛ ولا بد مما ليس منه بُدٌّ.

ويطول عليَّ الانتظار من مساء الأربعاء إلى صُبْح الجمعة «والوقوع في البلاء خَيْر من انتظاره» كما يقولون، وكان يُسَلِّي عني الفينةَ بَعْد الفينة «تليفونات» أتلقاها من أصحابي سائلين عن الخبر كأنه حَدَثَ في البلد حَدَثٌ، وأُجِيبُهُمْ بالتأكيد، وهُمْ بَيْن مُصَدِّق وبَيْن مُكَذِّب، وبَيْن مُشَجِّع وبَيْن مُخَذِّل، وتُتَطَارَحُ المفاكهات مِن هنا ومِن هنا، وكلها حَوْل أنَّ عبد العزيز يطير!

على أنها الأيام قد صِرْنَ كُلُّها
عجائب حتى ليس فيها عجائب

يَوْم الطيران

وأَهُبُّ من نومي في بعض الساعة الخامسة من صباح يوم الجمعة، وجَعَلَتْ ظلالُ الأحلام تتقلص رويدًا رويدًا، والذاكرة تنصقل رويدًا رويدًا، وجعلت الذكريات تتوارد تِبَاعًا، وإذا من بينها أنني بعد ثلاث ساعات أطير! ورُحْتُ أَجُسُّ أطواء نفسي، وأَتَقَرَّى مداخل حسي، فإذا أنا كُلُّ وادِع وكُلُّ مطمئن، ومضيت أبحث عن الوهم فلا أجده، وأتحسس الفزع في منابته فلا أصيبه! فَلَوْ وَفَدَا علَيَّ ولو ساعة! فقَدْ أَلِفْتُهُمَا وطال الإلْفُ، وحالَفْتُهما فاستوثق بيننا الحِلْف، وإني في هذا لَحَقِيق بقول المتنبي:

خُلِقْتُ أَلُوفًا لو رَجَعْتُ إلى الصبا
لَفَارَقْتُ شيبي مُوْجَعَ القَلْبِ بَاكِيَا

ونهضْتُ خفيفًا، فأصلَحْتُ من شأني، ورَزَمْتُ متاعي، ورأيت أنه ما زال بيْنَ يَدَيَّ مِنْ فَضْل الوقت ما يتَّسِع لرياضة الصباح، وهي تستهلك الساعة وبعض الساعة، وطلع عليَّ حسني لموعده، فمضينا على اسم الله إلى المطار، وهو طولَ الطريق يُزَيِّن لي هذه الرحلة ويُبْهِجُها لنفسي، وما به — شهد الله — إلا الخوف من أن يُفْلِتَهُ صَيْدُه، فهو إنما يُلْقِي الحَبَّ للطائر، ويتراءى بالحَمَل لليث الخادر!

ولما رأيتُهُ قد أَسْرَفَ في هذا أَقْبَلْتُ عليه وقلْتُ له: يا سيدي؛ دُونَ هذا ويَنْفُقُ الحمار! خَفِّضْ عليك، فإني طائر طائر! سواء أكانت الرحلةُ جميلةٌ أم زِفْتًا وقطرانًا، وسواء وَصَلْنَا سالمين إلى الإسكندرية أم صِرْنَا إلى الدار الآخرة، فالمسألة أَصْبَحَتْ مسألةَ كرامة، لا أَضْحَكَ الله أولادي مني، ولا عَبَثَ بسيرتي أصحابي، فرأيته يعَالِجُ حقن الغيظ، ويجهد في هذا جهدًا شديدًا، لأنني تَوَسَّمْتُ فيه من أول ما دعاني لهذه الداهية أمرًا، فبيننا ثأر قديم!

وأمسكنا كلانا عن الحديث حتى بَلَغْنَا المطار، وهناك اسْتَقْبَلَنَا الشابُّ الكفء الجليل القدْرِ، والفاضل ابن الفاضل الأستاذ كمال علوي المدير العام لشركة مصر للطيران، ورفعونا أولًا إلى الميزان، فخرجْتُ والعصا في يدي بخمسة وخمسين كيلو، والحمد لله على القِلَّة، فهي كثيرًا ما تُخَفِّف من كُلْفَة وتَعْصِم من ذلة.

ثم مَضَوْا بنا إلى الطيارة، وكانت أَوَّلَ طيارة رأيْتُها في حياتي من كثب، فصَفُّوا الرَّكْب بجوارها، والتقط المدير بيده صورتهم الشمسية، ثم دُعِينَا إلى الصعود، وأجلسوني وحسني أيضًا في الصف الأول مما يلي مجلِسَ السائق، وجلس في الصف الثاني الأستاذان لطفي محمود، وكمال علوي، ومن ورائهما ثلاثة من الإنجليز، وبَقِيَ في الطيارة مكانٌ واحدٌ خاليًا.

وأطلق السائق التيار فَدَار المُحَرِّك بُرْهَة تزيد على الدقيقة، والطيارة ثابتة في موضعها، ثم بعثها فزحفت على الأرض زحفًا رفيقًا، ثم استحال جَرْيًا، وظَلَّتْ تدور على اليَبَس، ولما طال ذلك منها قُلْتُ لصاحبي؛ لعلنا نبْلُغ الإسكندرية على هذه الحال برًّا؟ أفتراها إذَنْ سيارة، أَفْرَغُوا عليها هيكل طيارة؟ فضحك صاحبي وقال: أيُّ أرض؟ لأنت والله على جناح الريح، فالْتَفَتُّ وحقَّقْتُ النظرَ فإذا أنا حقًّا قد صِرْتُ بين الأرض والسماء من حيث لَمْ أَشْعُر!

ولقد كان يُخَيَّل إليَّ أن الطيارة ثابتة في موضعها من الجو، لولا أنني كلما تَشَرَّفْتُ من النافذة رأيت البيوت تصغُرُ وتدق، حتى إذا جُزْنا بِحَيِّنَا في حلمية الزيتون بانَتْ لي المنازل في أحجام الرجام، ففسد عليَّ كل ما أَعْدَدْتُ لملاعبة أولادي، وقد واعدوني أن يُطَالِعُونَا من سَطْح الدار.

ونسيت أن أقول لك إنني حينما دُعِيت إلى ظهور٦ الطيارة، تَفَقَّدْتُ شيئًا مهمًّا جدًّا، وخاصة في هذه الرحلة فَلَمْ أَجِدْه، وكيف لي بإصابة ما لم يكن، ووجْدَان ما لَمْ يَخْرُج بَعْدُ إلى الوجود، ذلك بأنني تَعَوَّدْت إذا ركبت القطار أو السيارة أن أَقْرَأَ حِزْب البَرِّ، فإذا عَلْوُت السفينَ قَرَأْتُ حِزْبَ البَحْر، فمن لي اليومَ بحزب الهواء؟ لقد اشْتَدَّ وجدي لهذا وكظَّ الهَمُّ صدري حتى كان يُفَرِّق أضلاعي!
يا قوم: لا أسألكم أن تَصْنَعوا لنا سيارة تنهب الأرض نَهْبًا، ولا طيارة تطوي الجوَّ طيًّا، فلقد وفَّرَ الغرب عليكم هذا وكفاكم المئونة فيه، ولكنني أسألكم أن تؤلفوا لنا حِزْبًا للهواء، نستعصم ببركته كلما عَرَجَتْ٧ بنا الطيارة إلى السماء!

شعور

فإذا طَلَبْتَ شعوري من ساعة استويت إلى مجلسي في الطيارة، فذلك مما يُعْيِي تصويرُه على القلم: خَطْرَة خوف وَوَهَلْ٨ مرَّتْ كإيماضة البرق، أو كما قال البحتري: «خطرة البرق بدا ثم اضمحل»، وسُرْعَان ما أحسست لونًا من شُرود في الذهن يَسِيرٍ لم يَقْطَع ما بيْني وبَيْن ما حَوْلِي، فإني لأرى الأرض، وأَفْرِق بَيْن أخضرها ويابسها، مساكِنِها وخلائِها، وأرى التُّرع في اختلاجها وتأودها،٩ فإذا أقبل علَيَّ أحد بالحديث تَفَهَّمْتُ ما يقول، على أن ذلك كان يجشمني شيئًا من حَدِّ١٠ الذهن، ولقد أُجِيبُ عَمَّا أُسْأَلُ عنه في غَيْر تَتَعْتُع، إلا أنني كُنْتُ أُوجِزُ القول ولا أُطِيلُ، لأن ذهني لم يَكُن أكْثَرُه بمَلْكِي فإن شيئًا قويًّا لَيُنَازِعُنِي نِزَاعًا عليه!

فإذا عُدْتُ إلى نفسي، فَرَدَدْتُ طَرْفِي إلى جَوْف الطيارة، أو أَغْمَضْتُ عيني، وانْقَطَعَ ما بيني وبيْنَ سواي، لا أعود أَشْعُر بشيء، أو أنني أَشْعُر شعورًا غامضًا مُبْهَمًا، لا هو بالخوف ولا هو بالأمن، ولا هو بالرجاء ولا باليأس، ولا هو بالسرور ولا بالحزن، ولا هو بالتفكير في النفس أو الولد أو أي شيء من تلك الأسباب التي كُنْتُ مِنْ قَبْلُ أَقْدُرُ دَوَرَانَ الفكر فيها، ونُزُوعَ الهم كُلِّه إليها، بل إنني في هذه الحال، لا أُفَكِّر في أنني على جَنَاح الريح، وعلى الجملة لقد كان شعوري في تلك الساعة أَشْبَه ما يكون بشُعور الرجل تَهَيَّأَ للنوم ولَمَّا يَزَل على جناح السِّنَة، هذا شعوري أَدَّيْتُه إليك بِقَدْر ما واتاني القلم.

ويتركني صحبي على هذا فترة لا أدري: أطويلة هي أم قصيرة، إلى أن بعثني حسني، حسني أيضًا، بحديث «الغراب»، فَعَرَفْتُ أن كنانة الخبيث ما بَرِحَتْ حافلة بالسهام؛ وكان السهم هذه المرة أمضاها ظُبة١١ وأصلبها مكسرًا، فاسمع يا سيدي لا أَسْمَعَكَ الله حديث «الغراب»، وخاصة إذا كُنْتَ مُعَلَّقًا بين التراب والسحاب.

يا غراب

«فلان» الغراب، وهذا لَقَبُهُ، وهو يَتَكَسَّبُ من الترسل١٢ في القهوة التي نجلس إليها، ولقد عُقِدَ الشؤم كله والنحس أَجْمَعُهُ بغرته «السوداء»، حتى لو قُلْتَ له: يا غراب علَيَّ بكوب ماء، لم يَلْبَثْ أن يعود إليك بأن شركة المياه قد أفلست، فَهَدَّمَتْ أبْنِيَتَهَا، وسدَّتْ أقنيتها، وباعت عُدَدَها وآلاتها «خردة» وتَحَمَّلَتْ عن هذه البلاد بسلام! ولقد تقول له: يا غراب! اطْلُبْ داري في «التليفون» واسأل: هل زارني أحد؟ فيعود إليك بأنه لم يزرك إلا مُحْضران وثلاثة من الغرماء، وصاحب البيت في طلب الكراء!

– فهل طلبني أحد في «التليفون» يا غراب؟

– لم يطلبك يا سيدي إلا النيابة، والقصر العيني، والإسعاف!

– إذَنْ فامض إلى جريدة الأهرام، وإليك «نمرة» جلوس ولدي، واسأل: هل نَجَحَ في امتحان الشهادة الابتدائية؟

– سقط يا سيدي، وأغلب الظن أن ليس له مُلْحَق!

– أرجو منك يا غراب أن تراجِعَ لي هذه «النمرة» في كشف سباق الدربي.

– يا خسارة يا سيدي! لقد كان بينها وبين «النمرة» التي رَبِحَت الجائزة الكبرى رقم واحد!

وهكذا، أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ، صدق الله العظيم.

وأنا رجل شَدِيد التطير، يزعجني ما دون «نفحات» الغراب بنسبة وأصحابي يعرفون شدة ذعري من هذا الغراب، ويتقصون حوادثي التي لا تنقضي معه.

على أن مِنْ أَشَدِّ ما يدهشني حتى يكاد يذهب بِلُبِّي، وَلَعٌ في هذا الغراب شديد بألا يَأْذَنَ لِوَجْهِهِ الكريم بمفارقة طَرْفِي لحظة واحدة، ولو جَلَسْتُ ثمة عَشْرَ ساعاتٍ متواليات، اللهم إلا أن تكون القوةُ القاهرةُ، فأنى جَلَسْتُ وقف بإزائي، وإني لأجَوِّل طَرْفِي إلى الشرق فسرعان ما يُشَرِّق وجهُ الغراب، فأردُّه إلى الغرب فيُغَرِّب، وأتحوَّل من ناحية إلى ناحية، فيتمثل لطرفي في أقلَّ من الثانية، ولما حَزَبَنِي هذا الأمر رُحْتُ أطْلُبُ الفداء، وألتمس البُرْءَ من هذا الداء، فدَعَوْتُ به وقُلْتُ له: يا غراب! هل تَقْبَلُنِي «مشتركًا» عِنْدَكَ؟ فقال: وكيف ذاك؟ قُلْتُ: بألا تريني وَجْهَك في مُقَابِل «اشتراك» شهري قَدْرُه كذا، وعلى هذا تم الاتفاق، وإنَّ بلائي من «قومبانية» المياه وأختها «قومبانية» النور لأهْوَنُ من ويلي من الغراب، فهاتان لقد يُنْبِئَاني إذا تأخَّرْتُ عن الدفع اليومين أو الثلاثة، ثم يُحْبَسُ الماءُ، أو يُقْطَعُ تيار الكهرباء، أما «قومبانية» الغراب فالبدار بإرسال «الاشتراك» البدار، وإلا أطْلَقَتْ عليك التيار، من غير سابقة تنبيه ولا إنذار!

•••

وبعدَ إذ تَشَرَّفْتُ بتقديم هذه الشخصية الفذة إلى حَضَرَات القراء، لم يَرُعْنِي وأنا في تلك الغفلة اللينة إلا أن يَهْتِف حسني بأعلى صوته: يا غراب! وكان بيننا وبيْن الأرض ما يُنَيِّفُ على ستمائة متر فقط؛ فمقياس الطيارة أمامي، والْتَفَتَ إلَيَّ وقال: ألا تَعْرِف أنَّنِي جئتُ بالغراب ودَسَسْتُه في مؤخَّر الطيارة، وسيَثِب إلينا الآن، وهذا الكرسيُّ الخالي له؟ فقُلْتُ: أَتَجِدُّ يرحمك الله؟ قال: بل يرحَمُكَ أنت! وأطلقها الخبيث في تَشَفٍّ وشماتة، ونهض يجيء بالغراب، ووالذي نفسي بيده ما شَكَكْتُ قَطُّ في أنه قَدْ فعل، فصاحبي حاذق مدبِّر فاجر! فجمَعْتُ شملي، وحددت شجاعتي، وقُلْتُ في أتم وداعة واطمئنان: اسمع يا هذا! إن كُنْتَ فَعَلْتَ فقد والله أحسنت كُلَّ الإحسان، لأنني إن بَلَغْتُ سالمًا فقد نَجَوْتُ من الغراب والطيارة معًا؛ ومَنْ نَجَا مِنْ هذين فَقَدْ أَمِنَ أحداث الزمان في طول الزمان، وإن هَلَكْتُ، وكُلُّ امرئ هالك، فقد أَنْقَذْتُ العالَم من الغراب، فأنا إذَنْ مُخَلِّص هذا الزمان، وهذا مقام تتقطع دونه علائق الآمال! فضحك حتى تبادر دَمْعُهُ وعَرَفْتُ أن حِقْدَهُ علَيَّ لَمْ يَبْلُغْ هذا المدى، وإن كُنْتُ لا أخفي على القارئ أن مُجَرَّدَ ذِكْرِ الغراب، ونحن على هذه الحال، خطر لا يَتَهَاوَنُ شَأْنَهُ إلا المخاطرون!

بَعْدَ هذا تركني وكفاني عَبَثَه، فَرَجَعْت إلى نفسي فإذا كلي حاضر: إدراك تام، وشعور وافٍ، ونفس وادعة، وعصب مطمئن، وطَرْف أُوَجِّهْهُ حيث أشاء، فيعود إلي بألوان الصور كاملة واضحة، وكأن الفزع من رؤية الغراب، ذهب بالفزع من ركوب الطيارة، وهكذا تداوينا من الفزع بالفزع، وصح فينا قول الأعشى:

وأخرى تَدَاوَيْتُ منها بها

وقول أبي نُواس:

وداوِنِي بالتي كانت هي الداءُ

وتلك عندي يدٌ للغراب لا أنساها له على تطاوُل الأيام!

على أن شيئًا واحدًا حَيَّر حسي، وأدخل عليَّ الشكَّ في صحة إدراكي: ذلك بأنني ما شَعَرْتُ قَطُّ بأن الطيارة هي التي تسير، بل إنني لا أراها إلا ثابتةً لا يَتَحَرَّكُ منها إلا المحرك، ولكنني أنظر إلى المقياس فإذا هو يُحَدِّث أنها تجري في سرعة سبعين ومائة كيلو متر في الساعة، ثم ثمانين ومائة، ثم تسعين ومائة! ثم أُرْخِي نظري إلى الأرض، فإذا هي التي تدور في اتجاهنا، ولكن في تَثَاقُلٍ وشدة هوادة، حتى يُخَيَّل إليَّ أن ما نَقْطَعُهُ منها أو ما تقطعه هي منا لا يُدْرِك كيلو واحدًا في الساعة!

ثم عَلَوْنا وعَلَوْنا، فأشار صاحبي إلى قطار من قُطُر «السكة الحديد»، فإذا هو في لُطْف جِرْمِه، ودقة حَجْمه، لا يَكْبُر هذه القُطُرَ التي يَتَلَعَّبُ بها أبناؤنا الصغار!

أما الأرض فكان مرآها عَجَبًا من العَجَبِ: هذه رقاع سندسية خضراء، لا تزيد مساحتها على متر في متر، يَفْرِق بينها فراغ أدكن طويل في مثل عرض الأصبع، هذه هي الترع، أو السكك الرئيسية، وتلك هي «الغيطان»، وكلما أَمْعَنَّا في الارتفاع ازدادت هذه كلها دقة ولطفًا، حتى لقد خُيِّل إلي في بعض الوقت أننا إنما نتشرف على خريطة جغرافية كبيرة، لا على هذه الأرض، ذات الطول والعرض!

ولقد جزنا بالنيل مَرَّتَيْن، ولقد أَذْكُر أنه بانت لنا جزيرة صغيرة في وَسَطه، وحَسِبْتُ أنني أستطيع أن أَتَنَاوَلَهَا من الشاطئ بخطوة واحدة، وأتناول الشاطئ الآخر بالأخرى! إيه! ما أصْغَرَ هذه الأرض في عيوننا، وما أَهْوَنَهَا على أنفسنا نحن مَعْشَرَ سُكَّان السماء!

ما أحلى مَنْظَرَ هذه الأرض وما أبدعه من عند السماء! هي رقعة شطرنج جميلة، إلا أنه لا يُمِلُّكَ منها اتساقُ التقسيم ولا تَشَابُهُ الأجزاء، ولا هي تَقْتَصِر في تَلَوُّنِها على البياض والسواد: هذه رقعة خضراء مربعة، وهذه أخرى تستوي في مثلث غير مستوي السوق، وهذه رقعة مستطيلة تحسبها فُرِشَتْ «ببركيه» جديد لم تَمَسَّه بعْدُ يَدُ الصِّقال، وهذا إطار جميل يَعْتَدل ثم يتثنى، ويستقيم ثم يَتَلَوَّى.

وما برحنا في شُغُل من تقليب النظر في هذه الطبيعة، وكأننا جَالِسُون في أحد رَوَاشن الدُّور، تجوز من دوننا مظاهر الابتهاج والسرور!

ولعلك الآن مستشرف إلى مطالعة شعوري في هذه الساعة، وإني لمباديك به غير متزيد ولا غال: كُنْتُ أَسْتَمْتِع بمثل نعيم الجنة لم يَلْقَنِي في طريقها موت، ولم يُعَنِّنِي في سبيلها حساب!

وإن شِئْتَ وصفًا يتصل بأحاسيس هذه الدنيا، فليس عندي ما أجلو عليك من فنون التشبيه إلا أن أحيلك على الحلم اللذيذ في النومِ المطمئنِّ الهنيء، تتوافى لك فيه أسباب المنى وما في يديك منها كثير ولا قليل!

ثم دخلنا في الصحراء، وكلها شيء واحد لا يرجع إليك طول النظر فيه إلا بالضجر والملال، فجعلنا نتشاغل بالحديث وبالقراءة بعضَ الحين، وعاد حسني، وحسني دائمًا، فقال لي: أَتُحِبُّ أن أشير على السائق بأن يعمل «شوية شقلباظ!» فتتمتع بهذا اللون من الطيران قبل النزول؟ فشَخَصْتُ إلى الأستاذ علوي، وفي عيني ما لا يَخْفَى من سؤال وضراعة، فَتَجَمَّع في كرسيه، وقال في جد لا أثر فيه للعبث: لكما يا صاحبَيَّ أن تمزحا ما طاب لكما المزاح، وإني لأدخل معكما في بعض هذا كيفما شئتما، ولكن لا سبيل إلى مُزاح مع طيارة ولا مع طَيَّار! فتحولْتُ إلى الشقي، وقد قُلِّمَتْ أظافره، وقُلْتُ له في لهجة الظاهر١٣ المنتصر: «طَيِّب انْبَط بَقَهْ!»

وتراءت لنا من بعيد صَفْحَة البحر، فتداخَلَنِي كثير من الهم معه يسير من الفزع، أما الهم فلأن هذه الرحلة البديعة قد آذَنَتْ بانتهاء، وأما الفزع فَلِمَا كُنْتُ أَعْلَم من أن الطيارة تَتَرَجَّح في مهبطها حتى لتستوي في بعض الحين على جنبها، وعلى هذا تمكنْتُ في مجلسي، وشددت بيدي على حافة كرسي حسني، ولبثْتُ أنتظر، وأنشأت الطيارة تتدلى، ولولا أنني أرى عقرب المقياس يتدلى ما شَعَرْتُ أن الطيارة تتهابط، ومال عَلَيَّ حسني وقال: لا يَرُعْكَ أن الطيارة ستميل ميلًا شديدًا عند مَهْبِطِهَا، وهذا ما لا بد منه لنزولها، فقلت: فَلْتَمِلْ كيف شاءت، فليس بيننا وبين الأرض إلا مائة متر أو دون، وحدثْتُك أنني كُنْتُ قد جَمَعْتُ شملي للتحرف لهذا المَيْل؛ على أنه لم يَرُعْني، وأنا في فترة هذا الانتظار، إلا أن يَهْتِف بنا من الركب هاتف: أن تفضلوا! وأنظر فإذا نحن على الأرض، وإذا الباب يُفْتَح، وإذا الرَّكْب يَتَدَلَّى!

وتسألني في النهاية، كم مرة أَطْلَقْتَ نظرك إلى يد السائق! فأقسم لك أنني ما أَرْخَيْتُ إليه طرفي قط ولا مرة واحدة، ولماذا أفعل؟ والطريق مُعَبَّدَة، ليس على عِذَارها طوار، ولا عَمَد للترام، ولا «مزلقان» لسكة حديد، ولا نحن على سيف١٤ نهر، ولا بمقْتَرَب من سيارة يقودها بعض «الوارثين»، وليس على سِكَّتِنَا غلمان لا يحلو لهم الحَجَلان إلا في بهرة الطريق، ولا «دُغُف» لا تطيب له قراءة الجريدة إلا وهو ساعٍ على قدميه في الساعة الخامسة من يوم الأحد في وسط مُلْتَقَى شارع فؤاد بشارع عماد الدين، ولا، ولا، من هذا البلاء الذي يأخذ جميع المذاهب على ركاب السيارات!

نعم، لقد رَجَفَتْ بنا الطيارة في أثناء الطريق بضع رَجَفَات لا تزيد في مدتها، ولا في خفقاتها على اختلاجة الجفن، بحيث لو كان المرء مشغولًا بحديث أو قراءة، فإنه لا يشعر بها أو لا يكاد، وقيل لي: إن هذه إنما تجيء عند اختلاف المناطق، كالخروج من اليابس إلى الماء، أو الدخول من أحدهما إلى الصحراء، على أن الطيارة لو ارتفعت فوقَ ما ارتفعنا قليلًا لما كانت هذه الخَلَجات لعلوِّها على تيارات الهواء.

•••

ولست أكتم سيدي القارئ أنني ذُعِرْتُ في هذه الرحلة ذعرًا شديدًا كاد يجيء على نفسي: ذلك بأننا بعد أن وصَلْنا بسلامة الله، أخذْنا من فَوْرِنا سيارة إلى النُّزُل، فَلَبِثْنَا هناك إلى ما بعد الظهر، ثم بدا لنا أن نَتَغَذَّى في مطعم الشاطبي، وما كدنا نصل إلى رأس السُّلم حتى أشار لي صديقي حسني إلى ناحية السماء، فإذا طيارة تحلق في الجو، وقال لي: إنها التي كنا فيها، وهي الآن في مَقْفَلِها إلى القاهرة، فقُلْتُ له: وقد اصْطَكَّتْ ركبتاي من الذعر والوهل! أفكنا على هذا الارتفاع؟ قال: بل لقد كنا في بعض الطريق على ثلاثة أضعافه! ولقد والله أحسَسْتُ أن قلبي يمشي في صدري حتى بَلَغَ حنجرتي، فجعل يَتَخَلَّجُ فيها تَخَلُّجًا «لا يرتقي صدرًا عنها ولا يَرِدُ»، فلما عاد ريقي فجرى في مجاريه قلت له: أفجُنِنْتُ أنا حتى أجازف في مثل هذا؟! والله لئن كان حَدَثَ لي حَدَثٌ في هذه الرحلة، ما سمِعْتُ لك مرة واحدة، ولا ركِبْتُ معك بعدها طيارة أبدًا.

على أننا قد وَصَلْنَا بحمد الله تعالى سالمين، فَلَحَى الله أَنْفُسَ الجبناء!

١  نُشِرَتْ بجريدة الأهرام في عدَدَيْها الصادِرَيْن في غاية يوليو وأَوَّل أغسطس سنة ١٩٣٣.
٢  في سراح ورواح: في سهولة.
٣  نحكمه بمعنى نلجمه.
٤  ركله: ضربه برجل واحدة.
٥  القُر بضم القاف وتشديد الراء: البرد.
٦  ركوب.
٧  ارتفعت.
٨  الوهل: الفزع.
٩  تأودها: انحناؤها.
١٠  حد السكين حدًا: شحذها.
١١  ظبة السهم: حده.
١٢  أي أنه يرسل في قضاء حاجات الناس لقاء أجر.
١٣  الظاهر هنا بمعنى الغالب.
١٤  السيف: الساحل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤