في الجمال١

لا أَعْرِضُ لتعريف الجمال، لأنني عاجز عن تعريفه، وما الحاجة إلى ذلك وهو حاضر في كل نفْس، موصول بكُلِّ حس، يستشعره الإنسان، كما يستشعره الحيوان؟

والجمال يَتَجَلَّى في الإنسان، وفي الحيوان، وفي النبات، وفي الماء، وفي كواكب السماء، وفي الجبل الأشم، وفي الصخر الأصم؛ بل إنه ليتجلى على متن الصحراء الموحشة، ما تَبِض٢ من الماء بقطرة، ولا تتفرج من النبات عن زهرة، فالجمال ماثل في كل خَلْق من خلق الله لو تَفَقَّدَه المتأملون!
وفي كل شيء له آية
تَدُلُّ على أنه الواحدُ
وإذا كان القدر قد جرى على أهل هذه الأرض بألوان المشاقِّ والمتاعب، وأنواع الرزايا والمصائب، فقد سوَّى الله الجمال في كل شيء ويَسَّره لكل طالب، وهيَّأه لكل حاسة؛ حتى إذا حزب٣ الناس الأمرُ تفرَّجوا٤ بالجمال، وإذا اعتراهم المكروه عاذوا به، فكان لهم خير العزاء، وكان لهم منه نِعْمَ الجزاء.
هذه الشمس تصحو بسُحْرَة٥ من رُقَادِها، وتتثاءب وتتمطى، وتأخذ زينتها لتَطَّلع على الأرض، وهي لا تَتَبَدَّى للأفق قبل أن تُرْسِل من أشعتها رسلًا خفاقًا يكشفون لها وَجْهَ الطريق، حتى إذا رَأوا أن جيوش الظلام تَرْكَب مناكبه، وتسُد مَسَالِكَه، فتحيَّروا بينها ولم يجدوا لها مدفعًا، استنجدوا فأنجدتهم من أَشِعَّتِها برسل، ويقوم النِّزال، ويستحرُّ القتال، وكلما قُدِّمَ من ضَوْء النهار مَدَد انقبضت أجنحة الليل، وكلما أقبلت من جيوش الشمس نَجْدة، انحازت بين يديها جيوشُ الظلام، حتى إذا هي شمَّرت ذيلها وولَّتْ، وكُسِيَ أديمُ الأرض بذلك الضوء اللين الدقيق، بدا من الشمس حاجب لعلها تستوثق به من أَمْن الطريق، ثم جعلت تتثاقل في مطلعها وتتجنَّى، وتتهادى في مشرقها وتتأنى، والطيور تلاغيها بترجيعها وشدوها، والدواب تحييها بوثبها وعدوها، إلى أن تركب في فلكها، وتستوي على عَرْشِ مُلْكِها، ولا تزال عامة نهارها تُصْدر توقيعاتها في حياة هذا العالم: فيا ضَوْء أَنِر للخلق سُبُلهم حتى يستطيعوا أن يسعوا في مناكب الأرض ويأكلوا من رزق الله، ويا أرض أَنْضِجِي بَذْرَكِ لِيزْكُو زرعه، ويبسق؛٦ فرعه، ويطيب للآكلين ثمره ويَنعُهُ٧ ويا سحبُ جودي بالأمطار، لتخصب الأودية وتحتفل بالعذب السائغ الأنهار.
ولا تزال في جهدها ونَصَبِها حتى تعلوَ بها السن، فتَتَرَقْرَق صفرة الأصيل، في ذلك الخد الأسيل،٨ ويُبَدَّل جلالُ الشيخوخة من رونق الشباب، وتُصْرَف نَضْرَة اللُّجَيْن بالعَسْجَد المذاب، وماذا تراه يُجْدِي في نضارة السِّنِّ أو يُغْنِي عن بضاضة الإهاب؟

ثم تمشي متثاقلة إلى خِدْرِها، لتتوارى عن العيون خَلْف ستْرِها، وهي تعتمد من شُعَاعِها على عكازة، كأنها شيخة أَجْهَدَهَا طولُ السرى في مَفازة، حتى إذا حاذت الأفق، جعلت تتدلى وراءه رويدًا رويدًا، كأنها تتزود ليومها من العالَم بآخر نظرة، أو لِتَنْفُث من شعاعها المهزول ما أجنت على الصبا من لوعة وحسرة، حتى يغشاها الذبول، ويُدْركها الأفول، مُخَلِّفَة وراءها فُلُولًا من جيشها الأحمر، ما تفتأ تجتاحها جيوش الظلام، وكذلك الأيام دُوَلٌ وسبحان من تفرَّدَ بالدوام!

•••

وهذا القمر يبدو لك أَوَّلَ الشهر خيطًا دقيقًا، ثم يبدو لك في ثانيه كحاجب الأشيب، ثم يستوي قوسًا، والنجوم تُحِفُّ به وتُدَلِّلُه، وتَسْهَر عليه في سُقْمه وتُعَلِّلُه، ولله دَرُّ ابن المعتز إذ يشبه الهلال بقوله:

انظر إلى حُسْنِ هِلَالٍ بَدَا
يَهْتِك من أنواره الحِنْدِسَا٩
كمنجل قد صيغ من فضة
يُحَصِّد مِنْ زَهْر الدجى نَرْجَسَا

وقوله:

أهلا بفطر قد أناف هلاله
الآن فَاغْدُ على المدام وبَكِّرِ
وانظر إليه كزورق من فضة
قد أثْقَلَتْهُ حمولة من عَنْبَرِ

ولا يزال ينمو ويدرك حتى يستوي بدرًا كاملًا، والنجوم حافة مِنْ حَوْلِهِ منها الثابت ومنها الرجراج، ومنها ما أثبتته الهيبة ومنها ما ألهبه الوجْدُ فهو دائم الاختلاج، وكيف لا تحتفل النجوم لابن الشمس ووليِّ عهدها، وحارس ليلها وقائد جُنْدِها في بُعْدِها؟

والقمر في أول مولده، وفي طفولته، وفي فُتُوَّتِه، وشباب سِنِّه، وفي شيخوخته وهَرَمِه؛ رفيق النفس، رقيق الطبع، كريم الجوهر، حُلْو الشمائل؛ ما حضر إلا أهنأ وهدى، وما غاب إلا أضل وأشقى؛ وما تألق إلا كسا الأرض بُرْدًا من لُجَيْن، إذا أَنْكَرَتْهُ اليد فهيهات أن تُنْكِرَهُ العين!

•••

وهذا الروضُ الأريض: لقد انْسَرَحَ بانُهُ، وفَرَعَتْ١٠ فروعه وبَسَقَتْ أغصانه وزَكَتْ أوراقه، ورَفَّ١١ بوحي النسيم نَبْتُه وجَلْجَلَ اصطفاقه، وأَشْرَقَتْ أنواره، وتَطَلَّعَتْ من أكمامها أزهاره، فعاجَلَهَا الندى، وانْتَثَرَ من قَطْرِه بين طياتها مثل عيون الدُّبى،١٢ والجداول مِن دُونِها تتعطف وتتمايل، والبلابل على أفنانها تتشادى وتتزاجل.١٣

وهكذا، فإنك واجدٌ الجمالَ في الكثير مما جَلَت الطبيعة، وفي الكثير مما جالت به يد الإنسان.

•••

على أن الناس ليسوا على حظ سواء في الشعور بالجمال ومبلغ إصابة اللذة منه، كما أن مظاهر الجمال المختلفة ليست عند الناس بدرجة سواء: فمن الناس من لا يروعه إلا منظر البحر قد اشتد التجاجه،١٤ وتَدَافَعَتْ أمواجُه، ومنهم من لا يَبْهَرُه إلا الزهر قد اختلفت ألوانُهُ، ورُصِعَتْ به بانُهُ، وسَطَعَتْ بالعبير أردانُه، ولله در ابن المعتز حين يقول:
وعلى الأرض اخضرارٌ
واحمرارٌ واصفرارُ
فكأنَّ الروضَ وَشْيٌ
بَالَغَتْ فيه التجارُ
نَقْشُهُ آسٌ ونِسْرِ
ينُ وَوَرْدٌ وبَهارُ

ومن الناس من لا تخلِبه إلا الموسيقى، فهي تريه من آي الجمال بأذُنِهِ، ما لا يستطيع أن يشهد بعينه، وهي تُشِفُّه حتى يحسب نَفْسَهُ صفحةً من الماء، وتُرِقُّه حتى يَخَالها قطعةً من الهواء، وتُخَفِّفه حتى يُحَلِّق في جو السماء، وما هو أنَّ حلقًا صَلْصَلَ أو أنَّ وَتَرًا تَنَغَّمَ، ولكنَّ نفسًا صَبَتْ وقلبًا تَكَلَّم!

•••

ولقد قلْتُ لك إن الناس ليسوا على حظ سواء في إدراك الجمال ومبلغ إصابة اللذة منه، والواقع أنهم في هذا متفاوتون كلَّ التفاوت: فمنهم من يَسْمُو فيه إلى حد الافتتان والانبهار، ومنهم من يُسِفُّ إلى حد جمود الحِسِّ وصمم الشعور، وبين هذين الحدَّين مراتب بعضُها فوق بعض.

هذا وليست نعمةُ الشعور بالجمال مقصورةً على إصابة اللذة وتنعيم النفس، واستراحتِها من العناء، وتفرُّجِها من ألوان الهموم؛ بل إنَّ لها وراءَ ذلك أثرًا بعيدًا في ترقيق الحس، وتهذيب النفس، والمطامنة من جِماحها، ورياضتها على العطف والرحمة وحب الخير، كما أنَّ لها أثرًا بعيدًا في تهذيب المدارك، وتعويدها دقةَ الملاحظة، وشدة التفطن لما يُعْيى على كثير من الناس.

وإدراك الجمال، مهما يَجِفَّ الطبع، يمكن أن يُكْتَسَبَ بالتنبيه وترديد الملاحظة، ولَفْت الشعور بإظهار الإعجاب والافتتان، حتى إذا أَوْمَضَ في نفس الناشئ بَرْقُه، نَبَضَ له عِرْقُه، فأقْبَلَ على التماسه، فإذا أصابه جعل يتأمله، ويُجَرِّد له الحاسَّةَ التي تدركه، ولا يزال هذا دأبَه وَوَكْدَه حتى تستوي له مَلَكَةُ إدراك الجَمال، وله منها بعد ذلك ما شاء الله من اللذة ومن تهذيب النفس أيضًا.

•••

ولقد كان أكثرنا — نحن المصريين — إلى زمن قريب، لا يُعْنَى بهذه المَلَكَة ولا يحتفل لها، بل إن بعضنا قد كان يَعُدُّ تَفَقُّد كثير من مظاهر الجمال ضَرْبًا من العبث، بل ضَرْبًا من الفتون.

وإن أَنْسَ لا أَنْسَ أنني من نحو خمسَ عشرةَ سنةً كنت أساير بعضَ كبار الأعيان في بعض الرياض؛ فلمح على عِذار الطريق وردة كُمَيْتَة،١٥ فسرعان ما أهوى إليها بيده، فغطى رأسها ببعض راحته، وزَرَّ أصابعه على أصلها، وما زال يَشُدُّ عليها حتى فرَّقَ شملها، وجعل يحدثني وهو يَعرُك وَرَقَها بيديه، حتى إذا فَراها وبراها ألقى بعظامها على جانب الطريق، ولا والله ما ألقى عليها في أثناء هذا الصيال نظرة واحدة، حتى خُيِّل إليَّ أن بينَ الرجل وبين هذه الوردة المسكينة وتْرًا قديمًا!

وأعرف رجلًا من الأغنياء المتعلمين المُتْرَفين أيضًا، ما خَلَتْ دارُه من سيارة أو اثنتين أو ثلاث لحاجاته وحاجات أولاده، أفتدري كيف يقضي هذا الغني المتعلم المُتْرَف كل أوقات فراغه؟

صدِّقْني إذا قلْتُ لك إنه يقضيها في مقهى يحاذيه «موقف» مركبات يَسْطَع في الجو من رَجيع خَيْلها ما يسطع، وهو جاثم على النَّرْد (الطاولة) ما يَرِيم ولا يَتَحَلْحَل، ولا يَمَلُّ ولا يَضْجَر، إنْ عَلِمْتُ قَطُّ أنه عدل بسيارته يومًا إلى الجزيرة ليُمْتِع الطرف بجمال مناظرها، ويُرِيح١٦ الأنف بشذا أزاهرها، أو أنه صَعِد إلى أصل الأهرام، ليجمع إلى الروعة بفخامة البناء، التمتع بطيب الهواء!

ولست بالضرورة أَسُوقُ هذين مثلًا لجميع المصريين، وعلى كل حال، فإن نهضتنا الجليلة تناوَلَتْ فيما تناوَلَتْ فنون الجمال، فلقد وثبت الأُمَّةُ لمعاضدتها، وانبعثَت الحكومة لمساعدتها، وتظاهَرَت الهمم من كل جانب على تربية الأذواق وإرهاف المشاعر، فمن تشييد المعاهد للفنون الجميلة على اختلاف ألوانها، إلى إنشاء متاحف جديدة، وزيادة العناية بالمتاحف القديمة، إلى الإكثار من إقامة المعارض لمُفْتَنِّ الصور، وأخرى لمبتدع الزهر، يتبارى فيها المتبارون، ويتسابق إليها المتسابقون، وسيكون لهذا كله أثره في تربية الأذواق، وفي تهذيب الأخلاق، فإن من البطر على فضل الله ألا يُقْبِل الناسُ على إمتاع النفوس بهذه النعمة العظيمة التي لا تكلف الناس من المال أو الجهد — إن هي كَلَّفَتْهُمْ — إلا يسيرًا!

١  نُشِرَتْ بجريدة المساء التي صدرت في ١٧ ديسمبر سنة ١٩٣٠.
٢  بض الماء: سال قليلًا قليلًا.
٣  حَزَبَهُ الويل والغم: أصابه واشتد عليه.
٤  تَفَرَّجَ الرجل من الكرب: تَخَلَّصَ منه.
٥  السُّحْرة بالضم: ما قبل انصداع الفجر.
٦  بسق الزرع: طال.
٧  الينع: الذي طاب وأدرك من الثمر.
٨  الأسيل: المستوي الأملس.
٩  الحِنْدِس بكسر الحاء والدال: الظلام.
١٠  فرع الشيء: طال.
١١  الرفيف: صوت النبت إذا طاف به النسيم.
١٢  الدُّبى بضم الدال المشددة وفتح الباء: الجراد.
١٣  الزجل: صوت الحمام.
١٤  التجاج البحر: اضطرابه.
١٥  بضم الكاف وفتح الميم: المشوبة حمرتها بالسواد.
١٦  أراحه الرائحة: جعله يشمها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤