بنك مصر١

لا أحاول في هذا المقال — وهيهات لي — أن أَجْلُوَ عليك صورةً كاملةً لتلك البِنَيَّة العزيزة التي أقامها «بنك مصر» في شارع عماد الدين لتكون مثوًى له، ولِمَا يَرْفِده من الشركات في القاهرة، وكيف للغة بأن تتناول ما لم يَجْرِ على مثال، ولا وَقَعَتْ عليه العيون ولا تَعَلَّقَ به الخيال؟

ولقد كنا نقرأ أقاصيص «ألف ليلة وليلة» وما افْتَنَّتْ فيه من الأخيلة في وصف مجالس الملوك إنسهم وجنهم، وكنا نقرأ ما جاءت به السِّيَر من حديث قصر غُمدان، وإيوان كسرى أنوشروان، وما حوى الخَوَرْنَق والسَّدير، وما أبدع الفاطميون في القصر الكبير والقصر الصغير، كنا نقرأ هذا فلا نتمثل إلا ركامًا من الذهب والفضة واليواقيت واللآلئ وغيرها من ثمين الجوهر، ثم يقبل البناءون فيدوفون٢ هذا بهذا بعد أن يعالجوه بالطيب والعنبر، وبالمسك الأذفر،٣ حتى إذا عَلِكَتْ٤ هذه الطينة، رفعوا منها قصرًا ذا شُرُفات وكُوًى ومقاصير وإيوانات وأبهاء!

هذا الذي تَنْفُضُه عليك أخيلة القُصَّاص من صفة القصور الدائرة، في الأعصر الغابرة، فإذا أنت انبعثْتَ من النوم، وشخصْتَ على قدميك، لا على جناحي خيالك، إلى تلك البِنَيَّة التي أقامها «بنك مصر»، فسرعان ما تَتَفَقَّد نفسَك، وتجُسَّ مواقع حسك، لتعرف: أَهَبَبْتَ من النوم أم عَقَدَ على جفنك المنام، وكان حقًّا ما ترى أم كان حلمًا من الأحلام!

لم تَقُمْ في هذا البناء كله لَبِنَة واحدة من الذهب ولا أخرى من الفضة، ولا رُصِعَتْ جُدُرُه بشيء من الدر ولا من اللؤلؤ، ولا ضُمِّخَتْ٥ حوائطه بالعنبر، ولا تَدَلَّت من سقوفه معاليق الجوهر، على أنه يَمْلَأُكَ من روعةٍ وجمال، لم تَسْتَشْعِرْهُمَا دَهْرَكَ في حقيقة ولا خيال، إنما هو المال والعلم والذَّوْق، تَظاهَرَ ثلاثَتُها على إخراج هذا البِدع كله، وما شاء الله كان!

دعْك من ظاهر هذا البناء، فلقد تجد له في البَنِيَّات أشباهًا؛ على أنه أوْفى على الغاية من الفخامة والإحسان، وخُذْ بنا في جوفه، فهناك يَنْفَغِر الفم، ويتحَيَّر النظر، ويتعلق النفَس، ويزيغ اللُّبُّ في هذه الفتنة.

يستقبلك من الباب مصراعان عظيمان طُبِعَا من الصُّفْر، قد جالت فيهما أمهر الأيدي بأدق النقش وأحسن التزيين؛ فتراه كلَّه قائمًا على أشكال هندسية بديعة مُفَرَّغة في مَتْن المصراع تفريغًا، فإذا جُزْتَه وصرتَ إلى المدخل فرفَعْتَ النظر إلى حوائطه كاد ينزلق عليها لشدة ملوستها انزلاقًا؛ فقد كُسِيَتْ بالمرمر الأملد من الصَّبْح٦ واللؤلؤاني، تتمشى في صفحتها جداول دقيقةٌ من الخضرة؛ حتى إنها لَتُمَثِّل لك عروسًا صَقَلَتْ عارضَها حتى تم إشراقُه؛ وشفَّ جِلْدُه فبانَتْ من دونه أعراقُه.

وتَجِدُ بين يديْكَ سُلَّمًا أيَّ سُلَّمٍ! لقد اقْتَلَعَهُ «بنك مصر» صخرًا من جبال أسوان من ذلك «الجرانيت» الأحمر الصُّلب الذي تراه في تماثيل قدماء المصريين، ثم بَعث به إلى ألمانيا فنُحِتَ وسُوِّيَ دَرَجًا عظيمًا مؤطرًا بأبدع النقوش.

فإذا أنت ارتفعْتَ على هذا السُّلَّم حتى غايته، فأنت في بهو عظيم يترامى فيه النظر، فيكون أول ما ينطق به اللسان: ما شاء الله كان! وأول ما يجول به الخاطر الندامة على أن ليس لك في كل جارحةٍ عين، ففي كل شِبْر بِدْع، وفي كل فِتْر إحسان! وهيهات أن تَحُطَّ بصرك على موضع في سقف هذا البهو، أو في أرضه أو في جُدُره أو عَمده وكل ما قام فيه، فهانَ عليك أن تُحوِّله عنه من جمال ومن إبداع!

وقد سُقِفَتْ حواشي البهو الأربع بسقوف تَعْتَمِدُ على جُدُره من جهة، وعلى عَمَد من المرمر الأصفر مربعة من الجهة الأخرى، وأما بُهْرَته٧ فقد ارْتَفَعَ سَقْفُها إلى مدى الطَّبَق الثاني، وهذا السقف كله مؤلف من قِطَع مُرَبَّعة من البلور افْتَنَّتْ فيها أيدي الصُّنَّاع بمختلف الأشكال في مختلف الألوان، فخرج من هذا الاختلاف، أَحْسَنُ الاتساق وأَحْكَمُ الائتلاف، فإذا رَفَعْتَ النظر إليها خُيِّلَ إلَيْكَ أَنَّكَ في يوم عُرس تبارت فيه الكواعِبُ الحِسَانُ، من كل مكحولة العين وكل مخضوبة البنان.

وإن كُنْتَ قد غَشِيتَ دار الآثار العربية فاقتَطَفْتَ نظرة من تلك القناديل الزجاجية التي خَلَّفَهَا الفَنُّ الفاطمي، فإنك ولا شك ستتخيل أن هذه القناديل قد صِيغَتْ من الجوهر قُرْطًا، وأُرْسِلَتْ في هذا السقف حِلْيَة ونُظِمَتْ فيه سِمْطًا.

وأما تلك السقوف التي قامت على حواشي البهو، فقد قَسَّمُوها مربعاتٍ أيضًا، بحيث يتناهى عَرْضُ كُلِّ مربع إلى مَدَى ما بين العمودين، وأجْرَوْها كلَّها على الطراز العربي، فحدِّثْ ما شِئْتَ بلسان الذوق الجديد عن جمال الفن القديم، فبعد أن أَبْدَعَت الصُّنَّاع في حَفْرِها وتكريشها طَوْعًا للأشكال الهندسية المقسومة لها، عادت عليها تُكَفِّتُها بالفضة، وتُمَوِّهُهَا بالذهب، وتُشَجِّرُها بأزهى الألوان، مِنْ أخضرَ ناضر وأصفرَ فاقع وأحمرَ قانٍ.

والعجب أنَّ لكل رُقْعة من رقاع تلك السقوف رَسْمًا خاصًّا، تجري فيه ألوانٌ خاصة، في أشكال خاصة، وكلها مع هذا عربيٌّ، لا تدري أيها أجمل وأحسن، وأيها أبدع وأفْتَنُ، فلا يَسَعُكَ أن تنصرف عنها إلا وأنت تردد قول شوقي:

حمراءُ أو صفراءُ إن كَرِيمَها
كالغِيد كلُّ مليحة بمذاقِ

وقد فُصِلَ بَيْن حواشي البهو وبين بُهْرته بحجاز قائم على مُسامَته تلك العَمَد يَرْتَفِع إلى نصف القامة، ليقوم عُمَّال المصرف من خلفه على قضاء حاجات الناس دونَ أنْ يُدَاخِلُوهم، وهذا الحجاز كُلُّه قد اتخذوه من المرمر الأبيض، نُحِتَ على صورة أنصاف دوائر بارزة متجاورة، تقوم أطرافها على سوق من المرمر الأسود، وقد بُسِطَتْ عليها مناضدُ صفيقةٌ من المرمر الأصفر، مُدَّتْ في داخل حواشي البهو مِهادًا لأسباب عُمَّال المصرف، ومُتَّكأ لأذرِعَة المتمثلين إليهم من الناس.

ومن فوق هذا السقف طَبقٌ آخرُ، له ما للأول من دقة فن وروعة جمال، وهو يُشْرف على بُهرة الإيوان من أقطارها الأربعة، وترى من فوق كل عمود من تلك العَمَد المربعة التي حَدَّثْتُكَ عنها عمودًا أسطوانيًّا قد أَحْسَنَتْ يَدُ النَّحَّات في قاعدته وهامَتِهِ أيَّمَا إحسان، وافْتَنَّتْ في نقْشها أَيَّمَا افتنان.

أما أرض الإيوان فإذا لم يُحَدِّثْكَ أحد أنها من الرخام، فقد خِلْتُها فُرِشَتْ بجلود الصِّلَال،٨ أو بالوشي الصنعاني نُمْنِمَ بمثل أكارع النمال، أو أنها لَوْحٌ كُفِّتَ بالذهب، أو كأس عَلَاهَا الحَبَب!٩

وقد انتهى إليَّ أنهم جاءوا لها بقِطَع الرخام من إيطاليا وألمانيا وأمريكا، حتى يَتِمَّ لهم ما قَدَّروا لها من جمال يتحير فيه الطرف، وبدع يَعزُّ على كل وَصْف.

وهناك غُرَف ومقاصير، وهناك دهاليز وسلاليم، وهناك فُرُش ممهودة، وأرائك ممدودة، وتريَّات منضودة، وهناك طُرَف وتُحَف، وأشياء وأشياء إذا وَعَتْهَا الأفهام، فهيهات أن تتعلق بوصفها الأقلام.

والعجيب أنك واجد في كل رقعة لونًا من الحسن يخالف ما تجد في أختها، ونوعًا من الفن غير ما ترى في التي تليها؛ على أنك واجِدٌ بينها كلها أَوْثَقَ الاتصال وأَحْكَمَ الاتساق، وكذلك شاءت عبقرية الفنان العظيم الأستاذ أنطوان لاشاك بك١٠ أن تُلَحِّن في هذه البِنَيَّة دَوْرًا موسيقيًّا بارعًا، مَهْمَا يَتَنَوَّع في ضروبه ويَتَلَوَّن في أنغامه، فكلها مؤتلِفٌ في قراره مُتَّسِق في مقامه!

•••

هذا ما واتاني به القلم في مَدْخل هذا البناء الجديد وبَهوه العظيم، أما باقي تفصيلاته، ووصْف سائر طبقاته، فإني أَدَعُ هذا لغيري، فقد جُهِدَ بي وجَفَّ في يدي القلم.

١  كان الكاتب دُعِيَ لمشاهدة هذا البناء عقب الفراغ منه، فكتب له هذا الوصف وأرسله في جريدة السياسة في ٦ يونية سنة ١٩٢٧.
٢  دافه: أذابه في الماء وخلطه.
٣  الذي اشتدت رائحته.
٤  صارت لزجة.
٥  ضَمَّخ ثوبه بالطيب: نضحه به.
٦  الصَّبح بفتح الصاد وسكون الباء: لون يَضْرِب إلى الحمرة.
٧  البهرة من الزمان والمكان: وسطه.
٨  الصِّلال جمع صِلٍّ بكسر الصاد، وهي الحية.
٩  الحَبَب بفتح الحاء والباء: الفقاقيع التي تعلو الماء أو الخمر.
١٠  هو المهندس المقتدر الذي وَضَعَ تصميم بناء البنك، وأشرف على العمارة، كما تولى أمر الزخرفة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤